بلغة الفقيّة - ج ٢

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٥

الغيرية اقتصر في المنع على ما وجب بالذات.

وفيه ـ مضافا الى عدم الفرق في المنع بين ما وجب لذاته وما وجب لغيره كتحصيل الطهور والساتر للصلاة كما ستعرف ـ انه يظهر منه منع الأجرة على حمل الأموات ، بل هو مندرج فيما ادعى هو عليه عدم الخلاف مع أن حمل الموتى من الواجب الغيري ، بل حفر القبر أيضا مقدمة للدفن فيه ، ولا يقول بجواز أخذ الأجرة عليه بل ينقض عليه بانقاذ الغريق وإطفاء الحريق مع انه مقدمة للنجاة من الهلكة بل وبكل ما يجب لإقامة الدين وحفظ شريعة سيد المرسلين مع انها من الواجبات الغيرية. كما ان القول بالتفصيل بين المنع فيما كان الغرض الأهم منه الآخرة والجواز فيما كان الغرض الأهم منه الدنيا كما تقدم من مفتاح الكرامة منقوض أيضا بالانقاذ والإطفاء المتقدمين إذا كان الغرض دنيويا فتأمل (١).

مع أنه لا يكاد ينضبط بميزان معلوم يرجع اليه عند الشك والاختلاف.

__________________

(١) تقدمت عبارة السيد في مفتاح الكرامة نقلناها بنصها ص ١١ ويمكن ان يقال : أن السيد في مفتاح الكرامة لم يجعل المناط في جواز أخذ الأجرة مطلق ما كان للغرض فيه الدنيا ، وان كان شخصيا لينقض عليه بالانقاذ والإطفاء فيما لو كان الغرض فيه دنيويا ـ كما ذكره سيدنا المصنف ـ قدس سره ـ بل الظاهر أن مراده ما كان الغرض النوعي فيه الدنيا يجوز أخذ الأجرة فيه بخلاف ما كان الغرض فيه الآخرة فلا يجوز أخذ الأجرة عليه والغرض من إنقاذ الغريق وإطفاء الحريق ـ نوعا ـ حفظ النفوس والأموال المحترمة وهو غرض أخروي يقصد به الأجرة والثواب نوعا ، ولعل أمر سيدنا المصنف بالتأمل إشارة الى عدم تمامية النقض المذكور.

٢١

فإذا الأقوى هو ما ذكرناه من المنع عن ذلك في غير التوصلي من الواجبات الكفائية مطلقا ـ ذاتيا كان الواجب أو غيريا ـ لانتفاء ما هو المعتبر في صحة المعاوضة وقابليتها لترتب الأثر عليها من الشروط الثلاثة المتقدمة المفقود جميعها في بعض الواجبات وبعضها في جميعها. وأما الكفائي التوصلي ، فلا مانع من صحة تعلق الإجارة به بعد وجود المنفعة فيه للمستأجر ، ولو بسقوط التكليف عنه بفعله ، فيشمله عمومات أدلة العقود.

وكيف كان فالمدار في صحة تعلق الإجارة وغيرها من العقود على اجتماع تلك الشروط المتقدمة وعدمه وحيث لا مانع من جهتها في التوصلي من الفروض الكفائية جاز أخذ العوض عليها كما عليه جدنا (في المصابيح (١) تبعا لغير واحد ممن تقدم عليه غير أن بعض الفروض الكفائية ربما يستفاد من أدلة وجوبها صيرورة ذلك العمل حقا للغير يستحقه من المكلف كما يدعى :

أن الظاهر من أدلة وجوب تجهيز الميت أن للميت حقا على الأحياء في التجهيز فكل من فعل شيئا منه في الخارج فقد أدى حق الميت ، فلا يجوز أخذ الأجرة عليه وكذا تعليم الجاهل أحكام عباداته الواجبة عليه وما يحتاج إليه كصيغة النكاح ونحوها لكن تعيين هذا يحتاج الى لطف قريحة.

وان أبيت ذلك فنقول : ان مقتضى القاعدة جواز أخذ الأجرة على الواجب الكفائي إذا كان توصليا مطلقا الا ما قام الدليل من إجماع أو غيره على المنع عنه كتجهيز الأموات الذي لم ينقل فيه جواز أخذ الأجرة عليه الا ما يحكى عن المرتضى رحمه الله ولعل خلافه كما حكى عنه في وجوب التجهيز على غير الولي بناء منه على الترتيب في الوجوب بين الولي وغيره لا في حرمة أخذ الأجرة على تقدير الوجوب عليه.

__________________

(١) كما مر آنفا ما نقلناه عنه في المصابيح ص ١٢.

٢٢

ثم ان ها هنا إشكالات نقضية يرد بعضها على القول بمنافاة اعتبار الإخلاص لأخذ الأجرة عليه ذاتا وبعضها على القول بمنع الأجرة في الواجبات مطلقا بل وعلى القول بقصر المنع على العيني منها.

فمن القسم الأول النقض بالعبادات المأتي بها للأغراض الدنيوية كسعة الرزق وحصول الولد وغير ذلك سيما بالنسبة إلى العبادات الموظفة لذلك ، وما كان مشروعا لأجلها كصلاة الحاجة وغيرها ، فإن العلة الغائية لإيجادها هي تلك الأغراض الدنيوية المترتبة عليها دون محض الإخلاص المعتبر فيها مع حكمهم بصحتها كذلك.

والجواب بالفرق بين نيل المقصود من الله بواسطة الإطاعة له بفعله لأنه الموظف له عليه وبين نيله بدون واسطة الإطاعة بالفعل بل لنفس كونه فاعلا له بحذف الواسطة ، فالمصحح هو امتثال الأمر بالموصل دون الفعل للتوصل به.

وبذلك يجمع بين ما ذهب اليه غير واحد من الأصحاب من بطلان العبادة المقصود بها نيل الثواب والنجاة من العقاب ، بل نسب ذلك العلامة (في المهناويات) الى إنفاق العدلية وعن الشهيد في (القواعد) الى قطع الأصحاب ، وهو المحكى عن السيد رضي الدين ابن طاوس وبين ما هو المشهور بل المقطوع به من صحتها مع رجاء المثوبة أو النجاة من العقوبة ، مع تضافر النصوص عليه من الكتاب والسنة الواردة في الوعد والوعيد والترغيب والترهيب والتعزير والتحذير وليس الا لما ذكرناه من الفرق وان الذي يقتضي فساد العبادة بقصده هو ما إذا كان الداعي للفعل والمحرك له عليه ليس إلا النتيجة المجعولة للفعل : من الثواب والعقاب على وجه لولاها لما وقعت منه العبادة ، كالأجير الذي يفعل الفعل لمحض الأجرة بحيث لو أريد الفعل منه مجانا لم يفعله. وإتيان العبادة بهذا الوجه لا يستبعد فساده دون ما كان الداعي

٢٣

له عليه هو أمر الله تعالى وإرادته وان تجرد عن المثوبة والعقوبة غير انه لما كان هو الموظف لهذه الوظائف على هذا الأفعال لطفا منه تعالى ، قصدها والتمسها منه معرضا لنفسه بعمله لله تعالى سبحانه الى نيل الثواب لأنه الموظف له بلطفه وكرمه على هذا الفعل ، فلا أظن أحدا ينكر صحة العبادة على هذا الوجه ولتفصيل الكلام محل آخر.

وهذا هو الذي وعدناك به من بطلان القياس بين الطلب من الخالق والمخلوق.

ومنها : النقض بأخذ الأجرة على القضاء عن الميت والحج عنه مع انها عبادات يعتبر فيها الإخلاص (١)

__________________

(١) الواجبات العبادية : ما لا يقبل النيابة منها ـ لاعتبار المباشرة ممن وجب عليه ـ : فان عدم صحة تعلق الإجارة بها واضح. إذ الواجب المعتبر فيه المباشرة ممن وجب عليه ، وكونه ملزما بفعله ـ شرعا ـ مسلوب الاختيار في تركه ، لا يتصف بكونه مملوكا لفاعله لتصح المعاوضة عليه ، فان حقيقة ملكية العمل : كونه تحت اختيار عامله وقدرته : وبالجملة فأكل المال بإزائه أكل له بالباطل.

وأما ما يقبل النيابة منها ـ بحسب ما يستفاد من الدليل ـ : اما عن خصوص الميت أو الأعم منه ومن الحي كالحج بالنسبة إلى العاجز عنه ، فإنه لا إشكال فيما لو تبرع النائب عن المنوب عنه في امتثال أمره المتوجه اليه ، وفي سقوطه عنه بامتثال نائبه عنه. إنما الإشكال في صورة استيجار النائب على إتيان ما وجب على المنوب عنه وامتثاله الأمر الموجه اليه بفعله ، وأنه كيف يمكن

٢٤

ويدفعه أن الأجرة في أمثال ذلك مأخوذة على النيابة التي هي عبارة

__________________

تحقق الخلوص في العبادة من النائب مع كون داعيه استحقاق الأجرة ، ولو مشوبا بداعي القربة ، وهو مناف للخلوص المعتبر فيها.

وربما يقال : إن تضاعف الوجوب بسبب الإجارة على العبادة يؤكد الإخلاص المعتبر فيها ، لا أنه ينافيه ، ولعل وجهه : أن الأجير على عبادة الغير حيث كان في مقام امتثاله قاصدا التقرب الى الله تعالى في امتثال الأمر العبادي الموجه الى المنوب عنه ليكون تقربه تقربه ، وقاصدا ـ أيضا ـ امتثال الأمر الإجاري المتوجه اليه ، والتقرب به ـ وهو أمر «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» وأنه ـ وان كان توصليا لا يعتبر قصد التقرب به ، ولكن يمكن للنائب الأجير أن يقصد التقرب الى الله بامتثاله كالأمر الأول العبادي ، فيتأكد تحقق الإخلاص وقصد التقرب من الأجير.

هذا ، ولكن يمكن أن يقال : إن تأكد الخلوص إنما يتجه في المتبرع بنيابته عن الغير في أداء عبادته ، حيث أنه لا يبتغي بنيابته أجرا من غير الله تعالى على امتثال الأمر المتوجه الى المنوب عنه ، فيمكنه قصد التقرب الى الله بنيابته وتبرعه وإحسانه إلى المنوب عنه بأداء ما وجب عليه من العبادة والتقرب به عنه. وأما الأجير الذي يبتغي بعمله ونيابته استحقاق الأجرة من المستأجر له على النيابة وأخذها منه عند امتثاله أمر المولى المتوجه إلي المنوب عنه ، فإنه لا يتحقق منه الخلوص في العمل وعدم كونه مشوبا بقصده استحقاق أجر من غير تعالى عليه ، فالوجه المذكور لا يدفع غائلة الإشكال.

٢٥

عن تنزيل الإنسان نفسه منزلة غيره في الأمر الخاص ، عكس الوكالة التي

__________________

وقد يقال ـ في التخلص عن الاشكال ـ : إن أخذ الأجرة على العمل عن الغير من قبيل الداعي على الداعي ، فإن الأجير ينبعث نحو الإتيان بما وجب على المنوب عنه بداعي امتثال أمر الله تعالى المتوجه الى المنوب عنه وهو داع قربى ، والداعي له على داعي الامتثال استحقاقه الأجرة من المستأجر له على ذلك ، فداعي الأجرة في طول داعي القربة لا في عرضه كي ينافي الخلوص المعتبر في العبادة ، فهو من هذه الجهة نظير من قصد بعبادته امتثال أمر الله تعالى المتوجه اليه ، وكان داعيه على الامتثال المذكور نيل الأجر والثواب من الله تعالى على امتثاله. ومن الواضح : إن ذلك لا ينافي الخلوص المعتبر في العبادة.

وفيه : إنه لو كان المصحح لعبادية العبادة مجرد وجود الداعي الإلهي فيها ، وكان الإتيان بها بمجرد داعي أمر الله وتوسيطه في الامتثال كافيا في عبادية العبادة وتحقق العبودية والخلوص وان انتهت سلسلة دواعيه الى داع غير إلهي ـ لكان ذلك وجهان في التخلص عن الاشكال ، لكنه بمعزل عن تحقق العبودية والخلوص ، فان من كان داعيه الى امتثال أمر الله تعالى المتوجه نحو المنوب عنه استحقاق الأجرة من المستأجر له وأخذها منه ، كيف يكون مخلصا في عبادته في حين أن داعيه وتحركه نحو الامتثال لو لم يكن أخذ الأجرة ليس إلا ، فلا شبهة في كون ذلك دخيلا في الداعي الإلهي ولا وجه لتنظيره بمن كان داعيه الى امتثال أمر الله تعالى نيل الثواب المجعول منه تبارك وتعالى على التقرب إليه بالعبادة ، وكم فرق بين انتهاء الدواعي المتسلسلة الى الله تعالى ، وبين انتهائها إلى غيره ، فإن الإتيان بالعبادة لله تعالى راجيا منه لطفه واجره وثوابه وتوسعة رزقه ونحو ذلك هو من حقيقة العبودية ومرتبة منها ، وان لم يكن أعلاها ، بخلاف الإتيان

٢٦

هي عبارة عن تنزيل الغير منزلة نفسه فيه ولذا يتوقف حصولها على التوكيل

__________________

بها لله تعالى ليستحق بذلك الأجرة المجعولة له من المستأجر على ذلك ، فإنه ليس بعبادة لله تعالى ، إذ ليس حقيقتها صرف قصد العامل كون العمل لله تعالى ما لم يكن باعثه ومحركة نحو العمل أمر الله تبارك وتعالى ، ولو لنيل ما هو مجعول منه لطفا من أجره وثوابه على ذلك ، بخلاف ما لو كان المحرك له على ذلك نيل الأجر والثواب من مخلوق مثله ، فان ذلك ليس عبادة للخالق ـ جل وعلا ـ وهو من الوضوح بمكان.

وقد يقال ـ في مقام التخلص عن الاشكال ـ : إن قصد المستأجر التقرب الى الله تعالى في استيجاره للنائب في عبادة المنوب عنه ـ كاف في عباديته ، وان لم يتقرب النائب بعمله ، فان فعل النائب فعل تسبيبي للمستأجر وحاصل هذا الوجه. ان مقتضى دخول النيابة في عمل كون الواجب على المكلف إيجاده بنفسه مباشرة أو التسبيب اليه باستئجار الغير عليه أو طلبه منه ـ إيجاد العمل نيابة عنه بنحو يصح استناد الفعل اليه ، ويقال عليه :

إنه فاعل التسبيب ، وعليه ، فيكفي في عبادية العمل قصد التقرب من المسبب له ، ولا يعتبر التقرب ممن صدر منه العمل ، وهو النائب ، فيصح منه ، وان كان داعيه الى ذلك أمر غير إلهي وقصده غير قربى.

وفيه : ان باب التسبيب أجنبي عن تصحيح عمل النائب والأجير. توضيح ذلك : ان التسبيب قد يكون في ضمان التالف : فإنه كما يثبت بمباشرة الضامن للتلف ، كذلك يثبت بتسبيبه اليه بنحو يستند التلف الى فعل المسبب فيما إذا لم يتوسط بينه وبين موجب الضمان فعل فاعل مختار. فمن حفر بئرا في طريق وممر للناس ولم يجعل لها غطاء أو غطاها بشي‌ء يسير من الحشيش والتراب مثلا ، فمر بها إنسان أو حيوان ، فوقع فيها ومات ، فإنه يضمن ديته أو قيمته ، وكذا لو أجج نارا في ريح عاصف

٢٧

بخلاف النيابة ، فإنها لا تتوقف على الاستتابة وان توقف ترتب أثرها في

__________________

ولم يتخذ لها حافظا أو واقيا ، فأحرق بسببها مال للغير ، فإنه يضمنه ، ونحو ذلك.

أما لو توسط بين فعل المسبب كحفر البئر ـ مثلا ـ وموت الواقع فيها فعل فاعل مختار ، كما لو أوقع شخص نفسه في البئر المذكورة ، أو أوقعه فيها غيره بمباشرته بأن ألقاه فيها أو سبب الغير الوقوع فيها ، كما لو طلي نواحي البئر المذكورة بمزاق حيث لا يطلع المار بها على ذلك ، فزلقت رجله ووقع فيها ومات ، ففي الصور المذكورة ونحوها مما توسط بين موجد السهب وموجب الضمان فعل فاعل مختار ـ لا يستند التلف الى موجد السبب ، بل يكون فعل الموجد من المعدات ويستند التلف الى الفاعل المختار ، ويكون هو الضامن لما تلف.

نعم ، لو توسط بينهما فعل فاعل غير مختار ، كما إذا كان وقوعه فيها بمزاحمة حيوان له أو صبي غير مميز أو نحو ذلك ، فالظاهر استناد التلف الى المسبب والحافر : وحاصل معنى التسبيب ـ على هذا الوجه ـ استناد الفعل الى المسبب حقيقة ، كما لو كان هو المباشر له ولا تسبيب بالمعنى المذكور في ما هو محل الكلام من عبادة النائب ، فإنه : إما متبرع أو أجير وهو إما أجير عن الولي أو عن المتبرع في صورة كون المنوب عنه ميتا أو أجير على المنوب عنه الحي ليعمل لنفس المستأجر ، كما في الأجير عن العاجز في الحج ، والتسبيب بمعنى عدم توسط الفاعل المختار وإسناد الفعل الى المسبب حقيقة دون الفاعل ، منتف في الصور المزبورة ، فإن صدور العمل من النائب بإرادته واختياره.

نعم فيما لو استأجر المكلف غيره في إتيان ما وجب عليه نيابة عنه ، وكان المورد مما نصح فيه النيابة عن الحي كالحج بالنسبة إلى العاجز عنه يمكن أن يقال : إنه من التسبيب واستناد فعل الأجير إلى المستأجر

٢٨

بعض الموارد عليها ، فالنيابة التي هي من فعل القلب هي المأخوذ عليها

__________________

ولكن بنحو من المجاز والمسامحة ، وأين ذلك من كون باب النيابة ـ مطلقا ـ من باب التسبيب ، فالوجه المذكور غير تام أيضا.

وربما يقال : إن المصحح لعمل الأجير : هو إتيانه بالعمل بداعي الأمر الإجاري المستفاد من الأمر بوفاء عقد الإجارة بقوله ـ تبارك وتعالى ـ «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ».

ولكنه ـ أيضا ـ غير تام ، ولا صلاحية له لتصحيح عمل الأجير ، فإن الأمر الإجاري توصلي لا يعتبر في سقوطه قصد امتثاله ، وإن صحة عمل الأجير تتوقف على قصد امتثال الأمر. وعليه ، فلم يكن ملاك عبادية عمله هو الأمر الإجاري ، لأنه متعلق بما هو عبادة في نفسه ، فجهة العبادية مأخوذة فيما هو الموضوع للأمر الإجاري ، ورتبة الموضوع متقدمة على ما تعلق به من الأمر ، فلا يعقل كون الأمر الإجاري ملاكا لعبادية عمل الأجير هذا مضافا الى ان الأجير استوجر للإتيان بما هو عبادة للمنوب عنه وموجب لقربه ، فلو كان ملاك العبادية الأمر الإجاري المتعلق به ، يكون عمل الأجير عبادة له وموجبا لقربه ..

وبالجملة ، فالوجوه المذكورة مخدوشة بجملتها ، وغير صالحة للتفصي بها عن الاشكال ، ان لم تكن موجبة لتأكد الاشكال.

ويمكن أن يقال في التخلص عن الإشكال بأن مقتضى الأصل في الأمر العبادي الموجه الى المكلف عدم سقوطه عنه إلا بامتثاله وإطاعته وعدم الاكتفاء بامتثال غيره عنه. نعم قد يثبت بالدليل في بعض الواجبات سقوط الأمر الموجه نحو شخص بامتثال غيره ، نيابة عنه ، وذلك بحسب مقدار ما يستفاد من الدليل ، وانه يختص بالقضاء عنه بعد موته أو يشمل الإتيان به عنه في حياته لعجزه ، وعليه ، فمرجع دليل قبول العمل للنيابة إلى التوسعة

٢٩

 

__________________

في مرحلة امتثال التكليف وتنزيل فعل النائب منزلة فعل المنوب عنه في إسقاط التكليف الموجه نحو المنوب عنه به.

وما يظهر مما ذكره سيدنا ـ قدس سره ـ : من أن النيابة بعد تحققها وإمضاء الشارع لها موجبة لتوجه التكليف المتعلق بالمنوب عنه إلى النائب فيما استنيب فيه بعد تنزيل الذات منزلة الذات ـ الى آخر كلامه ـ ومحصله أن النائب بعد تنزيل نفسه منزلة المنوب عنه في مقام الإتيان بما وجب عليه وإمضاء الشارع ـ بدليل قبول ذلك الواجب للنيابة ـ التنزيل المذكور ـ يتوجه أمر المنوب عنه إلى النائب ويكون امتثال النائب امتثالا لأمر المنوب عنه وتقربه تقربه ـ هذا حاصل ما ذكره سيدنا.

ولكنه غير واضح ، فان تنزيل النفس منزلة الغير ليس هو امرا واقعيا ليكون النائب بعد تنزيل نفسه منزلة المنوب عنه هو هو ليتوجه أمر المنوب عنه اليه ويكون فعله فعله وتقربه تقربه وإنما هو محض تقريب للنيابة في العمل وأن مرجعها جعل النائب نفسه عند امتثال أمر المنوب عنه نازلا منزلته وقائماً مقامه في امتثال أمره المتوجه اليه ، وأما توجه أمر المنوب عنه إلى النائب ، فإن رجع الى كون شخص أمر المنوب عنه متوجها الى النائب بنحو يكون ذلك الأمر متعلقا بالمنوب عنه وبنائبه عند موته أو عجزه فالظاهر استحالته فإنه كيف يمكن توجه أمر شخصي من الآمر نحو مكلف ومع عجزه عن امتثاله أو موته يتوجه شخص ذلك الأمر الى من ينوب عنه في الامتثال ، نعم يمكن أن يكون النائب مأمورا بأمر آخر ، مثل أمر المنوب عنه ، ولكنهما أمران تعلق أحدهما بالمنوب عنه ، والآخر بالنائب ولكل منهما امتثال على‌حدة ، وكيف يكون امتثال النائب أمره الموجه اليه امتثالا لأمر المنوب عنه ، وموجبا لإسقاطه.

فما يمكن أن يقال : هو ما ذكرناه : من ان دليل قبول الواجب

٣٠

 

__________________

للنيابة مقتضاه التوسعة في مقام الامتثال ، وكون الأمر الموجه نحو المنوب عنه قابلاً للامتثال منه وممن يأتي بالفعل نيابة عنه. وعليه ، فالمتبرع عن الغير في نيابته عنه امتثال ما وجب عليه ، إنما يأتي بالعمل بداعي تفريغ ذمة المتبرع عنه عما توجه اليه من التكليف ، فيكون في عمله وامتثاله قاصدا امتثال الأمر الموجه الى المنوب عنه ، وهو المحرك والباعث له نحو العمل والملاك لعباديته ، دون الأمر الندبي المتوجه إليه ، إذ يمكن أن لا يقصد امتثاله والتقرب به ـ أصلا ـ ومع فرض قصد امتثاله لا يقع عن المتبرع عنه ما لم يقصد امتثال الأمر المتوجه الى المتبرع عنه ، فلو لم يأت بالعمل بداعي أمر المتبرع عنه لم يرتبط عمله به ليكون امتثالا لأمره وموجبا لتفريغ ذمته ، وهذا الفعل الخارجي من المتبرع وإتيانه بالعمل بداعي تفريغ ذمة المتبرع عنه عما توجه اليه من التكليف مصداق للنيابة عنه بلا حاجة إلى تنزيل نفسه منزلة نفس المنوب عنه ثم الإتيان بما وجب عليه بعد التنزيل نعم ، الشارع بدليل قبول ذلك الواجب للنيابة ـ نزل ما يصدر من النائب بداعي تفريغ ذمة المنوب عنه عما وجب عليه من العبادة منزلة ما يصدر عنه وجعل امتثاله للأمر المتوجه نحوه عند نيابته عنه بمنزلة امتثاله في سقوط الأمر به ، وليست التوسعة المذكورة من الشارع في امتثال التكليف من قبيل التعميم للمباشرة والتسبيب ، فان ما يصدر عن المتبرع لم يكن بتسهيب من المتبرع عنه لإمكان التبرع فيه عن الميت ، ومن الواضح عدم تعقل التسبيب فيه ، وفي ما لو أمكن التسبيب ربما يصدر العمل من المتبرع بلا اطلاع من تبرع عنه ، وقد لا يرضى بالتبرع عنه ، ولربما ينهي عنه ، كما لو نهى الولد الأكبر الذي وجب عليه قضاء ما فات عن أبيه غيره بالتبرع عنه في العمل فلم ينته المتبرع وأتى به بداعي تفريغ ذمة الميت ، فإنه يصح وتحصل به براءة ذمة الميت وبراءة الولد الأكبر. مع أنه ليس في هذه

٣١

 

__________________

الصورة تسبيب ـ أصلا ـ لا من الميت ولا من الولد الأكبر ـ وهذا كاشف عن أن المناط في صحة العمل ليس هو التسبيب ، بل المصحح له ما ذكرناه من كونه قاصدا في إتيانه بالعمل تفريغ ذمة الغير المتوقف على قصده امتثال الأمر المتوجه الى الغير.

ثم إن الفعل الخارجي الصادر من المتبرع بعنوان كونه عن الغير محقق لعنوانين طوليين : أحدهما ـ كونه نيابة عن الغير المتوقف على قصده الفعل عنه ، فما لم يقصد كونه عن الغير لا يقع عنه ، وإن قصد امتثال الأمر المتعلق بالغير ـ ثانيهما ـ كونه عبادة واجبة على الغير ، وهو متوقف على قصده امتثال الأمر المتوجه الى الغير ، وهو ملاك عبادية عمل المتبرع عنه. وأما كون العمل عن الغير المحقق لعنوان النيابة المتقدم في الرتبة على العنوان الثاني فهو أجنبي عن ملاك عبادية العمل المأتي به عن الغير ، فان المقصود كون العمل مقربا للغير المنوب عنه ، والنيابة عمل للنائب ، فلو كان قصدها ملاكا لعبادية عمله لكان منشأ لتقربه لا لتقرب المنوب عنه.

ثم إن النائب يمكن أن يقصد بنيابته التقرب ، ويمكن أن لا يقصده فان قصده كان عمله مقربا له ـ أيضا ـ إذ هو متبرع بإتيان عبادة الغير قربة إلى الله تعالى ، فيحصل ـ حينئذ ـ تقرب للمنوب عنه لإتيان عبادته بفعل النائب ، وتقرب للنائب لقصده التقرب بنيابته ، ولو لم يقصد التقرب بنيابته بل قصد إتيان العبادة عن المنوب عنه يكون عمله موجبا لتقرب المنوب عنه ، لا لتقرب نفسه ، حيث أنه لم يقصد التقرب بنيابته ، وهو غير قادح ، إذ النيابة ليست عبادية ، وإنما هي توصلية ، فلا يقدح عدم قصد التقرب بها ، بل تصح ـ مطلقا.

والحاصل ، إن عنوان كون العمل نيابة عن الغير وعنوان كونه عبادة الغير عنوانان طوليان ، ثانيهما متوقف على الأول ، وهو ـ أي الأول

٣٢

الأجرة دون الفعل المنوب فيه المعتبر فيه الإخلاص الذي هو من أفعال الجوارح. فهنا فعلان : أحدهما فعل قلبي وهو النيابة ، والآخر من أفعال الجوارح وهو من الفعل المنوب فيه ، وما يعتبر فيه الإخلاص هو الثاني دون الأول الذي هو من التوصلي الذي مرة يكون راجحا واخرى يكون مرجوحا وثالثة مباحا ، والراجح قد يكون واجبا ، وقد يكون مستحبا ، فيختلف حكمها بحسب ما يقتضيه موجبه. ومتعلقها أى الفعل المنوب فيه قد يكون توصليا أيضا وقد يكون تعبديا يعتبر فيه الإخلاص.

__________________

قصدي مضاف إلى النائب ، وليس عباديا متوقفا على قصد القربة به ، بل يصح ، ولو لم يقصد به التقرب ، والعنوان الثاني مضاف الى المنوب عنه لكونه عبادة عنه ، ويتوقف تحققه على قصد امتثال الأمر المتوجه الى المنوب عنه وبكون موجبا لقربه دون النائب ، كما لو كان المنوب عنه هو المباشر لكان قصده كذلك ، فيكون اجتماع هذين العنوانين أعني عنوان النيابة وعنوان العبادة عن الغير في الفعل الخارجي الصادر عن النائب ـ كاجتماع عنواني الصلاة والغصب في الفعل الخارجي وهو الصلاة في الدار المغصوبة ـ مثلا ـ سوى أن الصلاة والغصب عنوانان عرضيان ، وهذان العنوانان طوليان ، الثاني منهما في طول الأول.

إذا عرفت ذلك ، فنقول فيما هو محل الكلام من عبادة الأجير ـ : ما هو متعلق الإجارة وتقع الأجرة بإزائه عنوان النيابة في عمل الغير وقد عرفت أنه توصلي ، فيصح أن يقصد به استحقاق الأجرة من المستأجر وليس مرتبطا بملاك عبادية العبادة عن الغير كي يكون أخذ الأجرة منافيا لها بل الذي ينافي أخذها كون النيابة عبادة المفروض عدمها ، فعدم استحقاق الأجير الأجر والثواب بنيابته لا ينافي تحقق عبادة الغير عنه وصيرورة المنوب عنه مستحقا للأجر والثواب ، والمفروض دخول النيابة في عمل المنوب عنه بمعنى حصول القرب له بالأعم من عمل نفسه وعمل نائبه عنه.

٣٣

ثم ان النيابة بعد تحققها وإمضاء الشارع لها موجبة لتوجه التكليف

__________________

وبالجملة ، إن متعلق الإجارة عمل مباشري للنائب ، وهو إتيانه بالعمل بقصد نيابته عن المنوب عنه ، والباعث له على ذلك بذل المستأجر له الأجرة على نيابته وملاك عباديته العمل هو الأمر المتوجه إلى المنوب عنه ، وتعنون العمل بكونه عبادة المنوب عنه في طول إتيان النائب بالعمل بقصد النيابة عن الغير ، فأحد العنوانين محقق لنيابة النائب ، والعنوان الآخر محقق لعبادة المنوب عنه ، وما يتوقف صحته على قصد الامتثال هو الثاني منهما ، وما يقع بإزاء الأجرة أو لهما.

هذا محصل ما أفاده شيخنا الأستاذ ـ قدس سره ـ ولا أظنك بعد هذا التقريب تتوهم مما ذكره سيدنا المصنف ـ قدس سره ـ بقوله : «فالنيابة التي هي من فعل القلب هي المأخوذ عليها الأجرة» وقوله ـ رحمه الله ـ : «فهنا فعلان : أحدهما ـ فعل قلبي وهو النيابة ، والآخر من أفعال الجوارح وهو الفعل» إلخ.

فتقول : إن الإجارة لا بد أن تقع على عمل ، ولا يكفي في متعلقها صرف فعل القلب ، وذلك لما ذكرنا : من أن متعلق الإجارة : النيابة وهو العمل عن الغير ، وكونه قصديا منوطا بقصد النائب النيابة لا يقتضي كونه عبارة عن نفس القصد الذي هو مجرد فعل القلب ، بل هو فعل خارجي له جهة اضافة الى النائب وهي جهة الإصدار بالمعنى المصدري ، وله جهة أخرى بالمعنى الاسم المصدري التي هي جهة العبادية وكونه امتثالا للأمر المتوجه الى الى المنوب عنه بفعل نائبه ، والجهة الأولى توصلية محضة ، والجهتان طوليتان وليس تعددهما بمحض الاعتبار ، كما يتوهم ذلك.

وبالجملة فهذا الوجه خير الوجوه في مقام دفع الاشكال ، وما سواه مما دفع به الاشكال غير خال عن الخدشة ، والله تعالى هو العالم.

٣٤

المتعلق بالمنوب عنه إلى النائب فيما استنيب فيه بعد تنزيل الذات منزلة الذات الذي من آثاره الوضعية صيرورة فعله فعله وتقربه تقربه ، فالإجارة ـ وان تعلقت بإيجاد الفعل عن المنوب عنه ومعناه إيجاده نيابة عنه وتنزيل فعله منزلة فعله ـ إلا أن التنزيل المذكور مسبب عن تنزيل ذاته منزلة ذاته ، ومن آثاره الوضعية المترتبة عليه ، فهو مقدور له بواسطته ، فلا تعدد في الجعل والتنزيل من النائب ، بل الحاصل منه جعل واحد وهو قيام ذاته مقام ذات غيره فيه وصيرورة فعله فعل غيره من آثار هذا الجعل غير موقوف على جعل آخر فمرجع الإجارة ـ في الحقيقة ـ الى هذا الجعل الذي هو فعل قلبي ، وان تعلقت بفعل الجوارح من العبادة وغيرها ، فافهم فإنه دقيق ثم ان النيابة المستحبة ان كان إيجادها لامتثال الأمر الاستحبابي أثيب النائب عليها ، وان كان متعلقها توصليا ، غير أن متعلقها : ان كان عبادة كان ثواب فعل المنوب فيه للمنوب عنه وثواب النيابة للنائب.

وبالجملة فإن كان الفعل المنوب فيه مما يثاب عليه ـ كما لو كان عبادة ـ كان ثوابه للمنوب عنه ، وان كان صادرا من النائب لأنه هو هو بعد الجعل والتنزيل سواء كانت النيابة مما يثاب عليها النائب أم لا كما ان ثواب النيابة حيث يثاب عليها للنائب أثيب المنوب عنه بالمنوب فيه أم لا كما لو كان من التوصليات ، فقد يخلوان من الثواب ، وقد يترتب عليهما الثواب ويختص ـ حينئذ ـ كل من النائب والمنوب عنه بما يرجع اليه من ثواب النيابة وثواب متعلقها المنوب فيه ، وقد يخلو أحدهما عنه دون الآخر.

واما صلاة الهدية التي تضافرت النصوص على استحباب التبرع بها ومنها صلاة ليلة الدفن لرفع الوحشة عن الميت في القبر ـ فلا يجوز الاستيجار عليها بناء على منافاة الإخلاص لأخذ الأجرة لأن بذل العوض إن كان بإزاء العمل فالمفروض اعتبار الإخلاص فيه المنافي له ، وان كان

٣٥

بإزاء الثواب المترتب عليه ، فمع أنه غير معلوم تحققه لاحتمال وجود ما يمنع عن قبوله مع جهالة مقداره على فرض تحققه ، لا سنخية له مع الأموال والأعمال الدنيوية التي تصح المعاملة عليها لعدم احتسابه من المتمولات عرفا ولا شرعا.

كيف ولو كان ثواباته مما تصح المعاوضة عليها لاستغنى الفقير ببيع مثوباته ، وربما يكون به مستطيعا.

اللهم إلا أن يكون البذل بإزاء الإهداء الذي هو فعل من أفعال المهدي كما ذكرنا في الأجرة على النيابة ، إلا أن الإهداء بعد فرض انسلاخ المالية عن متعلقة لا معنى لبذل المال عليه.

فاذا ما هو المتعارف من الاستيجار على صلاة الوحشة ، ولو بالإجارة المعاطاتية لا يخلو من اشكال ، بناء على المنافاة المزبورة.

نعم يصح ذلك بناء على تأكد الإخلاص بالإجارة ، وحينئذ فالمتخلص عنه اما بالبذل بنحو العطية وتبرع المصلي بالصلاة ، أو باستنابته والاستيجار على النيابة عن نفسه فيكون المستأجر المستنيب هو المهدي للثواب دون النائب إلا أن يناقش في مشروعية النيابة هنا ، إذ ليس كلما يصح التبرع به تصح النيابة فيه ، نعم كل مورد تصح النيابة متبرعا فيه يصح الاستيجار عليه.

ومن القسم الثاني

النقض بالحرف والصنائع المتوقف عليها النظام ، فإنها لذلك من الواجبات الكفائية مع جواز أخذ الأجرة لها والمعاملة عليها ، بل حتى مع تعيينها على واحد مخصوص بسبب الانحصار فيه.

ويدفعه ان وجوب الصنائع انما هو لحفظ النظام وانما يستقيم النظام

٣٦

بالتكسب بها وأخذ العوض عليها لأن لزوم التبرع بها يوجب الإخلال به دون حفظه ، فيلزم من وجوب التبرع بها نقض الغرض من وجوبها (١)

__________________

(١) محصل ما ذكره سيدنا من الوجه في جواز أخذ الأجرة على الواجبات النظامية أن السبب الموجب لما يتوقف عليه عيش الإنسان ويلزم من عدمه اختلاله ، هو استقامة النظام به وارتفاع الاختلال بوجوده ، وهو متوقف على جواز أخذ الأجرة عليه ، فإنه لو لا جواز ذلك ولزوم التبرع به لا يستقيم النظام ، بل يحصل الاختلال لعدم الاقدام نوعا على ذلك مجانا ، فلا مناص عن جواز أخذ الأجرة عليه.

وهذا وان كان وجها ويحصل به دفع الاشكال عن جواز أخذ الأجرة على الواجب النظامي وقد سبق من سيدنا الأعظم طاب ثراه في (المصابيح) التوجيه به أيضا ، ولكن ما ذكرناه من الوجه فيما سبق من تعليقتنا ، وأوضحناه بما لا مزيد له لعله أوضح ، وحاصله أن الواجب النظامي لم يكن كغيره مما تعلق به تكليف شرعي إلزامي ليكون المكلف ملزما ومقهورا على الإتيان به ومسلوب القدرة شرعا عن تركه المقتضى ذلك عدم ملكيته وسلب ماليته وعدم صحة تعلق الإجارة به والمعاوضة عليه ، بل هو اي الواجب النظامي من العمل اقتضى وجوبه وإلزام العامل به ، ضرورة توقف انتظام العيش عليه ولزوم اختلاله بعدمه وحيث أن الضرورة إنما تقدر بقدرها ، فاللازم على العامل بذله لمن احتاج اليه ، والممنوع حبسه عنه ، ومجرد ذلك لا يقتضي لزوم التبرع به وسقوط ماليته وعليه فله أخذ الأجرة عليه ممن عمل له ومع إعساره له احتسابها دينا عليه واستحصالها عند يساره أو غير ذلك من وجوه الاستحصال عند عدم اليسار.

والحاصل أن ما لا يستقيم النظام الا به من الأعمال ويلزم من عدمه اختلال العيش لنوع الإنسان بمنزلة ما لا يستقيم الا ببذله من أعيان الأموال

٣٧

ومن ذلك أخذ الأجرة على الطبابة التي هي أيضا من الواجبات الكفائية بل يجوز ذلك حتى مع تعيينها على الطبيب بالانحصار ، ضرورة أن الانحصار يوجب انقلاب ذلك الوجوب الكفائي إلى الوجوب العيني والواجب كفاية هو التكسب بها ، فيتعين عليه مع الانحصار ، فمعنى التكسب هو أخذ الأجرة بإزاء العمل ، فيجب على الطبيب مع التعيين عليه ـ معالجة المريض ـ ببيان الدواء بعد تشخيص الداء وأخذ العوض منه مع قصده ، وعلى المريض أو وليه بذل العوض له ، ومع الامتناع يجبره الحاكم على البذل ان كان له مال وإلا فله في ذمته ، فان مات فيستوفيه من بيت المال من الزكاة أو غيرها ومثله العمل لتحصيل النفقة الواجب عليه لنفسه ولمن يجب عليه نفقته فان المتوقف عليه حصول النفقة هو العمل المأخوذ عليه الأجرة وهو الواجب عليه مقدمة دون العمل المجاني.

وهنا مسلك آخر لجواز أخذ الأجرة على الطبابة وان تعينت عليه للانحصار سلكه شيخنا المرتضى في (مكاسبه) حيث قال : «ومن هذا الباب أخذ الطبيب الأجرة على حضوره عند المريض إذا تعين عليه علاجه

__________________

فكما ان غاية ما يقتضيه ضرورة نظام العيش عند شحة الطعام مثلا وقلته لزوم بذله لمحتاجة وحرمة حبسه واحتكاره على تجارة ومالكية زائدا على مقدار حاجتهم اليه ولا يقتضي ذلك لزوم التبرع به ومجانية بذله بل لمالكه أخذ عوضه والمعاوضة عليه مع من احتاج اليه ، هكذا مثل الخباز والبناء والنساج والخياط ونظائرهم ممن لا يستقيم النظام الا بأعمالهم إنما يلزمهم تهيئة أنفسهم للعمل المطلوب منهم عند الاحتجاج اليه ولا يلزمهم بذله لمن احتاجه بنحو التبرع والمجان بل للعامل أخذ الأجرة عليه واستحقاقها منه عند عدم تبرعه بعمله له ، وهو منشأ السيرة الجارية على أخذ الأجرة على العمل مع عدم استقامة النظام الا به.

٣٨

فان العلاج وان كان معينا عليه إلا أن الجمع بينه وبين المريض مقدمة للعلاج واجب كفائي بينه وبين أولياء المريض ، فحضوره أداء للواجب الكفائي كإحضار الأولياء إلا أنه لا بأس بأخذ الأجرة عليه» انتهى ، ومقتضاه : التفصيل وعدم جواز أخذ الأجرة فيما لو تعين الجمع أيضا على الطبيب لعدم إمكان نقل المريض اليه ، وهو خلاف إطلاق كلامهم في جواز ذلك له وان تعينت المعالجة عليه ببيان الدواء بعد تشخيص الداء.

وما ذكرناه هو الوجه في جواز أخذ الأجرة على الصنائع مع كونها من الواجبات الكفائية.

لا ما ذكره شيخ مشايخنا في (شرحه على القواعد) من دعوى كونها من الواجب المشروط لا المطلق ، حيث قال ـ بعد ذكر ما يدل على المنع عن أخذ الأجرة على الواجب ـ ما نصه «أما ما كان واجبا مشروطا فليس بواجب قبل حصول الشرط ، فتعلق الإجارة به لا مانع منه ، ولو كانت هي الشرط في وجوبه ، فكل ما وجب كفاية من حرف وصناعات لم تجب إلا بشرط العوض بإجارة أو جعالة أو نحوهما ، فلا فرق بين وجوبها العيني للانحصار ووجوبها الكفائي لتأخير الوجوب عنها وعدمه قبلها» انتهى ، لان الصناعات انما تجب مقدمة لحفظ النظام الذي هو من الواجب المطلق دون المشروط فيتبع وجوبه في الإطلاق والتقييد.

اللهم إلا أن يرجع كلامه ـ ولو بالتكليف ـ إلى ما ذكرناه.

ولا ما قيل في دفعه بأن المتوقف عليه النظام هو مطلق العمل الأعم من العمل بالأجرة ، لا خصوص المتبرع به حتى لا يجوز أخذ الأجرة عليه لأنه إذا فرض وجوب العمل من حيث هو ولو للغير امتنع أخذ العوض عليه بناء على عموم المنع عن أخذ العوض على الواجبات مطلقا.

ولا ما قيل من الالتزام بجواز أخذ الأجرة على الواجبات الغيرية وقصر

٣٩

المنع على ما كان واجبا بالذات ـ كما تقدم من جدنا في الرياض ـ وقصر المنع على الواجبات التعبدية ـ كما تقدم عن فخر المحققين انه لما عرفت من عموم المنع أولا وعدم التفصي بهما عن الاشكال على القول المشهور بالمنع مطلقا ثانيا.

ولا ما قيل بالالتزام بخروج ذلك بالإجماع والسيرة القطعية لقيامها على ما اقتضته القاعدة وإلا فالمانع عقلي ـ كما عرفت ـ لا يمكن الخروج عنه بالدليل الشرعي.

ولا ما قبل كما عن جامع المقاصد باختصاص جواز الأخذ بصورة قيام من به الكفاية ، فلا يكون حينئذ واجبا ، لان الظاهر من فتواهم جواز الأخذ ولو مع بقاء الوجوب الكفائي ، بل ومع وجوبه عينا للانحصار كما هو صريح بعضهم.

فالوجوه المذكورة كلها عدا الأول منها ما بين مزيف في نفسه أو غير ناهض لدفع الاشكال ، بناء على القول بعموم المنع كما هو المشهور ، فالوجه هو ما ذكرناه في دفع الاشكال فافهم.

وأما النقض بوجوب بذل الطعام للمضطر مع جواز أخذ العوض منه ففيه ان المأخوذ منه عوض المبذول دون البذل الواجب ، مضافا الى أن البذل انما يجب لدفع الضرر عن المضطر ، والبذل مجانا ضرر على الباذل ولا يدفع الضرر بالضرر ، مع ان طريق الجمع بين احترام المال ودفع الضرر عنه هو البذل بالعوض دون المجاني.

ومنه يظهر الجواب عن النقض برجوع الام المرضعة بعوض إرضاع اللبإ (١) مع وجوبه عليها ، بناء على توقف حياة الولد عليه ، فان المأخوذ

__________________

(١) اللبأ ـ بالكسر فالفتح ـ كعنب أول اللبن في النتاج ينزل من ثدي الأم

٤٠