بلغة الفقيّة - ج ٢

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٥

١

٢

رسالة

في أخذ الأجرة على الواجبات

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(مسألة) المشهور نقلا وتحصيلا عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات مطلقا تعبديا كان الواجب أم توصليا عينيا كان وجوبه أم كفائيا (١) بل

__________________

(١) محصل الكلام في المسألة المذكورة : أن الواجب اما أن يكون نظاميا ـ وهو ما يتوقف عليه نظام البلاد والعباد ، ويلزم من عدمه اختلال عيش الإنسان ـ وإما أن لا يكون كذلك.

أما الواجبات النظامية ، فلا مانع من أخذ الأجرة عليها ـ سواء كانت عينية أم كفائية ، تعيينية أم تخييرية ـ إذ النظام إنما يتوقف فيها على بذل العمل وإصداره وعدم حبسه واحتكاره ، ولا يتوقف على كون المبذول من العامل والصادر منه بنحو التبرع والمجانية ، فيجوز للعامل أخذ الأجرة من المستأجر له على نفس العمل ، وان وجب عليه إصداره.

وبتعبير آخر : إن للعمل الصادر من الشخص له حيثيتان حيثية الإيجاد والإصدار وحيثية الوجود والصدور ، وما يتوقف عليه نظم العيش ويلزم من عدمه اختلاله في الواجب النظامي ، هي الجهة الأولى من العمل ، وهي حيثية الإيجاد والبذل ممن وجب عليه ، ولا معنى لتعلق الإجارة بها ، إذ هي قائمة بشخص الموجد ولا يعقل تمليكها والمعاوضة عليها بعقدها.

نعم الجهة الثانية منه ـ وهي الجهة الاسم المصدرية من العمل ، أعني ذاته وما يكون به العمل عملا ويمكن تمليكه والمعاوضة عليه ، فلا مانع من

٥

عن بعض دعوى عدم الخلاف فيه وعن غير واحد حكاية الإجماع عليه وان كنا لم نتحققه على هذه الكلية.

ولا يخفى عليك عدم اختصاص النزاع بعقد الإجارة كما يتوهم من أخذهم الأجرة في عنوان المسألة بل يعم سائر عقود المعاوضات مما وقع بذل المال فيه بدلا وعوضا عن الواجب بعنوان المعاوضة والمعاملة عليه. نعم

__________________

استيجار العامل عليه ، ولم تكن مقهوريته على الجهة الأولى منه موجبة لسلب ماليته وعدم صحة الإجارة عليه.

وببيان أوضح : إن ما يلزم صدوره وتحققه من عمل المكلف قد يكون من جهة كونه متعلقا لأمر إلزامي من الشارع المقدس ، وبما أن أمر المولى وتكليفه إنما يتعلق بذات العمل ونفسه ويكون المكلف ملزما به ومقهورا عليه فلا يكون مملوكا له ومقدورا عليه ، فان حقيقة ملكية العمل والقدرة عليه ، كون كل من فعله وتركه تحت اختيار العامل ولم يكن ملزما بأحدهما.

وعليه ، فلا يصح تعلق الإجارة بما ألزم بفعله ، كما لا يصح تعلقها بما ألزم بتركه ، فأكل المال بإزائه أكل له بالباطل.

هذا إذا كان نفس العمل وذاته متعلقا لأمر إلزامي من الشارع وأما إذا لم يكن العمل متعلقا لأمر إلزامي منه ، بل كان مما يتوقف عليه نظم البلاد ، فحيث أن النظام إنما يستقيم بإيجاد العمل وبذله ، والاختلال يحصل باحتكاره وحبسه ، والضرورة تقدر بقدرها ، فاللازم على العامل بذله ، والممنوع منه حبسه ، وأما كون ذات العمل بنحو التبرع والمجانية فهو التزام بلا إلزام ، وعليه فلزوم بذله لا يوجب سلب ماليته ، فيجوز أخذ الأجرة عليه ممن استأجره على ذات العمل ونفسه ، وكما يجب على التاجر عند المخمصة بذل ما عنده من الطعام ويحرم عليه احتكاره ، ولا يلزمه حينئذ التبرع به وبذله ـ مجانا ـ بل له بيعه وأخذ ثمنه من المشتري فكذلك

٦

لا يشمل ما لو كان البذل لأجله بنحو العطية وشبهها ، وان وجب البذل بسبب ، كما لو نذر أن يعطي درهما لمن صلى الفريضة فإنه يجوز أخذ المنذور حينئذ بلا اشكال فيه ولا خلاف.

هذا وليعلم أولا انه يعتبر في صحة الإجارة وغيرها من سائر عقود المعاوضات وتأهلها لترتب الأثر عليها أمور :

__________________

الواجب النظامي ، فيجوز للطبيب المعالج والخباز والخياط ونظائرهم ممن يجب عليهم بذل أعمالهم ـ عينا أو كفاية ـ أخذ الأجرة عليها.

ثم إن الواجب غير النظامي : ما كان منه واجبا على شخص دون غيره ولم يعتبر فيه المباشرة ممن وجب عليه بل كان قابلاً لنيابة الغير عمن وجب عليه ، بأن ثبت بالدليل صحة تبرعه به عنه ، تصح الإجارة عليه ، تعبديا كان أم توصليا عينيا كان أم كفائيا ـ فإذا وجب الجهاد على شخص ـ عينا أو كفاية ـ فله استيجار من لا يجب عليه ليجاهد عنه ، بناء على قبوله للنهاية ، ومثله ما وجب على ولي الميت من قضاء ما فاته من الصلاة نيابة عنه ، فله استيجار غيره على أدائها نيابة عن الميت : وأما ما وجب على الشخص عينا ، فلا يصح استيجاره عليه لعدم ملكيته له ، فان مرجع ملكية العمل كونه تحت اختيار عامله وقدرته ، بحيث له فعله وله تركه ، فاذا كان واجبا عليه ومسلوب الاختيار في تركه ، لم يكن مالكا له ، كما أنه لو كان محرما عليه لا يصح استيجاره عليه لعدم قدرته شرعا على الفعل وكذا ما وجب على الشخص كفاية لا عينا ، فإنه ـ وان لم يكن كالواجب العيني من جهة سلب اختياره عن الترك ، فله تركه عند قيام الغير به ممن وجب عليه كفاية ، ولكن مع ذلك لا يصح استيجاره عليه ممن لا يجب عليه ولا يطلب منه ، أصلا ، إذ لا يملك المستأجر عمل الأجير باستيجاره له في في قبال ما يدفعه له من الأجرة ، وما يأتي به الأجير إنما يأتي بما وجب

٧

الأول ـ ان تكون المنفعة المستأجر عليها مثلا عائدة ولو بنوع من الملاحظة إلى المستأجر بحيث يتعلق له بها غرض عقلائي ، وان كانت بنفسها ترجع لغيره ، بل ولو لنفس الأجير كما لو استأجره على بناء دار نفسه لكن حيث يكون له في ذلك غرض عقلائي والا كانت المعاملة عليه سفها

__________________

عليه كفاية ، ولا يكون عمله للمستأجر بإزاء الأجرة ، ومجرد كون المستأجر حاملا له على الإتيان بما وجب عليه ومعينا له ببذل الأجرة ، لا يصحح الاستيجار ما لم ينتقل نفس العمل من الأجير إليه في قبال ما انتقل منه اليه من الأجرة بمقتضى المعاوضة.

والحاصل ، كما يعتبر في متعلق الإجارة كون العمل مقدورا للأجير فعلا وتركا ـ كما ذكرنا ـ كذلك يعتبر إمكان حصوله للمستأجر وملكيته له بالاستيجار بماله من الآثار ، فأكل الأجير المال بإزاء إتيانه ما وجب عليه كفاية لنفسه بماله من الأثر ، أكل له بالباطل ، بل الأمر كذلك فيما لو كان العمل المستأجر عليه مستحبا كقراءة الأجير القرآن لنفسه.

هذا ولو كان العمل واجبا على كل منهما بالمباشرة كالصلاة اليومية وصوم شهر رمضان ـ مثلا ـ فعدم صحة استيجار الشخص عليه واضح ، سواء استأجره المستأجر ليصلي أو يصوم عن نفسه أو عن المستأجر. أما لو استأجره على العمل لنفسه لا للمستأجر ، فلوجوب ذلك عليه عينا وعدم كونه مملوكا له كما ذكرنا مضافا الى عدم إمكان حصول ملك المستأجر له في قبال ما يدفعه من الأجرة ولا يسقط الوجوب عنه بعمل الأجير ، وأما لو استأجره على أن بنوب عنه في ذلك العمل ، فحيث أن العمل المذكور مما يجب على المستأجر بالمباشرة لا يصح استيجاره الغير للنيابة عنه فيه.

وأما لو وجب على كل منهما كفاية ، فان لم تعتبر المباشرة في عمل المستأجر ، واستأجر من ينوب عنه فيه ولو كان الأجير ممن وجب عليه

٨

وأكل المال ـ حينئذ ـ أكل بالباطل بل ربما يلزم ـ حينئذ ـ الجمع بين العوض والمعوض فلذا لا تصح الأجرة على الأفعال العبثية وإبداء الحركات اللغوية كالذهاب إلى الأماكن الموحشة ورفع الصخرة عن مكانها ونحو ذلك مما لا يتعلق للعقلاء غرض فيه.

__________________

العمل المذكور أيضا كفاية كالجهاد ـ مثلا ـ بناء على قبوله للنيابة ، صح الاستيجار ، فإن النائب نظرا الى عدم وجوب الجهاد عليه عينا مالك لعمله والمستأجر حيث لا يعتبر فيما وجب عليه من الجهاد المباشرة بنفسه بل له استنابة غيره عنه فهو قابل لأن يملك عمل الأجير بدلا عما يدفعه اليه من الأجرة فيصح استيجاره ، ويكون المجاهد هو المستأجر بنائبه وبدنه التنزيلي ويسقط الوجوب عنهما بفعل الأجير ـ كما لا يخفى ـ نعم ، لو استأجره على العمل لنفسه بما يترتب عليه من الأثر لا المستأجر فلا تصح الإجارة ، ومجرد انتفاع المستأجر بعمل الأجير لنفسه بسقوط الوجوب عنه لقيام الأجير بالواجب الكفائي لا يكفي في صحة الاستيجار ما لم يدخل ذلك العمل في ملك المستأجر بماله من الأثر بدلا عما خرج من ملكه اليه من الأجرة بمقتضى المعاوضة.

وما يظهر من سيدنا المصنف ـ قدس سره ـ من كفاية ذلك حيث يقول : «وأما الكفائي التوصلي فلا مانع من صحة تعلق الإجارة به ووجود المنفعة فيه للمستأجر ولو بسقوط التكليف عنه بفعله ، فتشمله عمومات أدلة العقود» انتهى.

غير واضح ، كما أنه لو وجب على المستأجر كفاية المباشرة في العمل وعدم قبوله للنيابة كالصلاة على الميت مثلا لا تصح الإجارة فيه بمجرد انتفاع المستأجر بسقوط الواجب الكفائي عنه بفعل الأجير.

٩

ولا يتوهم النقض بجواز أخذ السبق (١) في عقد المسابقة مع أن البذل من الباذل بإزاء ما لا منفعة له فيه ، لأنه من المحتمل قويا أنه من الالتزام بالعطية والوعد بها على تقدير السبق غير أن الالتزام بما التزم به انما هو لدليله الخاص ، فهو مستثنى من الرهان المنهي عنه في الاخبار شرّع لتحصيل الاستعداد على القتال والجهاد ، وليس من المعاملة بشي‌ء حتى يتم النقض به ، وان وقع التعبير بها في كلام بعض الفقهاء.

الثاني ـ ان لا يكون العمل مما يعتبر في صحته وترتب الأثر عليه ما ينافي إتيانه للوفاء به ، والا كان المأتي به غير المعوض عليه والمعوض عليه غير المأتي به فيكون أكل المال ـ حينئذ ـ أكلا بالباطل.

الثالث ـ أن لا يكون مستحقا عليه بحيث يخرجه عن كونه مملوكا له سواء كان الحق لله أم لغيره مستأجرا كان أم غيره ، ولذا لا يجوز أخذ العوض على الزكاة ممن دفعها اليه ، وان وجد مستحق سواه ، ومثله أخذ الأجرة على العمل المملوك بخصوصه بإجارة سابقة عليه ضرورة كونه مملوكا للأول فلا يعقل تملكه لغيره ، فاعتبار هذه الشروط في صحة المعاملة وقابليتها لترتب الأثر عليها مما لا شك فيه ولا شبهة تعتريه.

إذا عرفت ذلك ، فنقول : اختلفت كلمات الفقهاء في هذه المسألة على أقوال : فبين قائل بالمنع عنه ـ مطلقا ـ وهو المشهور ، وفي (المسالك) : هو المشهور وعليه الفتوى (٢) وبين من منع عنه فيما يجب فيه قصد القربة كما عن فخر

__________________

(١) السبق ـ بفتحتين ـ : الخطر الذي يوضع بين أهل السباق ، جمعه اسباق.

(٢) راجع : كتاب التجارة منه في شرح قول المصنف ـ عند تعداد ما يحرم التكسب به ـ : الخامس ما يجب على الإنسان فعله : «.. هذا هو المشهور بين الأصحاب وعليه الفتوى».

١٠

المحققين ـ رحمه الله ـ وبعض المتأخرين ، وبين من منع فيما كان واجبا بالذات كما في (الرياض) بل فيه بعد نفي الخلاف : ان عليه الإجماع في كلام جماعة (١) وبين مانع في كل ما كان الغرض الأهم منه الآخرة والجواز فيما كان الغرض الأهم منه الدنيا كما عن السيد في (مفتاح الكرامة) (٢)

__________________

(١) في كتاب التجارة ـ في شرح قول المصنف : السادس (يعني مما يحرم التكسب به) : أخذ الأجرة على الواجب : من تغسيل الأموات وتكفينهم وحملهم ودفنهم .. قال سيدنا في (الرياض) : «ونحوها الواجبات الأخر التي تجب على الأجير عينا أو كفاية وجوبا ذاتيا بلا خلاف ، بل عليه الإجماع في كلام جماعة ، وهو الحجة ، مع منافاته الإخلاص المأمور به كتابا وسنة وأخرج بالذاتي : التوصلي كأكثر الصناعات الواجهة كفاية توسلا الى ما هو المقصود من الأمر بها ، وهو انتظام أمر المعاش والمعاد ، فإنه كما يوجب الأمر بها كذا يوجب أخذ الأجرة عليها ، لظهور عدم انتظام المقصود بدونه ، مع أنه عليه الإجماع نصا وفتوى ، وبذلك يندفع ما يورد من الاشكال بهذه الواجبات في هذا المجال ..».

(٢) في شرح قول المحقق : الخامس (أي مما يحرم التكسب به) : ما يجب على الإنسان فعله يحرم الأجر عليه كتغسيل الموتى وتكفينهم ودفنهم قال السيد ـ في الشرح ـ في جملة كلام له : «إن ما وجب كفاية لذاته يحرم أخذ الأجرة عليه. وهو كل ما تعلق أولا وبالذات بالأديان كالفقاهة واقامة الحجج العلمية ودفع الشبهات وحل المشكلات والأمر بالمعروف والتغسيل والتكفين ، لأنه راجع الى الدين ، أو الأبدان كالطبابة والتمريض وإطعام الجائعين وستر العراة واغاثة المستغيثين في النائبات على ذوي اليسار وإنقاذ الغرقى (الى قوله) والذي يجوز أخذ الأجرة عليه من الواجب الكفائي هو ما يتعلق أولا وبالذات ـ بالأموال وإن رجع ـ بالآخرة ـ الى

١١

ويظهر من جدي العلامة (في المصابيح التفصيل بين التعبدي منه والتوصلي فمنع في الأول مطلقا وفصل في الثاني بين الكفائي منه والعيني فجوز في الأول مطلقا وفصل في الثاني بين ما كان وجوبه للضرورة أو حفظ النظام وغيره ، فيجوز في الأول ومنع في الثاني مطلقا ذاتيا كان الواجب أم غيريا (١).

__________________

الأول كالحياكة والصياغة والتجارة ونحو ذلك (الى قوله) وبعبارة أخرى كل ما كان الغرض الأهم منه الآخرة : إما بجلب النفع أو دفع الضرر ، لا يجوز أخذ الأجرة عليه ، ولا ينقض بالجهاد لما ستعرف ، وكل ما كان الغرض الأهم منه الدنيا اما يجلب النفع أو دفع الضرر فإنه يجوز أخذ الأجرة عليه ، وان كان قد يرجع ـ بالآخرة ـ إلى المهمات الدينية باعتبار كونه وسيلة إليها ..».

(١) قال جدنا (السيد بحر العلوم) ـ قدس سره ـ في (المصابيح كتاب التجارة) ـ في مقام بيان ما يحرم التكسب به ـ : مصباح ـ المشهور ان ما يجب فعله لا يجوز أخذ الأجرة عليه ـ عينيا كان الوجوب أم كفائيا ، عبادة كان الواجب أم غيرها ـ وعليه إشكال مشهور ، وهو : ان الصناعات التي يتوقف النظام عليها مما تجب كفاية على ما صرحوا به ، فيلزم عدم جواز أخذ الأجرة عليها ، وكذا يلزم أن يحرم على الطبيب أخذ الأجرة على الطبابة لوجوبها كفاية كالفقاهة ، وان يحرم أخذ الأجرة لما يعمله لضرورة نفسه أو دفعها عن غيره أو لتحصيل النفقة الواجبة ومن ثم فصل بعضهم ، فمنع من أخذ الأجرة إذا كان الواجب عبادة لمنافاته الإخلاص ، وجوزه في غيرها لعدم المانع ، وهذا مختار فخر المحققين وجماعة من المتأخرين ، وهو وان سلم من الاشكال المذكور ـ ولكن يرد عليه : أن القول بجواز أخذ الأجرة في غير العبادة انما يصح في الكفائي

١٢

والأقوى قصر الجواز فيها على التوصلي من الواجبات الكفائية والمنع فيما عداه ، تعبديا كان الواجب ولو كفائيا عينيا كان ولو غيريا.

واستدل للأول على ما يظهر من احتجاج بعضهم لما أخذوه بإطلاقه عنوانا في المسألة بأمور :

الأول ـ الإجماع

وفيه انه في الجملة مسلم ، والمحصل منه على الكلية ممنوع والمنقول منه ظاهرا أو صريحا في بعض الموارد الجزئية كالقضاء والشهادة والأذان وتعليم صيغة النكاح وإلقائها على المتعاقدين كما عن بعض منهم (المبسوط) و (الخلاف) و (التحرير) و (جامع المقاصد) غير مجد ، والمجدي منه على الكلية لم نتحققه إلا في ظاهر (مجمع الأردبيلي) قدس سره حيث قال : «الظاهر أنه لا خلاف في عدم جواز أخذ الأجرة على فعل واجب على الأجير سواء كان عينيا أم كفائيا فكان الإجماع دليله انتهى بناء على قراءة (كان) فعلا لا حرفا ، ولعل نظر (الرياض) إليه في دعوى الإجماع عليه وهو مع ذلك موهون بما عرفت من التفصيل في الأقوال المتقدمة.

__________________

منه دون العيني ، لأن أخذ الأجرة على العمل انما يجوز إذا كان العمل مما يستحق الأجرة ، والعمل انما يستحق الأجرة لو جاز الامتناع عنه بدونها ، إذ مع امتناعه جاز الامتناع عن إعطاء الأجرة ، وامتنع الإلزام عليها.

وعلى هذا فينبغي التفصيل في غير العبادة بالفرق بين العيني والكفائي. ويشكل ذلك أيضا بأن الصناعات الكفائية مع الانحصار تصبر عينية ، ومع ذلك يجوز أخذ الأجرة عليها ولا يجب العمل مجانا ، فان ما يصنعه العامل لضرورة نفسه أو تحصيل نفقته الواجبة ، واجب عيني ، ويجوز أخذ الأجرة عليه ، بل يجب ، فينبغي التفصيل في العيني من غير العبادة

١٣

الثاني ـ منافاته للإخلاص المعتبر في العبادة.

وفيه أنه أخص من المدعى لاختصاصه بالتعبدي من الواجبات ومنقوض

__________________

أيضا ، بالفرق بين ما كان المطلوب منه دفع الضرر أو حصول النظام ، وغيره مما ليس كذلك كوجوب إزالة النجاسة من المسجد مع الانحصار ، وتحصيل ما ليس بعبادة من مقدمات العبادة ، كتحصيل الطهور والساتر وتطهيره لأجل الصلاة. ووجه الفرق : أن سبب الوجوب في القسم الأول ـ وهو حصول النظام ودفع الضرورة ـ يقتضي الوجوب بحيث يتأتى به الانتظام ويندفع به الاحتياج ، وليس ذلك إلا بأخذ الأجرة ، فيقتضي جواز الأجرة فيه ، لأن المنع منه يوجب اختلال النظام وإبقاء الاحتياج ، ويلزم منه عدم الوجوب فيها ، ولذا جاز الامتناع عن العمل هنا ـ بدون الأجرة ، بخلاف القسم الثاني ، فإنه يجب فيه حصول الفعل مطلقا ـ ولا يسقط التكليف به مع الامتناع عن الأجرة. ومن ثم انتفى الاستحقاق فيه ولم يجز أخذ الأجرة عليه.

أما المندوب ، فان كان عبادة لم يجز أخذ الأجرة عليه ، لمنافاته الإخلاص المعتبر فيها ـ كما مر ـ والاجاز مطلقا (١) ـ كفائيا كان أم

__________________

(١) وأما جواز الاستيجار في مقدمات العبادات إذا كانت غير عبادة كتحصيل الطهور وتحصيل الساتر وتطهير الثوب والبدن ، فلكونها من قبيل القسم الثالث ، إذ المطلوب من المصلي تحصيل الطهور مثلا كيف اتفق ، سواء كان بالمباشرة أم بالنيابة ، وكذا في غيرها».

(منه)

١٤

بالمستحب منها فلا يتم لا طردا ولا عكسا ، مضافا الى ما قيل من تأكد الإخلاص به كما في (الجواهر) حيث قال بعد نقل الإجماع عن بعض ما لفظه : «وهو ان تم الحجة لا لمنافاة ذلك الإخلاص في العمل المعتبر فيه إذ هو مع أنه غير تام فيما لا يعتبر فيه النية من الواجبات كالدفن ونحوه ومنقوض بالمستحب ، واضح المنع ضرورة كون الإجارة مؤكدة له باعتبار تسبيبها الوجوب أيضا» (١) وكأنه تبع في ذلك شيخه كاشف الغطاء في

__________________

عينيا ـ لجواز الامتناع عنه ، فيثبت الاستحقاق بخلاف الواجب ، نعم ترتب الأجر والثواب عليه يتوقف على فعله من غير عوض لتوقفه على على قصد الإخلاص المنافي له ، وحينئذ يكون عبادة ويندرج في القسم الأول.

وأما المطلوب من غيره ، فان كان عبادة امتنع أخذ الأجرة عليه مطلقا ـ واجبا كان أو مندوبا ، عينيا كان أم كفائيا ـ وكذا غير العبادة ان كان عينيا يطلب فيه المباشرة بالنفس ، أو كفائيا لا يطلب من حيث الانتظام أو دفع الضرورة ، والا جاز أخذ الأجرة مطلقا.

وأما جواز الاستيجار للحج والصوم والصلاة عن الميت والعبادات المستحقة ـ مطلقا ـ كما هو المتداول بين العلماء في جميع الأعصار ، مع كونها عبادات يطلب فيها المباشرة بالنفس ، فذلك حكم مخالف للأصل مخرج عنه بالدليل. والاشكال فيه من حيث الوجوب على النائب لأجل الإجارة ، ضعيف جدا ، لأن الممنوع عنه هو الواجب قبل الإجارة ، لا الواجب بسببها ، والا لزم بطلان الإجارة في الأعمال مطلقا لوجوبها على الأجير بسبب الإجارة ، والتالي باطل بالضرورة».

(١) راجع : كتاب التجارة ، الخامس ـ مما يحرم التكسب به .. والمقصود : إن منافاة أخذ الأجرة للإخلاص لو تمت ـ إنما تصلح

١٥

شرحه على (القواعد) حيث قال : لا لمنافاة القربة فيما يشترط بها فيقتصر عليه كما ظن لان تضاعف الوجوب يؤكدها انتهى.

وان نوقش بان الوجوب المسبب عن الإجارة ونحوها توصلي غير معتبر فيه الإخلاص حتى يكون مؤكدا للإخلاص المعتبر في العبادة.

إلا انها غير واردة ، لعدم دعواه لزوم التأكد ، بل مدعاه إمكانه المتصور ولو في إيجاده بقصد امتثال الأمر الإيجابي بالوفاء الحاصل من الإجارة وإمكان التأكد ولو في مورد يلزمه عدم المنافاة بينهما بالذات.

اللهم إلا ان يناقش بوجه آخر ، وهو ان المعتبر كون الإخلاص داعيا محركا على العبادة ، وكون الأجرة داعية لها محركة عليها مناف لذلك بالضرورة من غير فرق بين انضمامه مع داعي الإخلاص أو تركب العلة الغائية منهما.

وقياسه بالأغراض الدنيوية التي يأتي المكلف بالعبادة لأجلها كسعة الرزق ونحوها.

(قياس) مع الفارق ، لوضوح الفرق بين كونها مطلوبة من الله كطلب الثواب والنجاة من العقاب ومن غيره كما ستعرف.

(ودعوى) كفاية التقرب بوجه في صحة العبادة ، ولو بالنسبة الى الأمر الوجوبي بالوفاء إذ المانع خلو العبادة عن القربة لا اشتمالها من جميع الجهات عليها.

(واضحة) الفساد لأن الأمر بالوفاء إنما هو متعلق بالعبادة المعتبر فيها الإخلاص ، فالقربة المعتبرة فيما هو كالموضوع للأمر بالوفاء كيف يمكن تحققها

__________________

أن تكون دليلا على عدم جواز أخذها في مطلق العبادات واجبة كانت أم مستحبة ـ لا عدم الجواز في الواجبات مطلقا عبادة أو غيرها الذي هو مورد الاستدلال والاحتجاج ، دون الأول ، فتدبر.

١٦

من امتثال نفس هذا الأمر المتأخر عنه في الرتبة وبمنزلة المحمول في القضية (١) كدعوى إمكان إتيان العبادة بداع الإخلاص ليس الا ويكون ذلك وفاء لما وجب عليه بالإجارة وان تجرد عن قصده إذ لا يعتبر في الوفاء به الإتيان لأجله بعد ان كان المفروض من الواجبات التوصلية فلا ينافي الإخلاص المعتبر في العبادة وان لم يكن مؤكدا له إذ الإجارة وسائر عقود المعاوضة إنما تتعلق بما أمكن ان يكون الإتيان به لأجل الوفاء ، وهو أي الإمكان متعذر في المقام لضرورة المنافاة بين القصدين.

الثالث ـ ما استدل به شيخ مشايخنا (كاشف الغطاء) في شرحه على (القواعد) بما يرجع محصله بتوضيح منا إلى التنافي بين صفة الوجوب وأخذ

__________________

(١) محصل الدعوى المذكورة ومناقشتها : أن تعلق الإجارة بالعبادة لا يتنافى مع داعي الإخلاص حيث لا يعتبر في تحقق الوفاء بمتعلق الأمر الإجاري قصد الإتيان به بما هو مستأجر عليه ، بل يكفي مجرد الإتيان به ولو بدون داعي امتثال الأمر الإجاري ، إذ هو توصلي لا يعتبر في تحقق الوفاء به قصد امتثاله وعليه فيمكن للأجير الإتيان بالعبادة بداعي امتثال أمرها العبادي المتعلق بها ، وكما يتحقق بذلك التقريب الى الله تعالى بقصد الامتثال بها كذلك يحصل الوفاء بالإجارة ، والحاصل ان الأمر الإجاري المتعلق بالعبادة لا ينافي الإخلاص المعتبر فيها وان لم يحصل به تأكده لكونه توصليا لا يعتبر فيه قصد التقرب الى الله بامتثاله. هذا ولكن الدعوى المذكورة كسابقتها في الاشكال وعدم التمامية فإنه وان لم يعتبر في تحقق الوفاء بالإجارة قصد امتثال الأمر الإجاري من حيث كونه توصليا ولكن يعتبر في متعلق الإجارة وسائر عقود المعاوضة إمكان الإتيان به لأجل الوفاء بالأمر الإجاري ونحوه من باب تسليم حق الناس إليهم وهو يتنافى مع كونه عبادة يعتبر فيه الخلوص والتقرب الى الله تعالى به لظهور المنافاة بين القصدين.

١٧

العوض على الواجب ذاتا لأنه يعتبر في المعوض ان يكون مملوكا لمن له العوض بمعنى ان لا يكون مستحقا عليه ليتمكن من تمليكه لباذل العوض بإزاء ما بذله والواجب لكونه واجبا عليه غير مملوك له بل هو مستحق لله ومملوك له وتمليك المملوك ثانيا غير معقول ولذا لا يجوز أخذ الأجرة على عمل مخصوص استؤجر عليه قبله وليس الا لكونه مملوكا لغيره فلا يملك ثانيا وبعبارة أخرى العمل الواجب لكونه واجبا لا احترام له حتى يستحق بذل المال بإزائه ، وهو في العيني واضح وفي الكفائي وان كان المكلف كليا الا أنه منطبق على من قام بالفعل فيكون القائم به قائماً بما وجب عليه ولو كفاية والفعل فيه بعد إيجاده هو الواجب المستحق لله تعالى بذلك الوجوب المتعلق بكلي المكلفين.

وفيه أنه ان تم فهو انما يتم في غير الكفائي من الواجبات ، وأما هو فلا ، لأن الفعل انما يكون مستحقا لله ومملوكا له بعد اتصافه بالوجود ، ولذا لا يجوز إلزامه بخصوصه عليه وهو قبله متعلق للإجارة ، فالإجارة متعلقة به قبل صيرورته مستحقا لله ، فهو ـ حينئذ ـ من هذه الحيثية عمل محترم جاز بذل المال بإزائه ، وهذا بخلاف الواجب العيني فإن الفعل فيه مستحق لله عليه بخصوصه قبل إيجاده ولذا جاز إلزامه به قبله من باب الأمر بالمعروف لا يقال : ان الإجارة انما تتعلق بما كان متمولا وفيه منفعة للمستأجر ولا يكون الفعل كذلك الا بعد اتصافه بالوجود ـ وحينئذ ـ فمتعلق الإجارة هو ما تشخص كونه لله تعالى.

لأنا نقول أن متعلق الإجارة هو الفعل حين عدمه لكن باعتبار قابليته للوجود القائمة هذه القابلية بذات الماهية قبل طرو عارض الوجود عليها ، فالماهية باعتبار تلك القابلية الذاتية متمولة ذات منفعة يصح بذل المال بإزائها ، وكم من فرق واضح بين الماهية باعتبار وجودها وبين الماهية بعد اتصافها بالوجود ، فمتعلق الإجارة هو الأول وما هو مستحق لله هو الثاني.

١٨

لا يقال : أن الإجارة وان تعلقت بها قبل الوجود الا انها مسبوقة بتعلق الوجوب الكفائي بها فيلزم الاشكال من حيث تعلق الإجارة بما هو متعلق للوجوب.

لأنا نقول : متعلق الوجوب كلي المكلفين ومتعلق الإجارة خصوص واحد منهم ، والخصوصية هي المصححة لتعلق الإجارة بها.

هذا وربما يقال بل قيل بجريان ما ذكره في الواجب المخير بالتخيير العقلي فضلا عن التخيير الشرعي إذا كان بعض افراده مشتملا على مزية لم توجد في غيره أو مشقة مفقودة فيما سواه كالدفن في الأرض الصلبة المشتملة على زيادة مشقة في حفرها مفقودة في الرخوة فإنه لا مانع من أخذ العوض على حفرها بخصوصه إذ الواجب مطلق الدفن لا فيها بالخصوص ، وليس كذلك ما لو تساوت افراده من جميع الجهات في متعلق أغراض العقلاء بها ، فان بذل المال حينئذ لواحد منها سفه والمعاملة عليها معاملة سفهية.

ولكن فيه أن التخيير العقلي بين أفراد الطبيعة المطلوبة من شخص معين لا يوجب خروج الفرد المختار عن كونه هو المطلوب منه والمستحق عليه. لأن تشخص الطبيعة السارية طور من أطوار وجودها وشأن من شئوناتها غير مباين لها ولا ممتاز عنها إلا بخصوصية التطور الغير الموجب لخروجه عن كونه هو المستحق عليه ، ولذا كان الموجد له ممتثلا لما أمر به وفي الدين الكلي الثابت في الذمة وفاء له وليس الا لكونه عين المطلوب منه والمشغولة به ذمته ، فاذا كان العمل مطلوبا منه كان المأتي به هو المستحق عليه نعم لو كان للخصوصية عنوان مستقل يتحد مع الطبيعة في الوجود مرة ويفترق عنها أخرى كالكون في المسجد مثلا من حيث هو كون فيه ، جاز بذل العوض بإزاء ذلك العنوان بخصوصه ، وان اتحد مع الطبيعة المطلوبة في الوجود والمعوض عنه فيما نحن فيه هو الصلاة في خصوص المسجد لا نفس

١٩

الكون فيه المتحد معها في الوجود.

ومما ذكرنا يظهر لك عدم الفرق في أفراد الواجب المخير بين ما اشتمل على مزية زائدة كصلابة الأرض في الدفن وغيره كيف ولو جاز البذل على الخصوصية مطلقا لم يشذ واجب تعييني عن جواز المعاوضة عليه ولو باعتبار خصوصية من خصوصيات التشخص واقتصر المنع حينئذ على التعبدي من الواجبات كما تقدم عن الفخر وغيره ولا كذلك في الكفائي لأن صيرورة العمل فيه مستحقا لله انما هو بعد قيام المكلف بالفعل وصدوره منه فتأمل. وفي لحوق التخيير الشرعي بالتخيير العقلي والكفائي وجهان ولعل الثاني هو الأقرب.

هذا مع إمكان دعوى منع المنافاة بين أخذ الأجرة والوجوب العيني أيضا بالفرق في الملكية بين الخالق والمخلوق والممتنع فيه طرو الملك ثانيا انما هو الثاني دون الأول ، فإن الأرض ـ كما ورد في بعض النصوص كلها بل المملوكات بأسرها ـ مملوكة لله تعالى مع تملك العباد لها.

وفيه أن المراد بالمملوكية لله المانع عن تملك الغير ، هو كونه مستحقا لله تعالى مطلوبا إيجاده منه بطلبه الحتمي فلا يتعلق حق بإيجاده والا فما سوى الله مملوك لمالك السموات والأرض. وبالجملة ، فهذه الجهة المانعة التي مرجعها الى انتفاء الشرط الثالث من الشروط المتقدمة في الواجب العيني واضح كما اعترف به المستدل أيضا ووجودها في الكفائي ممنوع كما عرفت مما بيناه.

وهنا وجوه استدلوا بها للقول بالمنع مطلقا كلها مزيفة تركناها خوفا من التطويل.

وأما سند القول بقصر المنع على التعبدي من الواجبات فهو قصر النظر منه على جهة المنافاة بينه وبين الإخلاص من الجهات المانعة عنه كما أن من اقتصر في المنع على الواجبات الذاتية كجدنا في (الرياض) لما رأى من جواز المعاوضة بالضرورة والإجماع في الحرف والصنائع التي هي من الواجبات

٢٠