بلغة الفقيّة - ج ٢

السيّد محمّد آل بحر العلوم

بلغة الفقيّة - ج ٢

المؤلف:

السيّد محمّد آل بحر العلوم


المحقق: السيّد محمّد تقي آل بحر العلوم
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة الصّادق
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٩٥

لامتناع التراد ، ويحتمل الشركة وهو ضعيف : أما على القول بالإباحة فالأصل بقاء السلطنة على ماله الممتزج بمال الغير فيصير المالك شريكا مع مالك الممتزج به نعم لو كان المزج ملحقا له بالإتلاف جرى عليه حكم التلف ..» انتهى.

وهو لا يخلو من تأمل لأن التراد حينئذ ان كان ممتنعا كما اعترف به على الملكية ـ سقط الرجوع به على الإباحة أيضا لتوقف الرجوع مطلقا على رد البدل الممتنع بالفرض ، وان فرض إمكان التراد فلا يسقط الرجوع ولو قلنا بالملك ، مضافا الى لزوم الضرر بالشركة الموجبة لعدم استقلالية المالك.

ونسب الى (المسالك) احتمال التفصيل بين المزج بالأجود وغيره وهذه عبارته :

«لو اشتبهت بغيرها أو امتزجت بحيث لا يتميز فان كان بالأجود فكالتلف وان كان بالمساوي أو الأردى احتمل كونه كذلك ، لامتناع التراد على الوجه الأول ، واختاره جماعة ويحتمل العدم في الجميع لأصالة البقاء ..» انتهى مستشعرا ذلك من اختصاص الأجود بالذكر في الاحتمال الأول.

وفي (شرح القواعد) لكاشف الغطاء : «والحق به أي بالتلف طحن الحنطة ومزجها مطلقا أو بالأجود دون الأدنى والمساوي ـ الى ان قال ـ واما المزج على وجه لا يتميّز ، فلا يمكن رده بعينه وقبول الجميع فيه منة ، ودخول مال الغير في ماله من غير فرق بين الأجود ومقابلاته ..» انتهى وعبارة (المسالك) غير صريحة في ذلك.

وكيف كان فلا أرى وجها للتفصيل بين المزج بالأجود وما يقابله من الأردى أو المساوي إلا ما عسى أن يوجه بلزوم الضرر في الأول بناء على الشركة بحسب الكم وبنسبة القيمة للزوم نقصان المال عما أخذه أولا في الكم ، وهو ضرر ، ولا كذلك لو امتزج بالمساوي للمساواة فضلا عن

١٦١

الأردى لما فيه من الزيادة الكمية ، وهو فاسد ، لان ضرر الأول في الأول بالكم مع كونه مجبورا بالكيف وهو الجودة معارض بضرر الثاني كما في المزج بالأردى ، فالقول باللزوم مطلقا هو الأقوى. ويلحق بما لا يتميز في الحكم ما لا يمكن الافراز وان تميز لوحدة المناط من امتناع التراد.

هذا ولو اختلفا في حصول سبب اللزوم ففي تقديم قول مدعى اللزوم أو الجواز نظر : ينشأ من ان مدعي اللزوم يدعي أمرا حادثا يقتضي الأصل عدمه ، ومن أنه ملك التصرف فيملك الإقرار به ، لان من ملك شيئا ملك الإقرار به ، وهو الأقرب لحكومة قاعدة (من ملك) على استصحاب جواز الرجوع ، ولا كذلك لو ادعى بعد الفسخ حصوله قبله لأنه حينئذ لم يملك التصرف حتى يملك الإقرار به ، ولعله الوجه فيما ذكره شيخ مشايخنا في (شرحه على القواعد) في هذه المسألة حيث قال : «ففي تقديم قول مدعى اللزوم أو الجواز إشكال».

ولو ادعى تصرفا أو إتلافا بعد الفسخ فالقول قول منكره مع يمينه ولكن العجب من شيخنا في (الجواهر) حيث استند في مسألة نفوذ دعوى الوكيل على الموكل فيما وكل عليه إلى القاعدة المزبورة أيضا بل جعلها من أصول المذهب وقواعده ولم يستند إليها هنا ، وبنى على تقديم قول مدعى الجواز للاستصحاب ، ولعل ذلك منه غفلة عن مجراها هنا وأعجب من ذلك قوله بعد ذكر مختاره : «وكون بعض أفراده لا يعلم إلا من قبله لا يسقط حق الغير ، لكن في شرح الأستاد : ان في تقديم قول أحدهما اشكالا» انتهى ، ضرورة أن بعض الأسباب لو سلم كونه مما لا يعلم إلا من قبله ، فلا إشكال في قبول قول مدعيه ، وان استلزم سقوط حق الغير لتخصيص عمومات «البينة على المدعى» بما دل على قبول قوله فيما لا يعلم إلا من قبله ولا مجرى لموازين القضاء فيه لتعذر إقامة البينة عليه وعدم

١٦٢

إمكان توجه اليمين على المنكر لكونه لا يعلم إلا من قبله فلا بد من قبول قوله ،

ولو تداعيا فادعى كل واحد منهما وقوع ما هو له من الفسخ وسبب اللزوم ، فلا يخلو : اما أن يعلم بوقوعهما أو بوقوع واحد منهما أولا يعلم بوقوع شي‌ء منهما ، فان لم يعلم شي‌ء من ذلك فكل منهما وان ملك ما يدعيه إلا أن جريان قاعدة (من ملك) في حقه معارض بالمثل في حق الآخر مع أن بعض صورها مما يشك في كونه من موضوع القاعدة وهو الملك لاحتمال وقوعه منه حيث لا محل له لسبق الآخر إذ التأثير للسابق منهما واستصحاب جواز الرجوع ـ مثلا ـ الى وقوع الفسخ منه مع أنه لا يثبت وقوع الفسخ في وقت الملك معارض باستصحاب جواز التصرف الملزم الى وقت وقوعه منه أيضا وحينئذ فمقتضى القاعدة في المقام التحالف لان كلا منهما منكر لما يدعيه الآخر ، وبعد التحالف يبنى على ما كان عليه أولا قبل التداعي ولو علم وقوع أحدهما الغير المعين فالحكم كذلك وان استلزم مخالفة العلم الإجمالي لان مخالفته في مورد التداعي غير عزيزة ، وكذلك لو أقاما بينة لتساقط البينتين بالتعارض ولو أقام أحدهما حكم له بها فسخا كان أو لزوما لثبوت المقتضى وعدم تحقق المانع إذ المانع سبق فعل الآخر عليه ويحتمل في غير الصورة الأولى الابتناء على القول بالإباحة أو الملك ، إذ مرجع الشك على الأول إلى خروج العين عن ملك المالك المبيح والأصل بقاؤه ، وعلى الثاني فالأصل بقاء الملك للثاني أما بناء على أصالة اللزوم في الملك فواضح لخروج المورد عن المتيقن الخارج عن حكم الأصل المزبور وأما على أصالة الجواز فلاستصحاب الملك للثاني : بعد سقوط استصحاب الجواز وبقاء العلقة الذي هو الأصل السببي بسبب الابتلاء بالمعارض فيبقى الأصل في المسبب سليما.

١٦٣

ومنها أى ومن الأمور التي ينبغي التنبيه عليها ـ أنه هل تجري المعاطاة في غير البيع مطلقا عقدا كان أو إيقاعا ، والعقد بأقسامه مجانيا كان أو معاوضيا فيعم العقود التمليكة بقسميها والعقود الإذنية ، وبعبارة أخرى : هل تجري المعاطاة في العقود بأنواعها وفي الإيقاعات بأقسامها أو تختص بصنف خاص من نوع المعاوضات وهو البيع أو تجري في بعض منها دون بعض؟

فنقول ولنبدأ أولا بذكر جملة من كلمات الأصحاب في هذا الباب توطئة لبيان ما هو الحق والصواب.

قال في (جامع المقاصد) : «إن في كلام بعضهم ما يقتضي اعتبار المعاطاة في الإجارة والهبة وذلك انه إذا أمره بعمل على عوض معين عمله واستحق الأجرة ولو كانت هذه إجارة فاسدة لم يجز له العمل ولم يستحق اجرة مع علمه بالفساد ، وظاهرهم الجواز بذلك ، وكذا لو وهب بغير عقد فان ظاهرهم جواز الإتلاف ، ولو كانت هبة فاسدة لم يجز بل منع من مطلق التصرف وهو ملحظ وجيه» انتهى.

قلت : عدم جواز العمل حينئذ انما هو فيما يستلزم التصرف في مال الغير والا فلا دليل على منعه مطلقا ، وان لم يستلزم ذلك. ثم الاستشهاد به على جريان المعاطاة فيه مبني على ارادة لزوم المسمى دون اجرة المثل.

وقال في (كتاب الرهن) «قال : في (التذكرة) الخلاف في الاكتفاء فيه بالمعاطاة والاستيجاب والإيجاب عليه المذكور بالبيع بجملته آت هنا ، ويشكل بأن باب البيع ثبت فيه المعاطاة بالإجماع بخلاف ما هنا أما الاستيجاب والإيجاب فنعم» انتهى.

وقال في (كتاب الهبة) : «ولا يكفي المعاطاة والأفعال الدالة على الإيجاب ، نعم يباح التصرف ، أي لا يكفي في حصول الملك المعاطاة أعني إعطاء الواهب وأخذ المتهب أو إعطاء أحدهما الهبة والآخر الثواب ، وكذا

١٦٤

الأفعال الدالة على الإيجاب اقتصارا على الأسباب الشرعية التي يثبت نقلها للملك وهي العقود دون الأفعال ، نعم يباح التصرف بذلك كما يباح أكل الضيف الطعام بوضعه بين يديه وأخذ نثار العرس» انتهى.

وقال في (كتاب القرض) «ظاهر عباراتهم : أنه لا بد من الإيجاب القولي» وعبارة التذكرة أدل على ذلك ، ويرد عليه أنه قد سبق في البيع الاكتفاء بالمعاطاة التي هي عبارة عن الأخذ والإعطاء ، فإذا اكتفى في العقد اللازم بالإيجاب والقبول الفعليين فحقه أن يكتفي بهما هنا بطريق اولى ، وليس ببعيد أن يقال : انتقال الملك الى المقترض بمجرد القبض موقوف على هذا لا اباحة التصرف إذا دلت القرائن على ارادتها» انتهى.

وفي (المسالك) : «العاشر ، ذكر بعض الأصحاب ورود المعاطاة في الإجارة والهبة بأن يأمره بعمل معين ويعين له عوضا ، فيستحق الأجرة بالعمل ، ولو كان إجارة فاسدة لم يستحق شيئا مع علمه بالفساد بل لم يجز له العمل والتصرف في ملك المستأجر مع إطباقهم على جواز ذلك واستحقاق الأجرة ، انما الكلام في تسميته معاطاة في الإجارة وذكر في مثال الهبة ما لو وهبه بغير عقد فيجوز للقابض إتلافه وتملكه به ولو كانت هبة فاسدة لم يجز ، ولا بأس به إلا أن في مثال الهبة نظرا من حيث ان الهبة لا تختص بلفظ بل كل لفظ يدل على التمليك بغير عوض كاف فيها كما ذكروه في بابه وجواز التصرف في المثال المذكور موقوف على وجود لفظ يدل عليها فيكون كافيا في الإيجاب ، اللهم إلا ان يعتبر القبول القولي مع ذلك ولا يحصل في المثال فيتجه ما قاله» انتهى.

وفي (التحرير في كتاب الهبة) : «.. وهل يستغنى عن الإيجاب والقبول في هدية الأطعمة؟ الأقرب عدمه ، نعم يجوز التصرف عملا بالاذن المستفاد من العادة» انتهى.

١٦٥

وقال في (كتاب الوقف) منه : «لا يحصل الوقف بالفعل المقترن بما يدل عليه مثل أن يبنى مسجدا ويأذن للناس للصلاة فيه أو مقبرة وبإذن بالدفن فيها أو سقاية ويأذن في دخولها وانما يصير وقفا بالقول الدال عليه» انتهى.

وفي (كتاب العتق منه) قال : «.. يشترط في العتق الإتيان باللفظ الصريح مع النية فلا يقع بمجرد النية منفكة عن اللفظ ولا باللفظ الذي ليس بصريح وان نوى العتق ، ولا باللفظ الصريح مجردا عن النية» انتهى.

وقال في (الدروس) : «فرع لو قال : جعلت هذا للمسجد ، قال الفاضل : هذا تمليك لا وقف ، فيشترط فيه قبول القيم ، ويصح وكأنه أجراه مجرى الوصية للمسجد إلا انه لا يشترط في الوصية هنا القبول» انتهى.

وقال في (المبسوط في أحكام المساجد) : «وإذا بنى مسجدا خارج داره في ملكه ، فان نوى به ان يكون مسجدا يصلي فيه كلما اراده زال ملكه عنه فان لم ينو ذلك فملكه باق عليه سواء صلى فيه أو لم يصل» انتهى.

وقال في وقفه ـ : «إذا بنى مسجدا واذن لقوم فصلوا فيه أو بنى مقبرة فاذن لقوم فدفنوا فيها لم يزل ملكه حتى يقفه لفظا على ما بيناه فيما مضى. وقال قوم : يزول ملكه إذا اذن وصلوا فيه ودفنوا في المقبرة والأول أصح» انتهى والى غير ذلك من كلماتهم المحررة في الأبواب المتفرقة وبالجملة فالمسألة غير منقحة في كلماتهم ، وتنقيحها يتوقف على توزيع الكلام في الإيقاعات مرة وفي العقود بأقسامها أخرى ، وبيان ما هو الضابط لجريان المعاطاة وعدمه حتى يكون ميزانا يتميز مجراه عن غيره.

فنقول : اعلم إن مقتضى الأصل الاولى في الجميع هو الفساد بمعنى

١٦٦

عدم ترتب الأثر المقصود من المعاطاة عليها ، غير ان بعض الموارد مما يصدق على المعاطاة فيه أسماء المعاملات المعلق عليها الأحكام مع قيام السيرة على المعاطاة فيه التي هي عمدة الأدلة الدالة على صحتها فيحكم بالخروج عن الأصل المزبور بالسيرة والاخبار الخاصة بتلك المعاملة الشاملة بإطلاقها للمعاطاة أيضا بعد صدق الاسم عليها وما شك في ذلك فضلا عما لو علم عدمه بقي تحت حكم الأصل من الفساد.

إذا عرفت ذلك فنقول : أما الإيقاعات ، فمنها ما لا يصدق الاسم على المعاطاة منه كالطلاق والظهار واللعان والإيلاء والعتق ونحو ذلك مما يختص الاسم بما وقع منه بالصيغة الخاصة ضرورة أن إخراج الزوجة من الدار مثلا بقصد البينونة وإطلاق العبد عن الخدمة بقصد العتق لا يسمى طلاقا ولا عتقا ، وهذا النحو منها مما لا شك في اعتبار الصيغة في صحته وعدم ترتب الأثر على المعاطاة منه.

ومنها ما يشبه العقود كالأوقاف العامة والوصية للجهة العامة كبناء المساجد وتعمير المشاهد والقناطر والمدارس والخانات والرباطات وما يعين لها ويوضع فيها كالحصر والبواري للمساجد وفرش المشاهد وما يعلق فيها من المعلقات للزينة أو التعظيم بل وما يدخر لها من الجواهر الثمنية والأموال النفيسة مما يصنع لحفظها خزانة خاصة فقد يقال : يصدق الوقف على ما كان منها بالافعال وان تجردت عن الصيغة ، بل ادعى قيام السيرة عليه بل تحققها مما يشهد به الوجدان وإنكاره مكابرة ومقتضاه تأثير المعاطاة فيه صحة وخروجه عن حكم الأصل المزبور بالسيرة القطعية التي قد عرفت أنها العمدة في أدلة صحة المعاطاة ، مضافا الى إطلاقات أدلة الوقف بعد صدق الاسم عليه ، ولكن قد يشكل مع ذلك بمعارضة السيرة لظهور الإجماعات المحكية المعتضدة بدعوى غير واحد الوفاق والإطباق على اعتبار الصيغة في الوقف ، وأنه

١٦٧

لا يصح بالفعل فالسيرة موهونة بذلك منبعثة عن عدم المبالاة والإطلاقات مقيدة به.

ودعوى وهن الإجماع بالسيرة موهونة باشتراط حجيتها بعدم الردع ومن المحتمل الاكتفاء بذلك ردعا في المقام ، ولكن حمل عمل الناس من العوام والخواص من التصرفات المترتبة على الوقف على التسامح مما يقطع بعدمه.

والسيرة الكاشفة محققة ، إلا ان المنكشف بها يدور بين أحد وجوه ثلاثة : البقاء على الملك للأصل مع الإباحة المالكية للجهة الخاصة ـ كما عليه جماعة ـ أو التمليك لها ـ كما تقدم في عبارة الدروس ـ أو الوقف ـ كما هو المحكي عن المبسوط ، والمحتمل من الذكرى واختاره الأردبيلي وبعض المعاصرين في (عناوينه) فالمنكشف بها أعم من الوقف والعام لا يدل على الخاص بخصوصه.

إلا أن الوجوه المذكورة كلها مخدوشة :

أما الأول فلاستلزامه التوقف عن التصرف مع الشك في الاذن من المالك سيما مع انتقال العين الى الوارث المحتمل فيه مع ذلك الصغر والجنون وغير ذلك من الأسباب المانعة عن التصرف مع عدم الالتزام به قطعا ، اللهم إلا أن يلتزم بلزوم الإباحة مطلقا لعموم ما دل على عدم جواز الرجوع فيما أريد به وجه الله.

وأما الثاني ، فبعد تصحيح الملك للجهة بإرادة الملك للمسلمين أو طائفة منهم وان تعين صرفه في الجهة الخاصة موقوف على السبب المملك المفقود في المقام اللهم إلا أن يكون من الهبة لهم بالمعاطاة ان قلنا بجريانها فيها.

هذا ويمكن ان يوجه الحكم بالوقفية عند صدور الفعل في أمثال المقام بدعوى ثبوت الوقف بالفعل الظاهر فيه تقديما للظاهر على الأصل بالسيرة

١٦٨

وبناء العقلاء فيكون ظهور الأفعال في أمثال ذلك معتبرا في مفادها كظهور الألفاظ في مداليلها فيخرج عن الأصل بظهور الفعل كما يخرج عنه بظهور اللفظ في مدلوله.

وبالجملة هذه الأفعال وان لم نعتبرها سببا للوقف كالعقد ولكن تعتبرها كاشفة عن ثبوته وتحققه كالبينة والإقرار والسيرة دليل على حجية الفعل من باب الكاشفية دون السببية ، وحينئذ فلم يبق تحت حكم الأصل إلا ما علم علما قطعيا بعدم إجراء الصيغة فيه وهو فرض نادر نمنع قيام السيرة عليه وهذا الوجه لم نجد من تنبه له وهو حسن متين.

واما الشفعة ، فالظاهر جريان المعاطاة فيها ويملك الشفيع بمجرد دفع الثمن إلى المشترى وأخذ المبيع منه فبيع الشريك للأجنبي سبب شرعي لتحقق حق الشفعة للشفيع ، وبالدفع والأخذ يملكه لأنه يصدق عليه بذلك انه شفع فيما هو حقه فتشمله إطلاقات أدلة الشفعة مع قيام السيرة عليه أيضا ولزومها بالمعاطاة مع كون حكمها الجواز مستفاد من كون الحق ثابتا له بالقهر على المشتري المناسب معه اللزوم لا التوقف على رضاه ، ولعل مثلها أيضا في جريان المعاطاة الإقالة والفسخ بدفع العوض وأخذ المعوض مع قصد أحدهما للصدق العرفي مع دعوى السيرة عليه أيضا ، ويؤيده ما قيل من ان تعريض المبيع للبيع مسقط للخيار.

وأما القسمة المشتملة على الرد فلكونها متضمنة للمعاوضة تجري المعاطاة فيها على الظاهر كما في (المسالك).

ومثلها بل أقوى منها في جريان المعاطاة تحققها في الإجازة التي مرجعها الى الاذن في البيع وان جرى الاصطلاح على تسمية الإذن اللاحق بالإجازة ، وكذا البذل الموجب لتحقق الاستطاعة يصدق بمجرد دفع المال الى المبذول له ووضعه بين يديه إذا قبله منه بالأخذ والتناول من دون توقف على اللفظ

١٦٩

في إيجابه وقبوله.

وأما جريانها في الإسقاط والإبراء ففيه تأمل بل منع للشك في السقوط والبراءة بمجرد الفعل الكاشف عن المقصود للشك في صدق الاسم عليه مع الشك في تحقق السيرة عليه أيضا فيبقى تحت حكم الأصل من الفساد مع استصحاب شغل الذمة.

وأما الكلام في العقود :

فمنها ما لا يتحقق موضوع المعاطاة فيه لعدم القبض والإقباض‌و الفعل المقصود به إنشاء التمليك فيه كالضمان والكفالة والحوالة بل لا نصرف فيها حتى يقال بنحو الإباحة أو التمليك ، ومثل ذلك لا إشكال في خروجه عن محل الكلام ، واما غيره : فاما ان يكون من العقود المجانية أو المعاوضة ، والأول : اما ان يكون من العقود التمليكية أو الإذنية أما الإذنية منها كالعارية والوديعة والوكالة بغير جعل ، فلا ينبغي التأمل في صحتها بالمعاطاة وترتب الأثر المقصود منه عليها لتحقق ما هو ملاك الصحة فيه من الاذن فيجوز التصرف فيه ، بل ويترتب الأثر المعلق على عناوينها الخاصة كنفوذ تصرف الوكيل قبل العلم بالعزل على الموكل لتحقق المسمى المتعلق عليه الحكم بالافعال كما يتحقق بالألفاظ ، فتشمله إطلاقات اخبارها الخاصة ، مضافا الى قيام السيرة القطعية على معاطاتها نعم لو لم نقل بتحقق المسمى بالعناوين الخاصة بالافعال في ذلك ، اقتصر في ترتب الآثار على ما يتوقف على مجرد الاذن المستفاد بشاهد الحال دون ما يتوقف على تحقق العنوان الخاص.

واما العقود التمليكية فمنها ما تجري المعاطاة فيه بل الغالب وقوعه بها كالصدقة والهدية والهبة الغير المعوضة ، ضرورة أن المتعارف بين الناس قديما وحديثا خلفا عن سلف التصدق بالافعال والتهادي بينهم بالإرسال إلى البلدان ومن مكان الى مكان على أيدي المماليك والصبيان وترتب آثار

١٧٠

الملكية على تلك الأعيان ، والاقتصار على الصحة في بعض التصرفات دون بعض يكذبه الوجدان ، (فما) عن بعض : من إفادة الهدية المجردة عن الصيغة الإباحة دون التمليك فلا يجوز وطئ الأمة المهداة كذلك ، ومثلها الهبة في ذلك (ضعيف) جدا محجوج بالسيرة القطعية الكاشفة عن تقرير الحجة ، وان قلنا باللزوم فيما كان منها معوضا بالقربة كالصدقة مع وقوعها بالمعاطاة لعموم ما دل على عدم الرجوع فيما أريد به وجه الله ومنها ما يشك في جريان المعاطاة فيه كالوقف الخاص والتحبيس والسكنى والعمرى والرقبى ، للشك في صدق الاسم عليه بمجرد الفعل مع عدم معلومية السيرة عليه بل يمكن دعوى السيرة على عدمه فيبقى تحت حكم أصالة الفساد.

واما عقود المعاوضات وما يشبهها كالنكاح فنقول : اما النكاح ، فلا شك في عدم جريان المعاطاة فيه. ويدل عليه ـ بعد أصالة الفساد في المعاملات وأصالة الحرمة في الفروج والإجماع بقسميه على اعتبار الصيغة فيه ومنافاة حكم المعاطاة من الجواز للزوم علقة النكاح التي لا تنقطع إلا بسبب مخصوص كالطلاق ولزوم عدم تحقق الزنا إلا في مورد الإكراه مع كون الغالب أو الأغلب وقوعه مع التراضي من الطرفين ـ عدم تعقل سببية المعاطاة للحل في النكاح لأن المعاطاة انما تكون سببا لصحة ما يترتب عليها من الملك أو التصرفات وجواز التصرف أو الملك متأخر في التحقق عن مرتبة السبب ، وحينئذ فالفعل وهو الوطي المقصود به الحلية هو أيضا محتاج الى سبب محلل له ، فان كان هو بنفسه سببا لحلية نفسه لزم اتحاد السبب والمسبب في مرتبة واحدة ، مع امتناع كون الشي‌ء مؤثرا في نفسه وان كان هو التمكين فلا يصدق عليه اسم النكاح حتى يكون مشمولا لإطلاقات اخباره وبذلك ظهر لك خروج معاطاة النكاح عما ذكرنا ميزانا لصحة المعاطاة من صدق اسم المعاملة المقصودة على معاطاتها لان المشهور

١٧١

على ما قيل : ان النكاح حقيقة في العقد فلا تدخل المعاطاة في مسماه بل ولو قلنا بالاشتراك بينه وبين الوطء كان مجملا لم يصح معه التمسك بالإطلاقات على معاطاته أيضا بل لا يصح التمسك بها وان قلنا بكونه حقيقة في الوطء لما عرفت من ان الوطء الأول متوقف على سبب محلل له والتمكين وسائر المقدمات الفعلية لا يصدق عليه النكاح على جميع الأقوال حتى يكون مشمولا لإطلاقات اخباره.

وأما الإجارة فالأقوى صحة المعاطاة فيها (١) لدخولها في مسماها عرفا فتشملها إطلاقات اخبارها مع قيام السيرة القطعية عليها ، وبذلك يخرج عن

__________________

(١) المناط في إمكان إنشاء المعاملة بالفعل : كون الفعل الخارجي مصداقا عرفيا لتلك المعاملة المنشأة به بحيث يحتمل عليه بالحمل الشائع الصناعي عنوان تلك المعاملة ، ولا اثر لمجرد قصد عنوانها بالفعل إذا لم يكن ذلك مصداقا عرفيا لها ، فإن الأفعال والأقوال في باب المعاملات آلات لإنشاء حقائقها ، والمنشأ إنما ينشأ بما هو آلة لإنشائه ، وان الإجارة تمليك منفعة أو عمل بأجرة وتبديلهما بها في عالم الإنشاء والاعتبار ، ففي مثل منافع الأموال يمكن إنشاء تمليكها للمستأجر بتسليطه على العين المستأجرة بقصد تمليك منفعتها مدة معينة بأجرة مقررة ، فيتحقق إنشاء تمليك المنفعة من المؤجر بدفع العين للمستأجر بذلك القصد ، ويتحقق تملك المستأجر لها بأخذه العين منه بالقصد المذكور بناء على تحقق حكم المعاطاة بالإعطاء من جانب وأخذ الجانب الآخر فيحمل على الإعطاء والأخذ المذكور عنوان الإيجار والاستيجار أو ذلك مع إعطاء الأجرة من الجانب الآخر ، بناء على عدم تحققها بمجرد أخذ الجانب الثاني هذا في تمليك منافع الأموال. واما تمليك الأعمال فعمل المملوك إنسانا كان أو حيوانا الكلام فيه هو الكلام في منافع الأموال ، فإنه منها فيتحقق التمليك والتمليك والإيجار والاستيجار بدفع المملوك وأخذه بقصد

١٧٢

حكم الأصل في المعاملات من الفساد ـ كما عرفت من الميزان المتقدم على على صحتها ـ وحينئذ يملك الأجرة بتسليم العين للمستأجر لأن قبضها قبض لمنفعتها عرفا ملكا متزلزلا ان تعلقت الإجارة بالأعيان لتمليك منافعها.

__________________

تمليك عمله ومنفعته وتملكها في المدة المعينة بالأجرة المعينة أو ذلك مع دفع الأجرة من المستأجر. وأما عمل الحر فإمكان تحقق إنشاء تمليكه وإيجار الحر نفسه للعمل بالفعل مشكل فإنه قبل إيجاده لم يتحقق من العامل سوى قصد وأقدام على العمل ، وبعد وجوده وتحققه في الخارج لا معنى لكونه مملوكا للمستأجر على الأجير وحال الاشتغال به انما هو تحت سلطان موجده فلا وجه لكونه تحت سلطنة الغير والحاصل ان الملكية جدة اعتبارية واضافة بين المالك والمملوك حاصلة بأسبابها ومن أسبابها الإجارة ، ولا إشكال في إمكان إنشائها بالعقد المشتمل على الإيجاب من المؤجر والقبول من المستأجر سواء كان متعلقها منفعة مال أو عملا وأما إنشائها بالمعاطاة والفعل المقارن لقصد التمليك والتبديل ، فبالنسبة إلى منافع الأموال ، ومنها عمل المملوك يمكن ذلك بتسليط المؤجر للمستأجر على العين المستأجرة والتسلط عليها من المستأجر ويكون ذلك تسليطا له على منافعها المتدرجة الوجود ، ويحمل عليه عنوان الإجارة بالحمل الشائع الصناعي ، وتشمله أدلتها ، فيملك المستأجر منفعة المال في المدة المعينة بالأجرة المقررة.

وأما عمل الحر بناء على ما هو المشهور من عدم دخول الحر تحت اليد شرعا ومن هنا لا تضمن منافعه بحبسه وغصبه ، فصحة وقوع الإجارة المعاطاتية بالنسبة اليه وإمكان تحقق مصداق خارجي فعلي يحمل عليه عنوان الإجارة لتشمله أدلتها ، وتثبت له أحكامها مشكل ، فانا لا نتصور فعلا خارجيا يمكن أن يكون سببا لتمليك عمل الحر للغير وآلة لإنشائه ، والعمل الصادر منه لا يمكن أن يكون سببا لتمليك نفسه لاعتبار المغايرة بين السبب والمسبب

١٧٣

وان تعلقت بالأعمال فإنما يملك الأجرة بعد تمام العمل إذ لا قبض قبله ولا تسليم إلا في عمل المملوك بعد قبضه بخلاف الإجارة العقدية المتعلقة بالأعمال فإنها تملك بالعقد وان كان لا يستحق المطالبة إلا بعد العمل. ويحتمل ان يملك المستأجر العمل على المؤجر بالمعاطاة لو دفع الأجرة قبل العمل بناء على تحقق المعاطاة بالدفع من جانب واحد لحصول المعاطاة بينهما بالقبض والإقباض له.

__________________

نعم لو فرض ان ما يملكه المستأجر للحر بإزاء الأجرة نتيجة عمله وما يترتب عليه من الأثر كمخيطية الثوب ـ مثلا ـ أمكن أن يقال : ان العمل الصادر من الأجير سبب ومحصل له ، لكنه بعيد فإن المستأجر عليه نفس العمل لا أثره التوليدي ، فتحقق عنوان الإجارة بالمعاطاة في عمل الحر غير واضح وان وجهه بعض سادتنا المعاصرين طاب ثراه في تعليقته على (العروة الوثقى) في (كتاب الإجارة) قال (ره) : «لكن المعوض فيها وهو العمل أو المنفعة لما كان مندرج الوجود كان إيجابها من المؤجر بإعطاء بعضه إنشاء لما تساوما عليه من المعاملة على الكل كما قد يتفق نظيره في البيع أيضا فيكون في المتقدرة بالزمان بتسليم العين في أوله قصدا إلى إجارتها في جميعه» انتهى.

ولكن يمكن أن يقال : إن منشأ الاشكال ان السبب المملك والآلة التي ينشأ بها ملكية الغير للمنفعة أو العمل لا بد من كونه مغايرا لمسببه وما أنشأ به ، فالإجارة المنشأة بالعقد المشتمل على الإيجاب من المؤجر والقبول من المستأجر السبب المنشأ به تمليك المنفعة أو العمل هو العقد فيملك المستأجر المنفعة المتدرجة بحسب الزمان أو العمل المتدرج الوجود من العامل بالإيجاب والقبول الصادرين من المؤجر والمستأجر وأما المعاطاة من الإجارة فالسبب المملك لمنافع الأموال تسليط المؤجر للمستأجر على العين المستأجرة وتسليمه إياها بقصد تمليكه منفعتها مدة الإجارة فيصدق الإيجار والاستيجار ، بدفع العين للمستأجر بقصد تمليك منفعتها في المدة

١٧٤

وبالجملة فالمعاطاة جارية في الإجارة. ويؤيده ما تقدم من عبارتي (المسالك) (والمحقق الكركي) من ظهور الاتفاق على استحقاق الأجرة لو أمره بعمل على عوض معين عمله واستحق الأجرة بناء على ارادة المسمى من الأجرة بجعل الالف واللام للعهد دون الجنس نعم قد تكرر في كلام بعض دعوى الإجماع على اعتبار الصيغة في العقود اللازمة ، وهو ـ مع كونه ممنوعا من أصله وموهونا بذهاب جمّ غفير على صحة المعاطاة في أغلبها محمول على ارادة اعتبارها في اللزوم دون الصحة.

هذا ويحتمل عندي قريبا ان السبب في استحقاق العامل العوض على من أمره بعمل على عوض معين بناء على عدم كونها من الإجارة هو أمره بالعمل مع قصد العامل بعمله كونه له مضمونا عليه ، فيكون أخذ العوض

__________________

المذكورة بالأجرة المقررة في المقاولة وأخذ المستأجر لها بقصد تملك المنفعة على ما قرر ويحمل على هذا الإعطاء والأخذ بالقصد المذكور عنوان الإجارة وتشمله أدلتها.

وأما عمل الحر وإيجاره نفسه له فلا نتصور فيه فعلا صادرا من العامل سوى نفس عمله الخارجي ولا يمكن أن يكون هو السبب في تمليكه للغير والآلة لإنشائه لاعتبار المغايرة بين السبب والمسبب وآلة الإنشاء وما أنشأ بها وبعبارة أوضح : إن عمل الحر قبل وجوده وتحققه مملوك له وتحت سلطانه وبعد تحققه من العامل في الخارج ينعدم ، ولا محصل لملكية الغير له. نعم ربما تبقى لبعض الأعمال بعد تحققها آثار يملكها المستأجر بتبع ملكيته للعمل وتكون هي المناط لماليته كالخياطة والنجارة والصياغة وأمثالها ، وذلك لا يقتضي كون تلك الآثار هي المتعلقة لإجارة الأجير والعمل سبب لتحققها.

فما يقوله سيدنا المعاصر ـ قدس سره ـ «.. كان إيجابها من المؤجر بإعطاء بعضه إنشاء لما تساوما عليه من المعاملة على الكل ، غير واضح.

١٧٥

من قبيل الجعالة لا من باب الإجارة.

__________________

وأما ما احتمله سيدنا الخال ـ قدس سره ـ بقوله : «.. ويحتمل أن يملك المستأجر العمل على المؤجر بالمعاطاة لو دفع الأجرة قبل العمل بناء على تحقق المعاطاة بالدفع من جانب واحد لحصول القبض والإقباض له» انتهى.

فإنه مشكل أيضا ، فانا وان قربنا تحقق عنوان المعاوضة والمعاطاة بالقبض والإقباض من جانب واحد بقصد التمليك والتملك بالعوض ولكن حيث يكون التسليط والتسلط الخارجي على المعوض. واما ما كان منه بالنسبة إلى العوض كالأجرة والثمن في الإجارة والبيع ، فصدق عنوان الإجارة بتسليم الأجرة من المستأجر وتسلمها من المؤجر مشكل غايته. وكذا تحقق عنوان البيع بتسليم الثمن وتسلمه ، إذ ليس معنى تحقق عنوان المعاملة بالفعل تحققها بكل فعل خارجي ما لم يصدق عليه عنوانها عرفا وما يتحقق بدفع الأجرة وأخذها عنوان التسليط والتسلط عليها لا عنوان الإيجار والاستيجار وتمليك المنفعة أو العمل وتملكها الذي هو حقيقة الإجارة والفرق بين تسليم المعوض وتسلمه حيث ذكرنا إمكان تحقق عنوان البيع أو الإجارة به ، وبين تسليم الثمن أو الأجرة وتسلمهما : هو ان ما ينشاه البائع تمليك المبيع للمشتري بعوضه وما ينشأه المشترى تملك ذلك به وقبول ما أنشأه البائع ومطاوعته عليه باشترائه ، وكذا بالنسبة إلى الإجارة فإن المؤجر ينشأ تمليك المنفعة للمستأجر بالأجرة والمستأجر يتملكها بقبوله ومطاوعته لما أنشأه المؤجر فحقيقة إنشاء البائع أو المؤجر تمليك العين أو منفعتها بالثمن أو الأجرة ومرجع ذلك التسليط المطلق على العين أو المنفعة ، وان شاءت فقل : ذلك اثر إنشائه لا عينه وما هو حقيقة إنشاء المشتري أو المستأجر تملك ما ملكه البائع والمؤجر من العين أو المنفعة وقبول ما أنشأه كل منهما بعوضه

١٧٦

توضيح ذلك : إن العمل كما يمكن وقوعه للعامل يمكن وقوعه لغيره

__________________

ومطاوعتهما على ما أنشأه من تمليك العين بالعوض أو المنفعة بالأجرة ، وعليه فالمالك للعين إذا دفعها لغيره قاصدا بدفعه تمليكها له أو تمليك منفعتها مدة معينة بعوض معين تساوما وتقاولا عليه قبل الدفع وأخذها طرفه قاصدا تملك العين أو المنفعة المعينة بما تساوما عليه من العوض ، ينطبق على فعلهما الخارجي الإقباض بقصد التمليك للعين أو المنفعة والقبض بقصد التملك عنوان البيع والشراء أو الإيجار والاستيجار. وأما صدق عنوان الشراء بمجرد دفع المشترى الثمن لمالك العين وقبضه له من غير تسليط منه لها بقصد تمليكها بالثمن فإنه مشكل غاية الاشكال. ومثله صدق عنوان الاستيجار بمجرد اقباض الأجرة لمالك العين وقبضها على ما احتمله سيدنا ـ قدس سره ـ فان الاشتراء أو الاستيجار انما يتحقق بإنشاء تملك العين أو المنفعة بالعوض عقيب إنشاء تمليكهما به فإنه مفهوم مطاوعي فعليته بتأخره عن إنشاء التمليك. وسيأتي من سيدنا ـ قدس سره ـ في مقام بيان كفاية تحقق الإعطاء من جانب واحد قوله : «وفي صدق إنشاء تمليك المثمن بقبض الثمن تأمل ولعل الوجدان يشهد بخلافه» انتهى.

نعم ما احتمله أخيرا وقربه بقوله : «ويحتمل عندي قريبا أن السبب في استحقاق العامل العوض على من أمره بعمل على عوض معين بناء على عدم كونها من الإجارة هو امره بالعمل مع قصد العامل بعمله كونه مضمونا عليه ، فيكون أخذ العوض من قبيل الجعالة لا من باب الإجارة ..» ـ إلى آخر كلامه ـ تقريب موجه.

وتوضيحه : ان كل من استوفى من غيره مالا أو عملا محترما بأمر معاملي ولم يقصد المأمور التبرع والمجانية بما بذله لأمر الآمر له بل قصد استحقاق عوض ما بذله على الآمر به فإنه يستحق عوض ما بذله لأمره سواء

١٧٧

ما لم يمنع عنه دليل خاص ، غير أن وقوعه له مشروط بقصده واستدعاء

__________________

عينه له كأن قال له : أعتق عبدك عنى أو تصدق بمالك عنى ، أو أمره بحمل متاعه الى مكان كذا أو خياطة ثوبه مثلا ونحو ذلك من الأموال والأعمال المحترمة المبذولة لأمره ، بل لو أمره بإلقاء متاعه في البحر حيث يكون في ذلك غرض عقلائي فإنه يستحق على الآمر ما عينه له من العوض ولو لم يعين له ـ بان قال له : وعلى ضمان ذلك ، فإنه يستحق قيمة المال المستوفى أو مثله أو اجرة مثل العمل بضمانه لما بذله بل بمجرد استجابة المأمور لأمر الآمر غير قاصد للتبرع والمجانية بما بذله لأمره وان لم يصرح الآمر بضمانه له فإنه يستحق عليه المثل أو القيمة أو اجرة مثل العمل بحسب اختلاف ما استوفاه من كونه مثليا أو قيميا أو عملا محترما. نعم مع تصريح الآمر بالتبرع والمجانية ـ فيما طلبه من الأمور أو كان في طلبه قرينة على ذلك ، لا أثر لقصد المأمور عدم المجانية والتبرع.

ثم ان الضابط فيما يصح استيفاؤه ، بالأمر المعاملي : هو كل ما يصح التبرع به من الغير ، فأمر الآمر انما يكون مصححا لرجوع المأمور عليه بما ضمنه له مع عدم تبرعه وبذله مجانا كما انه لا تشتغل ذمة الآمر بالعوض إلا بعد الاستيفاء وحصول المطلوب من المأمور فإن الأمر المعاملي مقتضاه الرجوع عليه بما يخسره للمضمون له ويؤديه ومن هنا في الضمان العقدي لو رضي المضمون له من الضامن بأقل مما في ذمة المضمون عنه لا يرجع عليه الا بمقدار ما أداه اليه.

والذي يظهر من سيدنا : جعل باب الاستيفاء بالأمر المعاملي على إطلاقه من قبيل الجعالة حيث يقول : «وهو من الأسباب الموجبة للضمان شبه الجعالة بل هو منها ـ الى ان يقول ـ : ولعل منه غرامة ثمن العبد في نحو : أعتق عبدك عني ، لأن العتق من المالك بقصد وقوعه للآمر باستدعائه

١٧٨

من الغير لنفسه فلا يتحقق العمل له إلا بتحقق الأمرين ، وهو محترم غير مبذول بنحو المجانية ، ولذا التزام بالأجر من لم يقل بجريان المعاطاة في الإجارة ، وهو من الأسباب الموجبة للضمان شبه الجعالة ، بل هو منها. ومن ذلك رجوع الضامن على المضمون عنه بما دفع الى المضمون له إذا لم يكن متبرعا وكان الضمان بأمره. بل ولعل منه أيضا غرامة ثمن العبد في نحو أعتق عبدك عني ، لأن العتق من المالك بقصد وقوعه للأمر باستدعائه لنفسه عمل متمول باعتبار متعلقة محترم مبذول لا بنحو المجانية فغرامة مالية عمل العتق

__________________

لنفسه عمل متمول باعتبار متعلقة : «مبذول لا بنحو المجانية فغرامة مالية عمل العتق بقدر مالية المعتق الى قوله بل يمكن أن يقال : من هذا الباب أيضا غرامة المتاع فيما لو قال : ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه ، فان عمل الإلقاء المتمول باعتبار الملقى محترم مبذول للآمر باستدعائه لنفسه مضمون عليه بأجرته المساوية لقيمة المتاع» انتهى.

وحيث ان سيدنا ـ قدس سره ـ جعل باب الاستيفاء بالأمر المعاملي على إطلاقه من قبيل الجعالة ولو كان المستوفى عينا متمولة وحقيقة الجعالة بذل المال على المحترم من الأعمال التجأ إلى جعل مثل : أعتق عبدك عني وألق متاعك في البحر ، من باب بذل الجعل على عمل محترم باعتبار متعلقة وهو المعتق أو المتاع ـ مثلا ـ ولعله يلتزم بذلك في مثل أد ديني وتصدق بمالك عني وعلي ضمانه ، ونحو ذلك مما كان المستوفى بالأمر المعاملي مالا محترما. والالتزام بذلك في غاية الإشكال ، فإن الإجارة على العمل كالجعالة عليه قد تستوجب بذل شي‌ء من مال الأجير أو العامل ، ولكن حيث لم يكن ذلك قوام مالية العمل ومناط بذل الأجرة له والجعل عليه ، فلا يصح اجارة الشخص نفسه لعتق عبده عن المستأجر أو إلقاء ماله في البحر فيما لو كان الملقى مناط مالية الإلقاء وقوامه وما كان من قبيل ذلك ، والجعالة

١٧٩

له بقدر مالية المعتق ، فلا يحتاج في صحته عنه الى تكلف دعوى تضمن ذلك الرخصة في إدخاله في ملكه والوكالة عنه في عتقه لعدم القصد إلى شي‌ء من ذلك بالوجدان. نعم ربما يشكل ذلك من جهة القربة المعتبرة فيه إذ المتقرب هو المعتق دون من كان العتق له فكيف يقع منه

__________________

على العمل كالاستيجار عليه في اعتبار كون العمل بنفسه له مالية واحترام هذا مضافا الى اعتبار جماعة في مال الجعالة تعيينه جنسا ونوعا وقدرا كمال الإجارة والمضمون فيما يستوفي بالأمر المعاملي غالبا لم يتعين كذلك والحاصل جعل باب الاستيفاء بالأمر المعاملي من قبيل الجعالة على إطلاقه لا يتم. واما إمكان جعل مثل الق متاعك في البحر وعلي ضمانه ، من باب الضمان لولا تضمنه التعليق على الشرط ـ وهو الإلقاء المنافي للتنجز المعتبر في صحة الضمان كما يقوله سيدنا ـ قدس سره ـ فهو أيضا غير واضح. وقد تأمل في آخر كلامه في إمكان كون المورد منه ، وذكر وجه التأمل في حاشية (منه).

ويمكن ان يقال : لا ملزم لجعل باب الاستيفاء بالأمر المعاملي مطلقا من قبيل الجعالة على الأعمال حتى يتكلف له بما لا يخلو عن اشكال : من عد مثل : أعتق عبدك عنى ، وتصدق بمالك عنى ، ونحو ذلك مما كان المستوفى للأمر من المأمور مالا محترما ، وجعل ذلك من قبيل الأعمال المتمولة باعتبار قيمة متعلقها كما يقوله سيدنا ، ولا لاحتمال كون مثل : الق متاعك في البحر وعلي ضمانه من باب الضمان لولا مانعية التعليق.

ثم التأمل في ذلك بما ذكر وجهه في الحاشية ، فلم لا نقول : انه على إطلاقه معاملة مستقلة لا ينبغي التأمل في مشروعيتها طرفاها الآمر والمأمور وانها من قسم المعاوضات وان استبعده سيدنا ـ قدس سره ـ عوضاها ما بذله المأمور من ماله أو عمله لأمر الآمر ، وما ضمنه له الآمر من عوض على ما بذله لأمره ، وأنها مشمولة لعموم آية : «التجارة عن تراض» فالضامن

١٨٠