نفحات القرآن - ج ٧

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

نفحات القرآن - ج ٧

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-531-001-7
ISBN الدورة:
964-8139-75-X

الصفحات: ٣١٩

تنزيه الأنبياء عليهم‌السلام

٨١
٨٢

تنزيه الأنبياء

إن أوّل ما نتناوله في هذا البحث التعابير الواردة في آيات القرآن المجيد ، التي توهم لأوّل وهلة أنّها دليل على صدور ذنب أو خطأ من اولئك الأنبياء العظماء في بعض الأحيان.

سنذكر فيما يلي أهمّ الآيات التي تحدّثت حول هذا الموضوع ، طبقاً للترتيب التأريخي للأنبياء عليهم‌السلام.

* * *

١ ـ آدم عليه‌السلام

نقرأ في القرآن الكريم : (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى). (طه / ١٢١)

وكذلك في قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً). (طه / ١١٥)

لقد نسبت الآية الاولى العصيان والغي إلى آدم ، والثانية نسبت إليه النسيان وعدم العزم مع أنّ هذا لا يتناسب مع عصمة الأنبياء وبعيد عنهم كلّ البعد.

الجواب :

هنالك أبحاث متنوّعة للمفسّرين منذ قديم الأيّام وإلى الآن حول الإجابة عن هذا السؤال ، لقد ذهب بعض المفسرين ـ ودون الأخذ بنظر الاعتبار الأدلة العقلية والنقلية ـ إلى أنّ ما صدر من آدم عليه‌السلام يُعدُّ من الذنوب الكبيرة ، إلّاأنّه يرتبط بالفترة التي سبقت نُبوّته.

٨٣

وبعضهم حمل هذه المعصية على كونها من الذنوب الصغيرة ولم يعرها أية اهمية.

وبالرغم من الآيات الواردة والمتعلقة بعصمة الأنبياء والمنزلة الرفيعة التي أولاها الله سبحانه وتعالى لهم ، وبالأخص لآدم عليه‌السلام ، حيث جعله خليفتهُ وحجّته ، إلّاأنّهم لم يذعنوا لمثل هذه الادلة ولم يسلِّموا لها ، بل أخذ كل واحد منهم يبتكر حلاً ويذهب مذهباً للخروج من هذه المعضلة ، ومن بين هذه التفاسير يمكن الركون إلى ثلاثة آراء باعتبارها الطريق الامثل لحل هذا الاشكال وهي :

أ) كان نهي آدم نهيّاً إختبارياً ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ آدم كان قد خلق للعيش في الأرض لا الجنّة ، وأنّ فترة وجوده في الجنّة كانت فترة اختبار لا تكليف ، إذن فأوامر الله ونواهيه هناك كانت لغرض إعداد آدم ، بحيث يتلاءم وحوادث المستقبل فيما يتعلّق بالواجب والحرام.

وبناءً على هذا فقد خالف آدم أمراً إختبارياً فقط لا أمراً واجباً قطعيّاً.

في حديث للإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام وفي معرض ردّه على «علي بن محمّد بن الجهم» ، الذي يعدّ من متكلّمي ذلك العصر المعروفين ، وكان يعتقد بعدم عصمة الأنبياء استناداً إلى بعض ظواهر الآيات القرآنية ، قال عليه‌السلام له : «ويحك ياعلي اتّق الله ولا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش ولا تتأوّل كتاب الله برأيك فإنّ الله عزوجل يقول : (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) ثمّ أضاف قائلاً : أمّا قول الله عزوجل في آدم عليه‌السلام : (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) ، فانّ الله عزوجل خلق آدم حجّته في أرضه وخليفته في بلاده ، لم يخلقه للجنّة وكانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض ، (والجنّة لم تكن دار تكليف بل دار اختبار) لتتمّ مقادير أمر الله عزوجل ، فلمّا اهبط إلى الأرض وجعل حجّة الله وخليفته عصم بقوله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (١).

ب) كان نهي آدم نهياً إرشادياً ـ يعتقد جمع من المفسرين أنّ أوامر الأنبياء ونواهيهم ومن جملتهم آدم عليه‌السلام والتي لم تطبّق ، كانت ذات جانب إرشادي ، مثل أمر الطبيب للمريض

__________________

(١) بحار الأنوار ، ج ١١ ، ص ٧٢.

٨٤

بتناول الدواء الفلاني ، والاجتناب عن الطعام الفلاني غير المناسب ، فمتى ما خالف المريض أمر الطبيب فسيضرّ نفسه ، لعدم اكتراثه بإرشاد الطبيب وتعليماته.

فمن الممكن هنا عصيان أمر الطبيب ومخالفته ، ولكن من المسلّم أنّ هذا سيكون على حساب صحّة المريض ، ولا يعني الإستهانة بمقام الطبيب أبداً ، وهكذا فقد قال الله تعالى لآدم : لا تأكل من هذه «الشجرة» وإلّا فستطرد من الجنّة ونعيمها ، وتلاقي المشقّة والعذاب : (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى* إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَاتَظْمَؤُا فِيهَا وَلَا تَضْحَى). (طه / ١١٧ ـ ١١٩)

وبناءً على هذا فقد خالف آدم نهياً إرشادياً ، لا أمراً إلهيّاً واجباً ، فواجه المصاعب ، كما أنّ التعبير بـ «العصيان» لا يخدش في عصمة آدم أبداً ، لو أخذنا بنظر الاعتبار القرائن الموجودة في سائر الآيات.

ومن هنا يتّضح أيضاً تفسير جملة «فغوى» في ذيل نفس هذه الآية ، وأنّ المراد منها هو حرمانه من نعيم الجنّة ، لا «الغواية» التي تعني التصرّفات المنبثقة عن الإعتقادات الخاطئة ، أو الامور التي تحول دون بلوغ الإنسان لمراده ، وعلى أيّة حال فلو أنّ آدم لم يخالف هذا النهي الإرشادي لمكث في الجنّة فترة أطول.

ج) كان تركاً للأولى ـ هذا الجواب له مؤيّدون أكثر ليس هنا فقط ، بل في كلّ الموارد التي ينسب فيها الذنب إلى الأنبياء فإنّها تفسّر بهذه الطريقة.

توضيح ذلك : الذنب والمعصية على نوعين : مطلق ، ونسبي ، والمراد بالقسم الأوّل هو كلّ تلك الذنوب التي تعدّ ذنباً حين صدورها من أي شخص ولا استثناء فيها أبداً ، كأكل المال الحرام والظلم والزنا والكذب.

امّا الذنب النسبي فهو ذلك الذنب الذي يعدّ تصرّفاً غير مرغوب فيه قياساً بمقام وشخصية ومعرفة الأشخاص ، وما أكثر ما يعد صدور هذا الشيء من الآخرين فضيلة فضلاً عن عدم اعتباره عيباً.

فمثلاً الصلاة المناسبة لشخص امّي لا تليق أبداً بعالم عارف له تاريخ علمي طويل ، أو

٨٥

أنّ تبرّعاً متواضعاً من عامل بسيط يكلّفه اجرة يومه لمشروع خيري عام كبناء مدرسة أو مستشفى أو مسجد يعدّ في نفسه عملاً خيّراً بل إيثاراً كبيراً ، في حين أنّه لو تبرّع أحد الأثرياء المعروفين بنفس هذا المبلغ ، لتعرّض للذمّ والإتّهام بضعف الهمّة والبخل وهذا هو مصداق القول المعروف بين العلماء والفضلاء إنّ : «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين».

وبناءً على هذا فما يصدر من الأنبياء يسمّى عصياناً لعدم لياقته بمنزلتهم الرفيعة وإيمانهم ومعرفتهم ، قد يكون عين «الطاعة» حين صدوره عن غيرهم ، فأداء الصلاة بقليل من حضور القلب يعدّ للشخص العادي فضيلة بينما يعدّ ذنباً بالنسبة للنبي أو الإمام (ذنب نسبي لا مطلق).

كلّ التعابير حول معصية الأنبياء وذنوبهم سواء فيما يتعلّق بآدم أو بخاتم الأنبياء عليهما‌السلام ، والتي تلاحظ في الآيات والروايات ، يمكن أن تكون إشارة إلى نفس هذا المعنى.

كما ويعبّر أحياناً عن هذا المعنى بـ «ترك الأولى» ، والمراد به ذلك العمل الذي يكون تركه أولى من فعله ، هذا العمل الذي يمكن أن يكون من «المكروهات» أو «المباحات» بل وحتّى «المستحبّات» أيضاً ، فالطواف المستحبّ مثلاً ، ومع كونه عملاً حسناً مقبولاً ، لكن تركه والسعي وراء قضاء حاجة المؤمن أولى وأفضلـ «كما جاء في الروايات».

الآن لو أنّ أحداً لم يقدم على قضاء حاجة المؤمن ، وذهب بدل ذلك للطواف حول بيت الله تعالى ، فقد ترك الأولى مع إتيانه بعمل مستحبّ بذاته ، ولا يليق هذا الشيء بأولياء الله وأنبيائه وأئمّة الهدى عليهم‌السلام ، وتوهّم البعض بأنّ ترك الأولى يطلق على الموارد المكروهة فقط ، إلّاأنّ هذا الوهم في غير محلّه بل هو خطأ محض. (فتأمّل).

على أيّة حال فمقولة الذنب النسبي وتحت عنوان ترك الأولى يمكن أن يكون جواباً حسناً لكلّ الأسئلة التي تثار حول الآيات والروايات التي نسب فيها الذنب إلى المعصومين.

الملفت للنظر أنّ التعبير بـ «المعصية» فيما يتعلّق بـ «ترك المستحبّات» قد ورد في الروايات الإسلامية أيضاً ، من جملتها الحديث المعتبر عن الإمام الباقر عليه‌السلام في حديثه

٨٦

عن النوافل اليومية قال : «إنّما هذا كلّه تطوّع وليس بمفروض إنّ تارك الفريضة كافر وإنّ تارك هذا ليس بكافر ولكنّها معصية» (١).

كما أنّ معنى «العصيان» لغويّاً وكما ذكره الراغب في مفرداته ، هو كلّ خروج عن دائرة الطاعة (سواء أكانت هذه الطاعة في الأوامر الوجوبية أو الإستحبابية) (٢).

سؤال : يمكن أن يقال هنا : صحيح أنّ للعصيان والذنب مفهوماً واسعاً بحيث يشمل أحياناً ترك المستحبّ والأولى أيضاً ، وأنّه يتفاوت بتفاوت الأشخاص ، لكن ما هي الحكمة من تكرار الله تعالى التعبير بالمعصية بحقّ أنبيائه المكرّمين في آيات القرآن المجيد؟

جواب هذا السؤال ذكر في حديث لطيف نقله المرحوم الطبرسي في كتاب الإحتجاج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو حديث طويل جاء في فقرة منه أنّ زنديقاً قال : إنّي أجد الله قد شهر هفوات أنبيائه مثل (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (فما الحكمة من هذا؟).

فقال الإمام عليه‌السلام : «وأمّا هفوات الأنبياء عليهم‌السلام وما بيّنه الله في كتابه و... فانّ ذلك من أدلّ الدلائل على حكمة الله عزوجل الباهرة وقدرته القاهرة ، لأنّه علم أنّ براهين الأنبياء تكبر في صدور اممهم ، وأنّ منهم من يتّخذ بعضهم إلهاً ، كالذي كان من النصارى في ابن مريم ، فذكرها دلالة على تخلّفهم عن الكمال الذي تفرّد به عزوجل» (ولئلّا يراود فكر الوهيتهم ذهن أحد أبداً) (٣).

* * *

ثمرة البحث :

ما جاء عن آدم وكذلك سائر الأنبياء من أنّهم ارتكبوا الذنب والمعصية ، له ثلاثة أجوبة رئيسية تفي بالمطلوب مجتمعة أو منفردة ، ولا منافاة بينها في نفس الوقت ، أي أنّ هذه التعابير يمكن أن تُشير إلى ترك الأوامر الإختبارية والإرشادية وكذلك ترك الأولى ، هذا

__________________

(١) تهذيب الأحكام (طبقاً لما نقله تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٤٠٤ ، ح ١٦٥).

(٢) مفردات الراغب ، مادّة (عصى).

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ٣ ، ص ٣٠٣ ، ح ١٧٣.

٨٧

بالنسبة لآدم ، امّا سائر الأنبياء فيمكن أن تنظر إلى القسمين الأخيرين ، أي ترك الأوامر الإرشادية وترك الأولى (تأمّل جيّداً).

* * *

٢ ـ نوح عليه‌السلام

تقرأ في قصّة نوح عليه‌السلام : أنّه حينما بدأ الطوفان بسبب الأمطار الغزيرة المنهمرة من السماء ، والمياه المتدفّقة من باطن الأرض ، لم تمض مدّة طويلة حتّى أحاط الماء بكلّ مكان ، وأنّ نوحاً وأصحابه ركبوا السفينة ، وتعرّض إبنه للغرق لتمرّده على أمر أبيه ، وعدم إيمانه الذي يعدّ شرطاً لركوب السفينة ، فنظر نوح إلى السماء وقال : (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ). (هود / ٤٥)

أي قد وعدتني بإنقاذ أهلي ، فعاتب الله سبحانه نوح على الفور بخطاب قال فيه : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهلِكَ). (هود / ٤٦)

فَلِمَ تطلب ما ليس لك به علم؟! فاعتذر نوح وقال : (قَالَ رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ). (هود / ٤٧)

في هذه الآية يعتذر نوح عليه‌السلام عن طلبه ما ليس له به علم ، ويطلب من الله تعالى العفو والرحمة والمغفرة ، كما ويقول أيضاً : إن لم تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين.

السؤال هو : كيف تتلاءم هذه المواضيع الثلاثة ومقام عصمة الأنبياء؟

الجواب : يجب أوّلاً التدقيق في نوع الخطأ الذي ارتكبه نوح؟ هل كان ذنباً ، أم تصرّفاً في حدّ ترك الأولى؟ طبعاً كان الله تعالى قد حذّر نوحاً من مغبّة الشفاعة للظالمين (المشركين) لأنّهم مغرقون ، قال تعالى : (وَلَا تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ). (هود / ٣٧)

ولكن هل أنّ نوحاً كان يعلم بأنّ ابنه من زمرة الكفّار؟ ، إذ من الممكن وكما احتمله بعض المفسّرين أنّ الولد كان يخفي حاله عن أبيه ، وما أكثر اولئك الأبناء الذين نسمع عنهم أو نراهم يتظاهرون أمام آبائهم بالصلاح ، في حين ينتهجون نهجاً آخر في غيابهم.

٨٨

مضافاً إلى ذلك ، وطبقاً للآية (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) (١). (هود / ٤٠)

فقد كان نوح يتصوّر أنّ إبنه سيكون من أهل النجاة ، إعتماداً على الوعد الإلهي ، ولذا طلب من الله تعالى ذلك في الآيات مورد البحث : (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ). (هود / ٤٥)

في هذه الحادثة لا نشاهد أي مصداق للذنب والمعصية من نوح سوى ترك الأولى ، إذ كان ينبغي عليه أن يتحقّق أكثر في حال ولده قبل أن يطلب من الله تعالى نجاته ، كما أنّ تعبير نوح بالنسبة لولده حين ناداه وقال له : (يَا بُنَىَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) (هود / ٤٢) ولم يقل (من الكافرين) قرينة على أنّ نوحاً لم يكن يعتبر ولده من الكافرين بل معهم.

كما قال البعض أيضاً : إنّ نوحاً كان يعلم بكفر إبنه ، لكن حبّه الشديد له (بالإضافة إلى حالة الإضطراب التي أحاطت به عند حدوث الطوفان ، والتي كانت تفوق العادة) كان السبب وراء تجاهل نوح لوضع إبنه ولو مؤقتاً للجوء إلى الله تعالى لإنقاذه ، لكنّه انتبه بعد الإنذار الإلهي واعتذر لتركه الأولى.

* * *

٣ ـ إبراهيم عليه‌السلام

هناك تعابير تبدو عند تفسيرها لأوّل وهلة وكأنّها نوع من الذنب ، وردت حول هذا النبي العظيم الذي يتميّز بمكانة خاصّة حتّى من بين الأنبياء عليهم‌السلام ، من حيث الإيمان والإخلاص والإيثار والشجاعة والصبر والإستقامة ، نقر أفي القرآن الكريم أنّه القي القبض عليه بعد تحطيمه للأصنام وَمَثُلَ في المحكمة فسألوه : (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (الانبياء / ٦٢ ـ ٦٣)

فأجاب : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ).

__________________

(١) يمكن أن يكون هذا التعبير إشارة إلى الآية ٣٧ من نفس سورة هود «عدّة آيات قبل الآية مورد البحث» حيث يقول تعالى : (وَلَا تُخَاطِبْنِى فِى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) وأنّ واحداً من أجلى مصاديقها يتحقق في زوجة نوح التي التحقت بالكفّار وأنّ نوحاً بدوره لم يتعرّض للحديث عن نجاتها أبداً.

٨٩

وهنا يرد إشكال وهو : كيف نسب ابراهيم عليه‌السلام عمله هذا إلى كبير الأصنام ، أليس هذا كذباً؟!

وفي نفس هذه الحادثة وعندما طلب منه المشركون الخروج معهم خارج المدينة للإحتفال بعيد الأصنام ، إعتذر من الذهاب معهم بقوله : (إِنِّى سَقِيمٌ). (الصافات / ٨٩)

ومع أنّه لم يكن مريضاً ، فكيف يتناسب هذا الكلام مع منزلة عصمته؟ كما نقرأ في القرآن الكريم أنّ إبراهيم يصرّح بأنّه يتمنّى غفران ذنوبه ويقول : (وَالَّذِى أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ). (الشعراء / ٨٢)

ألم يكن هذا الإعتراف دليلاً على صدور الذنب من ذلك النبي العظيم؟

كما وأشكلوا عليه أيضاً أنّه عليه‌السلام لماذا اتفق موقفه مع عبدة النجوم والقمر والشمس بالرغم من إيمانه الخالص المنزه من أي شائبة من شوائب الشرك حيث قال بمقولتهم «هَذَا رَبِّى». (الأنعام / ٧٦ و ٧٧ و ٧٨)

هذه هي المواضع الأربعة الواردة في القرآن المجيد والتي أثار كلّ واحد منها بدوره جدلاً حول منزلة وعصمة إبراهيم وتنزيهه من الذنب والمعصية.

* * *

الجواب :

ذكر كبار المفسّرين ورواة الحديث ادلة ومواضيع جمّة للإجابة عن هذه الإستفسارات الأربعة ، ولكن بعض تلك المطالب ليس لها أسانيد معتبرة ، والجواب الذي سنذكره هنا هو أنسب تلك الأجوبة وأكثرها اعتماداً :

أمّا فيما يتعلّق بالسؤال الأوّل ، فإنّ إبراهيم لم يقل : إنّ كبير الأصنام قد فعل هذا ، إنّما قال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ).

هذه العبارة يمكن أن تكون من بابـ «القضيّة الشرطية» ، أي أنّ إبراهيم قد نسب هذا العمل إلى كبيرهم بشرط نطقهم ، ولا يخفى عدم وجوب الكذب في هذه القضيّة الشرطية.

٩٠

هذا هو نفس ما نقل عن الإمام الصادق عليه‌السلام في حديث أنّه قال : «ما فعله كبيرهم وما كذب إبراهيم ، وحينما استفسر السائل عن كيفية ذلك؟ قال عليه‌السلام قال إبراهيم : (فاسألوهم إن كانوا ينطقون فكبيرهم فعل ، وإن لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئاً ، فما نطقوا وما كذب إبراهيم» (١).

كما أنّ نسبة إبراهيم عليه‌السلام هذا العمل إلى كبير الأصنام إنّما جاء من باب الكناية ، التي هي أفضل من التصريح ، فلقد أراد أن يوقف عبدة الأصنام على خرافة عقائدهم عن هذا الطريق ، ويفهمهم أنّ هذه الأحجار والأخشاب الجامدة عاجزة حتّى عن التفوّه ولو بجملة واحدة وأنّها محتاجة إلى عبدتها ، فكيف يمكنها والحالة هذه من حلّ مشاكلهم؟

وبعبارة اخرى ، فالكذب إنّما يكون فيما لو لم تكن هناك قرائن تدلّ على أنّ المقصود كناية ، وهنا تشير كلّ القرائن إلى أنّ إبراهيم لم يكن جدّياً في كلامه هذا ، بل كان يسخر من أفكارهم ، وما أكثر أمثال هذه التعابير في المحاورات اليومية ، كما لو فرض وقوع سرقة ما في محيط محدود يقطن فيه أشخاص معينين ، وعند التحقيق ينفي كلّ منهم هذا الإتّهام عن نفسه ، فيقول المحقّق ، أنت لم تفعل هذا وذاك لم يفعله و... حتماً قامت به ملائكة السماء! وبديهي أنّ هذا الكلام لا يعتبر كذباً ، بل الهدف منه هو تكذيب أقوالهم الواهية التي لا أساس لها.

هناك احتمال ثالث أيضاً ، وهو أنّ جملة «بل فعله» مطلقة ، وهي في الواقع إشارة إلى تحليل منطقي مطابق لعقائد الوثنيين ، وهو أنّه : ألا تعتقدون أنّ حادثة تحدث داخل المعبد لا يمكن أن تكون بفعل من خارج المعبد ، وذلك لهيمنة الأصنام على كلّ شيء وكلّ فرد ، ومهما كان فهو داخل المعبد ، وحيث إنّ كبير الأصنام أكثرهم قوّة ومنعة ، بالإضافة إلى وجود الفأس في عنقه (يقال أنّ إبراهيم وضع الفأس على رقبته) ، فضلاً عن كونه الصنم الوحيد الذي لم يلحق به أي أذى.

إذن بناءً على هذا فالقرائن تشير إلى أنّه من فعل كبيرهم ، وهذا نظير التحاليل التي

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ج ٣ ، ص ٤٣٤ ، ح ٨٤ ؛ بحار الأنوار ، ج ١١ ، ص ٧٦ ، ح ٤ (باب عصمة الأنبياء).

٩١

يستخدمها المحقّقون لمعرفة الجاني عن طريق تتبّع آثاره وبصمات أصابعه ، حينما يدخلون في محيط قد وقعت فيه جريمة ، وكما قلنا فإنّ هذا التحليل كان مطابقاً لعقائد الوثنيين لغرض إدانتهم بما يعتقدون.

وفيما يتعلّق بالآية الثانية فلا دليل أصلاً على أنّ إبراهيم عليه‌السلام لم يكن مريضاً حقّاً ، فهناك علّة في بدنه ، غاية الأمر أنّها لم تكن بتلك الخطورة التي تقعده عن نشاطه البدني بالمرّة ، وتستفحل عليه بحيث تمنعه حتّى عن تحطيم الأصنام ، وما أكثر المرضى المشغولين بأعمالهم طول النهار ، خصوصاً تلك التي تبعث على ترسيخ العقيدة كتحطيم الأصنام لبطل التوحيد إبراهيم! هذا أوّلاً.

وثانياً مع أنّ «السُقم» و «السَقم» هو المرض المختصّ بالبدن ، لكنّه قد يكون في النفس أيضاً كما صرّح به البعض من أصحاب اللغة ، وبديهي أنّ روح إبراهيم كانت متعبة وكالمريضة في ذلك الجو المليء بالشرك ، إذن فقوله انّي سقيم إشارة إلى الجانب النفسي.

ثمّ إنّ الأمراض النفسية حين تشتدّ وطئتها تظهر مضاعفاتها السلبية حتّى على البدن أيضاً ، وقد أصبحت هذه المسألة اليوم من المسلّمات ، والقرآن الكريم أيضاً يخاطب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً). (الكهف / ٦)

كما أنّ بعض المفسّرين قال : إنّ لإبراهيم عليه‌السلام مرضاً (كالحمى المزمنة) ينتابه بين الفينة والاخرى ، وأنّ مراده من جملة ، (إنّي سقيم) هو اقتراب زمن هذا المرض فانا معذور من مرافقتكم ، كما أنّ الجملة التي قبلها : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النُّجُومِ) (الصافات / ٨٨) دليل على هذا المدّعى ، لأنّ النظر إلى النجوم إنّما يكون لحساب الوقت أي للوقوف على زمن ظهور ذلك المرض.

وفيما يتعلّق بالآية الثالثة ، فالجواب هو نفس ما تقدّم تفصيله في الآيات المتعلّقة بآدم عليه‌السلام ، وهو أنّ مراد إبراهيم من «الخطيئة» هو «الذنب النسبي» و «ترك الأولى» و «حسنات الأبرار سيّئات المقربين» (١).

__________________

(١) مع أنّ «الخطيئة» مأخوذة من مادّة «الخطأ» والتي تعني في الأصل الزلّات الصادرة من الإنسان لكنّها اتّسعت ـ

٩٢

لكن ما هو «ترك الأولى» بالنسبة لإبراهيم ياترى؟ قال البعض : إنّ المراد به هو كلّ تلك الحالات التي تتسبّب في غفلة الإنسان عن الله تعالى بأي نحو كان ، كالإشتغال بشؤون الحياة مثل الأكل والشرب وأمثالها التي يعتبرها أولياء الله ذنباً لغفلتهم عن الله تعالى ولو بهذه الدرجة (١).

وفيما يتعلّق بالآية الرابعة ، أي إشارة إبراهيم إلى النجم والقمر والشمس ، ووصفه إيّاها «هذا ربّي» فللمفسّرين فيه أقوال وآراء كثيرة أيضاً ، أقواها أن نقول : إنّ إبراهيم كان في مقام الحوار والاستدلال مع المشركين من عبدة النجم والقمر والشمس (بقرينة الآيتين اللتين تحفّان بهذه الآية ، واللتين تتعرّضان لحوار إبراهيم واحتجاجه على الوثنيين).

وبناءً على هذا فقد وقف إبراهيم عليه‌السلام بوجه هذه المجاميع الثلاث كلّ على حدة ، إذ وافقهم على آرائهم في أوّل الأمر ، وعلى سبيل الفرض لحين أُفول هذه الكواكب السماوية لكي يتبيّن لهم خطأهم ، بالضبط مثلما نواجه القائلين بسكون الأرض وحركة الشمس حول الأرض فنقول لهم حسناً ، كما تقولون ، لكن هل تعلمون أيّة دائرة عظيمة يستلزمها كلامكم هذا لكي تتمكن الشمس التي تفصلها عن الأرض تلك المسافة البعيدة ، وأي سرعة عظيمة تحتاج للدوران حول الأرض دورةً كاملة كلّ ٢٤ ساعة ، وثبوت هذه السرعة لمثل هذا الجرم السماوي من المستحيلات ، إذن ، يتّضح من ذلك بطلان فرضيتكم ، (فتأمّل جيّداً).

هذا هو أحد أفضل الطرق التي يمكن استخدامها لإبطال نظريات الخصم ، أي الوقوف معه أوّلاً ، وموافقته (على سبيل الفرض) ، دون إثارة روح التعصب والعناد عنده ، ثمّ إيقافه على نتائجها الباطلة ، كما قال البعض أيضاً : إنّ استخدام جملة «هذا ربّي» أمام هؤلاء القوم كان بمثابة «استفهام» ، ذلك الإستفهام الذي يعدّ مقدّمة لإبطال نظرياتهم عند غروب وافول تلك الكواكب.

__________________

ـ تدريجيّاً لتطلق على كلّ ذنب يشمل العمد وغيره ، واستعمالها في الذنب غير العمد واسع جدّاً ، لكن «الإثم» يطلق على الذنوب العمدية ، وهو يعني في الأصل : الشيء الذي يثني الإنسان عن عزمه ، وحيث إنّ الذنب يحول دون بلوغ الإنسان للمنزلة الرفيعة ويمنع عنه الكثير من الخيرات والبركات فقد سمّى «إثماً».

(١) تفسير الميزان ، ج ١٥ ، ص ٢٨٥.

٩٣

أمّا القول : إنّ إبراهيم عليه‌السلام قد نطق بهذه الجمل للتحقيق بنفسه ولا مانع من قبول الإنسان لمختلف الآراء مبدئيّاً واختبارها ، فلا يبدو صحيحاً لأنّ جملة : (يَا قَوْمِ إِنِّى بَرِىءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) (الانعام / ٧٨) دليل على أنّه كان بمثابة الإحتجاج على هؤلاء المشركين لا التحقيق بنفسه.

وقول البعض تأييداً لهذا الإدّعاء : إنّ إبراهيم لم ير السماء إلى تلك اللحظة بصورة جيّدة ، لأنّ والدته كانت قد خبأته في غار خارج المدينة خوفاً من عيون نمرود ، فيبدو كلاماً بعيداً جدّاً ، إذ كيف يعقل أن يبقى إبراهيم في الغار طوال سنين عديدة منذ طفولته وحتّى ريعان شبابه ولا يخرج منه ولو لمرّة واحدة ، لا ليلاً ولا نهاراً؟! هذا الكلام أقرب إلى الاسطورة من الواقع (١).

فضلاً عن أنّ هذه الآيات قد وردت على الفور ، بعد الآية التي تتعرّض للحوار الجدّي لإبراهيم مع آزر حول مسألة تسفيه اعتقاده بالأصنام ، أي أنّ إبراهيم عليه‌السلام كان قد بلغ مقام التوحيد الرفيع واليقين الراسخ قبل ذلك ، وأنّ الله تعالى كان قد أطلعه على ملكوت السماوات ، وقد بدأ إبراهيم عليه‌السلام بعده بدعوة الآخرين لا التحقيق لنفسه.

* * *

الملاحظة الجديره بالاهتمام هي : إنّ إبراهيم ولبيان بطلان ربوبية هذه الكواكب الثلاثة ، أورد دليلاً يعدّ من أدقّ البراهين الفلسفية ، في الوقت الذي يسهل على الجميع استيعابه ، فيقول في هذا الدليل : إنّ «الربّ» يجب أن يبقى على اتّصال دائم بمخلوقاته ، وبناءً على هذا فالموجود الذي يغرب فينقطع نوره وبركاته لساعات طوال ، لا يمكن أن يكون ربّاً لهذه الموجودات.

فضلاً عن أنّ الشروق والغروب المستمرين لهذه الأجرام السماوية ، دليل على خضوعها لقانون ما ، وكيف يتسنّى للموجود الواقع في قبضة القوانين الكونية ، والطبيعية أن يكون

__________________

(١) وقد جاء ذلك في عيون أخبار الرضا عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أنّ إبراهيم خرج من مخبئه والتقى بثلاث طوائف من المشركين (تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٧٣٥).

يعدّ في ذاته دليلاً على خلاف هذا الإدّعاء فضلاً عن دعمه له «تأمّل جيّداً».

٩٤

حاكماً على هذا العالم وخالقاً له؟!

بالإضافة إلى أنّ «الحركة» بذاتها موجود «حادث»، وبناءً على هذا فالشيء المتحرّك مخلوق وحادث حتماً ، ومثل هذا لا يمكن أن يكون موجوداً أزليّاً أبديّاً (هذا هو نفس الشيء الوارد في البراهين الفلسفية تحت عنوان «العالم متغيّر» و «كلّ متغيّر حادث».

وبناءً على هذا فقد كان لحوار إبراهيم ثلاثة مفاهيم مختلفة ومثيرة ، ولا يمكن الإستغناء عنها لإبطال الوهية النجم والقمر والشمس.

* * *

٤ ـ يوسف عليه‌السلام

امّا في شأن النبي يوسف عليه‌السلام فنحن نواجه بعض الآيات التي تبدو لأوّل وهلة غير منسجمه مع منزلة عصمته ، من أهمّها ماجاء في القرآن الكريم : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَآ بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُمخْلَصِينَ). (يوسف / ٢٤)

إذ يتصوّر القارىء في البداية أنّ هذه الآية تجعل من يوسف شريكاً لزليخا في قصد المعصية.

* * *

الجواب :

يكفي التمعّن في نصّ هذه الآية لرفع هذا الالتباس ، لأنّ القرآن يقول : (لَوْلَا أَنْ رَآ بُرْهَانَ رَبِّهِ) ومفهوم هذا الكلام هو بالضبط أنّه لم يقصد المعصية لأنّه رأى برهان ربّه.

ما هو المراد بهذا البرهان؟ (علماً أنّ البرهان يعني كلّ دليل قوي ومحكم يتبنّى بيان الحقيقة وإيضاحها ، وهو مأخوذ من مادّة «بره» التي تعني : إبيضّ).

للمفسّرين هنا احتمالات متعدّدة ، أفضلها هو القول : إنّ المراد من برهان الربّ ، هو

٩٥

اطّلاعه على أسماء الله تعالى وصفاته وكونه تعالى عالماً قادراً سميعاً بصيراً.

أو بعبارة اخرى : المراد بالبرهان هو الإمدادات الإلهيّة ، والتأييدات الربّانية التي تسرع لنجدة المؤمنين والمتّقين في اللحظات الحرجة والمصيرية ، إذ تمدّهم بالقوّة أمام جنود الشيطان ووساوس النفس.

الدليل على هذا الكلام هو ما جاء في آخر الآية حيث يقول تعالى : (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الُمخْلَصِينَ).

يتّضح من هذا الكلام أنّ عباد الله المخلصين مشمولون بالألطاف والعنايات الإلهيّة الخاصّة ، في مثل هذه اللحظات الحسّاسة ، والتي هي في الواقع ثمن إيمانهم الخالص وأعمالهم الطاهرة.

وهنا نقل بعض الغافلين خرافات تحت عنوان «الروايات» لا تكاد تخرج عن حدّ الإسرائيليات ، وذهبوا بيوسف ظلماً إلى حافّة الهاوية والإقدام على ذلك العمل الفاحش إلى أنّ منعه جبرئيل من هذا العمل بضربه على صدره! أو رؤيته لشبح أبيه يعقوب وهو يعضّ على يديه لهذا العمل!.

وهذا كلام لا علاقة له بالقرآن مطلقاً ، وخرافات لا تستحقّ الإجابة عنها ، وذيل الآية التي تعتبره من عباد الله المخلصين خير دليل على بطلان مثل هذه الإحتمالات القبيحة ، وذلك طبقاً لآيات القرآن التي تصرح بأن لا سبيل للشيطان إلى عباد الله المخلصين.

أما الاشكال الثاني الذي اثير حول يوسف عليه‌السلام ومقام عصمته فهو ما ورد في الآية السبعين من سورة يوسف عليه‌السلام ، والتي جاء فيها أنّه حينما شدّ رحال اخوته وضع السقاية ، أي الاناء الذي يشرب فيه أو المكيال الذي يكيل فيه في رحل أخيه ، ثمّ أذّن مؤذّن : (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِى رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ). (يوسف / ٧٠)

فهل يجوز أن يقوم الإنسان بعمل ما ، ويتّهم بريئاً وخاصّة إذا كان ذلك البريء أخاه؟ وهل يعقل أنّ المؤذّن قد نسب هذه النسبة (نسبة السرقة) إلى اخوة يوسف بدون علم يوسف ، واطّلاعه؟ ولماذا رضي النبي المعصوم باتّهام الأبرياء بمثل هذه التهمة؟!

٩٦

وحاولوا أحياناً توسيع دائرة الإشكال فقالوا : لماذا لم يكشف يوسف عليه‌السلام النقاب عمّا جرى له بسرعة ليطّلع اخوته على حقيقة الأمر وليوصلوا خبر حياته وعظمة مكانته إلى أبيه الشيخ؟ ، ليطمئن ويتخلّص من ألم الفراق الذي أضناه كثيراً ، فهل أنّ مثل هذا التصرّف يتناسب مع الوضع الذي كان يعيشه ذلك الأب المسنّ؟ ثمّ ما هي عقوبة السارق في ذلك الزمن ليبقى أخو يوسف عندهم كرهينة بتهمة السرقة؟ هل كان هذا حكماً إلهيّاً ، أم سنّة أهل مصر الخرافية؟ لو كانت سنّة أهل مصر ، فلماذا وافق يوسف على تطبيق هذا الحكم الجائر بحقّ أخيه؟

* * *

الجواب :

من الممكن العثور على أجوبة هذه الأسئلة بشكل واضح ، من خلال الآيات الواردة في سورة يوسف وقرائن اخرى.

أوّلاً : يبدو حسب الظاهر أنّ هذا الأمر قد تمّ بموافقة «بنيامين نفسه» (الأخ الأصغرليوسف) ، إذ إنّ آيات هذه السورة تشهد كاملاً على أنّ يوسف قد عرّف نفسه لبنيامين قبل ذلك ، فعلم بنيامين أنّ هذه الخطّة قد وضعها يوسف للإحتفاظ به عنده فوافق على هذه الخطة.

ثانياً : إنّ القائل : «إنّكم لسارقون» مجهول؟ غاية ما نعرفه عنه أنّه كان من حاشية يوسف عليه‌السلام ، وحينما وجدوا الوعاء المخصوص داخل متاع أحد اخوة يوسف تيقّنوا من كونه هو السارق ، وبديهي أنّ ارتكاب عمل ما من قبل أحد الأفراد في مجموعة واحدة ، يُعرِّض كلّ أعضاء تلك المجموعة لخطاب : إنّكم قمتم بهذا العمل.

على أيّة حال فهذا الكلام والتشخيص إنّما يتعلّق بحاشية يوسف ولاعلاقة له به ، بل الشيء الوحيد الذي قام به يوسف هو وضع الوعاء في رحل أخيه لإثارة ذلك الإتّهام ، الذي كان السبب وراء خلاص وراحة أخيه الذي وافق على ذلك ، كما تقدّم.

٩٧

ثالثاً : هذا المخطّط بمجموعه سواء فيما يتعلّق بالاخوّة أو الأب ، كان إتماماً لاختبار إلهي لهم ، وبعبارة اخرى كان يوسف طبقاً للأمر الإلهي الذي تلقّاه عن طريق الوحي سبباً لإختبار مقاومة يعقوب مقابل فقد ولده الثاني الذي كان ولهاناً بحبّه ، ولتتمّ من خلال ذلك دائرة تكامله ومكافأته وثوابه ، كما تمّ هنا وضع الاخوّة ثانية في بودقة الاختبار ، لمعرفة مدى استعدادهم للوفاء بالعهد الذي عقدوه مع أبيهم في عدم تركـ «بنيامين» وحيداً؟ وليُعرف من جهة اخرى الأشخاص الذين قالوا : (إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ). (يوسف / ٧٧)

وأراد اخوته من هذا الكلام يوسف عليه‌السلام.

الخلاصة : إنّ قصّة يوسف عليه‌السلام مليئة بالإختبارات ، سواء فيما يتعلّق بيوسف ، أو أبيه ، أو اخوته ، وفي الآية أدناه إشارة إلى هذا القول :

(كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ). (يوسف / ٧٦)

كما أنّ هذا التعبير يكشف النقاب عن السؤال الأخير أيضاً ويجيب عنه ، وهو أنّ تطبيق خطّة «عبودية السارق» كان أمراً إلهيّاً إلى يوسف (لإكمال الإمتحان المذكور) في خصوص هذا المورد (تأمّل جيّداً) ، وبناءً على هذا فلا نجد في البين إشكالاً يمكن توجيهه إلى هذا النبي العظيم فيما يتعلّق بمنزلة العصمة.

* * *

٥ ـ موسى عليه‌السلام

هنالك آيات قرآنية في مختلف السور مرتبطة بمنزلة عصمة موسى عليه‌السلام ، وقد تعرّضت للإستفهام أيضاً :

نقرأ في الآية ١٦ من سورة القصص ، أنّ موسى عليه‌السلام وبعد صراعه مع أحد أعدائه (أتباع فرعون) ، الذي كان في شجار مع رجل من بني إسرائيل ، وتوجيه ضربة قاضية إليه أردته

٩٨

قتيلاً ، توجّه إلى الله تعالى وقال : (قَالَ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

يا تُرى «ألم يكن التعبير بأنّي ظلمت نفسي وطلب العفو والمغفرة من الله تعالى ، دليلاً على ارتكاب الذنب»؟

ثمّ إنّه ورد في الآية التي قبلها أنّ موسى وبعد قتله لعدوّه قال : (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ). (القصص / ١٥)

وبعد هذه الحادثة وحينما بلغ موسى مرتبة النبوّة ، وجاء إلى فرعون يدعوه إلى الله ، عاتبه فرعون وقال : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ* قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ). (الشعراء / ١٩ ـ ٢٠)

صحيح أنّ موسى لم يكن قد بلغ مرتبة النبوّة في ذلك الوقت ، ولكن نظراً لضرورة تمتّع الأنبياء بدرجة العصمة حتّى قبل النبوّة ، فالتعبير بـ «الضالّين» يبدو غير مناسب هنا بعض الشيء.

* * *

الجواب :

أوّلاً ، وقبل كلّ شيء يجب البحث في ماهية هذا القتل الذي لم يكن بقصد وسبق إصرار ، وهو ممّا يصطلح عليه بقتل الخطأ ، هل كان جائزاً أم لا؟!

لا شكّ أنّ هذا العمل لم يكن معصية ، مع الأخذ بنظر الإعتبار ذلك الموقف المعادي الذي كان يتّخذه قوم فرعون الظالمين من بني إسرائيل ، حتّى أنّهم كانوا يذبحون أبناءهم الرضّع ويأخذون بناتهم للخدمة ، بل كانوا قد أذاقوهم أقسى أنواع الظلم والعذاب ، حتّى أصبحوا مصداقاً للتعبير القرآني : «مفسد في الأرض» ، خصوصاً أنّ موسى كان في مقام نصرة المظلوم والدفاع عنه ، إذن فجواز قتل هذا الفرعوني الظالم هو ممّا لا شكّ فيه على أقلّ تقدير ، فكيف يمكن الخدش في درجة عصمة موسى في مثل هذه الحال.

٩٩

إذن ، فالذي يحتمل كونه مخالفاً للوجدان يكمن حتماً في ترك الأولى المتجسّد في كيفية تصرّف موسى (لا أصل تصرّفه).

ويبدو أنّ مراد موسى عليه‌السلام من : «ظلمت نفسي» هو الوقوع في المشقّة ، باعتبار أنّ قتله لأحد الأقباط ليس بتلك السهولة التي يتناساها أتباع فرعون ، ولا يخفى أنّ ترك الأولى يعني العمل المباح ذاتاً ، إلّاأنّه يَحرم صاحبه من العمل الأفضل.

وجملة : (هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) إشارة إلى أصل نزاع القبطي والسبتي (الفرعوني والاسرائيلي) ، أي أنّ نزاعهم الأعمى التافه هذا هو من عمل الشيطان.

إذن ، فطلب المغفرة من الله إنّما هو لتركه الأولى ، وقد ورد نظيره في القرآن الكريم بحقّ آدم وحواء أيضاً ، حيث انّهما قد أوقعا نفسيهما في المشقّة وذلك بتركهما للأولى ، وأكلهما من الشجرة الممنوعة ، فطلبوا المغفرة لذلك (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ). (الأعراف / ٢٣)

امّا التعبير بـ «الضالّين» المأخوذ من مادّة «الضلال» التي تعني في الأصل ترك الطريق السوي ، فله معنى واسع ولا ينحصر بمعنى الإعراض عن الدين والحقّ فقط ، بل يصدق بحقّ شخص كموسى عليه‌السلام الذي عرض حياته للخطر بقتله لذلك الفرعوني أيضاً ، وبعبارة اخرى فقد ترك طريق السلامة ، وسلك طريق ذات الشوكة ، ولذا لم يتمكّن من البقاء في مصر بعد تلك الحادثة فغدى مشرّداً في البوادي والجبال إلى أن وصل أرض «مدين» ، وشملته الألطاف الإلهيّة في خاتمة المطاف ، حيث عاش هناك ولعدّة سنين وتربى على يد شعيب عليه‌السلام ، وتهيّأ لتحمّل مسؤولية الرسالة.

لا يخفى أنّ البعض يعتقد بأنّ معنى «الضلال» هنا هو عدم الإطّلاع ، أي لم أعلم بأنّ تلك الضربة ستقضي على الرجل ، وبناءً على هذا فالقتل المذكور يعد مصداقاً لقتل الخطأ لا العمد ، لكن المعنى الأوّل يبدو أنسب ، رغم أنّ فرعون قد يفهم من كلام موسى عليه‌السلام شيئاً آخر ، ولذا اقتنع بذلك ولم يعلّق عليه بشيء.

ثانياً في الآية ١٤٣ من سورة الأعراف تستوقفنا هذه الحادثة ، وهي أنّ موسى عليه‌السلام

١٠٠