الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي
المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-064-3
الصفحات: ٨٣٢
الباب الثاني
في ذكر أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليه السلام
فصل
في ذكر نسبه عليهالسلام
عليّ بن أبي طالب ـ واسمه عبد مناف ـ بن عبد المطّلب إلى آخر نسب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وجدنا أبا طالب في الغرة القعساء (١) ، والرتبة العلياء ، والنجدة الغلباء ، وبه صان الله نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل المبعث إلى أوانه ، وحفظ دينه حتّى أدّى رسوله رسالته صادعا بها ، وأظهر دلالته بإيحائها ، وضرب الإسلام رواقه (٢) ، واتّقدت نيرانه ، وبما كفل ابن أخيه طفلا رضيعا ، وحضنه ناشئا يافعا إلى أن اعتدلت ميعته (٣) وبلغ مدى الرسالة ونزا بين شطنيه (٤) ، ورمى عن عرضيه (٥) ، وأرمى على سنّه ، وعضّ على ناجذه ، ونجل من أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام ابنه ، أنار الله الحقّ ، وأوضح للخلق منار النهج ، وبيّن سبيل الإيضاح بواضح الإفصاح ليهلك من هلك عن بيّنة ، ويحيا من حيي عن بيّنة.
__________________
(١) رجل أقعس : ثابت عزيز منيع ( لسان العرب ٦ / ١٧٧ ).
(٢) ألقى أرواقه : إذا أقام بالمكان واطمأن به ( لسان العرب ١٠ / ١٣٢ ).
(٣) ميعة الشباب والنهار وكلّ شيء : أوّله وأصله ، وميعة الفرس : أول جريه.
(٤) ميعة الشباب : أوّله وأنشطه ( لسان العرب ٨ / ٣٤٥ ).
(٥) يقال للفرس العزيز النفس : إنّه لينزو بين شطنين ، ويضرب مثلا للإنسان العزيز القوي ، وذلك أنّ الفرس إذا استعصى على صاحبه شدّه بحبلين من جانبين. والشطن هو الحبل الذي يشطن به الدلو ( لسان العرب ١٣ / ٢٣٧ ).
ولو لا أبا طالب وابنه |
|
لما مثل الدين شخصا وقاما |
فذاك بمكّة آوى وحاما |
|
وهذا بيثرب سام الحساما |
تكفّل عبد مناف بأمر |
|
وأودى فكان عليّ تماما |
فقل في ثبير مضى بعد ما |
|
قضى ما قضاه وأبقى شماما |
فلله ذا فاتحا للهدى |
|
ولله ذا للمعالي ختاما |
وما ضرّ مجد أبي طالب |
|
جهول لغا أو بصير تعامى |
كما لا يضرّ أناي النهار |
|
من ظنّ ضوء الصباح الظلاما |
ولمّا بعث الله رسوله عليهالسلام على رأس أربعين سنة من مولده وعمّه أبو طالب يومئذ ابن بضع وسبعين سنة عادته [ قريش ] وصدّته عن إبلاغ الرسالة ، فعضده الله بعمّه أبي طالب ، وأيّده بنصره ، وحماه بعشيرته ، ورمى فيه العرب عن قوس واحدة ، ورشقهم بالبواقر (١) ونابذ فيه الأباعد والقرابين حتى اخوته الأدنين ، فكاد من كاده ، وصافا من صافاه ، وواساه بنفسه وولده وماله.
وحدّث عن حفص بن عائشة التيميّ قال : حدثني أبي قال مرّ أبو طالب ومعه ابنه جعفر على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يصلّي وعليّ عليهالسلام يصلّي عن يمينه ، فقال أبو طالب لجعفر : صلّ مع ابن عمّك ، فتأخّر عليّ وقام معهما جعفر ، فتقدّمهما رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فكانت أقلّ جماعة صلّت في الإسلام. وأنشأ أبو طالب يقول :
إنّ عليا وجعفرا ثقتي |
|
عند ملمّ الزمان والكرب |
أجعلهما عرضة العدى فإذا |
|
راميت أو أنتمي الى نسب |
لا تخذلا وانصرا ابن عمّكما |
|
أخي ابن امّي من بينهم وأبي |
والله لا أخذل النبيّ ولا |
|
يخذله من بنيّ ذو حسب (٢) |
وحدّث أبو إسحاق بن عيسى بن عليّ الهاشميّ ، قال : حدّثنا أبي ، قال : سمعت
__________________
(١) في هامش الأصل : البواقر : السهام الصائبة.
(٢) روضة الواعظين : ص ١٤٠ مع اختلاف يسير ، أمالي الصدوق : ص ٤١٠ ، بحار الأنوار : ج ٣٥ باب ٣ ح ٢ وفيهما عن الجرجاني مع اختلاف.
المهاجر مولى بني نوفل يقول : سمعت أبا رافع يقول : سمعت أبا طالب بن عبد المطّلب يقول : حدّثني محمّد بن عبد الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ ربّه بعثه بصلة الأرحام ، وأن يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره ، ومحمّد عندي الصدوق الأمين (١).
ولمّا رجع من مهاجرة الحبشة إلى مكّة من رجع بعد نزول سورة « والنّجم » عدا كلّ قوم من مشركة قريش على مسلمتهم بالعداوة والظلم أو يتركون دينهم ، فلجأ أبو سلمة بن عبد الأسد المخزوميّ وامّه برّة بنت عبد المطلب إلى خاله أبي طالب ، فمنعه عن بني مخزوم ، فقال بنو مخزوم لأبي طالب : هل منعت محمّدا ابن أخيك فمالك ولابن أخينا تحيزه علينا؟
فقال أبو طالب : سواء عليّ أحزت ابن أخي أو ابن اختي.
فغضب أبو لهب وقال : يا معشر قريش لقد أكثرتم على هذا الشيخ ، ما تزالون توثّبون عليه في جواره وذمّته من بين قومه ، لتنتهنّ عنه أو لأقومنّ معه في كلّ ما قام به حتى يبلغ مراده.
فقالوا : بل ننصرف عمّا تكره يا أبا عتبة. وكان من قبل آليا على الإسلام وأهله ، فطمع أبو طالب عند ذلك في نصرة أبي لهب ورجا أن يقوم في شأن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم (٢) ، فبقي على ذلك أيّاما ، وقال أبو طالب يمدح أبا لهب :
عجبت لحلم [ الله ] يا ابن شيبة عازب |
|
وأحلام أقوام لديك سخاف |
يقولون شايع من أراد محمّدا |
|
بسوء وقم في أمره بخلاف |
فلا تركبنّ الدهر منه زمامه |
|
وأنت امرؤ من خير عبد مناف |
ولا تتركنه ما حببت لمعظم |
|
وكن رجلا ذا نجدة وعفاف |
تذود العدى عن ذروة هاشمية |
|
وإيلافهم في الناس خير إلاف |
وراجم جميع الناس عنه وكن له |
|
وزيرا على الأعداء غير محاف |
فانّ له قربى لديك قريبة |
|
وليس بذي حلف ولا بمضاف |
__________________
(١) بحار الأنوار : ج ٣٥ ص ١١٦ باب ٣ ح ٥٦.
(٢) السيرة النبوية لابن هشام : ج ٢ ص ١٠ ـ ١١.
ولكنّه من هاشم في صميمها |
|
إلى بحر فوق البحور صوافي |
وإن غضبت منه قريش فقل لها |
|
بني هاشم عمّنا ما هاشم بضعاف |
فما بال ما يغشون منّا ظلامة |
|
وما بال أرحام هناك جواف |
فما قومنا بالقوم يغشون ظلمنا |
|
وما نحن فيما ساءهم بخفاف |
ولكنّنا أهل الحفائط والنهى |
|
وعزّ ببطحاء الحطائم وافي (١) |
ولمّا اجتمعت قريش على ادخال بني هاشم وبني عبد المطّلب شعب أبي طالب اكتتبوا بينهم صحيفة ، فدخل الشعب مؤمن هاشم والمطّلب وكافرهم ، ما خلا أبا لهب وأبا سفيان بن الحارث ، فبقي القوم في الشعب ثلاث سنين ، فكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا أخذ مضجعه وعرف مكانه ونامت العيون جاءه أبو طالب فأنهضه عن فراشه وأضجع عليّا مكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم. فقال عليّ عليهالسلام ذات ليلة : يا أبتاه إنّي مقتول. فقال أبو طالب :
اصطبر يا عليّ فالصبر أحجى |
|
كلّ حيّ مصيره لشعوب |
قد بذلناك والبلاء عسير |
|
لفدا النجيب وابن النجيب |
لفداء الأعزّ ذي الحسب الثاقب |
|
والباع والفناء الرحيب |
إن تصبك المنون فالنبل تترى |
|
فمصيب منها وغير مصيب |
كلّ حيّ وان تملأ عيشا |
|
آخذ من سهامها بذنوب (٢) |
الطبري والبلاذريّ والضحّاك : لمّا رأت قريش حميّة قومه وذبّ عمّه أبو طالب عنه جاءوا إليه وقالوا : جئناك بفتى قريش جمالا وشهامة عمارة بن الوليد ندفعه إليك يكون نصره وميراثه لك ، ومع ذلك من عندنا مال عدّ ، وتدفع إلينا ابن أخيك الذي فرّق جماعتنا وسفّه أحلامنا فنقتله.
فقال : والله ما أنصفتموني ، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وتأخذون ابني تقتلونه!
__________________
(١) منية الراغب في إيمان أبي طالب : ص ٦١ ـ ٦٢.
(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٣ ص ٣١٤ مع اختلاف يسير ، المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٦٤ ـ ٦٥.
هذا والله ما يكون لي أبدا ، تعلمون أنّ الناقة إذا فقدت ولدها لا تحنّ إلى غيره ، ثمّ نهرهم ، فهمّوا باغتياله ، فمنعهم أبو طالب عن ذلك وقال فيه :
حميت الرسول رسول المليك |
|
ببيض تلألأ مثل البروق |
أذبّ وأحمي رسول الإله |
|
حماية عمّ عليه شفيق (١) |
وأنشد أيضا :
يقولون لي دع نصر من جاء بالهدى |
|
وغالب لنا غلاّب كلّ مغالب |
وسلّم إلينا أحمدا واكفلن لنا |
|
بنيّنا ولا تحفل بقول المعاتب |
فقلت لهم الله ربّي وناصري |
|
على كلّ باغ من لؤي بن غالب (٢) |
عكرمة وعروة بن الزبير في حديثيهما : لمّا رأت قريش أنّ أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم يفشو وأن حمزة أسلم ، أجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم علانية ، فلمّا رأى ذلك أبو طالب جمع بني عبد المطّلب فأجمع لهم أمرهم على أن تدخلوا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شعبهم. فاجتمعت قريش في دار الندوة وكتبوا صحيفة على بني هاشم على أن لا يكلّموهم ولا يزوّجوهم ولا يتزوّجوا إليهم ولا يبايعوهم أو يسلّمون إليهم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وختموا عليها أربعين خاتما ، وعلّقوها في جوف الكعبة. وفي رواية عند زمعة بن الأسود.
فجمع أبو طالب بني هاشم وبني المطّلب في شعبه ، وكانوا أربعين رجلا مؤمنهم وكافرهم ، ما خلا أبا لهب وأبا سفيان ، وظاهراهم عليه ، فحلف أبو طالب إن شاكت محمّدا شوكة لأثبنّ (٣) عليكم يا بني هاشم ، وحصّن الشعب ، وكان يحرسه بالليل والنهار ، وفي ذلك يقول :
ألم تعلموا أنّا وجدنا محمّدا |
|
نبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب |
أليس أبونا هاشم شدّ أزره |
|
وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب |
__________________
(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٦٠ ـ ٦١.
(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٦١. وفيه « واكفلن » بدل « واكنفن ».
(٣) في المناقب ، لآتينّ.
وأنّ الذي علّقتم من كتابكم |
|
يكون لكم يوما كراغية السقب (١) |
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى |
|
ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب (٢) |
وكان أبو العاص بن الربيع ـ وهو ختن الرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ يجيء بالعير بالليل ، والعير عليها البسر والتمر إلى باب الشعب ثمّ يصبح بها ، فحمد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فعله ، فمكثوا بذلك أربع سنين. وقال ابن سيرين : ثلاث سنين.
وفي كتاب شرف المصطفى : فبعث الله على صحيفتهم الأرضة فلحستها ، فنزل جبريل عليهالسلام فأخبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك ، فأخبر النبيّ أبا طالب ، فدخل أبو طالب على قريش في المسجد فعظّموه وقالوا له : أردت موافقتنا وأن تسلّم ابن أخيك إلينا.
قال : والله ما جئت لهذا ولكن ابن أخي أخبرني ولم يكذّبني أنّ الله تعالى قد أخبره بحال صحيفتكم ، فابعثوا إلى صحيفتكم فإن كان حقّا فاتّقوا الله وارجعوا عمّا أنتم عليه من الظلم وقطيعة الرحم ، وإن كان باطلا دفعته إليكم.
فقال أبو جهل : ننظر في ذلك فإن كان كذبا كتبنا صحيفة اخرى انّكم أكذب بيت في العرب. فأتوا بها وفكّوا الخواتيم عنها فإذا فيها باسمك اللهمّ واسم محمّد فقط.
فقال لهم أبو طالب : اتّقوا الله وكفّوا عمّا أنتم عليه.
فقال أبو لهب : انتهى إلى الصحيفة سحر محمّد. فسلبوا (٣) وتفرّقوا ، فنزل ( ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ ) (٤) قال : كيف أدعوهم وقد صالحوا على ترك الدعوة ، فنزل : ( يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ ) (٥).
فسأل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أبا طالب الخروج من الشعب ، وقام جماعة بنصر بني هاشم ومشوا إليهم حتى أخرجوهم من الشعب ، وأمنوا ورجعوا إلى مساكنهم ، وهم
__________________
(١) الراغية : من الرغاء وهو صوت الإبل ، والسقب ( بفتح السين ) : ولد الناقة ساعة الولادة ، وأراد به هنا ولد ناقة صالح.
(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٦٣.
(٣) كذا في الأصل. وفي المناقب ، فسكتوا ..
(٤) النحل : ١٢٦.
(٥) الرعد : ٣٩.
أبو البختري العاص بن هشام الأسدي ومطعم بن عديّ النوفلي وزهير بن أبي اميّة المخزومي ـ وهو ابن عمّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وزمعة بن الأسود الأسدي وهشام بن عمرو العامري ، وقالوا : أخرقها الله ، وعزموا أن يقطعوا يمين كاتبها وهو منصور بن عكرمة بن هشام بن عبد مناف بن عبد الدار فوجدوها شلاّء ، فقالوا : قطعها الله ، فأخذ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في الدعوة. وفي ذلك يقول أبو طالب :
ألا هل أتى نجد بنا صنع ربّنا |
|
على نأيهم والله بالناس أرود |
فيخبرهم أنّ الصحيفة مزّقت |
|
وأن كلّ ما لم يرضه الله يفسد |
يراوحها إفك وسحر مجمع |
|
ولم تلق سحرا آخر الدهر يصعد (١) |
وقال يمدح هؤلاء الخمسة :
سقى الله رهطا هم بالحجون |
|
بليل وقد هجع النوّم |
قضوا ما قضوا في دجى ليلهم |
|
ومستوسن (٢) القوم لا يعلم |
بها ليل صيد لهم سورة |
|
تداوى بها الأبلخ (٣) المجرم |
شبيه المقاول عند الحجون |
|
بل هم أعزّ وهم أكرم |
وكان أبو طالب رضياللهعنه قد كفل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وربّاه وحامى عنه وناضل كافّة قريش ، ومات وهو مسلم ، وفيما ذكرنا من أخباره دليل على صحّة ذلك ، ونحن ذاكرون أيضا من أخباره وأشعاره ما يدلّ على إسلامه.
قيل : كانت السباع تهرب من أبي طالب رضياللهعنه ، فاستقبله أسد في طريق الطائف وتضعضع له وتمرّغ قبله ، فقال أبو طالب : بحقّ خالقك أن تبيّن لي حالك؟
فقال الأسد : إنّما أنت أبو أسد الله ، ناصر نبيّ الله ومربّيه. فازداد أبو طالب في حب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والإيمان به (٤).
__________________
(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٦٥ ـ ٦٦.
(٢) مستوسن : من الوسن وهو ثقلة النوم ( لسان العرب ١٣ / ٤٤٩ ).
(٣) الأبلخ : من البلخ وهو التكبّر ( لسان العرب ١٣ / ٩ ).
(٤) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٢٧.
والأصل في ذلك أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : خلقت أنا وعليّ من نور واحد نسبّح الله يمنة العرش قبل أن يخلق الله عزّ وجلّ آدم عليهالسلام بألفي عام (١).
وأنشد العبّاس بن عبد المطّلب على النبيّ عليهالسلام :
من قبلها طبت في الظلال وفي |
|
مستودع حيث يخصف الورق |
ثم هبطت البلاد لا بشر |
|
أنت ولا مضغة ولا علق |
بل نطفة تركب السفين وقد |
|
أنجم يسرا (٢) وأهله الغرق |
تنقل من صالب إلى رحم |
|
إذا مضى عالم بدا طبق |
حتى احتوى بيتك المهيمن من |
|
خندف علياء تحتها النطق |
وأنت لمّا ولدت أشرقت الأرض |
|
وضاءت بنورك الافق |
فنحن في ذلك الضياء وفي النور |
|
وسبل الرشاد نحترق |
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا يفضض الله فاك (٣).
وقال المفضّل بن عمرو : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : لمّا ولد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فتح لآمنة بياض فارس وقصور الشام ، فجاءت فاطمة بنت أسد إلى أبي طالب ضاحكة مستبشرة فأعلمته ما قالته آمنة. فقال لها أبو طالب : وتتعجّبين من ذلك! وأعجب من هذا انّك تحبلين وتلدين بوصيّه ووزيره (٤).
وفي رواية ابن مسكان : قال أبو طالب : اصبري لي سبتا آتيك بمثله إلاّ النبوّة.
وقالوا : السبت ثلاثون سنة (٥).
وقال الأوزاعي : كان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في حجر عبد المطّلب ، فلمّا أتى عليه اثنان ومائة سنة ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ابن ثمان سنين جمع بنيه وقال : محمّد يتيم فآووه ، وعائل فأغنوه ، واحفظوا وصيّتي فيه.
فقال أبو لهب : أنا له. فقال : كفّ شرّك عنه.
__________________
(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٢٧.
(٢) في المناقب ألجم نسرا.
(٣) مستدرك الحاكم : ج ٣ ص ٣٢٧ ، المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٢٧.
(٤) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٣٢.
(٥) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٣٢.
فقال عبّاس : أنا له. فقال : أنت غضبان لعلّك تؤذيه.
فقال أبو طالب : أنا له. فقال : أنت له ، يا محمّد أطع له.
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : يا أباه لا تحزن فإنّ لي ربّا لا يضيّعني.
فأمسكه أبو طالب في حجره وقام بأمره يحميه بنفسه وماله وجاهه في صغره من اليهود المرصدة له بالعداوة ومن غيرهم من بني أعمامه ومن العرب قاطبة الذين يحسدونه على ما آتاه الله به النبوّة فيه. وأنشد عبد المطّلب :
اوصيك يا عبد مناف بعدي |
|
بموحّد بعد أبيه فرد (١) |
وقال :
وصيّت من كنّيته بطالب |
|
عبد مناف وهو ذو تجارب |
بابن الحبيب أكرم الأقارب |
|
بابن الذي قد غاب غير آئب (٢) |
فتمثّل أبو طالب وقد كان سمع من الراهب وصفه :
لا توصني بلازم وواجب |
|
بان بحمد الله قول الراهب |
إنّي سمعت اعجب العجائب |
|
من كلّ حبر عالم وكاتب (٣) |
وفي كتاب الشيصان : روى أبو أيّوب الأنصاري أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وقف بسوق ذي المجاز فدعاهم إلى الله ، والعبّاس قائم يسمع الكلام فقال : أشهد أنّك كذّاب ، ومضى إلى أبي لهب فذكر له ذلك ، فأقبلا يناديان : أين ابن أخينا ، هذا كذّاب فلا يغيّرنكم عن دينكم. قال : واستقبل النبيّ عليهالسلام أبو طالب فاكتنفه ، وأقبل على أبي لهب والعبّاس فقال لهما : ما تريدان تبّت أيديكما ، والله أنّه لصادق القيل. ثمّ أنشد أبو طالب يقول :
أنت الأمين أمين الله لا كذب |
|
والصادق القيل لا لهو ولا لعب |
أنت الرسول رسول الله يعلمه |
|
عليك تنزّل من ذي العزّة الكتب (٤) |
__________________
(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٣٥ ـ ٣٦.
(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٣٥ ـ ٣٦.
(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٣٥ ـ ٣٦.
(٤) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٥٦.
وقال ابن عبّاس رضياللهعنه : دخل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الكعبة وافتتح الصلاة ، فقال أبو جهل : من يقوم الى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعري وتناول فرثا ودما وألقى ذلك عليه. فجاء أبو طالب رضياللهعنه وقد سلّ سيفه ، فلمّا رأوه جعلوا ينهضون ، فقال أبو طالب : والله لئن قام منكم أحد جلّلته بسيفي. ثم قال : يا ابن أخي من الفاعل بك هذا؟ قال : عبد الله بن الزبعري ، فأخذ أبو طالب رضياللهعنه فرثا ودما وألقى عليه.
وفي روايات متواترة أنّه أمر عبيده أن يلقوا السلا (١) عن ظهره ويغسلوه ، ثم أمرهم أن يأخذوه فيمرّوا به على أسبلة القوم (٢).
وفي رواية البخاري : أنّ فاطمة عليهاالسلام أماطته عنه ثمّ أوسعتهم شتما وهم يضحكون ، فلمّا سلّم النبيّ عليهالسلام قال : اللهمّ الملأ من قريش ، اللهمّ عليك أبا جهل ابن هشام وعتبه بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط واميّة بن خلف ، فو الله ما سمّى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يومئذ أحدا إلاّ وقد رئي يوم بدر ، وقد أخذ برجله يجرّ إلى القليب مقتولا إلاّ اميّة فإنّه كان منتفخا في درعه فتزايل الناس عن جرّه فأقبروه موضعه وألقوا عليه الحجر (٣).
وفي رواية أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم مرّ بنفر من قريش يجزروا جزورا وكانت تسمّيها الفهيرة وتجعلها على النصب ، فلم يسلّم عليهم حتى انتهى صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى دار الندوة ، فقالت قريش : أيمرّ بنا ابن أبي كبشة ولا يسلّم علينا ، فأيّكم يأتيه فيفسد عليه صلاته؟ فقال عبد الله بن الزبعري السهمي : أنا أفعل. فأخذ الفرث والدم فانتهى به إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو ساجد فملأ به ثيابه ورأسه ولحيته ، فانصرف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حتّى أتى عمّه أبا طالب ، فقال له : يا عمّ من أنا؟ فقال : ولم يا ابن أخي؟ فقصّ عليه القصّة. فقال : وأين تركتهم؟ فقال : بالأبطح. فنادى في قومه يا آل عبد المطّلب ، يا آل هاشم ، يا آل عبد مناف. فأقبلوا إليه من كلّ مكان ملبّين ، فقال : كم أنتم؟ فقالوا : نحن أربعون. فقال : خذوا سلاحكم ، فأخذوا سلاحهم فانطلق بهم حتى انتهى
__________________
(١) السلا : جلدة فيها الجنين من الناس والمواشي.
(٢) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٦٠.
(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٦٠.
إليهم ، فلمّا رأت قريش أبا طالب أرادت أن تفترق فقال : وربّ البنيّة ما يقوم منكم أحد إلاّ جلّلته بالسيف ، ثمّ أتى إلى صفاة كانت بالأبطح فضربها ثلاث ضربات فقطع منها ثلاثة أفهار ، ثمّ قال : يا محمّد سألت من أنت ، ثمّ أنشأ يقول :
أنت الأمين محمّد |
|
قرم (١) أغرّ مسوّد |
لمسوّدين أطايب |
|
كرموا فطاب المولد |
شهم قماقمة (٢) ليوث |
|
غيوث حجل (٣) ترعد |
نعم الارومة ساقها |
|
عمرو الخضمّ الأوحد |
هشم الربيكة (٤) في الجفان |
|
وعيش بكّة أنكد |
فجرت هنالك سنّة |
|
فيها الخبيزة تثرد |
ولنا السقاية في الحجيج |
|
يماث (٥) فيه العنجد (٦) |
والمازمان وما حوى |
|
عرفاتها والمشهد |
وجميع من حجّ الحطيم |
|
لهدينا يتلبّد (٧) |
تبعا لنا في إرثنا |
|
وسراطنا يا أحمد |
نعم المورّث فخرنا |
|
نعم الجليل الأعيد |
فلنا السناء بفضله |
|
ومشاهد لا تجحد |
أنّى تضام ولم أمت |
|
وأنا الشجاع العربد (٨) |
وبنو أبيك كأنّهم |
|
اسد العرين توقّد |
وبطاح مكّة لا يرى |
|
فيها نجيع (٩) أسود |
__________________
(١) القرم من الرجال : السيّد المعظّم ( لسان العرب ١٢ / ٤٧٣ ).
(٢) القمقام والقماقم من الرجال : السيّد الكثير الخير الواسع الفضل ( لسان العرب ١٢ / ٤٩٤ ).
(٣) الحجل : العظيم من كلّ شيء ( لسان العرب ١١ / ١٠١ ).
(٤) الربيكة : الأقطّ والتمر والسمن يعمل رخوا ( لسان العرب ١٠ / ٤٣١ ).
(٥) ماث : أذاب ( لسان العرب ٢ / ١٩٢ ).
(٦) العنجد : الزبيب ( لسان العرب ٣ / ٣١٠ ).
(٧) يتلبد : من لبد بالمكان أقام به ولزق ( لسان العرب ٣ / ٣٨٥ ).
(٨) العربد : الذكر من الأفاعي ( لسان العرب ٣ / ٢٨٩ ).
(٩) النجعة : طلب الكلأ ومساقط الغيث ( لسان العرب ٨ / ٣٤٧ ).
ويجرّ طائرها فلا |
|
يزقوا ولا يتغرّد |
حسدوا النبوّة أن ترى |
|
في هاشم وتمرّدوا |
جره عليها غيرة |
|
فليرغمنّ الحسّد |
ولأملأنّ وجوههم |
|
وهم عرين (١) ركّدوا |
فيها بصقر قماية |
|
ووجوههم تتربّد (٢) |
فعل الأعزّ بذي |
|
المذلّة والحسام مجرّد |
وأبيك لو لا أن يقال |
|
صأصأ (٣) الهزبر المزبد (٤) |
لوجدتني مبد بما |
|
يخلو عليك وعرّدوا (٥) |
فلقد عرفتك صادقا |
|
بالقول لا تتفنّد |
ما زلت تنطق بالصواب |
|
وأنت طفل أمرد |
مبدي النصيحة جاهدا |
|
وبك الغمامة ترعد |
يسقى بوجهك صوبها |
|
وطراؤها والجد حد |
فيك الوسيلة في |
|
الشدائد والربيع المرفد (٦) (٧) |
ثمّ قال : يا محمّد أيّهم الفاعل؟ فأشار النبيّ عليهالسلام إلى ابن الزبعري ، فدعاه أبو طالب فوجى أنفه حتى أدماها ، ثمّ أمر بالفرث والدم فأمرّ على رءوس الملأ ، ثم قال : يا ابن أخي أرضيت. ثم قال : سألت من أنت ، ثم نسبه إلى آدم عليهالسلام. ثمّ قال : أنت والله أشرفهم حسبا وأرفعهم منصبا ، يا معشر قريش من شاء منكم أن يتحرّك فليفعل ، أنا الذي تعرفوني.
__________________
(١) العرين : اللحم ( لسان العرب ١٣ / ٢٨١ ).
(٢) تربّد وجهه : أي تغيّر من الغضب ( لسان العرب ٣ / ١٧٠ ).
(٣) صأصأ من الرجل : فرق منه واسترخى ، وصأصأة منّي أي خوفا وذلاّ ( لسان العرب ١ / ١٠٧ ).
(٤) رجل مزبد : إذا غضب وظهر على صماغيه زبدتان ( لسان العرب ٣ / ١٩٣ ).
(٥) عرد : اشتدّ ( لسان العرب ٣ / ٢٨٧ ).
(٦) الرّفد بالكسر : العطاء والصلة ، والمرفد : المعونة ( لسان العرب ٣ / ١٨١ ).
(٧) روى معظمها ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة : ج ١٤ ص ٧٧.
فأنزل الله تعالى صدرا من سورة الأنعام في قوله : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً ) (١) إلى رأس الثلاثين منها ، فلو كان أبو طالب كافرا كما ذكروا ما قال : « أنت الأمين » ولا قال : « حسدوا النبوّة » ولا وصفه بالصدق وأنّه مبدي النصيحة وأنّه يستسقى به الغمام. وقال أبو طالب :
تطاول ليلي بهمّ يصب |
|
ودمعي كسحّ (٢) السقاء السرب (٣) |
ولعب قصيّ بأحلامها |
|
وهل يرجع الحلم بعد اللعب |
ونفي قصيّ بني هاشم |
|
كنفي الطهاة (٤) لطاف الحطب |
وقول لأحمد أنت امرؤ |
|
خلوق الحديث ضعيف النسب |
ألا إنّ أحمد قد جاءهم |
|
بحقّ ولم يأتهم بالكذب |
على أنّ إخواننا وازروا |
|
بني هاشم وبني المطّلب |
هما إخوان لعظم اليمين |
|
امرا علينا كعقد الكرب (٥) |
فيا آل قصيّ ألم تخبروا |
|
بما قد خلا من شئون العرب |
فلا تمسكنّ بأيديكم |
|
بعيد الانوف بعجب الذنب (٦) |
ورمتم بأحمد ما رمتم |
|
على الآصرات (٧) وقرب النسب |
فإنّا وما حجّ من راكب |
|
وكعبة مكّة ذات الحجب |
تنالون أحمد أو تصطلوا |
|
بحدّ الرماح وحدّ القضب (٨) |
وتعترفوا بين أبياتكم |
|
صدور العوالي وخيلا عصب (٩) |
__________________
(١) منية الراغب في إيمان أبي طالب : ص ٨٠.
(٢) كسح بالتشديد : السيلان من فوق.
(٣) السرب بالتحريك : الماء السائل.
(٤) الطاهي : الطباخ والشوّاء والخباز وكل معالج للطعام ، والجمع طهاة.
(٥) الكرب بالتحريك : الحبل الذي يشد في وسط الدلو ليلي الماء.
(٦) في المصدر : بعيد الانوق لعجب الذنب.
(٧) الآصرة : الرحم أو القرابة.
(٨) القضب : السيف القاطع.
(٩) العوالي : جمع العالية وهي أعلى القناة أو رأسه أو النصف الذي يلي السنان. والعصب : جمع عصبة بالضم : وهي من الرجال والخيل والطير ما بين العشرة الى الأربعين.
وله أيضا :
وقالوا خطّة (١) جورا وحمقا |
|
وبعض القول أبلج مستقيم |
ليخرج هاشم فيصير منها |
|
بلاقع (٢) بطن مكّة والحطيم |
فمهلا قومنا لا تركبونا |
|
بمظلمة لها أمر وخيم |
فيندم بعضكم ويذلّ بعض |
|
وليس بمفلح أبدا ظلوم |
فلا والراقصات بكلّ خرق (٣) |
|
إلى معمور مكّة لا تريم (٤) |
طوال الدهر حتى تقتلونا |
|
ونقتلكم وتلتقي الخصوم |
ويعلم معشر قطعوا وعقّوا |
|
بأنّهم هم الحدّ (٥) الظليم |
أرادوا قتل أحمد ظالميه |
|
وليس لقتله فيهم زعيم |
ودون محمد فتيان قوم |
|
هم العرنين (٦) والعظم الصميم (٧) |
وله أيضا :
فأمسى ابن عبد الله فينا مصدّقا |
|
على ساخط من قومنا غير معتب |
فلا تحسبونا خاذلين محمّدا |
|
لذي غربة منّا ولا متقرّب |
ستمنعه منّا يد هاشميّة |
|
مركّبها في الناس خير مركّب |
فلا والذي تخذى له كلّ نضوة |
|
طليح نجى نخلة فالمحصّب (٨) |
__________________
(١) الخطّة بالضم : شبه القصة والأمر والجهل.
(٢) البلاقع جمع بلقع : الأرض القفر.
(٣) رقص الجمل : ركض ، والخرق : الأرض الواسعة والقفر.
(٤) تريم من رام الشيء : أراده.
(٥) في المصدر : الجلد ، وجلده على الأمر : أكرهه.
(٦) العرنين : السيّد الشريف.
(٧) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٦٣ ـ ٦٤.
(٨) خذى كرضى : استرخى ، والنضوة والطليح : الإبل المهزول ، والنجى : السريع وناقة نجية أي سريعة ، والنجل بالموحدة الفوقانية ثم الجيم : السير الشديد ، والمحصّب من حصب بالتشديد المسرع في الهرب ، يقال حصب عنه أي تولّى وأسرع في الهرب. بجنبى ، وفي المناقب نجى. في الأصل.
يمينا صدقنا الله فينا ولم نكن |
|
لنحلف بطلا بالعتيق المحجّب |
نفارقه حتى نصرّع حوله |
|
وما بال تكذيب النبيّ المقرّب (١) |
وكلّ هذه الأشعار ممّا تدلّ على إيمانه ، ولو اعتبر كلّ ما له من نظم أو نثر قاله منذ ولد محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم لوجده دالاّ على إسلامه.
وبعثت قريش إلى أبي طالب : ادفع إلينا محمّدا نقتله ونملّكك علينا. فأنشأ أبو طالب القصيدة اللامية التي أولها :
لمّا رأيت القوم لا ودّ فيهم |
|
وقد قطعوا كلّ العرى والوسائل |
وقد صارحونا بالعداوة والأذى |
|
وقد طاوعوا أمر العدوّ المزايل (٢) |
وفي هذه يقول :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه |
|
ثمال اليتامى عصمة للأرامل (٣) |
وهي قصيدة طويلة ، فلمّا سمعوا هذه القصيدة أيسوا منه.
ولمّا رأت قريش أنّ أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يعلو قالوا : لا نرى محمّدا يزداد إلاّ كبرا وتكبّرا وإن هو إلاّ ساحر أو مجنون ، وتوعّدوه وتعاقدوا لئن مات أبو طالب لتجتمعنّ قبائل قريش كلّها على قتله. وبلغ ذلك أبا طالب فجمع بني هاشم وأحلافهم من قريش فوصّاهم برسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقال : ابن أخي نبيّ كما يقول ، أخبرنا بذلك آباؤنا وعلماؤنا أنّ محمّدا نبيّ صادق وأمين ناطق ، وأنّ شأنه أعظم شأن ، ومكانه من ربّه أعلى مكان ، فأجيبوا دعوته ، واجتمعوا على نصرته ، وراموا عدوّه من وراء حوزته ، فإنّه الشرف الباقي لكم على الدهر. وأنشأ يقول :
اوصي بنصر النبيّ الخير مشهده |
|
عليّا ابني وعمّ الخير عبّاسا |
وحمزة الأسد المخشي صولته |
|
وجعفرا أن يذودا دونه الناسا (٤) |
وهاشما كلّها اوصي بنصرته |
|
أن يأخذوا دون حرب القوم أمراسا (٥) |
__________________
(١) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٦٤.
(٢) السيرة النبوية لابن هشام : ج ١ ص ٢٩١.
(٣) شرح ابن أبي الحديد : ج ٣ ص ٣٢٠.
(٤) في المصدر : تذودوا دونه الباسا.
(٥) المرس : المجرّب في الحروب ، جمع أمراس.
كونوا فدى لكم نفسي وما ولدت |
|
من دون أحمد عند الروع أتراسا (١) |
بكلّ أبيض مصقول عوارضه |
|
تخاله في سواد الليل مقباسا (٢) (٣) |
وقد أجمع أهل البيت عليهمالسلام على أنّ أبا طالب رضياللهعنه مات مسلما ، وإجماعهم حجّة على ما ذكر في غير موضع وسبب الشبهة في ذلك أنّ أمير المؤمنين عليّا عليهالسلام كان يعلن نفاق أبي سفيان ، فشكى معاوية ذلك إلى عمرو ومروان وعبد الله بن عامر فقالوا له : إنّ إسلام أبيه أخفى من نفاق أبيك فأظهر كفره ، فجعل يقول : إنّ أبا طالب مات كافرا ، وأمر الناس بذلك ، فصار سنّة.
والقرآن المجيد يدلّ على إيمانه في قوله عزّ وجلّ ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (٤) فلو كان عبد الله وأبو طالب مشركين لكان محمّد وعلي ابني نجسين ، وهما الطيّبان الطاهران.
وقال الله تعالى : ( وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) (٥) قسم بلام التأكيد لناصره ، ولم يكن له ناصر سوى أبي طالب ، والله تعالى إنّما ينصر المؤمنين لقوله : ( وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) (٦).
واستفاض الخبر أنّ جبريل عليهالسلام نزل على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال له : يا محمّد إنّ الله يقرؤك السلام ويقول لك : اخرج من مكّة فقد مات ناصرك (٧).
تاريخ الطبري : لمّا نثرت التراب على رأس رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جعل يقول : ما نالت قريش منّي ما أكرهه حتى مات أبو طالب (٨) ثم لم يستقرّ حتى خرج [ إلى ] الطائف.
وممّا يدلّ على إسلامه أيضا ما رثاه به أمير المؤمنين عليهالسلام :
أبا طالب عصمة المستجير |
|
وغيث المحول ونور الظلم |
__________________
(١) الروع : الفزع ، والأتراس : جمع الترس بالضم : الجنّة.
(٢) المقباس : ما قبست به النار.
(٣) المناقب لابن شهرآشوب : ج ١ ص ٦١.
(٤) التوبة : ٢٨.
(٥) الحجّ : ٤٠.
(٦) الروم : ٤٧.
(٧) بحار الأنوار : ج ٣٥ ص ١٥٨ باب ٣.
(٨) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ٣٤٤.
لقد هدّ فقدك أهل الحفاظ |
|
فصلّى عليك وليّ النعم |
ولقّاك ربّك رضوانه |
|
لقد كنت المطهّر من خير عم (١) |
وقد تواترت الأخبار (٢) عن زين العابدين عليهالسلام وأنّه سئل عن أبي طالب أكان مؤمنا؟ فقال : نعم.
فقيل : إنّ هاهنا قوم يزعمون أنّه مات كافرا.
فقال : وا عجباه! وكيف لا أعجب! أيطعنون على أبي طالب أو على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد نهاه الله عزّ وجلّ أن يقرّ مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن ، بل حرّمهنّ على الكفّار في مواضع كثيرة ، ولا يشكّ أحد أنّ فاطمة بنت أسد رضي الله عنها زوجة أبي طالب مؤمنة قديمة الإيمان بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد روى قوم أنّها أوّل من آمن به قبل أن يبعث لمّا رأت من دلائله عليهالسلام وأنّ أبا طالب رضياللهعنه مات عنها وورثته ، وقد قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا توارث بين أهل ملّتين » (٣) أو كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يدع مؤمنة مع كافر؟! ويدع مؤمنة ترث كافرا؟! ولكنّ القوم عادوا عليّا عليهالسلام فلم يجدوا فيه مقالا فرموا أباه بالكفر عداوة لعليّ عليهالسلام.
وعن أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهماالسلام أنّه قال : كان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهالسلام يعجبه أن يروى شعر أبي طالب رضياللهعنه وأن يدوّن ، وقال عليهالسلام : تعلّموه وعلّموا أولادكم فإنّه كان على دين الله وفيه علم كثير (٤).
وعن العسكري الحسن عن آبائه ـ عليه وعليهمالسلام ـ في حديث طويل يذكر أنّ الله تعالى أوحى إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إني أيّدتك بشيعتين : شيعة تنصرك سرّا ، وشيعة تنصرك علانية. فأمّا التي تنصرك سرّا فسيّدهم وأفضلهم عمّك أبو طالب ، وأمّا التي تنصرك علانية وتجهر جهرة فسيّدهم وأفضلهم عليّ ابنه (٥).
__________________
(١) تذكرة الخواص : ص ٩.
(٢) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٣ ص ٣١٦.
(٣) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ٣ ص ٣١٦.
(٤) بحار الأنوار : ج ٣٥ ص ١١٥ باب ٣ ح ٥٤.
(٥) الغدير : ج ٧ ص ٣٩٥ ح ٣١ نقلا عن كتاب الحجّة للسيد ابن سعد : ص ١١٥.
قال : وقال : إنّ أبا طالب كمؤمن آل فرعون يكتم إيمانه (١).
وروى ابن بابويه أنّ عبد العظيم بن عبد الله الحسني المدفون بالري كان مريضا فكتب إلى عليّ بن موسى الرضا عليهالسلام : عرّفني يا ابن رسول الله عن الخبر المروي « أنّ أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه ».
فكتب إليه الرضا عليهالسلام : بسم الله الرحمن الرحيم أمّا بعد فإنّك إن شككت في إيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار والسلام (٢).
وقد تواترت الأخبار بضرب (٣) النبيّ عليهالسلام جنب أبي طالب رضياللهعنه بعد ما مات وأدرج في كفنه ، وقوله له صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يضرب على جنبه : يا عمّ يا عمّ كفلت وربّيت صغيرا وآويت كبيرا فجزاك الله عنّي خيرا (٤).
وقد تجد لأبي طالب رضياللهعنه في الأخبار وفي شعره (٥) ألفاظا تدلّ على إيمانه ، من ذلك قوله في رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : انّه الأمين ، وانّه صادق ، وانّه رسول الله ، وانّه أخو موسى وعيسى ، يذكر ذلك في شعره : ولم يكذب قطّ ، وأنّ الذي يخبر به كائن لا محالة. وقد شرح ذلك طوق (٦) في تأريخه ، ولو لا التطويل لأوردنا ذلك بأسره.
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري رضياللهعنه قال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لعليّ عليهالسلام : يا عليّ خرجت أنا وأنت من نكاح ولم نخرج من سفاح من لدن آدم الى أبي عبد الله وأبيك أبي طالب ، ما خرجنا من أصلاب المشركين ولا استودعنا أرحام المشركات من لدن آدم إلى أن ولدنا واخرجنا إلى الدنيا ، ولقد سبّحنا بحمد ربّنا في أصلاب الطاهرين وأرحام الطاهرات ، وما كان الله يودع النطفة التي خلقنا منها مشركا ولا كافرا. أورد هذا الخبر أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن
__________________
(١) الغدير : ج ٧ ص ٣٩٥ ح ٣١ نقلا عن كتاب الحجّة للسيد ابن سعد : ص ١١٥.
(٢) بحار الأنوار : ج ٣٥ ص ١١٠ باب ٣ ح ٤١.
(٣) في المصدر : مسح.
(٤) تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ص ٣٥ وفيه : « يمسح » بدل « يضرب ».
(٥) في هامش الأصل : أشعاره خ ل.
(٦) كذا ، والظاهر أنّه رمز ولم نتحقّق المقصود منه.