أحمد بن محمّد مهدي النّراقي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد المقدسة
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-204-0
ISBN الدورة:
الصفحات: ٤٤٥
مع أنّ الاكتفاء بالواحدة للولادة والإتيان بالجمع لغيرها في صحيحتي الحلبي وابن سنان مشعر بالفرق.
والأمر بنظر النساء في رواية السكوني يدلّ على عدم الاكتفاء بالواحدة والاثنتين ؛ إذ مع الاكتفاء لم يجز الأمر بنظر الزائدة على القدر المحتاج إليه إلى العورة.
وقد يؤيَّد ذلك أيضاً ببعض الروايات الدالّة على أنّ شهادة امرأتين عند الله تعالى شهادة رجل (١) ، وفيه تأمّل.
نعم ، يمكن تأييد ذلك بل الاستدلال بما يأتي من قوله عليهالسلام بعد حكمه بنفوذ شهادة المرأة في ربع الوصيّة أنّه : « بحساب شهادتها » (٢) ؛ حيث يدلّ على أنّ شهادتها المعتبرة تامّة مطلقاً هي الأربع.
وفي موثّقة سماعة : « القابلة تجوز شهادتها في الولد على قدر شهادة امرأة واحدة » (٣) ، وفي صحيحة ابن سنان الآتية (٤) أيضاً مثله.
خلافاً للمحكيّ عن المفيد والديلمي ، فقالا بقبول شهادة امرأتين في عيوب النساء ، والولادة ، والاستهلال ، والحيض ، والنفاس (٥) ؛ للصحيحتين المصرّحتين بالاكتفاء بالقابلة في الولادة.
وهما غير دالّتين على التعميم الذي ذكراه أولاً ، ولا على الترتيب الذي ذكراه ثانياً مطلقاً.
__________________
(١) الوسائل ٢٧ : ٢٧١ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٥.
(٢) انظر ص ٣٠٣.
(٣) التهذيب ٦ : ٢٧٠ ، ٧٣٠ ، الإستبصار ٣ : ٣١ ، ١٠٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣٥٧ أبواب الشهادات ب ٢٤ ح ٢٣.
(٤) انظر ص ٣٠١.
(٥) المفيد في المقنعة : ٧٢٧ ، الديلمي في المراسم : ٢٣٣.
والتمسّك فيه بالجمع بينهما وبين ما يدلّ على جواز شهادة الامرأتين في الاستهلال غير جيّد ؛ لأنّ جوازها لا يدلّ على عدم جواز الأقلّ مع أنّ هذا جمع بلا شاهد ولا على ثبوت تمام المشهود به ؛ لعدم إطلاقهما ، ووجود المقيّد بالربع كما يأتي ثالثاً.
وللمحكيّ عن الإسكافي ، فقبل شهادة الواحدة في الأُمور المذكورة بحسابها (١) ؛ ولعلّ مستنده القياس على الاستهلال والوصيّة ، وفساده عندنا ظاهر.
وهل تثبت الأُمور المذكورة بشهادة الرجلين ورجل وامرأتين حيث جاز نظر الرجل ، أو نظر وتاب أم لا؟
ظاهر كلام الأصحاب : نعم ، وهو كذلك ؛ لعمومات قبول شهادة العدلين والعدل والامرأتين ، كمرسلة يونس وغيرها (٢) ، بل لولا الدليل على اختصاص الثبوت بالرجل واليمين بالدين لقلنا به أيضاً.
خلافاً للمحكيّ عن القاضي (٣) ؛ معلّلاً بحرمة نظر الرجال إليه.
وجوابه يظهر ممّا ذكرنا ، مع أنّ المرأة أيضاً كذلك ؛ لحرمة نظرها إلى عورة المرأة ، والضرورة المجوّزة قد تحصل في الرجال أيضاً.
المسألة الثالثة : قد عرفت أنّ ممّا يثبت بشهادة النساء منفردات ومنضمّات ولادة الطفل حيّاً ؛ ودلّت عليه المستفيضة المتقدّمة.
وتمتاز هذه عن غيرها بأنّها تقبل فيها شهادة امرأة واحدة أيضاً ، ولكن في ربع ميراثه ، وشهادة امرأتين في نصفه ، وشهادة ثلاث في ثلاثة
__________________
(١) نقله عنه في المختلف : ٧١٦.
(٢) المتقدّمة في ص ٢٩١ ٢٩٣.
(٣) المهذّب ٢ : ٥٥٩.
أرباعه ، وإذا كملن الأربع يثبت تمام الميراث ؛ بالإجماع كما صرّح به في السرائر (١) وبعض المتأخّرين أيضاً (٢).
وتدلّ على أصل الثبوت بالواحدة صحيحتا الحلبي وصحيحة ابن سنان المتقدّمة (٣) ، ورواية جابر : « شهادة القابلة جائزة على أنّه استهلّ أو برز ميّتاً إذا سُئل عنها فعدلت » (٤).
وعلى ثبوت الربع بالواحدة موثّقة سماعة المتقدّمة ، وصحيحة عمر بن يزيد : عن رجل مات وترك امرأته وهي حامل ، فوضعت بعد موته غلاماً ، ثم مات الغلام بعد ما وقع على الأرض ، فشهدت المرأة التي قبلتها به أنّه استهلّ ، وصاح حين وقع على الأرض ، ثم مات ، قال : « على الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام » (٥).
وعلى ثبوت الربع بها والنصف بالاثنتين : صحيحة ابن سنان : « تجوز شهادة القابلة في المولود إذا استهلّ وصاح في الميراث ، ويورث الربع من الميراث بقدر شهادة امرأة » ، قلت : فإن كانتا امرأتين؟ قال : « تجوز شهادتهما في النصف من الميراث » (٦).
وعلى ثبوت ثلاثة أرباع بالثلاث والكلّ بالأربع : مرسلة الفقيه ، قال بعد
__________________
(١) السرائر ٢ : ١٣٨.
(٢) كالفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٣٨٠.
(٣) في ص ٢٩٧.
(٤) التهذيب ٦ : ٢٧١ ، ٧٣٧ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٢ أبواب الشهادات ب ٢٤ ح ٣٨.
(٥) الكافي ٧ : ٣٩٢ ، ١٢ ، الفقيه ٣ : ٣٢ ، ١٠١ ، التهذيب ٦ : ٢٦٨ ، ٧٢٠ ، الإستبصار ٣ : ٢٩ ، ٩٢ ، الوسائل ٢٧ : ٣٥٢ أبواب الشهادات ب ٢٤ ح ٦ ، بتفاوت يسير.
(٦) الكافي ٧ : ١٥٦ ، ٤ ، التهذيب ٦ : ٢٧١ ، ٧٣٦ ، الإستبصار ٣ : ٣١ ، ١٠٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٤ أبواب الشهادات ب ٢٤ ح ٤٥ ، بتفاوت يسير.
نقل صحيحة عمر بن يزيد ـ : وفي رواية اخرى : « إن كانت امرأتين تجوز شهادتهما في نصف الميراث ، وإن كنّ ثلاث نسوة جازت شهادتهنّ في ثلاثة أرباع الميراث ، وإن كنّ أربعاً جازت شهادتهنّ في الميراث كلّه » (١).
ويمكن إثبات الربعين والثلاث والأربع مضافاً إلى الإجماع المركّب بقوله عليهالسلام في الصحيحة الثانية : « بقدر شهادة امرأة » فإنّها تدلّ على أنّ شهادة كلّ امرأة تثبت الربع.
وأمّا ما قيل من أنّ رواية الواحدة تكفي الأربع ؛ إذ يصدق على كلّ واحدة منها أنّها شهدت للربع (٢).
فكان حسناً لو تضمّنت لثبوت الربع بشهادة كلّ مرأة ، وليست كذلك ، بل حكمت بثبوت الربع بعد السؤال عن شهادة القابلة ، فيمكن أن يكون السبب للثبوت هو شهادة المرأة ، واحدة كانت أو أكثر.
ثم هذه الأخبار كما ترى مخصوصة بالقابلة ، أمّا الأُوليان فظاهرتان ، وأمّا الأُخريان فلرجوع الضمائر في قوله : « فإن كانتا » و « إن كانت » و : « إن كنّ » إلى المرأة التي قبلتها وإلى القابلة ، ولا أقلّ من احتمال ذلك.
ولا يمكن التمسّك بعدم القول بالفصل ؛ لتخصيص الشيخ في النهاية والحلّي في السرائر والمحقّق في النافع القابلة بالذكر (٣).
إلاّ أنّه يمكن إثبات الحكم في غيرها بقوله : « على قدر شهادة امرأة واحدة » وقوله : « بقدر شهادة امرأة » في الموثّقة والصحيحة ، فتأمّل.
__________________
(١) الفقيه ٣ : ٣٢ ، ١٠٢ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٥ أبواب الشهادات ب ٢٤ ح ٤٨.
(٢) انظر الرياض ٢ : ٤٤٦.
(٣) النهاية : ٣٣٣ ، السرائر ٢ : ١٣٨ ، النافع : ٢٨٨.
فرعان :
أ : لو وضعت الحامل توأمين تقبل شهادة المرأة الواحدة في ثبوت الربع لكلّ منهما ؛ لصدق الغلام على كلّ منهما.
ب : فإن قيل : يثبت بشهادة المرأة الواحدة التولّد حيّاً وميّتاً كما صُرّح به في رواية جابر وإذا ثبتت الحياة يثبت تمام الميراث.
قلنا : لم يصرّح في رواية جابر بثبوت الحياة بشهادة الواحدة ، بل قال بنفوذ شهادتها ، ولازمه ترتّب تمام الأثر عليها. وعلى هذا ، فيختصّ الحكم بالميراث ، ولا يتعدّى إلى غيره إن كان.
المسألة الرابعة : وممّا يثبت بشهادة المرأة : الوصيّة بالمال ، وهي أيضاً كسابقتها ، يثبت الربع بالواحدة ، والنصف بالاثنتين ، وثلاثة أرباع بالثلاث ، والكلّ بالأربع ؛ بالإجماع ، كما في السرائر (١) وغيره (٢).
أمّا أصل ثبوت الوصيّة بالمرأة فتدلّ عليه رواية يحيى بن خالد : رجل مات وله امّ ولد ، وقد جعل لها سيّدها شيئاً في حياته ، ثم مات ، قال : فكتب عليهالسلام : « لها ما أثابها به سيّدها في حياته معروف ذلك لها ، تُقبَل على ذلك شهادة الرجل والمرأة والخدم غير المتّهمين » (٣).
وأمّا التفصيل المذكور فلصحيحة ربعي : في شهادة امرأة حضرت رجلاً يوصي ليس معها رجل؟ فقال : « يجاز ربع ما أوصى بحساب شهادتها » (٤).
__________________
(١) السرائر ٢ : ١٣٨.
(٢) كالخلاف ٢ : ٦٠٩ ، كشف اللثام ٢ : ٣٨٠.
(٣) الفقيه ٣ : ٣٢ ، ٩٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٤ أبواب الشهادات ب ٢٤ ح ٤٧.
(٤) الكافي ٧ : ٤ ، ٤ ، الفقيه ٤ : ١٤٢ ، ٤٨٦ ، التهذيب ٦ : ٢٦٨ ، ٧١٨ ، الإستبصار ٣ : ٢٨ ، ٨٩ ، الوسائل ٢٧ : ٣٥٥ أبواب الشهادات ب ٢٤ ح ١٦ ، بتفاوت.
وصحيحة محمّد بن قيس : « قضى أمير المؤمنين عليهالسلام في وصيّة لم يشهدها إلاّ امرأة ، فقضى أن تجاز شهادة المرأة في ربع الوصيّة » (١).
وموثّقة أبان : في وصيّة لم يشهدها إلاّ امرأة ، فأجاز شهادة المرأة في الربع من الوصيّة بحساب شهادتها (٢).
والتعدّي إلى الربعين فما زاد بالإجماع المركّب ، وقوله : بحساب شهادتها.
وأمّا بعض الأخبار الدالّة على عدم قبول شهادتهنّ منفردات في الوصيّة مطلقاً ـ كصحيحة إبراهيم بن محمّد (٣) وابن بزيع (٤) فلا تصلح لمعارضة ما مرّ ؛ لشذوذها المخرج لها عن الحجّية ، مضافاً إلى موافقتها للعامّة كما صرّح به شيخ الطائفة (٥) ، ويشعر به بعض المعتبرة.
فروع :
أ : هل يشترط قبول شهادة المرأة في هذه المسألة والسابقة عليها بتعذّر الرجال كما في نهاية الشيخ والسرائر وعن القاضي وابن حمزة (٦)
__________________
(١) التهذيب ٦ : ٢٦٧ ، ٧١٧ وج ٩ : ١٨٠ ، ٧٢٠ ، الإستبصار ٣ : ٢٨ ، ٨٨ ، الوسائل ٢٧ : ٣٥٥ أبواب الشهادات ب ٢٤ ح ١٥.
(٢) الكافي ٧ : ٤ ، ٥ ، التهذيب ٩ : ١٨٠ ، ٧٢٢ ، الوسائل ١٩ : ٣١٧ أبواب أحكام الوصايا ب ٢٢ ح ٢ ، بتفاوت يسير.
(٣) المتقدّمة في ص ٢٩٣.
(٤) التهذيب ٦ : ٢٨٠ ، ٧٧١ ، الإستبصار ٣ : ٢٨ ، ٩١ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٢ أبواب الشهادات ب ٢٤ ح ٤٠.
(٥) الاستبصار ٣ : ٢٩.
(٦) النهاية : ٣٣٣ ، السرائر ٢ : ١٣٨ ، القاضي في المهذّب ٢ : ٥٥٩ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢٢٢.
أو لا ، كما هو مقتضى إطلاق كلام الأكثر؟
قيل : مقتضى إطلاق النصوص : الثاني (١).
أقول : أين إطلاق النصوص؟! أمّا أخبار المسألة الأُولى فالشائع الغالب المتبادر فيها يوجب انصرافها إلى صورة التعذّر ، وأمّا الثانية فغير واحدة من أخبارها مخصوصة بصورة التعذّر.
نعم ، ظاهر إطلاق رواية يحيى القبول مطلقاً ، ولعلّه يكفي في إثباته ، والله العالم.
ب : في ثبوت النصف بالرجل في المسألتين ؛ لمساواته الامرأتين في المعنى ، أو الربع ؛ للفحوى ، أو سقوط شهادته رأساً ؛ لخروجه عن مورد النصوص. أوجه ، أوجهها الأخير ، وفاقاً للإيضاح (٢) وغيره ؛ للأصل.
واختار في القواعد والروضة والمسالك الوسط (٣) ؛ لما مرّ.
ويضعّف بعدم معلوميّة العلّة في الأصل ، فمن أين الأولويّة؟! ج : لا يختصّ قبول الوصيّة على التفصيل المذكور بالوصيّة لشخص معيّن ، بل يجري في الوصيّة للفقراء ، ووجوه البرّ ، وسائر المصارف العامّة ، والعبادات العالميّة والبدنيّة ، والعتق ، والوقف ، وغيرها ؛ لإطلاق النصوص.
د : لو أقرّ الميّت حال حياته بشيء لشخص من دين أو عين ، واكتفى بالإقرار ، فهو ليس وصيّة ، فلا يثبت بما تثبت به الوصيّة. ولو ضمّ معه قوله : أعطوه بعد مماتي ، كان وصيّة.
__________________
(١) كما في الرياض ٢ : ٤٤٦.
(٢) الإيضاح ٤ : ٤٣٥.
(٣) القواعد ٢ : ٢٣٩ ، الروضة ٣ : ١٤٦ ، المسالك ٢ : ٤١٤.
هـ : لو أوصى بالزائد عن الثلث اعتبر الربع والربعان والثلاثة أرباع ممّا أوصى به ، لا من الثلث ، فيحكم بثبوت ربع ما أوصى به مثلاً ، ويعمل فيه ما يعمل في الوصيّة ، من الرجوع إلى الثلث ، وطرح ما زاد.
و : لو أوصى بعين لا يمكن تقسيمه إلاّ بضرر كزوج خفّ ، أو فرد صندوق ـ يشترك فيه الموصى له بقدر ما ثبت له من الربع وغيره.
ز : لو أوصى بما لا ربع له كنقل نعشه إلى أحد المشاهد لم يثبت فيه شيء ؛ إذ لا ربع له.
ولا يرجع إلى الأُجرة ؛ لعدم كونها موصى بها ، ويحتمل الرجوع إليها ؛ لأنّ الوصيّة بالنقل تستلزم الوصيّة بها ، فيعمل في الربع ونحوه بما يعمل به في الوصيّة بما لا يفي بعمل أوصى به ، فيرجع إلى الورثة على الأظهر.
ونحوه لو أوصى ببناء قنطرة أو رباط أو مسجد على نحو معيّن ، واحتمال الرجوع إلى الأُجرة هنا أظهر.
ج : هل يجوز للمرأة الواحدة ونحوها تضعيف ما أوصى به في الشهادة حتى يثبت تمام الوصيّة فتشهد فيما أوصى بواحد بأربعة ، ولو كانتا اثنتين فباثنين حتى يثبت الواحد أم لا؟
الظاهر : العدم ؛ لكونه كذباً ، ولا دليل على تجويزه هنا.
نعم ، لو كذبت لم تضمن قدر الوصيّة ؛ للأصل.
ولو كذبت ، فإن علم به الحاكم ردّ شهادتها في الزائد على الوصيّة ، وحكم بربع ما أوصى ؛ وإن لم يعلم يحكم بالربع.
ط : كلّ ما ذكر فيه ردّ شهادة المرأة وعدم قبولها إنّما هو إذا لم يبلغ حدّ الشياع المفيد للعلم للحاكم ، وإن بلغ فيعمل بمقتضاها ؛ لوجوب عمل
الحاكم بعلمه. وكذا لو ضمّت مع شهادتها القرائن المفيدة للعلم.
ولنختم ذلك الفصل بمسائل أربع :
المسألة الأُولى : اختلف الأصحاب في اشتراط الحرّية في قبول الشهادة وعدمه على سبعة أقوال :
الأول : عدمه ، فتقبل شهادة المملوك مطلقاً ، حكي عن الجامع والشهيد الثاني (١) رحمهالله وتبعهما جمع من متأخّري المتأخّرين ، منهم : صاحب الكفاية والمفاتيح وشارحه (٢) وغيرها (٣) ، ويظهر من المحقّق الأردبيلي الميل إليه (٤).
لعمومات قبول شهادة العدل كتاباً وسنّة ، وخصوص المعتبرة المستفيضة : كصحيحة البجلي المتضمّنة لحكاية درع طلحة ، وفيها حكاية عن أمير المؤمنين عليهالسلام في ردّ شريح : « فقلتَ : هذا مملوك ، ولا أقضي بشهادة المملوك ، وما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلاً » (٥).
وصحيحة اخرى له : « لا بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلاً » (٦).
__________________
(١) الجامع للشرائع : ٥٤٠ ، الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤٠٧.
(٢) الكفاية : ٢٨٣ ، المفاتيح ٣ : ٢٨١.
(٣) كالرياض ٢ : ٤٣٦.
(٤) زبدة البيان : ٦٩٢ ، مجمع الفائدة ١٢ : ٤١٠ ٤١٢.
(٥) الكافي ٧ : ٣٨٥ ، ٥ ، الفقيه ٣ : ٦٣ ، ٢١٣ ، التهذيب ٦ : ٢٧٣ ، ٧٤٧ ، الإستبصار ٣ : ٣٤ ، ١١٧ ، الوسائل ٢٧ : ٢٦٥ أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ب ١٤ ح ٦ ، بتفاوت.
(٦) الكافي ٧ : ٣٨٩ ، ١ ، التهذيب ٦ : ٢٤٨ ، ٦٣٤ ، الإستبصار ٣ : ١٥ ، ٤٢ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٥ أبواب الشهادات ب ٢٣ ح ١.
وحسنة العجلي : عن المملوك تجوز شهادته؟ قال : « نعم ، وإنّ أول من ردّ شهادة المملوك لَفلان » (١).
وحسنة محمّد : في شهادة المملوك ، قال : « إذا كان عدلاً فهو جائز الشهادة ، إنّ أول من ردّ شهادة المملوك عمر بن الخطّاب » (٢).
وصحيحة محمّد : « تجوز شهادة العبد المسلم على الحرّ المسلم » (٣).
وهي تدلّ على جواز شهادته على غير الحرّ وغير المسلم بالطريق الأولى ، وعدم القول بالفصل.
الثاني : عدم القبول مطلقاً ، وهو مذهب العماني (٤) ، ونسبه في المسالك إلى أكثر العامّة (٥) ، ويظهر من الشيخ أنّه مذهب عامّتهم (٦) ، ونسبه في كنز العرفان إلى فقهائهم الأربعة (٧).
لصحيحة الحلبي : عن شهادة ولد الزنا ، فقال : « لا ، ولا عبد » (٨).
وصحيحة محمّد : تجوز شهادة المملوك من أهل القبلة على أهل الكتاب » ، وقال : « العبد المملوك لا تجوز شهادته » (٩).
__________________
(١) الكافي ٧ : ٣٩٠ ، ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٤٨ ، ٦٣٥ ، الإستبصار ٣ : ١٦ ، ٤٣ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٥ أبواب الشهادات ب ٢٣ ح ٢.
(٢) الكافي ٧ : ٣٨٩ ، ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٤٨ ، ٦٣٣ ، الإستبصار ٣ : ١٥ ، ٤١ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٥ أبواب الشهادات ب ٢٣ ح ٣ ، بتفاوت يسير.
(٣) الفقيه ٣ : ٢٦ ، ٦٩ ، التهذيب ٦ : ٢٤٩ ، ٦٣٦ ، الإستبصار ٣ : ١٦ ، ٤٤ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٦ أبواب الشهادات ب ٢٣ ح ٥.
(٤) حكاه عنه في المختلف : ٧٢٠.
(٥) المسالك ٢ : ٤٠٧.
(٦) الخلاف ٢ : ٦١٣.
(٧) كنز العرفان ٢ : ٥٣.
(٨) التهذيب ٦ : ٢٤٤ ، ٦١٢ ، الوسائل ٢٧ : ٣٧٦ أبواب الشهادات ب ٣١ ح ٦.
(٩) التهذيب ٦ : ٢٤٩ ، ٦٣٨ ، الإستبصار ٣ : ١٦ ، ٤٦ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٨ أبواب
وموثّقة سماعة : عمّا يردّ من الشهود؟ فقال : « المريب ، والخصم ، والشريك ، ودافع مغرم ، والأجير ، والعبد ، والتابع ، والمتّهم ؛ كلّ هؤلاء تُردّ شهادتهم » (١).
ورواية السكوني ، وفيها : « والعبد إذا شهد شهادة ثم أُعتق جازت شهادته إذا لم يردّها الحاكم قبل أن يُعتَق » (٢).
دلّت بالمفهوم على عدم الجواز قبل العتق.
الثالث : عدم القبول على الحرّ المسلم ، والقبول على غيره ، وهو مذهب الإسكافي ، والمحكيّ عنه في المختلف والإيضاح والمسالك (٣) وغيرها (٤) في جانبي الردّ والقبول هو ما كان عليه ، ولم يتعرّضوا لما كان له ، والظاهر أنّ المعنى على أمره ، سواء كان له أو عليه.
وكيف كان ، فدليله في جانب القبول العمومات ، ومنطوق صدر صحيحة محمّد الثانية المتقدّمة ، ومفهوم صحيحته الأُخرى الآتية.
وفي جانب الردّ فصحيحته الأُخرى : « لا تجوز شهادة العبد المسلم على الحرّ المسلم » (٥) ، ومفهوم صدر صحيحته الثانية.
وفي الجانبين الجمع بين الأخبار ، والمرويّ في الخلاف عن
__________________
الشهادات ب ٢٣ ح ١٠.
(١) التهذيب ٦ : ٢٤٢ ، ٥٩٩ ، الإستبصار ٣ : ١٤ ، ٣٨ ، الوسائل ٢٧ : ٣٧٨ أبواب الشهادات ب ٣٢ ح ٣.
(٢) الفقيه ٣ : ٢٨ ، ٨٠ ، التهذيب ٦ : ٢٥٠ ، ٦٤٣ ، الإستبصار ٣ : ١٨ ، ٥١ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٩ أبواب الشهادات ب ٢٣ ح ١٣.
(٣) المختلف : ٧٢٠ ، الإيضاح ٤ : ٤٢٩ ، المسالك ٢ : ٤٠٧.
(٤) كالكفاية : ٢٨٣.
(٥) التهذيب ٦ : ٢٤٩ ، ٦٣٧ ، الإستبصار ٣ : ١٦ ، ٤٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٨ أبواب الشهادات ب ٢٣ ح ١٢.
أمير المؤمنين عليهالسلام : « أنّه كان يقبل شهادة بعضهم على بعض ، ولا يقبل شهادتهم على الأحرار » (١).
الرابع : القبول في الشهادة مطلقاً ، إلاّ على مولاه خاصّة ، فلا تُقبَل وتُقبَل له أيضاً ، ذهب إليه الشيخان والسيّدان والديلمي والقاضي وابن حمزة والحلّي والفاضلان والفخري والصيمري (٢) ، بل الأكثر كما في الشرائع والدروس والمسالك والكفاية وشرح الإرشاد للأردبيلي (٣) ، بل عليه الإجماع في السرائر وعن الانتصار والغنية (٤).
أمّا في الجزء الأول : فلما مرّ في دليل الأول.
وأمّا الثاني : فللجمع بينه وبين ما مرّ دليلاً للقول الثاني ، وللإجماع المنقول ، والشهرة المحقّقة ، وقياسه على الولد في شهادته على الوالد ؛ لاشتراكهما في تحريم العقوق.
ولصحيحة الحلبي : في رجل مات وترك جارية ومملوكين ، فورثهما أخ له ، فأعتق العيدين ، وولدت الجارية غلاماً ، فشهدا بعد العتق أنّ مولاهما كان أشهدهما أنّه كان يقع على الجارية ، وأنّ الحمل منه ، قال : « تجوز شهادتهما ، ويردّان عبدين كما كانا » (٥) ، ولو لم تكن شهادتهما
__________________
(١) الخلاف ٢ : ٦١٣.
(٢) المفيد في المقنعة : ٧٢٦ ، الطوسي في الخلاف ٢ : ٦١٣ ، المرتضى في الانتصار : ٢٤٦ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤ ، الديلمي في المراسم : ٢٣٢ ، القاضي في المهذب ٢ : ٥٥٧ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢٣٠ ، الحلّي في السرائر ٢ : ١٣٥ ، المحقّق في الشرائع ٤ : ١٣١ ، العلامة في المختلف : ٧٢١ ، الفخري في الإيضاح ٤ : ٤٣٠.
(٣) الشرائع ٤ : ١٣١ ، الدروس ٢ : ١٣٢ ، المسالك ٢ : ٤٠٧ ، الكفاية : ٢٨٣.
(٤) السرائر ٢ : ١٣٥ ، الانتصار : ٢٤٦ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤.
(٥) التهذيب ٦ : ٢٥٠ ، ٦٤٢ ، الإستبصار ٣ : ١٧ ، ٥٠ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٧ أبواب الشهادات ب ٢٣ ح ٧.
مردودة على السيّد لم يكن لعتقهما فائدة.
وما في كنز العرفان ، حيث قال : واختُلِفَ في شهادة العبد إلى أن قال وعن أهل البيت روايات أشهرها وأقواها القبول إلاّ على سيّده خاصّة (١).
الخامس : عدم القبول للمولى ، والقبول عليه وعلى غيره وله ، نقله في المختلف والإيضاح عن الصدوقين (٢) ؛ لمكان التهمة ، وصحيحة ابن أبي يعفور : عن الرجل المملوك المسلم تجوز شهادته لغير مواليه؟ فقال : « تجوز في الدَّين والشيء اليسير » (٣) ، دلّت بالمفهوم على عدم القبول للموالي.
السادس : القبول في غير المولى ، وعدمه فيه لا له ولا عليه ، نقله في السرائر والمختلف والإيضاح عن الإستبصار (٤) ، وفي الثاني عنه وعن التهذيب ، وفي الجميع عن الحلبي ؛ لمكان التهمة في المولى طمعاً وخوفاً ، وللجمع بين الأخبار.
السابع : القبول على المولى ، وعدم القبول له ولا لغيره أو عليه ، نقله في الشرائع والقواعد (٥) ، وقال في المسالك والكفاية : إنّ قائله غير معلوم (٦). ولعلّ مستنده التوفيق بين الأخبار.
__________________
(١) كنز العرفان ٢ : ٥٣.
(٢) المختلف : ٧٢٠ ، الإيضاح ٤ : ٤٣٠.
(٣) التهذيب ٦ : ٢٥٠ ، ٦٤٠ ، الإستبصار ٣ : ١٧ ، ٤٨ ، الوسائل ٢٧ : ٣٤٧ أبواب الشهادات ب ٢٣ ح ٨.
(٤) السرائر ٢ : ١٣٥ ، المختلف : ٧٢٠ ، الإيضاح ٤ : ٤٣٠.
(٥) الشرائع ٤ : ١٣١ ، القواعد ٢ : ٢٣٨.
(٦) المسالك ٢ : ٤٠٧ ، الكفاية : ٢٨٣.
أقول : أمّا دليل القول الأول فلا شيء فيه ، إلاّ معارضة بعض الأخبار المذكورة دليلاً لبعض الأقوال المخالفة ، ويأتي حالها.
وأمّا دليل الثاني فيضعف بمعارضة أخباره مع خصوصات أخبار دليل الأول ، وأعمّيتها مطلقاً من بعض تلك الأخبار ؛ لاختصاصه بالمملوك العدل ، فتخصيصها به لازم.
ثم بمعارضتها مع بعضٍ آخر من خصوصاتها بالمساواة ، فيجب الرجوع إلى المرجّحات ، وهي مع ذلك البعض ؛ لموافقته الكتاب ، ومخالفته العامّة ، وموافقة هذه الأخبار لهم ، وهما من المرجّحات القويّة.
ثم بمعارضتها لصدر صحيحة محمّد الثانية ، والمرويّ في الخلاف ، وصحيحتي الحلبي وابن أبي يعفور ، المتقدّمة جميعاً ؛ مع كونها أخصّ مطلقاً من تلك الأخبار المانعة.
هذا ، مع ما في تلك الأخبار من الشذوذ ، والمخالفة لفتوى القدماء ـ إلاّ نادراً ـ الموجبين لخروجها عن الحجّية ، بل كونها مخالفة للإجماع في الجملة ؛ حيث إنّ مخالفة العماني في انعقاده غير ضائرة.
ومن ذلك يظهر سقوط ذلك القول عن درجة الاعتبار.
ويظهر أيضاً ضعف دليل الثالث ؛ لأنّه ما كان من جانب القبول وإن كان مطابقاً لأدلّة القول الأول ولكن ما في جانب الردّ يعارض هذه الأدلّة.
فمع بعضها بالعموم المطلق ، وهو صحيحة البجلي الأُولى ، المتضمّنة لشهادة قنبر على من هو مسلم ظاهراً وحرّ.
ومع الباقي بالعموم والخصوص المطلقين ، الراجح معارضه بموافقة الكتاب ، ومخالفة العامّة ، والأشهريّة رواية ، والأحدثيّة ، التي كلّها من المرجّحات المنصوصة المقبولة.
مضافاً إلى ما قيل من عدم صراحة الصحيحة الأُولى (١) ، لاحتمال إرادة عدم الجواز على معناه وهو النهي ؛ لكونه بدون إذن مولاه. وإن كان ذلك خلاف الظاهر ؛ لأنّه لو كان ذلك لما كان وجه للتخصيص بالعبد المسلم ولا بالحرّ المسلم ؛ مع أنّها تشمل صورة الإذن أيضاً.
وإلى كون دلالة الصحيحة الثانية بمفهوم اللقب ، الذي هو ليس بحجّة.
وكون رواية الخلاف ضعيفة غير منجبرة.
هذا كلّه ، مع ما في الجميع من الشذوذ المخرج عن الحجّية.
وأمّا حديث الجمع بين الأخبار ففيه : أنّ الجمع إنّما هو فرع التكافؤ وحجّية الطرفين ، وهو هنا مفقود ؛ مع أنّ الجمع غير منحصر بذلك.
فهذا القول أيضاً كسابقه ضعيف غايته.
وكذا القول الرابع ؛ لضعف ما استدلّ به لجانب الردّ غاية الضعف.
أمّا الجمع بين الأخبار فلما عرفت في سابقه.
وأمّا الإجماع المنقول والشهرة فلعدم حجّيتهما أصلاً ، سيّما في مقابلة الكتاب والسنّة المتواترة معنى.
وتوهّم تحقّق الإجماع مع مخالفة القديمين والصدوقين والشيخ في التهذيبين والحلبي وصاحب الجامع (٢) ، وهم من أركان القدماء ، وجماعة
__________________
(١) أي صحيحة محمّد المتقدّمة في ص ٣٠٨.
(٢) حكاه عن القديمين وهما الإسكافي والعماني في المختلف : ٧٢٠ ، وعن الصدوقين في المختلف : ٧٢٠ ، والإيضاح ٤ : ٤٣٠ ، التهذيب ٦ : ٢٤٩ ٢٥١ ،
من المتأخّرين (١) وتردّد الفاضل في القواعد (٢) توهّم فاسد جدّاً.
وأمّا قياسه على الوالد والولد فهو أفسد.
وأمّا صحيحة الحلبي فهي عن الدلالة خالية بالمرّة ؛ إذ ليس العتق إلاّ في كلام السائل ، ومع ذلك هو عتق فاسد ، فدلالتها على الجواز أشبه ، ولو دلّت فبمفهوم الوصف ، وهو ضعيف.
وأمّا عبارة الكنز فكونها رواية غير معلومة ، كما اعترف به المستدلّ به ، قال ـ بعد ذكر شواهد على عدم رواية فيه ـ : وكلّ هذا ظاهر في عدم رواية عليه بالخصوص ، وأمّا ما ذكره في الكنز من الرواية لعلّه اشتباه ، ويشبه أن يكون مراده بها إمّا الروايات المانعة مطلقاً بعد الحمل على المنع هنا خاصّة جمعاً ، أو خصوص الصحيحة الآتية (٣). انتهى.
ومراده من الصحيحة صحيحة الحلبي التي قدّمناها.
وأمّا أدلّة سائر الأقوال فضعفها ممّا مرّ في اشتراط انتفاء التهمة ، وما مرّ في عدم انحصار وجه الجمع ، بل دلالة الأخبار بانحصاره في الحمل على التقيّة ظاهر ، سيّما الاستدلال بصحيحة ابن أبي يعفور ، فإنّ التقييد فيها إنّما هو في السؤال ، ولو دلّ فبمفهوم الوصف ، وينافي ذيلها مذهب المستدلّ.
ومن جميع ما ذكر ظهر أنّ الأول هو أصحّ الأقوال ، ومن الله التوفيق
__________________
الإستبصار ٣ : ١٧ ، الحلبي في الكافي في الفقه : ٤٣٥ ، يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع : ٥٤٠.
(١) منهم الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤٠٧ ، السبزواري في الكفاية : ٢٨٣ ، الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٨١.
(٢) القواعد ٢ : ٢٣٨.
(٣) انظر الرياض ٢ : ٤٣٧.
في كلّ حال.
المسألة الثانية : ليس شيء من البصر والسمع شرطاً في القبول ، فتقبل شهادة الأعمى والأصمّ إذا جمعا سائر الشرائط ، وتحمّلاها حال الصحّة ، أو لم يفتقر المشهود به في الأول إلى الرؤية ، وفي الثاني إلى السماع.
بلا خلاف في الأول مطلقاً ، بل عن الانتصار والخلاف والغنية الإجماع عليه (١) ؛ وتدلّ عليه العمومات ، وخصوص روايتي محمّد بن قيس وثعلبة بن ميمون (٢) ، والمرويّ في الاحتجاج عن محمّد بن عبد الله الحميري ، عن صاحب الزمان عليهالسلام (٣).
وكذا في الثاني في الجملة ؛ للعمومات المذكورة ، بلا معارض لها ، سوى رواية جميل : عن شهادة الأصمّ في القتل؟ قال : « يؤخذ بأول قوله ، ولا يؤخذ بالثاني » (٤).
وحكي عن النهاية والقاضي وابن حمزة الفتوى بمضمونها (٥).
وردّها الأكثر بضعف السند ، والمخالفة للأُصول ، لأنّ القول الثاني إن كان منافياً للأول كان رجوعاً عنه ، فيجب ردّ الأول ، كما هي القاعدة في رجوع الشاهد. وإن كان موافقاً له يكون مؤكّداً له ، فلا ردّ. وإن كان غير مرتبط به فهو كلام مستقلّ لا دخل له بالأول.
__________________
(١) الانتصار : ٢٤٩ ، الخلاف ٢ : ٦١٢ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٤.
(٢) الكافي ٧ : ٤٠٠ ، ١ و ٢ ، التهذيب ٦ : ٢٥٤ ، ٦٦٢ و ٦٦٣ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٠ أبواب الشهادات ب ٤٢ ح ١ ، ٢.
(٣) الاحتجاج : ٤٩٠ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٠ أبواب الشهادات ب ٤٢ ح ٤.
(٤) الكافي ٧ : ٤٠٠ ، ٣ ، التهذيب ٦ : ٢٥٥ ، ٦٦٤ ، الوسائل ٢٧ : ٤٠٠ أبواب الشهادات ب ٤٢ ح ٣.
(٥) النهاية : ٣٢٧ ، القاضي في المهذّب ٢ : ٥٥٦ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٢٣٠.
ويمكن أن يختار الأول ، ويخصّ ردّ الشهادة الأُولى بغير مورد الرواية ؛ لأنّ ما دلّ على طرح الشهادة الأُولى بالرجوع وهو أيضاً مرسلة جميل (١) عامّ ، وتخصيصه بالخاصّ ليس بعزيز ، ، سيّما إذا كان الخاصّ معمولاً به عند جماعة من الأعيان.
فإذن المختار هو قول الشيخ ، ولكن يلزم تخصيصه بالقتل ؛ لأنّه مورد الرواية ، وعدم ثبوت الإجماع المركّب.
المسألة الثالثة : المعتبر في الشرائط وجودها في الشاهد عند أداء الشهادة ، فلو تحمّلها فاقداً لبعضها وأدّاها حال الاستجماع قبلت ؛ للعمومات ، وأصالة عدم الاشتراط حين التحمّل ؛ وتدلّ عليه الروايات الواردة في موارد مخصوصة ، كالصبي إذا بلغ ، والكافر إذا أسلم ، والأجير إذا فارق ، والعبد إذا أُعتق ، والفاسق إذا تاب ، وقد مرّ شطر منها في طيّ بيان تلك الشرائط.
المسألة الرابعة : لا تُردّ شهادة أرباب الصنائع المكروهة ـ كالصياغة وبيع الرقيق ولا الدنيئة عادةً كالحياكة والحجامة ولو بلغت غايتها ـ كالزبّال والوقّاد ـ ولا ذوي العاهات والأمراض الخبيثة كالأجذم والأبرص بعد استجماع الجميع شرائط قبول الشهادة ، بلا خلاف يوجد كما قيل (٢) ، بل مطلقاً كما في الكفاية (٣) ، بل عن ظاهر السرائر والمسالك الإجماع عليه (٤).
__________________
(١) الكافي ٧ : ٣٨٣ ، ١ ، الفقيه ٣ : ٣٧ ، ١٢٤ ، التهذيب ٦ : ٢٥٩ ، ٦٨٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٢٦ أبواب الشهادات ب ١٠ ح ١.
(٢) انظر الرياض ٢ : ٤٤٦.
(٣) الكفاية : ٢٨١.
(٤) السرائر ٢ : ١١٨ ، المسالك ٢ : ٤٠٤.
وتدلّ عليه عمومات قبول الشهادة من الكتاب والسنّة ، مع خلوّها عن المعارض بالمرّة ، عدا ما توهّمه بعض العامّة من أنّ اشتغالهم بهذه الحرف ورضاهم يشعر بالخسّة وقلّة المروّة (١).
وهو ضعيف غايته ، سيّما على القول بعدم اعتبار المروّة في قبول الشهادة ، وكذا على اعتبارها ، إذا لم تكن في ارتكاب هذه الصناعات منافاة للمروّة من غير جهة نفس الصنعة من حيث هي ، كما إذا كان من أهلها ، أو لم يُلَم مثله في مثلها بحسب العادة.
وأمّا مع الملامة له فيها بأن كان من أهل بيت العزّ والشرف ، الذي لا تناسب حاله تلك الصنعة ، فارتكبها بحيث يلام فيتأتّى عدم قبول شهادته حينئذ ، على القول باعتبار المروّة ، وعدم القبول من هذه الجهة غير عدم القبول من حيث ارتكاب الصنعة من حيث إنّها هي ، فإنّ الحيثيّات في جميع الأُمور معتبرة.
__________________
(١) انظر المغني والشرح الكبير ١٢ : ٣٥ و ٤٨.
الفصل الثاني
في بيان مستند الشاهد وما يتعلّق به
وفيه مقدّمة ومسائل :
أمّا المقدّمة : ففيها ثلاث فوائد :
الفائدة الأُولى
اعلم أنّ من يخبر عن شيء إمّا يخبر به عن علم ، أو ظنّ ؛ وكلّ منهما إمّا شرعي ، أو عقلي ، أو عادي ؛ ومن الأخير : المعلوم أو المظنون بأحد الحواسّ الخمس الظاهريّة ؛ وقد يحصلان من الحدس أو التجارب أيضاً ، ومنه : إخبار الطبيب ، والرمّال ، والمنجّم ، والقيّاف ، ونحوهم.
الفائدة الثانية : اعلم انّ المخبر عن واقعة على ثلاثة أقسام :
الأول : أن يخبر بتفاصيل أسباب علمه أو ظنّه بالمخبَر به جزءاً جزءاً ، حتى ينتهي إلى آخر الواقعة ، فيقول : رأيت المُلك الفلاني في يد زيد منذ مدّة كذا ، يتصرّف فيه كيف شاء ، مدّعياً ملكيّته من غير معارض له إلى الآن.
أو يقول : سمعت ذلك من جمع يمتنع عادةً تواطؤهم على الكذب ، أو من عدلين.
أو : شاهدت زيداً استقرض من عمرو المبلغ الفلاني ، وهو أقرضه وأقبضه إيّاه بحضوري.
أو يقول : شاهدت المُلك في يده في السنة السابقة ويده عليه مستصحبة عندي إلى اليوم.