موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

ومن المحتمل كذلك أيضا أن تكون الآية بل السورة ممّا نزل في أواخر السنة الحادية عشرة للبعثة ، قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة ، اذ كان قد قدم مكّة من أرض الحبشة أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي مع زوجته أمّ سلمة ، فلمّا آذته قريش وبلغه اسلام من أسلم من الأنصار خرج الى المدينة مهاجرا فكان أوّل من هاجر الى المدينة من أصحاب رسول الله (١).

ومنها قوله سبحانه : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)(٢).

قال القمي في تفسيره : هو لسان أبي فكيهة مولى ابن الحضرمي ، كان أعجمي اللسان ، وكان قد اتبع نبيّ الله وآمن به ، وكان من أهل الكتاب ، فقالت قريش : هذا ـ والله ـ يعلّم محمّدا بلسانه (٣).

ونقل الطبرسي عن مجاهد وقتادة قالا : أرادوا به عبدا لبني الحضرمي روميا يقال له عائش ، صاحب كتاب ، أسلم وحسن اسلامه.

وعن عبد الله بن مسلم قال : كان في الجاهلية غلامان نصرانيان من أهل عين التمر (في العراق) اسم أحدهما يسار والآخر خير ، كانا يقرءان كتابا لهما بلسانهم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ربما مرّ بهما واستمع لقراءتهما ، فقالوا : إنّما يتعلم منهما (٤).

وعن ابن عباس قال : قالت قريش : إنّما يعلمه بلعام ، وكان قينا روميا نصرانيا بمكّة (٥).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة٢ : ١١٢.

(٢) النحل : ١٠٣.

(٣) تفسير القمي ١ : ٣٩٠.

(٤) أسباب النزول للواحدي : ٢٣١ ط الجميلي.

(٥) مجمع البيان ٦ : ٥٩٥ وروى السيوطي عنه أيضا قال : كان رسول الله يعلّم قينا

٥٦١

وقال ابن اسحاق : بلغني أن رسول الله كان كثيرا ما يجلس عند المروة الى مبيعة غلام نصراني يقال له : جبر عبد لبني الحضرمي ، فكانوا يقولون : والله ما يعلّم محمّدا كثيرا ممّا يأتي به الّا جبر النصرانيّ غلام بني الحضرمي. فأنزل الله تعالى في ذلك : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ)(١).

مقتل ياسر وسمية وتعذيب ابنهما عمّار :

ومنها قوله سبحانه : (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢).

روى العياشي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ عمّار بن ياسر اخذ بمكّة فقالوا له : ابرأ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبرأ منه ، فأنزل الله عذره : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ).

__________________

بمكّة اسمه بلعام ـ وكان أعجمي اللسان ـ فكان المشركون يرون رسول الله يدخل عليه ويخرج من عنده ، فقالوا إنما يعلّمه بلعام ، الدر المنثور ٤ : ١٣١ وروى روايات اخرى باسماء : أبي اليسر ، ومقيس.

(١) ابن اسحاق في السيرةعن ابن اسحاق ٢ : ٣٣.

(٢) النحل : ١٠٥ ـ ١١٠.

٥٦٢

وروى فيه عنه عليه‌السلام قال : أما سمعت قول الله في عمّار : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ).

وروى فيه عنه عليه‌السلام قال : إنّ هذه الآية نزلت في عمّار وأصحابه : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(١).

ولذلك قال القمي في تفسير هذه الآية : هو عمّار بن ياسر أخذته قريش بمكّة ، فعذّبوه بالنار حتّى أعطاهم بلسانه ما أرادوا ، وقلبه مطمئن بالايمان ... ثمّ قال في عمّار أيضا : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢).

وروى الكليني في (الكافي) بسنده عن الصادق عليه‌السلام أيضا قال : إنّ عمّار بن ياسر اكرهه أهل مكّة وقلبه مطمئن بالايمان ، فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عندها : يا عمّار ان عادوا فعد ، فقد أنزل الله عذرك : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) وأمرك أن تعود إن عادوا (٣).

وروى الطبرسي في «مجمع البيان» عن قتادة وابن عباس قال : نزلت الآية في جماعة اكرهوا على الكفر ، وهم : عمّار وياسر أبوه وامّه سمية وصهيب وبلال وخبّاب ، عذّبوا حتّى قتل ابو عمّار وأمه ، فاعطاهم عمّار بلسانه ما أرادوا منه ، فأخبر الله سبحانه بذلك رسوله ، فقال قوم : كفر عمّار ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّا إنّ عمّارا ملئ ايمانا من قرنه الى قدمه واختلط الايمان بلحمه ودمه. وجاء عمّار الى رسول الله وهو يبكي ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما وراءك؟ فقال : شرّ يا رسول الله ، ما تركت حتّى

__________________

(١) تفسير العياشي ٢ : ٢٧١ ، ٢٧٢.

(٢) تفسير القمي ١ : ٣٩٠ ، ٣٩١.

(٣) اصول الكافي ٢ : ٢١٩ عن القمّي أيضا.

٥٦٣

نلت منك وذكرت آلهتهم بخير! فجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يمسح عينيه ويقول : إن عادوا لك فعد لهم بما قلت. ثمّ قال : فنزلت الآية (١).

بينما مرّ في خبر الكليني عن الصادق عليه‌السلام أنّ النبيّ قال له : «ان عادوا فعد فقد أنزل الله عذرك وأمرك أن تعود إن عادوا» ممّا ظاهره أن الآية كانت قد نزلت عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل مقابلة عمّار له لا بعدها. وقد مرّ في خبر الطبرسي نفسه : أن الله أخبر بذلك رسوله قبل مجيء عمّار الى الرسول ، فالظاهر أنّ نزول الآيات كان قبل المقابلة لا بعدها ، وعليه فلا محلّ لقوله : «فنزلت الآية» كما لا محل لما أخرجه السيوطي في (الدر المنثور) عن مصنف عبد الرزاق ، وطبقات ابن سعد ، وتفسير ابن جرير الطبري ، والبيهقي في (دلائل النبوة) من طريق أبي عبيدة بن محمّد بن عمّار بن ياسر ، عن أبيه عن آبائه قال : أخذ المشركون عمّار بن ياسر فلم يتركوه حتّى سبّ النبيّ ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ وذكر آلهتهم بخير ، ثمّ تركوه. فلمّا أتى رسول الله قال له : ما وراءك؟ قال : شرّ ، ما تركت حتّى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير! قال : فكيف تجد قلبك؟ قال : مطمئن بالايمان ، قال : فان عادوا فعد ، فنزلت.

وبقوله : فان عادوا فعد ، لا محلّ لما أخرجه السيوطي فيه عن ابن عباس قال : لما أراد رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ أن يهاجر الى المدينة قال لأصحابه ... فأصبح بلال وخبّاب وعمّار ... فأخذهم المشركون ... وأمّا عمّار فقال لهم كلمة أعجبتهم ، تقيّة ، ثمّ خلّوا عن بلال وخبّاب وعمّار فلحقوا برسول الله فأخبروه بالّذي كان من أمرهم ... وأنزل الله : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(٢).

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٥٩٧.

(٢) الدر المنثور ٤ : ١٣٢ ، ١٣٣.

٥٦٤

وكذا لا محل لما رواه قبله الواحدي في (أسباب النزول) عن ابن عباس قال : انّ المشركين أخذوا عمارا وأباه ياسرا وأمه سميّة وبلالا وخبّابا وسالما. فأمّا سميّة فانها ربطت بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة فقتلت ، وقتل زوجها ياسر ، فهما أوّل قتيلين في الإسلام ، وأمّا عمار فانه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها. فاخبر النبيّ بأن عمارا كفر! فقال : كلّا ، انّ عمارا ملئ ايمانا من قرنه الى قدمه ، واختلط الايمان بدمه ولحمه! فأتى عمّار رسول الله وهو يبكي ، فجعل رسول الله يمسح عينيه وقال : ان عادوا لك فعد لهم بما قلت. فأنزل الله (١).

وبهذا المعنى ما رواه الكشي في رجاله بسنده عن الليث بن سعد (كاتب الواقدي) عن عمر مولى غفرة قال : حبس عمّار فيمن حبس وعذّب ، فانفلت فيمن انفلت من الناس فقدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أفلح أبو اليقظان! قال : ما أفلح ولا أنجح لنفسه ؛ لأنهم لم يزالوا يعذّبونه حتّى نال منك! قال : إن سألوا من ذاك فزدهم (٢).

بل روى فيه بسنده عن محمّد المحمودي المروزي قال : انّ عمّار بن ياسر قتلت قريش أبويه ورسول الله يقول : صبرا آل ياسر فانّ موعدكم الجنة ، ما تريدون من عمّار؟ عمّار مع الحق والحق مع عمّار حيث كان ، عمّار جلدة بين عيني وأنفي ، تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار. وألقته قريش في النار فقال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا نار كوني بردا وسلاما على عمّار كما كنت بردا وسلاما على ابراهيم. فلم تصله النار ولم يصبه منها مكروه (٣) وهذا يدل على وجود الرسول في مكّة حينذاك ، فلعلّ ذلك كان في أيام الموسم إذ كان يخرج فيه النبيّ وبنو هاشم

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي : ٢٣١ ط الجميلي.

(٢) رجال الكشي : ٣٥ ط مشهد.

(٣) رجال الكشي : ٣٠ ط مشهد. وروى مختصر الخبر ابن هشام عن ابن اسحاق ١ : ٣٤٢.

٥٦٥

وسيأتي أن الآيات الاولى من آخر سورة مكية هي «العنكبوت» نزلت في عمّار بن ياسر أيضا (١) ، ولعلّنا نجد في ذلك حلّا للاشكال ، ومحملا لهذه الأخبار الّتي تفيد أن عمّارا عذّب قبيل هجرته بل وقد هاجر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه هاجر الى المدينة ولكنه لم يواجه الرسول حياء منه لما قاله من كلمة الكفر ، أو واجهه وهو يبكي من ذلك ، حتّى طمأنه النبيّ بعدم الإثم عليه. فان هذه الأخبار انما تناسب تلك الفترة لا قبلها.

وأيضا نجد بالقول بتعدد الموقف لعمّار ، محملا جميلا لطيفا لقول الرسول له : «إن عادوا لك فعد لهم» بأنّها كلمة قالها له في هذه المرّة مشيرا له بلطف الى أنّ هذا الأمر سيتكرّر منهم ومنك ، وأن الاشارة الى تكرار ذلك أيام هجرته. ولكن الرواة خلطوا فجعلوا هذه الجملة مقولة له من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في المدينة بعد الهجرة حيث لا توقع بعودة مشركي قريش الى تعذيب عمّار لافتتانه عن دينه. فما معنى أن يقول له الرسول : ان عادوا فعد لهم؟.

ونجد بذلك أيضا محملا لخلط بعض الرواة حيث رووا ما يفيد أنّ هذه الآية من سورة النحل المكيّة نزلت بعد الهجرة في عمار ، كما مرّ عن السيوطي في «الدر المنثور» (٢) ممّا استلزم استثناء هذه الآيات من مكية السورة بلا موجب.

أوّل لقاء الخزرج بالنبيّ في موسم العمرة :

بما أنّ الآية (١٢٥) من سورة النحل تستتبع خبر خروجهم من الشعب ، وقبل ذلك كان لقاؤه صلّى الله عليه وآله بالخزرج في موسم العمرة في شهر رجب ، لذلك نقدم هنا الخبر عن ذلك :

__________________

(١) هذا الكتاب : ٦٨٢.

(٢) الدر المنثور ٤ : ١٣٢ ، ١٣٣.

٥٦٦

روى الطبرسي في «اعلام الورى» عن القمي قال : كان بين الأوس والخزرج حرب قد بلغوا فيها دهوراً طويلة ، فكانوا لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار. وكان آخر حرب بينهم يوم بُعاث (١).

وعند استعداد الخزرج لهذه الحرب لما دعوا عبدالله بن اُبيّ بن سلول (= اسم جدّته) وكان من أشرافهم واسخياتهم ، قال : هذا ظلم منكم للاوس ولا اُعين على الظلم ، فلم يدخل مع قومه الخزرج في حرب بُعاث ولم يُنعهم على الاوس ، واتّفق ان كانت حرب بعاث للاوس على الخزرج ، فلما كان كذلك رضى الفريقان بالمصالحة ورضوا به أن يملّكوه عليهم ، وأخذوا يُعدّون له اكليلاً لذلك.

وكان الأوس والخزرج يسمعون من يهود قينُقاع وقريظة والنضير فيما بينهم يقولون لهم : هذا أوان نبيّ يخرج بمكة يكون مُهاجره إلى يثرب (المدينة) لنقتلنّكم به يا معشر العرب (وهم عرب).

ومن الخزرج وقبل أن يملّكوا عليهم عبدالله بن اُبيّ ، حاول بعضهم أن يسأل من قريش مكة حلفاً على الاوس ، فخرج منهم لموسم العمرة في شهر رجب ذكوان بن عبدالقيس وأسعد بن زرارة الخزرجيان ، وكان ذلك حين محاصرة بني هاشم في الشعب.

وكان أسعد بن زرارة من قبل صديقاً لعتبة بن ربيعة المخزومي فنزل عليه وقال له : إنه كان بيننا وبين قومنا (الأوس) حرب وقد جئناكم نطلب الحلف عليهم.

فقال عُتبة : بعدت دارنا عن داركم ، ولنا شُغل لا نتفرّغ معه لشيء!

قال أسعد : أنتم في حرمكم وأمنكم ، فما شغلكم؟

قال عتبة : خرج فينا رجل يدّعى أنّه رسول الله سفّه أحلامنا وسبّ آلهتنا ، وأفسد شبابنا وفرّق جماعتنا!

__________________

(١) اسم حصن الاوس ، وكانت الحرب عنده فسميت به. النهاية ١ : ١٣٩.

٥٦٧

قال أسعد : مَن هو منكم؟ قال : هو ابن عبدالله بن عبدالمطلب من أوسطنا شرفاً وأعظمنا بيتاً!

قال : فأين هو؟ قال : إنهم لا يخرجون من شعبهم إلّا في الموسم ، فهو اليوم يجلس في الحجر ، فلا تكلّمه ولا تسمع منه كلمة فإنه يسحرك بكلامه!

فقال له أسعد : فكيف أصنع وأنا معتمر لابدّ لي من أن أطوف بالبيت؟

قال عتبة : ضع قطناً في اُذنيك!

فحشا أسعد اُذنيه من القطن ودخل المسجد فطاف بالبيت ورسول الله جالس في الحجر ومعه قوم من بني هاشم فلما مرّ به نظر إليه نظرة وجازه ، ولكنه قال في نفسه : أيكون مثل هذا الحديث بمكة فلا أعرفه حتى ارجع إلى قومي فاُخبرهم؟! هذا جهل ليس فوقه جهل! ففي الشوط الثاني اخرج القطن من اُذنه ورمى به ودنا من رسول الله وحيّاه بتحية الجاهلية : أنعم صباحاً. فرفع إليه رسول الله رأسه وقال له : قد أبدلنا الله به ما هو أحسن من هذا تحيّة أهل الجنّة : السلام عليكم.

فجلس إليه أسعد وقال : إن عهدك بهذا لقريب ، إلى ما تدعو؟

قال صلّى الله عليه وآله : إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وأني رسول الله ، وادعوكم إلى (وتلا عليه آيتين من سورة الانعام) : (ألّا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإيّاهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلّا بالحق ذلكم وصّاكم به لعلكم تعقلون * ولا تقربوا مالَ اليتيم إلّا بالّتي هي أحسن حتّى يبلغ أشُدّه وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلّف نفساً إلّا وُسعها وإذا قُلتم فاعدلوا ولو كان ذا قُربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصَّاكم به لعلّكم تذكّرون) (١).

__________________

(١) الأنعام : ١٥١ ، ١٥٢.

٥٦٨

فلما سمع أسعد هذا قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأنك رسول الله. ثمّ قال : يا رسول الله ، بأبي أنت واُمي ، أنا من أهل يثرب من الخزرج ، وبيننا وبين اخواننا من الأوس حبال مقطوعة ، فإن وصلها الله بك فلا أحد اعزّ منك. ومعي رجل من قومي فإن دخل في هذا الامر رجوت أن يتمّم الله لنا أمرنا فيك. والله يا رسول الله لقد كنا نسمع من اليهود خبرك ، وكانوا يبشّروننا بمخرجك ويخبروننا بصفتك ، وأرجو أن تكون دارنا هجرتك وعندنا مقامك فقد اعلمنا اليهود ذلك ، فالحمد لله الذي ساقني إليك ، والله ما جئت إلّا لنطلب الحلف على قومنا وقد أتاني الله بأفضل مما أتيت له.

ثمّ أقبل ذكوان فناداه أسعد وقال له : هذا رسول الله الذي كانت اليهود تبشرنا به وتجزنا بصفته فهلمّ وأسلم ، فأسلم ذكوان.

ثمّ قالا : يا رسول الله ابعث معنا رجلاً يعلّمنا القرآن ويدعوا الناس إلى أمرك.

وكان مصعب بن عمير بن هاشم (من بني عبدالدار) يحبّه أبوه عمير بن هاشم ويكرمه ويفضّله على أولاده ، وأسلم ، فجفاه أبواه (وكان قد خرج من مكة إلى الحبشة في الهجرة الاُولى ولكنه عاد مع من عاد بعد شهرين إلى مكة) فكان مع رسول الله في الشعب حتّى تغير وأصابه الجهد ، وكان قد تعلّم من القرآن كثيراً (فلما طلب الخزرجيان معلما بالقرآن وداعياً الى الاسلام في يثرب) أمر رسول الله مصعب بن عمير بالخروج معهما ، فخرج معهما الى يثرب ، وأنزله أسعد بن زرارة في داره ، وأخذ يخرج معه كل يوم يطوف به على مجالس الخزرج يدعوهم إلى الاسلام ، فيجيبه من كل بطن منهم الرجل والرجلان من أحداثهم وشبابهم. حتى ذهب به أسعد إلى خاله سعد بن مُعاذ من بني عمرو بن عوف من الأوس فأسلم وأسلم معه كثير من بني عمرو بن عوف في قباء (كما سيأتي تفصيله).

٥٦٩

وكتب مصعب إلى رسول الله بأن الأوس والخزرج قد دخلوا في الاسلام ، فلما بلغ ذلك رسول الله أذن لهم بالخروج إلى المدينة (١).

هجرة أبي سلمة إلى المدينة :

مرّ في الخبر : أنّ من المهاجرين الأولين إلى الحبشة كان ابو سلمة عبدالله بن عبدالاسد المخزومي مع زوجته اُم سلمة هند بنت أبي اُمية المخزومي ، وأنهم خرجوا في شهر رجب في الخامسة من البعثة فأقاموا في الحبشة شهرين وسمعوا بإسلام أهل مكة فرجع جمع منهم ـ منهم أبو سلمة وزوجه ـ في شوال (٢).

واُمّ أبي سلمة : برة بنت عبدالمطلب اُخت أبي طالب ، فأبو طالب خاله. ولذلك دخل مكة في جوار خاله أبي طالب.

فمشى رجال من بني مخزوم إلى أبي طالب وقالوا له : يا أبا طالب ، لقد منعت منّا ابن أخيك محمداً ، فما لك ولصاحبنا تمنعه منّا؟!

قال : إنه استجار بي ، وهو ابن اُختي ، وإن أنا لم أمنع ابن اُختي لم أمنع ابن أخي.

وأكثروا الكلام على أبي طالب حتى قام أبو لهب وقال لهم : يا معشر قريش ، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ (وكان له تسعون سنة) ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه ، والله لتنتهنّ عنه أو لنقومنّ معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد!

فقالوا : بل ننصرف عما تكره يا أبا عتيبة (٣)!

__________________

(١) إعلام الورى ١ : ١٣٦ ـ ١٣٩.

(٢) بحارالانوار ١٨ : ٤٢٢ عن المنتقى.

(٣) السيرة النبوية لابن هشام ١ : ٢٤٨.

٥٧٠

وقال ابن اسحاق : لما قدم أبو سلمة من أرض الحبشة آذته قريش ، فلما بلغه اسلام من أسلم من الانصار هاجر إلى المدينة ، وذلك قبل بيعة أصحاب العقبة بسنة (ونزل في بني عمرو بن عوف في قباء كما يأتي).

وروى عن أبيه عن سلمة بن عبدالله بن عمر بن أبي سلمة عن جدته اُم سلمة (١) قالت : لما أجمع أبو سلمة على الخروج إلى المدينة جهّز لي بعيرة فأركبني ومعي ابني سلمة في حجري وجعل يقودنا.

وجاءنا رجال من بني مخزوم فقالوا له : هذه نفسك غلبتنا عليها (٢) فعلام نتركك تسير بصاحبتك؟! ثمّ نزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه وحبسني أهلي عندهم ، وعندي ابني سلمة. وانطلق أبو سلمة إلى المدينة وجاء رهط أبي سلمة فقالوا لنا : إذ نزعتموها من صاحبنا فلا نترك ابننا عندها! فتجاذبوا بينهم ابني سلمة حتى خلعوا يدي عنه وانطلقوا به منّي!

فكنت اخرج غداة كل يوم إلى الابطح فأجلس فيه فما أزال ابكي حتى اُمسي فارجع إلى أهلي! قريباً من سنة! حتى مرّ بي يوماً رجل من بني عمّي فترحّم عليّ ، وجاء إلى أهلي فقال لهم : ألا تُخرجون هذه المسكينة ، فرّقتم بينها وبين زوجها وبينها وبين ولدها؟! فعند ذلك ردّوا إلى ابني ، ثمّ قالوا لي : إن شئت فالحقي بزوجك.

قالت : فارتحلت بعيري وأخذت ابني في حجري وخرجت اُريد زوجي بالمدينة ، وما معي أحد من خلق الله ... فلما كنت بالتنعيم (مخرج مكة إلى المدينة) لقيني عثمان بن طلحة من بني عبدالدار ، فعرفني فقال : يا بنت أبي اُمية إلى أين؟ قلت : اُريد زوجي بالمدينة! قال : أو ما معك أحد؟ قلت : لا والله إلّا الله وابني هذا!

__________________

(١) كذا ، وأُم سلمه جدةُ أبيه عبد الله فلعله روى عن أبيه عبد الله عن جدّته اُم سلمه.

(٢) لعله لجوار أبي طالب له.

٥٧١

فقال : والله مالي أن أتركك ، ثمّ أخذ بخطام البعير فانطلق بي ، فكان إذا بلغ المنزل ينيخ بي ثم يتأخّر عني حتى أنزل فإذا نزلت كان يأتي فيأخذ بعيري فيحطّ عنه ثمّ يقيده بشجرة ، ثمّ يتنحّى عني إلى شجرة اُخرى فيضطجع تحتها. فإذا دنى الرواح يقوم إلى بعيري فيقدمه ثمّ يتأخّر عنّي ويقول : اركبي فإذا ركبت يأتي فيأخذ بخطامه فيقوده ، وهكذا حتى اذا نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقُباء قال : زوجك في هذه القرية فادخليها على بركة الله. ثمّ انصرف راجعاً إلى مكة (١).

صحيفة المقاطعة الظالمة :

ومنها قوله سبحانه : (ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالّتي هي أحسن إنَّ ربّك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين) (٢).

ذكر ابن شهر آشوب في «المناقب» عن «شرف المصطفى» للخرگوشي : أن الآية : (ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالّتي هي أحسن) نزلت على النبي صلّى الله عليه وآله في أواخر أيام الحصار في شعب أبي طالب ، فقال صلّى الله عليه وآله : كيف ادعوهم وقد صالحوا على تركي الدعوة؟ فنزل جبرئيل فأخبر النبيَّ : أنّ الله بعث على صحيفتهم الأرضة ، فلحستها (٣).

وروى قبله القطب الراوندي في قصص الانبياء : أنّه لما أتى على رسول الله صلّى الله عليه وآله في الشعب أربع سنين ، بعث الله على صحيفتهم القاطعة دابّة الأرض

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١١٢ ـ ١١٣ بتصرف في الالفاظ.

(٢) النحل : ١٢٥.

(٣) مناقب آل أبي طالب ١ : ٦٥.

٥٧٢

فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور ، وتركت اسم الله ، ونزل جبرئيل عليه فأخبره بذلك (١).

ورواه في «الخرائج والجرائح» فقال : حاصروا بني هاشم في الشِعب _ شِعب عبد المطّلب _ أربع سنين. فأصبح النبيّ يوماً وقال لعمه أبي طالب : إن الصحيفة التي كتبتها قريش في قطيعتنا قد بعث الله عليها دابة (الأرض) فلحَست كلَّ ما فيها غير اسم الله.

فقال أبو طالب : يابن أخي أفأصِر إلى قريش فاُعلمهم بذلك؟ قال : إن شئت.

فصار أبو طالب عليه السلام إليهم فاستبشروا بمصيره إليهم واستقبلوه بالتعظيم والا جلال وقالوا :

قد علمنا الآن أنّ رضا قومك أحبّ إليك مما كنت فيه ، أفتسلّم إلينا محمداً ، ولهذا جئتنا؟!

قال : يا قوم ، إني قد جئتكم بخبر أخبرني به ابن أخي محمد ، فانضروا في ذلك ، فإن كان كما قال فاتقوا الله وارجعوا عن قطيعتنا ، وإن كان بخلاف ما قال سلّمته إليكم واتّبعت مرضاتكم!

قالوا : وما الذي أخبرك؟!

قال : أخبرني : أن الله قد بعث على صحيفتكم دابّةً (الأرض) فلحسَت ما فيها غير اسم الله ، فحطّوها ، فإن كان الأمر بخلاف ما قال سلّمته اليكم (٢)!

وكانت قبل في الكعبة فخافوا عليها السرق (فجعلوها) عند اُمّ ابي جهل! فبعثوا إليها ، فوضعت بين أيديهم وخواتيمهم عليها.

__________________

(١) قصص الأنبياء للراوندي : ٣٢٩.

(٢) الخرائج والجرائح ١ : ١٤٢ الحديث ٢٣٠.

٥٧٣

فقال أبو طالب : هل تنكرون منها شيئاً؟ قالوا : لا. قال : إن ابن أخي حدّثني ـ ولم يكذبني قط ـ أن الله قد بعث على هذه الصحيفة الأرضة فأكلت كلّ قطيعة واثم وتركت كل اسم هو لله! فإن كان صادقاً أقعلتم عن ظلمنا ، وإن يكن كاذباً ندفعه إليكم فقتلتموه!

فصاح الناس : نعم أنصفتنا يا أبا طالب. ففتحت ثمّ اُخرجت ، فإذا هي مثربة (مقطّعة) كما قال (١).

فأتوا بها وفكّوا الخواتيم ، فاذا فيها «باسمك اللهم» واسم «محمّد» فقط! فقال لهم أبو طالب : اتقوا الله وكفّوا عمّا أنتم عليه. فسكتوا وتفرّقوا.

واجتمع سبعة نفر من قريش على نقضها وقالوا : أخرقها الله ، وهم : مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ، الّذي أجار النبيّ لمّا انصرف من الطائف. وزهير بن أبي اميّة المخزومي زوج عاتكة بنت أبي طالب (١) وهشام ابن عمرو بن لؤيّ بن غالب ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود ابن المطّلب ... وعزموا أن يقطعوا يمين كاتبها : منصور بن عكرمة ، فوجدوها شلّاء ، فقالوا : قطعها الله.

وفي ذلك قال أبو طالب :

ألا هل أتى بحريّنا صنع ربنا

على نأيهم؟ (٢) والله بالناس أرود

فيخبرهم : أن الصحيفة مزّقت

وأن كلّ ما لم يرضه الله يفسد

يراوحها إفك وسحر مجمّع

ولم تلق سحرا آخر الدهر يصعد

__________________

(١) الخرائج والجرائح ١ : ٨١ الحديث ١٤١.

(٢) وسيأتي عن ابن اسحاق ان امّه عاتكة ، بنت عبد المطّلب وابن اسحاق اقرب الى الاتقان.

(٣) يقصد المهاجرين الى الحبشة. وذكر القصيدة ابن اسحاق في ابن اسحاق في السيرة١ : ١٧ ـ ١٩ ، ستة وعشرين بيتا.

٥٧٤

وله أيضا في ذلك :

وقد كان من أمر الصحيفة عبرة

متى ما يخبّر غائب القوم يعجب

محا الله منها كفرهم وعقوقهم

وما نقموا من ناطق الحق معرب

وأصبح ما قالوا من الأمر باطلا

ومن يختلق ما ليس بالحق يكذب

وأمسى ابن عبد الله فينا مصدّقا

على سخط من قومنا ، غير معتب

وله أيضا في ذلك :

تطاول ليلي بهمّ نصب

ودمعي كسحّ السّقاء السّرب

ولعب قصيّ بأحلامها

وهل يرجع الحلم بعد اللعب

ونفي قصيّ بني هاشم

كنفي الطهاة لطاف الحطب (١)

وقالوا لأحمد : أنت امرؤ

خلوف الحديث ضعيف النسب

وان كان أحمد قد جاءهم

بحق ولم يأتهم بالكذب

على أنّ إخواننا وازروا :

بني هاشم وبني المطّلب

ورمتم بأحمد ما رمتم

على الآصرات وقرب النسب

فأنّى وما حج من راكب

وكعبته مكّة ذات الحجب

تنالون أحمد؟ أو تصطلوا

بروس الرماح وحدّ القضب (٢)

ثمّ ذكر الخبر الى أن قال : فتفرق القوم ولم يتكلم أحد منهم ، وعند ذلك قال نفر من بني عبد مناف وبني قصي ورجال من قريش ولدتهم نساء بني هاشم منهم : مطعم بن عدي ـ وكان شيخا كبيرا كثير المال له أولاد ـ وأبو البختري بن هشام ، وزهير بن اميّة المخزومي في رجال من أشرافهم ، قالوا : نحن براء ممّا

__________________

(١) أي : كما ينفي الطبّاخ الخشب الجيّد عن الاحتراق.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ : ٦٥ ـ ٦٧ ونقل المقطوعة والّتي قبلها السيد هاشم البحراني في حلية الأبرار ١ : ٦٢ ـ ٦٤ عن المستدرك لابن بطريق عن مغازي ابن اسحاق.

٥٧٥

في هذه الصحيفة. وقال أبو جهل : هذا أمر قضي بليل! ورجع أبو طالب الى الشعب وخرج منه هو والنبيّ ورهطه ، وخالطوا الناس (١) والظاهر أنّه نقله من كتاب شيخه الطبرسي : «إعلام الورى» (٢).

وذكر الخبر ابن هشام في سيرته قال : ذكر بعض أهل العلم : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأبي طالب : يا عمّ ، انّ ربيّ الله قد سلّط الأرضة على صحيفة قريش ، فلم تدع فيها اسما لله الا أثبتته فيها ، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان.

فقال : أربّك أخبرك بهذا؟ قال : نعم ، قال : فو الله ما يدخل عليك أحد.

ثمّ خرج الى قريش ، فقال : يا معشر قريش ، انّ ابن أخي أخبرني بكذا وكذا ، فهلمّ صحيفتكم ، فان كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا وانزلوا عمّا فيها ، وان كان كاذبا دفعت إليكم ابن أخي. فقال القوم : رضينا ، فتعاقدوا على ذلك ثمّ نظروا ، فاذا هي كما قال رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ فزادهم ذلك شرا.

فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا (٣).

ونقل الخبر السيد هاشم البحراني عن كتاب «المستدرك» ليحيى بن الحسن ابن البطريق الحلي عن كتاب «المغازي» لابن اسحاق قال : ثمّ ان الله أرسل على صحيفة قريش ـ الّتي كتبوا فيها تظاهر هم على بني هاشم ـ الارضة ، فلم يدع فيها اسما لله تعالى الا اكلته وبقى فيها الظلم والقطيعة والبهتان (بعكس السابق) فأخبر الله بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبر أبا طالب.

__________________

(١) قصص الأنبياء : ٣٣٠.

(٢) إعلام الورى : ١٢٦ ، ١٢٧.

(٣) سيرة ابن هشام ٢ : ١٦ ، ١٧.

٥٧٦

فقال له أبو طالب : يا بن أخي من حدّثك بهذا؟ وليس يدخل علينا أحد ولا تخرج أنت الى أحد ، ولست في نفسي من أهل الكذب.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : أخبرني ربّي بهذا.

فقال له عمه : ان ربك الحق وأنا أشهد أنك صادق.

ثمّ جمع أبو طالب رهطه ، ولم يخبرهم بما أخبره به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كراهية أن يفشوا ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالوا للصحيفة الخبّ والمكر. وانطلق أبو طالب برهطه حتّى دخل المسجد ، والمشركون من قريش في ظل الكعبة.

فلمّا أبصروه تباشروا به وظنّوا أن الحصر والبلاء حملهم على أن يدفعوا رسول الله فيقتلوه. فلمّا انتهى إليهم أبو طالب ورهطه رحّبوا به وقالوا : قد آن لك أن تطيب نفسك عن قتل رجل في قتله صلاحكم وجماعتكم وفي حياته فرقتكم وفسادكم!

فقال أبو طالب : قد جئتكم في أمر لعله يكون فيه صلاح وجماعة ، فاقبلوا ذلك منّا ، هلمّوا صحيفتكم الّتي فيها تظاهركم علينا.

فجاؤوا بها وهم لا يشكّون أنهم سيدفعون رسول الله إليهم اذا نشروها.

فلمّا جاءوا بصحيفتهم قال أبو طالب : صحيفتكم بيني وبينكم ، فان ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني : أن الله عزوجل قد بعث على صحيفتكم الأرضة فلم تدع لله تعالى اسما الا اكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان. فان كان كاذبا فلكم عليّ أن أدفعه إليكم تقتلونه ، وان كان صادقا فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟

فأخذ عليهم المواثيق واخذوا عليه. فلمّا نشروها فاذا هي كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاستسرّ أبو طالب وأصحابه وقالوا : أرأيتم أيّنا أولى بالحزّ والقطيعة والبهتان؟!

٥٧٧

فقام المطعم بن عدي بن نوفل بن مناف ، وهشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي ، فقالوا : نحن براء من هذه الصحيفة القاطعة العادية الظالمة ، ولن نمالي أحدا في فساد أمرنا. وتتابع على ذلك ناس من أشراف قريش. فخرج القوم من شعبهم وقد أصابهم الجهد الشديد (١).

وقال ابن اسحاق في السيرة : مشى هشام بن عمرو بن ربيعة الى زهير بن أبي أميّة ابن المغيرة المخزومي ـ وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب ـ فقال له : يا زهير ، أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب ... وأخوالك حيث قد علمت لا يباعون ولا يبتاع منهم؟! أمّا إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام (أبي جهل) ثمّ دعوته الى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا.

قال : ويحك يا هشام فما أصنع؟ انما أنا رجل واحد ، والله أن لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتّى انقضها.

قال : قد وجدت رجلا ، قال : فمن هو؟ قال : أنا ، قال : ابغنا رجلا ثالثا.

فذهب (هشام) الى المطعم بن عدي فقال له : يا مطعم ، أقد رضيت ان يهلك بطنان من بني عبد مناف (بنو هاشم وبنو المطّلب) وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنّهم إليها منكم سراعا!

قال : ويحك فما أصنع؟ انما أنا رجل واحد. قال : قد وجدت ثانيا. قال : من هو؟ قال : أنا قال : ابغنا ثالثا. قال : قد فعلت. قال : من هو؟ قال : زهير بن أبي أميّة. قال : ابغنا رابعا.

فذهب (هشام) الى أبي البختريّ بن هشام فقال له ما قال للمطعم. فقال : وهل من أحد يعين على هذا؟ قال : نعم ، قال : من هو؟ قال : زهير ابن أبي أميّة والمطعم بن عدي ، وأنا معك. قال : ابغنا خامسا.

__________________

(١) حلية الأبرار ١ : ٦١ ، ٦٢.

٥٧٨

فذهب (هشام) الى زمعة بن الاسود بن المطلب ، فكلّمه وذكر له قرابتهم وحقهم. فقال له : وهل على هذا الأمر الّذي تدعوني إليه من أحد؟ قال : نعم ، وسمّى له القوم. فاتّعدوا ليلا بأعلى مكّة في مقدّم الحجون (قرب الشعب).

فاجتمعوا هناك وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتّى ينقضوها وقال زهير : أنا أبدؤكم فاكون أوّل من يتكلم.

فلمّا أصبحوا غدوا الى أنديتهم ، وغدا زهير بن أبي أميّة ، فطاف بالبيت سبعا ثمّ أقبل على الناس فقال : يا أهل مكّة! أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباعون ولا يبتاع منهم؟! والله لا أقعد حتّى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. وكان أبو جهل في ناحية المسجد فقال : كذبت ، والله لا تشق.

فقال زمعة بن الأسود : أنت ـ والله ـ اكذب ، ما رضينا كتابها حيث كتبت.

وقال أبو البختريّ : صدق زمعة ، لا نرضى ما كتب فيها ، ولا نقرّ به.

وقال المطعم بن عدي : صدقتما ، وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ الى الله منها وممّا كتب فيها.

فقال أبو جهل : هذا أمر قضي بليل ، تشوور فيه بغير هذا المكان.

فقام المطعم الى الصحيفة ليشقّها فوجد الأرضة قد اكلتها الا «باسمك اللهم».

وكان أبو طالب حاضرا في ناحية المسجد (١).

أمّا الآية التالية : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ)(٢) فقد اشتهر أن الآية نزلت بعد مقتل حمزة سيد الشهداء في احد في الثالثة بعد الهجرة ، وبمثله قال القمي في تفسيره (٣) ورواه العياشي

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٢ : ١٤ ـ ١٦. هذا ، ولا يخفى دافع التنكّر لدور أبي طالب عليه السلام.

(٢) النحل : ١٢٦.

(٣) تفسير القمي في آخر الجزء الأول.

٥٧٩

في تفسيره (١) ، عن الصادق عليه‌السلام. وعليه عدّ الآية بعضهم من مستثنيات السورة.

ولكن نقل الطبرسي في «مجمع البيان» عن الحسن قال : نزلت الآية قبل أن يؤمر النبيّ بقتال المشركين ، على العموم ، وانما امر بقتال من قاتله. وعن ابراهيم وابن سيرين ومجاهد : أنّ الآية عامة في كلّ ظلم كغصب ونحوه ، فانما يجازى بمثل ما عمل (٢) فان صحّ الخبر عن الصادق عليه‌السلام فيمكن حمله على تعدّد النزول ، أو التذكير بالآية.

وعليه فلعل قوله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ) أي عاقبتم مقاطعة المشركين وقطعهم لأرحامهم معكم بحصاركم في شعب أبي طالب ، فعاقبوهم بمثل ما عاملوكم به من القطيعة والهجران. ثمّ يقول في الآية التالية : (وَاصْبِرْ ...) عن المقابلة بالمثل (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) لعدم هدايتهم واصرارهم على ضلالهم (وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) من مكرهم السابق بحصركم في الشعب ، ومكرهم اللاحق (لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) وفي الآية التالية خاتمة السورة : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) ولذلك فانهم (يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ).

وعليه فالآية تشير الى آخر أمر حصر الرسول وبني هاشم في شعب أبي طالب ، وتكون سورة النحل آخر سورة نزلت قبل نهايته.

واذا قرّبنا أن حصار الشعب بدأ قريبا من بداية هجرة الحبشة بعد الاذن فيها في الآية العاشرة من سورة الزمر ، وهي الستون في ترتيب النزول ، وها نحن هنا قرّبنا أن تكون سورة النحل السبعون في النزول آخر ما نزل في آخر أيام

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٢٧٥.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٦٠٥.

٥٨٠