موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

من التعريض بأبي طالب وكأنّه قد عرف فيهم بالسمع والطاعة للرسول ، كما فيه ـ وكما في سوابقه ـ معرفة أبي لهب السابقة عن النبيّ بما وصفه بالسحر ، فكأنّه أمر قد عرف من قبل ، وان كان نص الخبر بالمبادأة.

وأحد الطريقين اللذين روى بهما الطوسي الخبر هو طريق الطبري الى ابن عبّاس (١) في تأريخه وتفسيره (٢) واللفظ في الموضعين «وخليفتي فيكم» لا «خليفتي

__________________

(١) وطريق الطبري هكذا : حدثنا ابن حميد قال : حدثنا سلمة قال : حدثني محمّد بن اسحاق (صاحب المغازي) عن عبد الغفّار بن القاسم ، عن المنهال بن عمرو ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطّلب ، عن عبد الله بن عبّاس ، عن علي بن أبي طالب قال ... ولكنّ الخبر لا يوجد في ابن اسحاق في السيرةبصفته تهذيبا (!) لسيرة ابن اسحاق.

ونقل نص ابن اسحاق القاضي النعمان المصري في كتابه : شرح الأخبار ١ : ١٠٦ ، ١٠٧ لا بلفظ المتكلّم عن علي عليه‌السلام بل بلفظ حكاية الغائب وقول أبي لهب فيه هكذا : لو لم تستدلوا على سحر صاحبكم الّا بما رأيتموه صنع في هذا الطعام واللبن لكفاكم. وهذا يدلّ على سابق معرفتهم باتّهام النبيّ بالسحر. وقول الرسول فيه «وخليفتي فيكم» وليس خليفتي في أهلي.

(٢) تأريخ الطبري ٣ : ٣١٩ ـ ٣٢١ وتفسيره ١٩ : ٧٤ ، ٧٥ ط بولاق ولكنّه في تفسيره حذف جملة «خليفتي فيكم» واستبدلها بجملة «كذا وكذا» في الموضعين فقال في الموضع الأوّل : «فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي وكذا وكذا»! وفي الموضع الثاني : «انّ هذا أخي وكذا وكذا»! أمّا ابن كثير الشامي فكأنّه استكثر هذه الجملة على علي عليه‌السلام فمع اعتماده في تأريخه على تأريخ الطبري مع ذلك لم يعتمد عليه هنا بل عوّل على تفسيره كما فعل ذلك في تفسيره ٣ : ٣١٥ والبداية والنهاية ٣ : ٤٠ والسيرة النبوية له ١ : ٤٥٩.

وجاء في «فلسفة التوحيد والولاية» للمرحوم الشيخ محمّد جواد مغنية ما معناه : أنّ من القدماء الّذين رووا نص النبي على علي بالخلافة عند ما دعا عشيرته وبلغهم رسالة ربه كل من : ابن حنبل في مسنده وابن الأثير في كامله. ومن المتأخرين : محمّد عبد الله عنّان في «تأريخ الجمعيات» ومحمّد حسين هيكل في الطبعة الاولى من «حياة محمّد» ولكنّه في الطبعة الثانية فما بعد في مقابل «خمسمائة جنيه»! أخذها من «جماعة» حرّف منه جملة

٣٨١

في أهلي» والواسطة بين الطوسي والطبري : جماعة عن أبي المفضل عن الطبري ، فمن أضاف أو حرّف؟ ليت شعري!

وقد مرّ عن الطبرسي أنّه روى الخبر في تفسيره «مجمع البيان» عن تفسير الثعلبي عن البراء بن عازب.

ورواه في «إعلام الورى» عن تفسيري الثعلبي النيسابوري وأبي سعيد الخرگوشي ، بعنوان : ممّا ذكره الرواة ، من دون تعيين راو خاص قال :

جمع بني عبد المطّلب في دار أبي طالب وهم أربعون رجلا يومئذ يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا ، وكان قد صنع لهم فخذ شاة مع مدّ من البر وأعدّ لهم صاعا من اللبن ، وقد كان الرجل منهم يأكل الجذعة في مقام واحد ويشرب القربة من الشراب. ثمّ أمر بتقديمه لهم ، فقدم وأكلت الجماعة من ذلك اليسير حتّى علوا منه ، ولم يبيّن فيه ما أكلوه وما شربوه منه.

ثمّ قال لهم بعد أن شبعوا ورووا : يا بني عبد المطّلب انّ الله قد بعثني الى الخلق كافة ، وبعثني إليكم خاصّة فقال : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وأنا أدعوكم الى

__________________

«خليفتي من بعدي» الى «خليفتي في أهلي» وبهذا قد مسخ الحديث المذكور. انظر : فلسفة التوحيد والولاية : ١٧٩ و ١٣٢.

وجاء في التعليقة على «أعيان الشيعة» أنّ الدكتور هيكل في مقابل شراء الف نسخة من كتابه قد حرف الحديث ومسخه في الطبعة الثانية منه واقتصر على جملة : أيّكم يؤازرني على هذا الأمر.

هذا ما حكاه السيد الحسني في «سيرة المصطفى : ١٣ ، ١٣١». والصحيح ما في «الصحيح» : أن هيكل بعد أن ذكر في الطبعة الاولى من حياة محمّد : ١٠٤ نص الطبري في التأريخ : عاد في الطبعة الثانية ١٣٥٤ ه‍ صفحة : ١٣٩ فحذف «خليفتي فيكم» واقتصر على قوله : «ويكون أخي ووصيي» أمّا الخمسمائة جنيه فإنّها كانت ثمن الف نسخة من كتابه كلّ نسخة بنصف جنيه. فلا منافاة ولا خلاف ، ولكنه الاعتساف وخلاف الشرع والإنصاف.

٣٨٢

كلمتين خفيفتين في الميزان تملكون بها العرب والعجم وتنقاد لكم بهما الامم وتدخلون بهما الجنة وتنجون بهما من النار : شهادة أن لا إله الّا الله وأنّي رسول الله. فمن يجيبني الى هذا الأمر ويؤازرني على القيام به حتّى يكون أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي؟! فلم يجب أحد منهم. فقام علي عليه‌السلام وقال : أنا يا رسول الله اؤازرك على هذا الأمر ، فقال : اجلس فأنت أخي ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي ، فنهض القوم وهم يقولون لأبي طالب : يهنك اليوم أن دخلت في دين ابن أخيك وقد جعل ابنك أميرا عليك (١).

ولم يذكر الطبري لهذه الرواية اسم راو خاص ، وقد يكون نقلا بالمعنى دون لفظ خاصّ ، ومهما كان فإن هذا اللفظ ينسجم مع المبادأة بالدعوة ، ويشترك مع سوابقه في عدم الإنذار فيه اللهم الّا مفهوم قوله : «وتنجون بهما من النار» بلا بيان النار أيّ نار هي؟ وأيضا في أخره ما يشعر باستشعار القوم الميل الى دينه من أبي طالب رضي الله عنه فنهوه عن ذلك.

أمّا ابن شهرآشوب في «المناقب» فقد أشار الى ما ذكره الطبري في تأريخه وقبله محمّد بن اسحاق في كتابه وأحمد في مسنده وفضائل الصحابة والخرگوشي في تفسيره عن أبي رافع والبراء بن عازب وابن عبّاس وربيعة ابن ناجد وأضاف ابن جبير ، وأدخل أخبارهم بعضها في بعض ثمّ نقل نظم الخبر في شعر دعبل الخزاعي وستة مقاطع من شعر الحميري ومقطعين من العوني (٢).

__________________

(١) اعلام الورى : ١٦٢ ، ١٦٣.

(٢) المناقب ١ : ٢٤ ـ ٢٦. وذكر مختصر الخبر الاربلي في «كشف الغمّة ١ : ٣٢٧ ـ ٣٢٨ عن ابن البطريق في «العمدة» وقال : «سبق ذكره أبسط من هذا». ولكنّي لم أجده فيه قبل هذا.

٣٨٣

هذا ما ذكره بعنوان «مسابقته في البيعة» في فضائل علي عليه‌السلام ، ولكنّه قبل ذلك في مبعث النبيّ قال : روى أنّه لمّا نزل قوله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) صعد رسول الله ذات يوم الصفا فقال : يا صباحاه! فاجتمعت إليه قريش فقالوا : مالك؟ قال : أرأيتكم ان أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم ما كنتم تصدقونني؟ قالوا : بلى. قال : فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد! فقال أبو لهب : تبّا لك ألهذا دعوتنا! فنزلت سورة تبّت (١) واكتفى المجلسي في باب المبعث (٢) من «المناقب» بهذا الفصل وهذا النقل فقط ، فبدا وكأن هذا كل ما يرويه ابن شهر اشوب في هذه الآية.

بينما الخبر مرسل ، أوّل ما فيه أنّه ليس انذرا للأقربين بل لقريش فهو على خلاف لفظ الآية.

ولعلّه لهذا قدّم الطبري في تأريخه حول الآية رواية ابن عبّاس ثمّ ابن ناجد السابقين ، وقد نقل الأوّل عن ابن اسحاق ، ثمّ عاد فنقل عنه ـ وجعله ثالثا وآخر ما نقل حول الآية ـ عن الحسن البصري قال : لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) قام رسول الله بالأبطح ثمّ قال : يا بني عبد المطّلب ، يا بني عبد مناف ، يا بني قصي ، ثمّ فخّذ قريشا قبيلة قبيلة حتّى مرّ على آخرهم فقال : إنّي أدعوكم الى الله وأنذركم عذابه (٣).

ولكنّ الطبري ـ كالمازندراني ـ لم يذكر ما في مثل هذا النقل من ضعف الإرسال في السند ومن الإشكال في متنه ودلالته ، وكأنّهما لم يريا بين معنى الآية وما نقلاه من عمل الرسول بها أيّ تناف أو خلاف.

والظاهر أنّ ما أرسله ابن شهرآشوب هو ما في «الدر المنثور» عن البخاري

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ٤٦.

(٢) بحارالانوار ١٨ : ١٩٧.

(٣) الطبري ٣ : ٣٢٢ والخبر في التفسير ١٩ : ٧٥ ط بولاق.

٣٨٤

وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وسعيد بن منصور عن ابن عبّاس. وعلى هذا فتكون الرواية عن ابن عبّاس على صورتين : الاولى عنه عن علي عليه‌السلام في يوم الدار والدعوة ، والثانية هذه الموقوفة عليه من دون اسناد عن أبيه العبّاس أو علي عليه‌السلام ، فالاولى هي الأولى بالقبول سندا وموافقة للكتاب ، والثانية مقطوعة مخالفة لظاهر الآية : «الأقربين» فهي هراء.

وأظهر منها هراء ما في «الدر المنثور» أيضا عن أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان» وفي «الدلائل» عن أبي هريرة قال : لمّا نزلت هذه الآية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) دعا رسول الله قريشا وعمّ وخصّ فقال : يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإنّي لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا معشر بني كعب بن لؤي ... يا معشر بني قصي ... يا معشر بني عبد مناف ... يا بني عبد المطّلب ... ـ في كلّها يقول : أنقذوا أنفسكم من النار فإنّي لا أملك لكم ضرّا ولا نفعا ـ وفي آخر الخبر : يا فاطمة بنت محمّد انقذي نفسك من النار فإنّي لا أملك لك ضرّا ولا نفعا ، الّا أنّ لكم رحما وسابلّها ببلالها!

فهذه الرواية أبعد ما تكون من الآية حيث تقول : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جعل يدعو قريشا قبيلة قبيلة ، فكأن أبا هريرة يعمّم الإنذار قريشا عامة ، بينما الآية تصرّح بالعشيرة الأقربين ، وهم إمّا بنو عبد المطّلب أو بنو هاشم.

وكأنّ أبا هريرة ـ أو من أجرى هذا الهراء على لسانه ـ كان ناظرا الى هذا الإشكال بالخلاف بين عمل الرسول بالتعميم ومفاد الآية بالتخصيص ، فقال : «وعمّ وخصّ» وهو لا يرفع الإشكال. ثمّ كيف دعاهم فجمعهم فأنذرهم بهذا؟ وكيف جمع معهم ابنته فاطمة وكم كان عمرها يومئذ؟ واين كان أبو هريرة يوم نزول الآية وقد أسلم قبل وفاة النبيّ ببضع سنين والخبر مقطوع عليه. فهو مردود.

٣٨٥

وأبعد من ذلك في الابتعاد بمفاد الآية عن الإمام علي عليه‌السلام وفضله وسبقه ما في «الدر المنثور» أيضا عن الطبراني وابن مردويه عن أبي امامة قال : لمّا نزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) جمع رسول الله بني هاشم فأجلسهم على الباب ، وجمع نساءه وأهله فأجلسهم في البيت ، ثمّ اطّلع عليهم فقال : يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من النار ، واسعوا في فكاك رقابكم وافتكّوها بأنفسكم من الله فإنّي لا أملك لكم من الله شيئا. ثمّ أقبل على أهل بيته فقال : يا عائشة بنت أبي بكر ويا حفصة بنت عمر ويا أمّ سلمة ويا فاطمة بنت محمّد ، ويا أمّ الزبير عمّة رسول الله ، اشتروا (كذا) أنفسكم من الله واسعوا في فكاك رقابكم فإنّي لا أملك لكم من الله شيئا ولا اغني!

نقل كلّ ذلك العلّامة الطباطبائي في تفسيره «الميزان» وعلّق على هذه الرواية الثالثة فقال : فقوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) آية مكيّة في سورة مكيّة ، ولم يقل أحد بنزول الآية بالمدينة ، فأين كانت يوم نزولها عائشة وحفصة وأمّ سلمة ولم يتزوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بهن الّا في المدينة؟ ثمّ قال : فالمعتمد من الروايات ما يدلّ على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خصّ بالإنذار يوم نزول الآية بني هاشم أو بني عبد المطّلب. ثمّ يقول : ومن عجيب الكلام قول الآلوسي بعد نقل الروايات : واذا صحّ الكلّ (بنقل الصحاح) فطريق الجمع أن يقال بتعدد الانذار! (١).

ومن نافلة القول أن نقول : لا يرد عندنا أيّ احتمال في افتعال هذه الأقوال حول هذه الآية ، سوى الابتعاد بمفادها حسب الخبر الصحيح عمّا في ذلك من الدليل على سبق علي عليه‌السلام في الإيمان وسبق قول الرسول له : «أنت أخي ووصيي ووارثي وخليفتي من بعدي».

__________________

(١) الميزان ١٥ : ٣٣٣ ـ ٣٣٥.

٣٨٦

ولكن لا حافظة لكذوب :

ومهما تكن عند امرئ من خليقة

وان خالها تخفى على الناس تعلم

نعم من الرواة من لم يكن يفكر في شيء سوى الفخر بأسلافه ، فلم يأبه بذكر شيء سوى ذلك.

نجد مثال ذلك في هذا الموضوع عند اليعقوبي حيث روى الخبر عن الفضل بن عبد الرحمن الهاشمي من ولد ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب. قال : أمره الله عزوجل أن ينذر عشيرته الأقربين ، فوقف على «المروة» ثمّ نادى بأعلى صوته : يا آل فهر ؛ فاجتمعت إليه بطون قريش حتّى لم يبق أحد منهم ، فقال له أبو لهب : هذه فهر ، فنادى : يا آل غالب فانصرف غيرهم (وهكذا ... حتّى نادى) يا آل هاشم فأقام بنو عبد المطّلب ، فقال أبو لهب : هذه هاشم قد اجتمعت. فجمعهم في دار الحارث بن عبد المطّلب (!) وكانوا أربعين رجلا يزيدون رجلا أو ينقصونه. فصنع لهم طعاما فأكلوا عشرة عشرة حتّى شبعوا ، وكان جميع طعامهم رجل شاة وشرابهم عسّا من لبن ، وانّ منهم من يأكل الجذعة ويشرب الفرق. ثمّ أنذرهم وأعلمهم تفضيل الله ايّاهم واختصاصه لهم اذ بعثه بينهم وأمره أن ينذرهم (!)

فقال أبو لهب : خذوا على يد صاحبكم قبل أن يأخذ على يده غيركم ، فإن منعتموه (أي حاميتموه) قتلتم ، وان تركتموه ذللتم!

فقال أبو طالب : يا عورة ؛ والله لننصرنّه ثمّ لنعيننّه. يا بن أخي اذا أردت أن تدعو الى ربّك فأعلمنا حتّى نخرج معك بالسلاح.

وأسلم يومئذ جعفر بن أبي طالب ، وعتبة بن الحارث (١).

أمّا علي فلا كلام عنه! وأمّا هذه الدعوة بهذه الكيفية فقد انفرد بها اليعقوبي ، وهي عجيبة غريبة ، بعيدة عن الحكمة والمعقول ، فهي مردودة.

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ٢٧.

٣٨٧

ولا يفوتني في الخاتمة أن الفت نظر القرّاء الكرام إلى أنّ ما عدا هذا الخبر الأخير من أخبار الإنذار في يوم الدار للأقربين من العشيرة ، تكاد تجمع على أنّ المعدّ للطعام وطابخه لهم هو علي عليه‌السلام دون سواه لا خديجة ولا جواريها ولا فاطمة بنت أسد ...

إلّا ما رواه الحميري في قرب الإسناد بسنده عن الامام الكاظم عليه السلام في معجزاته عليه السلام : أنّه لما ألبّ عليه قومه وسائر العشائر (وهذا أيضاً ينصّ على كون ذلك بعد الاعلان) أمر علياً أن يأمر خديجة (كذا ولعلّها كانت بمنأى عنه فكان علي الوسيط بينهما) : أن تتّخذ له طعاماً ، ففعلت. وأمره أن يدعو له أقرباءه من بني عبد المطلب ، فدعا أربعين رجلاً.

فقال صلّى الله عليه وآله : يا علي ، هات لهم طعاماً.

فأتاه بطعام من ثريدة يأكلها الثلاثة والاربعة ، فقدّمها إليهم وقال : سمّوا وكلوا ، فسمّى ، ولم يسمّ القوم وأكلوا حتى شبعوا وصدروا (١).

__________________

(١) قرب الاسناد : ٣٥٢ الحديث ١٢٣٣.

٣٨٨

الفصل الرابع

إعلان الدعوة

٣٨٩
٣٩٠

مرحلة الدعوة العلنية العامّة :

روى الصدوق في «إكمال الدين» بإسناده عن عبد الله بن علي الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : مكث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكّة بعد ما جاءه الوحي عن الله تبارك وتعالى ثلاث عشرة سنة ، مستخفيا منها ثلاث سنين ، خائفا لا يظهر حتّى أمر الله عزوجل أن يصدع بما امر ، فأظهر حينئذ الدعوة (١).

وروى العياشي في تفسيره عن الحلبي عن الصادق عليه‌السلام قال : اكتتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكّة سنين ليس يظهر ، وعليّ معه وخديجة ، ثمّ أمره الله أن يصدع بما يؤمر ، فظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب ، فإذا أتاهم قالوا : كذّاب ، امض عنّا (٢).

وروى الصدوق في «معاني الأخبار» و «الخصال» بسنده عن أبان بن عثمان الأحمر البجلي الكوفي قال : كان المستهزءون (برسول الله) خمسة من قريش : الوليد بن المغيرة المخزومي ،

__________________

(١) اكمال الدين : ١٩٧ كما في البحار ١٨ : ١٧٧.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٢٥٣.

٣٩١

والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، والأسود بن المطّلب ، والحارث بن الطلاطلة الثقفي (١). ورواه العياشي بزيادة : فلمّا قال الله تعالى : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) علم رسول الله أنّه قد أخزاهم ، فأماتهم الله بشرّ ميتات (٢).

وقال القميّ في تفسيره : انّ النبوة نزلت على رسول الله يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء ثمّ أسلمت خديجة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ دخل أبو طالب الى النبيّ وهو يصلّي وعلي بجنبه ، وكان مع أبي طالب جعفر ، فقال له أبو طالب : صلّ جناح ابن عمّك ، فوقف جعفر على يسار رسول الله ، فبدر رسول الله من بينهما. فكان رسول الله يصلّي ، وعلي وجعفر وزيد بن حارثة وخديجة يأتمون به.

فلمّا أتى لذلك ثلاث سنين أنزل الله عليه (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)(٣).

والمستهزءون برسول الله خمسة : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل السهمي ، والأسود بن المطّلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحرث بن طلاطلة الخزاعي.

أمّا الوليد : فكان رسول الله دعا عليه ـ لما كان يبلغه من ايذائه واستهزائه ـ فقال : اللهم اعم بصره واثكله بولده! فعمي بصره ... ومرّ برجل من خزاعة وهو يريش نبالا له فوطأ على بعضها فأصاب عقبه قطعة من ذلك فدميت. فمرّ برسول الله ومعه جبرئيل فقال جبرئيل : يا محمّد ، هذا الوليد بن المغيرة ، وهو من المستهزئين بك؟ قال : نعم ، فلمّا مرّ أشار جبرئيل الى ذلك الموضع (من النبل في

__________________

(١) الخصال ١ : ٢٧٨ ، ٢٧٩.

(٢) تفسير العياشي ٢ : ٢٥٢ بل یخزيهم فيميتهم بشرّ ميتات ، كما سيأتي قريباً.

(٣) الحجر : ٩٤ ـ ٩٥.

٣٩٢

عقبه) فرجع الوليد الى منزله ونام على سريره ، فسال منه الدم حتّى صار الى فراش ابنته ، فانتبهت فقالت : انحلّ وكاء القربة! قال الوليد : ما هذا وكاء القربة ولكنه دم أبيك ، فاجمعي لي ولدي وولد أخي فإنّي ميت. فجمعتهم.

فقال لعبد الله بن أبي ربيعة : انّ عمارة بن الوليد بأرض الحبشة بدار مضيعة ، فخذ كتابا من محمّد الى النجاشي أن يردّه! ثمّ فاضت نفسه.

ومرّ ربيعة بن الأسود (١) برسول الله ، فأشار جبرئيل الى بصره فعمي ومات.

ومرّ به الأسود بن عبد يغوث فأشار جبرئيل الى بطنه فلم يزل يستسقي حتّى انشق بطنه.

ومرّ العاص بن وائل فأشار جبرئيل الى رجليه ، فدخل عود في أخمص قدميه وخرج من ظاهره ومات.

ومرّ به الحارث بن طلاطلة فأشار جبرئيل الى وجهه ، فخرج الى جبال تهامة فأصابته من السماء ديم فاستسقى حتّى انشق بطنه. فهذا هو قول الله : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ).

فخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقام على الحجر فقال : «يا معشر قريش ، يا معشر العرب ، ادعوكم الى شهادة أن لا إله الّا الله وأنّي رسول الله ، وآمركم بخلع الأنداد والأصنام ، فأجيبوني تملكوا بها العرب وتدين لكم العجم ، وتكونوا ملوكا في الجنة».

فاستهزءوا به وقالوا : جن محمّد بن عبد الله. ولم يجسروا عليه لموضع أبي طالب (٢).

__________________

(١) كذا ، ولم يذكر كذلك من قبل ، والظاهر أنّ ربيعة هنا مصحّف : أبي زمعة الأسود بن المطّلب!

(٢) تفسير القمّي ١ : ٣٧٩.

٣٩٣

وظاهر هذا الأخير هو المبادأة بالدعوة العلنية ، بعد ثلاث سنين من نزول النبوة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله كما صرّح به في أوّل مقاله ، وكما مرّ في الخبر الأوّل عن تفسير العياشي عن الصادق عليه‌السلام.

وأيضا ظاهر الأخير من كلام القمّي أنّ ذلك كان بعد هلاك المستهزئين به لا قبله ، ولكنّ مقاله خلو من الاجابة على أن هؤلاء المستهزئين بما ذا كانوا يستهزءون في مرحلة الكتمان؟

أمّا طلب الوليد من عبد الله بن ربيعة أن يأخذ من محمّد كتابا الى النجاشي بأرض الحبشة أن يردّ عمارة بن الوليد الى مكّة ، فلا يلازم سابق الإعلان فقط بل يستلزم أن يكون ذلك بعد الهجرة الى الحبشة واكتشاف ميل النجاشي الى الدين الجديد! والقمّي في مقاله هذا مرّ عليه مرور الكرام وكأنّه لم يلتفت الى هذه المفارقة الواضحة ، وكذلك كلّ من نقل عنه مقاله هذا.

أمّا الطبرسي في تفسيره فقد قال : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) عن ابن عبّاس وابن جريج ومجاهد وابن زيد والزجاج : أي أظهر وأعلن وأبن وصرّح بما امرت به غير خائف. وقال الزجاج : والصدع في الزجاج والجدار بينونة بعضه عن بعض. وعن أبي مسلم : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) أي لا تلتفت إليهم ولا تخف منهم. (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) أي شرّ المستهزئين واستهزاءهم بأن أهلكناهم.

فعن ابن عبّاس وابن جبير : أنّهم كانوا خمسة نفر من قريش : العاص بن وائل ، والوليد بن المغيرة ، وأبو زمعة الأسود بن المطّلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والحرث بن قيس.

وعن محمّد بن ثور : كانوا ستة رهط ، وسادسهم : الحارث بن الطلاطلة.

قالوا : أتى جبرئيل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والمستهزءون يطوفون بالبيت ، فقام جبرئيل ورسول الله الى جنبه ، فمرّ به الوليد بن المغيرة المخزومي فأومى بيده الى ساقه ،

٣٩٤

فمرّ الوليد على قين لخزاعة وهو يجرّ ثيابه فتعلّقت بثوبه شوكة ، فمنعه الكبر أن يخفض رأسه فينزعها ، وجعلت تضرب ساقه فخدشته ، فلم يزل مريضا حتّى مات.

ومرّ به العاص بن وائل السهمي فأشار جبرئيل الى رجله فوطأ العاص على شوكة فدخلت في أخمص رجله فلم يزل يحكّها حتّى مات.

ومرّ به الأسود بن المطّلب بن عبد مناف فأشار الى عينه فعمي.

وقيل : رماه بورقة خضراء فعمي وجعل يضرب رأسه على الجدار حتّى هلك.

ومرّ به الأسود بن عبد يغوث فأشار الى بطنه فاستسقى حتّى مات.

وقيل : أصابته السّموم فصار أسود ، فأتى أهله فلم يعرفوه فطردوه فمات.

ومرّ به الحارث بن الطلاطلة فأومى الى رأسه فامتخط قيحا فمات.

وقيل : انّ الحرث بن قيس أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فما زال يشرب حتّى انقدّ بطنه فمات (١).

ولئن كان الطبرسي صاحب التفسير هذا قد لخّص بعض الأخبار عن غير الأئمة الأطهار عليهم‌السلام بشأن هؤلاء المستهزئين ، في كتابه هذا «مجمع البيان» تبعا للشيخ الطوسي في كتابه «التبيان» وان كانت رواية ابن عبّاس فيما رواه مقطوعة عليه دون أن يسندها الى علي عليه‌السلام فإن الطبرسي الآخر صاحب «الاحتجاج» قد روى بشأن المستهزئين خبرا مبسوطا عن الإمام الكاظم عن جده الحسين عليه‌السلام فيما أجاب به علي عليه‌السلام حبرا يهوديا شاميا جاء الى مجلس فيه أصحاب رسول الله : أبو معبد الجهني وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عبّاس (٢) ممّا يكشف لنا عن مصدر خبر ابن عبّاس عن ذلك.

__________________

(١) مجمع البيان ٦ : ٥٣٣ ، ٥٣٤.

(٢) الاحتجاج ٢ : ٣١٤ ـ ٣٢٢.

٣٩٥

ولئن كان الخبر في «الاحتجاج» مرسلا مرفوعا فقد رواه الصدوق في كتابيه «معاني الأخبار» و «الخصال» مسندا ، قال : فأمّا المستهزءون فقال الله عزوجل له : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) فقتل الله خمستهم ، قد قتل كل واحد منهم بغير قتلة صاحبهم ، في يوم واحد :

أمّا الوليد بن المغيرة : فإنّه مرّ بنبل لرجل من بني خزاعة قد راشه في الطريق ، فأصابته شظية منه فانقطع أكحله (١) حتّى أدماه فمات وهو يقول : قتلني ربّ محمّد.

وأمّا العاص بن وائل السهمي : فإنّه قد خرج في حاجة إلى كداء (٢) فتدهده (٣) تحته حجر فسقط فتقطّع قطعة قطعة فمات وهو يقول : قتلني ربّ محمّد.

وأمّا الأسود بن عبد يغوث : فإنّه خرج يستقبل ابنه زمعة ومعه غلام له ، فاستظلّ بشجرة تحت كداء ، فأتاه جبرئيل عليه‌السلام فأخذ رأسه فنطح به الشجرة فقال لغلامه : امنع هذا عني : فقال : ما أرى أحدا يصنع بك شيئا الّا نفسك! فقتله وهو يقول : قتلني ربّ محمّد.

قال الصدوق : وفي خبر آخر قول آخر : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد دعا عليه أن يعمي الله بصره وأن يثكله ولده ، فلمّا كان ذلك اليوم جاء حتّى صار الى كداء فأتاه جبرئيل عليه‌السلام بورقة خضراء فضرب بها وجهه فعمي ، وبقي حتّى أثكله الله بولده يوم بدر ثمّ مات.

وأمّا الحارث بن الطلاطلة : فإنه خرج من بيته في السموم فتحول حبشيا فرجع الى أهله فقال : أنا الحارث فغضبوا عليه فقتلوه وهو يقول : قتلني ربّ محمّد.

__________________

(١) الاكحل : عرق الحياة في اليد ـ القاموس.

(٢) كداء ـ كسماء ـ جبل بأعلى مكّة. القاموس ومراصد الاطلاع.

(٣) تدهده : تدحرج.

٣٩٦

وأمّا الأسود بن المطّلب : فإنّه أكل حوتا مالحا فأصابه غلبة العطش فلم يزل يشرب الماء حتّى انشق بطنه فمات وهو يقول : قتلني ربّ محمّد.

وذلك أنّهم كانوا بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا له : يا محمّد ننتظر بك الى الظهر فإن رجعت عن قولك والّا قتلناك!

فدخل النبيّ منزله فأغلق عليه بابه مغتمّا بقولهم. فأتاه جبرئيل عليه‌السلام ساعة فقال له : يا محمّد ، السلام يقرئك السلام وهو يقول : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) أظهر أمرك لأهل مكّة وادع ، (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) قال : يا جبرئيل كيف أصنع بالمستهزءين وما أوعدوني؟ قال له : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) قال : يا جبرئيل كانوا عندي الساعة بين يدي؟ فقال : قد كفيتهم. فأظهر أمره عند ذلك (١).

أمّا هذا المقطع الأخير من الخبر فهو صريح في أنّ قوله سبحانه : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) ليس بداية مرحلة الدعوة العلنية ، بل كان بادئا بها من قبل مواجها ومقابلا بها المشركين ومنهم هؤلاء المستهزءون ، قد بلغت المواجهة بعد الاستهزاء إلى حد التهديد بالقتل إن لم يرجع عن قوله ، وأن قوله سبحانه (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) ليس الّا اخبارا برفع المانع بعد وجود المقتضي كما يقولون ، لا ايجادا للمقتضي. فكيف التوفيق؟ وعلى هذا فمعنى الإعراض عن المشركين هنا هو عدم الاعتناء والاعتداد بتهديدهم. ومعنى قوله (فَاصْدَعْ) هو عدم ترتيب الأثر على تهديدهم بدخول الدار وغلق الباب والامتناع عن الدعوة بالرسالة ، وليس البدء بها.

وقد مرّ في خبر الطبرسي : قالوا : أتى جبرئيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمستهزءون يطوفون بالبيت ... ولا نجد هذا في خبر الكاظم عن علي عليه‌السلام ، ومتى كان ذلك هل قبل نزول الآية أم بعدها؟

__________________

(١) الخصال ١ : ٢٧٩ ، ٢٨٠.

٣٩٧

نجد جواب ذلك فيما رواه الراوندي في «الخرائج والجرائح» قال : روي أنّه لمّا نزل (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) بشّر النبيّ أصحابه : أن الله كفاه أمرهم يعني خمسة نفر ، فأتى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله البيت والقوم في الطواف وجبرئيل عن يمينه.

فمرّ الأسود بن المطّلب ، فرمى (جبرئيل) بورقة في وجهه خضراء فأعمى الله بصره وأثكله بولده.

ومرّ به الأسود بن عبد يغوث فأومأ الى بطنه فاستسقى ماء فمات حبنا (١).

ومرّ به الوليد بن المغيرة فأومأ الى جرح كان في أسفل رجله فانتقض بذلك فقتله.

ومرّ به العاص بن وائل السهمي فأشار الى أخمص رجله فخرج على حمار له يريد الطائف فدخلت في (أخمص رجله) شوكة فقتلته.

ومرّ به الحارث بن طلاطلة فأومأ إليه فتقيّأ قيحا فمات (٢).

إذن فإتيان جبرئيل بالرسول الى البيت ومرور هؤلاء المستهزئين به في طوافهم حول البيت ، وايماء الرسول إليهم بالتعريف وايماء جبرئيل إليهم بالعذاب ، كان بعد نزول جبرئيل عليه بالآيات وتبشيره لأصحابه بها وبهلاك المستهزئين حسب ما جاء فيها.

أمّا ما اختصره الطبرسي في تفسيره عن ابن عبّاس وابن جبير ومحمّد ابن ثور ، فقد نقله ابن شهرآشوب عنهم فقال : كان المستهزءون به جماعة منهم : الوليد بن المغيرة المخزومي ، والأسود بن عبد يغوث الزهري ، وأبو زمعة الأسود بن

__________________

(١) حبنا : من عظم البطن تورما من الاستسقاء.

(٢) الخرائج والجرائح ١ : ٦٣ ، الحديث ١٠٩ وعنه في بحارالانوار ١٨ : ٢٤٠.

٣٩٨

المطّلب ، والعاص بن وائل السهمي ، والحرث بن قيس السهمي ، وعقبة بن أبي معيط وقهيلة بن عامر الفهري ، والأسود بن الحرث ، وأبو اجيحة سعيد بن العاص ، والنضر بن الحرث العبدي ، والحكم بن العاص بن أميّة ، وعتبة بن ربيعة ، وطعيمة بن عدي ، والحرث بن عامر بن نوفل ، وأبو البختري العاص بن هاشم بن أسد ، وأبو جهل ، وأبو لهب. وكلّهم قد أفناهم الله بأشد نكال.

وكانوا قالوا له : يا محمّد ننتظر بك الى الظهر ، فإن رجعت عن قولك والّا قتلناك! فدخل منزله وأغلق عليه بابه ، فأتاه جبرئيل ساعته فقال له : يا محمّد ، السلام يقرأ عليك السلام وهو يقول : اصدع (بِما تُؤْمَرُ) وأنا معك وقد أمرني ربّي بطاعتك.

فلمّا أتى البيت رمى الأسود بن المطّلب في وجهه بورقة خضراء وقال : اللهم اعم بصره واثكله بولده. فعمي وأثكله الله بولده.

وروى : أنّه أشار الى عينه فعمي فكان يضرب رأسه على الجدار حتّى هلك.

ثمّ مرّ به الأسود بن عبد يغوث فأومى الى بطنه فاستسقى ماء ومات حبنا.

ومرّ به الوليد فأومى الى جرح اندمل في بطن رجله من نبل فتعلقت به شوكة فنن فخدشت ساقه ولم يزل مريضا حتّى مات.

ومرّ به العاص فعابه ، فخرج من بيته فلفحته السموم ، فلمّا انصرف الى داره لم يعرفوه فباعدوه فمات غما. وروى أنّهم غضبوا عليه فقتلوه.

وروى أنّه وطأ على شبرقة (١) فدخلت في أخمص رجله فقال : لدغت فلم يزل يحكّها حتّى مات.

ومرّ به الحارث بن طلاطلة فأومى الى رأسه فتقيّأ قيحا. ويقال : لدغته الحية. ويقال : خرج الى كداء فتدهده عليه حجر فتقطع.

__________________

(١) الشبرق : نبت حجازي يؤكل وله شوكة ، فإذا يبس فهو الضريع.

٣٩٩

وأمّا الأسود بن الحارث : فإنّه أكل حوتا مالحا فأصابه العطش فلم يزل يشرب الماء حتّى انشقت بطنه.

وأمّا قهيلة بن عامر : فخرج يريد الطائف ففقد ولم يوجد.

وأمّا عيطلة : فإنّه اتي بشوك فأصاب عينيه فسالت حدقته على وجهه. وقيل : استسقى فمات.

وأمّا أبو لهب : فإنّه (مات بعد بدر) ورماه الله بالعدسة (الطاعونية) فعاش سبع ليال (ومات) وكانت قريش تتقي العدسة ، فتركه ابناه ثلاثا لا يدفنانه ، حتّى رمته قريش على جدار بأعلى مكّة وقذفوا عليه الحجارة حتّى واروه بها (١).

وروى ابن اسحاق خبر المستهزئين عن عروة بن الزبير قال : كان عظماء المستهزئين خمسة نفر من ذوي الأسنان والشرف في قومهم :

من بني أسد بن عبد العزّى : الأسود بن المطّلب.

ومن بني زهرة : الأسود بن عبد يغوث.

ومن بني مخزوم : الوليد بن المغيرة.

ومن بني سهم : العاص بن وائل.

ومن بني خزاعة : الحارث بن الطلاطلة.

فلمّا تمادوا في الشرّ وأكثروا برسول الله الاستهزاء ، أنزل الله تعالى عليه (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) وأتى جبرئيل رسول الله وهم يطوفون بالبيت ، فقام وقام رسول الله الى جنبه ، فمرّ به الأسود بن عبد المطّلب فرمى في وجهه بورقة خضراء فعمي. ومرّ به الأسود بن عبد يغوث فأشار الى بطنه فاستقى بطنه فمات حبنا (أي انتفاخا) ومرّ به الوليد بن المغيرة فأشار الى أثر جرح بأسفل كعب رجله كان قد أصابه قبل

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ١ : ١٠٨.

٤٠٠