موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

وهذا اللفظ المروي هنا في هذا الخبر عن خديجة عليها‌السلام أخفّ وطأة والأمر فيه أيسر ممّا رواه الطبريّ بسنده عن عبد الله بن شدّاد قال : ثمّ أبطأ عليه جبرئيل فقالت له خديجة : ما أرى ربّك الّا قد قلاك (!) فأنزل الله عزوجل : (وَالضُّحى)(١) وقد خلا عنه ما رواه ابن اسحاق والطبري عنه عن عبد الله بن الحسن عن امّه فاطمة بنت الحسين عن جدّتها خديجة في بدء نبوة الرسول (٢) بل كأنّ ابن اسحاق أراد أن يبرّئ خديجة عن نسبة تلك المقولة إليها فبدأ برواية خبر عن عبد الله بن جعفر عن رسول الله قال :

امرت أن ابشّر خديجة ببيت من قصب (أي ذهب) لا صخب فيه ولا نصب. وقال : حدّثني من أثق به : أنّ جبرئيل عليه‌السلام أتى رسول الله فقال : أقرئ خديجة السلام من ربّها. فقال رسول الله : يا خديجة ، هذا جبرئيل يقرئك السلام من ربّك. فقالت خديجة : الله السلام ومنه السلام وعلى جبرئيل السلام. ثمّ قال ابن اسحاق :

ثمّ فتر الوحي عن رسول الله فترة من ذلك حتّى شقّ ذلك عليه فأحزنه ، فجاءه جبرئيل بسورة الضحى : يقسم له ربّه ـ وهو الّذي أكرمه بما أكرمه به ـ أنّه ما ودّعه وما قلاه ، ويقول : ما صرمك فتركك وما أبغضك منذ أحبّك ، وما عندي من مرجعك إليّ خير لك ممّا عجّلت لك من الكرامة في الدّنيا (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) من الفلج (٣) في الدنيا والثواب في الآخرة (فَتَرْضى) ثمّ يعرّفه الله ما ابتدأه به من كرامة في عاجل أمره ومنّه عليه في يتمه وعيلته وضلالته ، واستنقاذه من ذلك كلّه برحمته (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) بما جاءك من الله من نعمته وكرامته من النبوة فاذكرها وادع إليها. فجعل رسول الله ـ صلّى الله عليه

__________________

(١) الطبري ٢ : ٣٠٠ ، والتفسير ٣٠ : ١٦٢.

(٢) ابن اسحاق في السيرة١ : ٢٥٥ ، والطبري عنه ٢ : ٣٠٣.

(٣) الفلج : الفوز والغلبة.

٣٦١

[وآله] وسلّم ـ يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوة سرّا الى من يطمئن إليه من أهله (١).

ولو كان كذلك فلا ينسجم هذا مع ما رواه الطبرسي عن ابن عبّاس قال : احتبس الوحي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة عشر يوما ، فقال المشركون : انّ محمّدا قد ودّعه ربّه وقلاه ، ولو كان أمره من الله لتتابع الوحي عليه ، فنزلت السورة (٢).

وهذا لا ينسجم مع ما روى الطبري عن ابن عبّاس أيضا في سنوات البعثة اذ قال : بعث رسول الله لأربعين سنة ، فمكث بمكّة ثلاث عشرة سنة (٣) فهل عنى بذلك أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ القرآن على المشركين معلنا لهم الدعوة منذ بدء البعثة حتّى اذا احتبس عنه الوحي خمسة عشر يوما قالوا فيه ذلك؟

وروى الطبري عن ابن شهاب عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يحدث عن فترة الوحي : بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي ، فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض. قال رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ : فجئثت منه فرقا (٤) وجئت فقلت : زمّلوني ، زمّلوني! فدثروني فأنزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)(٥) الى قوله : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) قال : ثمّ تتابع الوحي (٦).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ١ : ٢٥٧ ـ ٢٥٩.

(٢) مجمع البيان ١٠ : ٧٦٤.

(٣) الطبري ٢ : ٢٩٢ بطريقين.

(٤) جئثت : خفت وفزعت ، وفرقا. خوفا وفزعا.

(٥) المدّثّر : ١ ـ ٣.

(٦) الخبر في التفسير ٢٩ : ٩٠ ط بولاق وفي التأريخ ٣ : ٣٠٦ ط دار المعارف. ونقله الطوسي في التبيان ١٠ : ١٧١.

٣٦٢

وحسب تعبير الخبر فان جابرا يصف حديث رسول الله أنّه كان يحدث عن فترة الوحي ، والفترة من الفتور ، وهو لا يكون في الوحي الّا بين وحيين ، فلا يكون الّا بعد بدء الوحي ، وفي نفس الخبر نص بالإشارة الى سبق نزول ملك الوحي إليه في حراء : «فإذا الملك الّذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ» وفي آخر الخبر : «ثمّ تتابع الوحي» في مقابل «فتر الوحي».

فالخبر اذن لا يدلّ على أنّ الآيات من سورة المدّثّر هي أوّل ما نزل عليه (١) وإن نقل ذلك عن جابر نفسه ، كما في ما روى الطبري عن ابن شهاب عن ابن سلمة قال :

سألت جابر بن عبد الله : أيّ القرآن انزل أوّل؟ فقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) فقلت : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فقال : لا اخبرك الّا ما حدثنا النبيّ قال : جاورت في حراء فلمّا قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي فنوديت فنظرت عن يميني وعن شمالي وخلفي وقدّامي فلم أر شيئا ، فنظرت فوق رأسي فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض ...».

وفي لفظ آخر : «فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، وعن شمالي فلم أر شيئا ، ونظرت امامي فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فرأيت شيئا ...».

نعم ليس في هذين اللفظين من الخبر ما مرّ في اللفظ الأسبق «فإذا الملك الّذي جاءني بحراء» وأيضا ليس فيهما ما كان في الأسبق أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يحدّث عن فترة الوحي ، مع أنّ الراوي هو أبو سلمة بن عبد الرحمن نفسه ، وهذا غريب! والراوي عنه هو الزهري ، ولكنّه لم يفهم من الخبر ما ادّعاه أبو سلمة بل ونسبه الى جابر

__________________

(١) كما في الميزان ٢٠ : ٨٣.

٣٦٣

في اللفظين المتأخرين من الخبر دون الأوّل ، ولذلك فإنّ الزهري فيما رواه عنه الطبري في حديثه عن فترة الوحي روى اللفظ الأوّل للخبر ثمّ قال : وكان أوّل شيء أنزل عليه (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) حتّى بلغ (ما لَمْ يَعْلَمْ)(١) فقد عوّل على الخبر بلفظه الأوّل لا الأخيرين ، كما فعل البخاري فرواه دونهما ، وان كان مسلم قد رواهما معا.

فالمعوّل على اللفظ الأوّل للخبر دون الآخرين ، حيث أقر راوي الخبر أبو سلمة بنقله عن جابر من دون القول بأن أوّل ما نزل سورة المدّثّر ، وان كان قد أضاف ذلك إليه في اللفظين الأخيرين (فالعهدة) فيهما على الراوي دون جابر ، فليس من باب الظن والاجتهاد من جابر ، كما في «التمهيد» (٢) وعلى هذا فليس القول بأنّ أوّل ما نزل هو سورة المدّثّر من جابر ، بل هو من نسبة أبي سلمة الى جابر ، دون ثبات على هذه النسبة فقد روى هو عنه خلافها أيضا.

نعم لا يمكن تأييد ما في الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «فجئثت منه فرقا» أي خفت منه خوفا أو فزعت منه فزعا ، لأنّه بظاهره يتنافى مع ما رواه العياشي في تفسيره عن زرارة قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كيف لم يخف رسول الله فيما يأتيه من قبل الله أن يكون ذلك ممّا ينزغ به الشيطان؟ فقال عليه‌السلام : «إنّ الله اذا اتّخذ عبدا رسولا أنزل عليه السكينة والوقار ، فكان يأتيه من قبل الله عزوجل مثل الّذي يراه بعينه» (٣).

__________________

(١) الخبر في التفسير ٢٩ : ٩٠ ط بولاق وفي التأريخ ٣ : ٣٠٤ ـ ٣٠٦. وفي البخاري ١ : ٤ وفي صحيح مسلم ١ : ٩٨ ، ٩٩.

(٢) التمهيد ١ : ٩٤.

(٣) تفسير العياشي ـ وعنه في البحار ١٨ : ٢٦٢.

٣٦٤

وروى الصدوق في «التوحيد» بسنده عن محمّد بن مسلم ومحمّد بن مروان عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : «ما علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ جبرئيل عليه‌السلام من قبل الله الّا بالتوفيق» (١).

إذن فالتوفيق الإلهيّ بالوقار والسكينة المنزلة على رسول لا يتركه ليفزع خوفا من النظر الى ملك الوحي جبرئيل حتّى ولو كان بصورته الأصلية إن صحّ التعبير.

أمّا اليعقوبي فقد قال في نزول سورة المدّثّر : وبعث رسول الله لمّا استكمل أربعين سنة ... وعلى جبرئيل جبّة سندس ، وأخرج له درنوكا من درانيك الجنة ، فأجلسه عليه ، وأعلمه أنّه رسول الله وبلّغه عن الله وعلّمه : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) وأتاه من غد وهو متدثر فقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ)(٢).

هل نزل القرآن في دور الكتمان؟

وممّا يؤيّد عدم نزول القرآن في دور الكتمان أننا لا نجد من آيات القرآن ، ممّا لا خلاف في نزوله قبل سورة الحجر الّتي في أواخرها قوله سبحانه : (فَاصْدَعْ بِما

__________________

(١) التوحيد : ٢٤٢ وعنه في البحار ١٨ : ٢٥٦. وقارن بما في تاريخ الطبري ٢ : ٢٠٩ ـ ٣٠٦ مما يفيد أنّه جزع وفزع وقلق واضطراب وشك في نفسه الجنون! وأراد أن يرمي بنفسه من حالق! وشك في الملك أنّه شيطان! فطمأنته خديجة وابن عمها النصراني ورقة بن نوفل!!

(٢) تأريخ اليعقوبي ٢ : ٢٣. وهذا قريب جداً مما رواه الراوندي في الخرائج والجرائح ١ : ٨٣ ، الحديث ١٣٦ عن الصادق عليه السلام قال : كان محمد صلّى الله عليه وآله يرعى غنم عمه أبي طالب ... وبلغ أربعين سنة ... وتراءى له جبرئيل بأعلى الوادي عليه جبة من سندس ... قال : سمعت صوتاً من السماء : يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل ... وأخرج له در نوكاً من درانيك الجنة فأجلسه عليه وأمره بما أراد ثمّ قال : أنا جبرئيل ، وقام فلحق محمد صلّى الله عليه وآله بالغنم.

٣٦٥

تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)(١) وهي السورة الرابعة والخمسون في ترتيب النزول ، وقبلها في النزول سورة الشعراء وهي السابعة والأربعون الّتي في أواخرها قوله سبحانه : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)(٢) لا نجد في كلّ ذلك ما يتناسب مع مرحلة الكتمان ، بل من خصائص السور المكّية ـ ومنها هذه السور ـ خطابها المشركين وجدالها. معهم في شركهم وكفرهم وجحودهم للمبدإ والمعاد ، ممّا لا يتناسب بظاهره مع الكتمان بل الإعلان.

فسور النمل والقصص والإسراء ويونس وهود ويوسف وحتّى الحجر ، وهي السور النازلة بعد الشعراء وقبل الحجر ، هي سور تساور المشركين وتحاورهم في كثير من آياتها ، وسورة الحجر بالخصوص تقول في بدايتها : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(٣) فهل هي من الكتمان في شيء؟!

بل قال العلّامة الطباطبائي في تفسيره في التعريف بسورة الحجر : «تشتمل السورة على الكلام حول استهزاء الكفّار بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ورميه بالجنون ، ورمي القرآن الكريم بأنّه من أهذار الشياطين. ففيها تعزية للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمر بالصبر والثبات والصفح عنهم وتطييب لنفسه الشريفة وانذار وتبشير.

وتشتمل السورة على قوله تعالى : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) والآية تقبل الانطباق على ما ضبطه التأريخ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله اكتتم في أوّل

__________________

(١) الحجر : ٩٤.

(٢) الشعراء : ٢١٤.

(٣) الحجر : ٢ ـ ٧.

٣٦٦

البعثة ـ ثلاث سنين أو أربعا أو خمسا ـ لا يعلن دعوته ، لاشتداد الأمر عليه ، فكان لا يدعو الّا آحادا ممّن يرجو منهم الإيمان ، يدعوهم خفية ويسرّ إليهم الدعوة ، حتّى أذن له ربّه في ذلك وأمره أن يعلن دعوته.

وتؤيّده الروايات المأثورة من طرق الشيعة وأهل السنة : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يكتتم في أوّل بعثته سنين لا يظهر فيها دعوته لعامّة الناس حتّى أنزل الله عليه : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) فخرج الى الناس وأظهر الدعوة. فالسورة مكّية نازلة في أوّل الدعوة العلنية» (١).

ثمّ لم يبيّن أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله اذا كان ـ كما قال ـ لا يدعو الّا آحادا خفية وسرا ممّن يرجو منهم الإيمان ، فأين كان المستهزءون وبما ذا كانوا يستهزءون؟ وكيف كان استهزاؤهم حتّى انّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله دعا عليهم فكفاه الله شرّهم وشرّ استهزائهم؟ واذا كان آخر هذه السورة بداية الإذن بالإعلان فما معنى أن تكون السورة لتعزية الرسول وصبره؟!

ولا يختص هذا الإشكال بالعلّامة الطباطبائي ، فقد درج الجميع على هذا القول بلا بيان لهذا الإجمال.

ولعلّه التفاتا الى هذا الإشكال ودفعا له قال السيد المرتضى في «الصحيح» : بعد أن أنذر عشيرته الأقربين انتشر أمر نبوته في مكّة ، وبدأت قريش تتعرض لشخصه صلى‌الله‌عليه‌وآله بالاستهزاء والسخرية وأنواع التهم (٢).

ومن قبله السيد الحسني فقال في «سيرة المصطفى» : لقد تحدث ـ بعد دعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله عشيرته الأقربين ـ جميع الناس في مكّة عن دعوته ، وتسرّبت أنباؤها

__________________

(١) الميزان ١٢ : ٩٥ ، ٩٦.

(٢) الصحيح ٢ : ٢٦.

٣٦٧

لخارج مكّة ولم يعد أمرها خافيا على أحد من سكان مكّة وجوارها بعد أن أعلنها بصراحة على بني عمومته وعشيرته (١).

ومعنى ذلك أنّ الأمر اختلف بعد دعوة العشيرة عمّا قبلها فإنّما تسرّبت الدعوة بعد ذلك أمّا ما قبلها فالسر والكتمان. ولكننا لا نجد فيما اوحي قبل ذلك ما يختلف عما بعده بل نجد الأمر نفسه قبله.

فنجد بداية سورة الشعراء تقول : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٢).

وتقول في أواخرها : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(٣).

__________________

(١) سيرة المصطفى : ١٣٣.

(٢) الشعراء : ٣ ـ ٦.

(٣) الشعراء : ١٩٣ ـ ٢١٥.

٣٦٨

فما ذا يعني كلّ هذا الخطاب والعتاب بل التهديد بالعذاب والاعذار بالانذار؟ وهل كلّ هذا من الكتمان في شيء؟ والآية الأخيرة هل تعني أن يخفض جناحه لمن اتّبعه من المؤمنين بالدعوة الخاصّة ، خاصّة؟ أم مع من يؤمن به من عشيرته الأقربين في هذه الدعوة الخاصّة فحسب؟ أو يؤخذ باطلاق الآية وعمومها؟

والعلّامة الطباطبائي في تفسيره قال في بيان الغرض من هذه السورة : «غرض هذه السورة تسلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قبال ما كذّبه قومه وكذّبوا بكتابه النازل عليه من ربّه. وقد رموه تارة بأنّه مجنون واخرى بأنّه شاعر ، وفيها تهديدهم مشفّعا ذلك بإيراد قصص جمع من الأنبياء وهم : موسى وابراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم‌السلام ، وما انتهت إليه عاقبة تكذيبهم ، لتتسلى به نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا يحزن بتكذيب أكثر قومه ، وليعتبر المكذبون. والسورة من عتائق السور المكية وأوائلها نزولا ، وقد اشتملت على قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)» (١).

ثمّ لم يبيّن متى كان تكذيب أكثر قومه له؟ وأين كان المكذّبون؟ وبما ذا كانوا يكذّبون؟ وبما ذا يعتبرون؟ وهو بعد لم يدع عشيرته الأقربين وإنمّا يدعوهم بعد نزول الآية في آخر هذه السورة نفسها! فكيف التوفيق؟!

ثمّ كيف هي من عتائق السور المكية وأوائلها نزولاً وقد ردّدت نزولها من الثالثة إلى الخامسة بعد البعثة؟!

والسورة الّتي تسبق الشعراء في ترتيب النزول هي سورة الواقعة ، وهي في أوائلها تثلّث الناس يوم القيامة : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ثمّ تقسّم هؤلاء السابقين من

__________________

(١) الميزان ١٥ : ٢٤٩ ، ٢٥٠.

٣٦٩

أصحاب اليمين الى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ)(١) وتعود فتقول : (لِأَصْحابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ)(٢) وتتابع النعوت والأوصاف فتقول : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ)(٣) فما معنى الأوّلين والآخرين من السابقين من أصحاب اليمين؟ فهل كلّ ذلك فيمن استجاب للدعوة الخاصّة السرّية؟ ومن هم؟ وكم هم؟ وما معنى أصحاب الشمال ولم تشملهم الدعوة؟ وكذلك سائر السور الّتي سبقت الواقعة.

ولكن في مقابل كلّ ذلك ممّا يؤيّد سرّية المرحلة الاولى من الدعوة ونزول القرآن فيها : هو ـ من جانب ـ التناسب الكمّي فيما بين ما نزل من القرآن الى سورة الحجر مع تلك الفترة ، ومن جانب آخر : عدم التناسب أو على الأقل استبعاد أن تكون دعوة العشيرة الأقربين قد حصلت حسب آية : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) من سورة الشعراء السابعة والأربعين في ترتيب النزول من دون أن تكون المرحلة السابقة سرّية مكتومة ، أي بعد أن تمرّ على الدعوة زهاء ثلاث سنين من الدعوة العلنية العامّة ، ممّا لا يتناسب ودعوة العشيرة خاصّة بعد كل هذه المدة الطويلة من الدعوة العامّة. اللهمّ إلّا أن نقول : إنّ ذلك كان اتماما للحجة عليهم خاصة ، واعلاناً لوصيّة من بينهم ، وبذلك يُثبت لهم أن دعوته غيبية وأنّه مطمئن من

__________________

(١) الواقعة : ١٣ ـ ١٤.

(٢) الواقعة : ٣٨ ـ ٤٤.

(٣) الواقعة : ٨٨ ـ ٩٤.

٣٧٠

الغیب باستمرارها وثباتها بحیث تحتاج إلى الوصاية من بعده. وهذا هو الصحيح ، كما نرى فيما يلي.

حديث الإنذار :

اللهم الّا أن نلتزم بأنّ الدعوة كانت بعد مقاطعة قريش للرسول وحصارهم ايّاه وبني هاشم في شعب أبي طالب في حدود السنة السادسة للبعثة ، على ما رواه فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره مسندا عن أبي رافع ـ مولى العبّاس بن عبد المطّلب ـ قال : إنّ رسول الله جمع ولد عبد المطّلب في الشعب ، وهم يومئذ ـ ولده لصلبه وأولادهم ـ أربعون رجلا. فصنع لهم رجل شاة وثرد لهم ثريدة فصبّ عليه ذلك المرق واللحم ، ثمّ قدّموها إليهم فأكلوا منه حتّى شبعوا ، ثمّ سقاهم عسّا واحدا من لبن فشربوا كلّهم من ذلك العسّ حتّى رووا (١).

فقال أبو لهب : والله إنّ منّا نفرا يأكل أحدهم الجفرة (٢) وما يصلحها فما تكاد تشبعه ، ويشرب الفرق (٣) من النبيذ فما يرويه ، وانّ ابن أبي كبشة (٤) دعانا على رجل شاة وعسّ من شراب فشبعنا وروينا ، إنّ هذا لهو السحر المبين!

ثمّ دعاهم ، فقال لهم : انّ الله أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين ورهطي المخلصين ، وانّكم عشيرتي الأقربون ورهطي المخلصون ، وانّ الله لم يبعث نبيّا الّا جعل له أخا من أهله ووارثا ووصيّا ووزيرا ، فأيّكم يقوم فيبايعني على أنّه أخي

__________________

(١) العسّ : القدح الكبير.

(٢) الجفرة مؤنث الجفر وهو من أولاد المعز ما فصل عن امّه وبدأ بالرعي بعد أربعة أشهر ، كما في النهاية للجزري.

(٣) بالفتح أو الكسر فالسكون : السقاء الممتليء.

(٤) هو رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان ، شبّهوه به ، كما في النهاية للجزري.

٣٧١

ووزيري ووارثي دون أهلي ، ووصيّي وخليفتي (في أهلي) ويكون منّي بمنزلة هارون من موسى غير أنّه لا نبيّ بعدي؟! فأمسك القوم.

فقال : والله ليقومنّ قائمكم أو لتكوننّ في غيركم ثمّ لتندمنّ! فقام علي عليه‌السلام وهم ينظرون إليه كلّهم ، فبايعه وأجابه الى ما دعاه إليه (١).

وقد يؤيّد دعوى ابن أبي رافع بأن ذلك الجمع وتلك الدعوة كانت في الشعب أي بعد الإعلان : أنّ أبا لهب يلتهب بمشاهدته المعجزة فيتهم الرسول بالسحر وينبزه بكنية ابن أبي كبشة ممّا اعتاد عليه المشركون بالنسبة إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله فالحالة ليست حالة مفاجأة بعد سرّ وكتمان وإنمّا تناسب سابق خبر أو علم أو اعلان.

وكذلك يؤيد كون ذلك في الشعب بعد الإعلان : أنّ الأمر أمر انذار لا إخبار ، والتبشير أنسب ببدء الإخبار من الإنذار ، وأنّ الرسول لم يبدأهم بالدعوة إليه والى رسالته ، بل الى بيعته ليكون خليفته بعده ، ثمّ أنذرهم : ليقومن قائمكم أو لتكون في غيركم ثمّ لتندمنّ! فالحالة والموقف ـ كذلك ـ ليس موقف مفاجأة ومبادأة بعد سرّ وكتمان ، بل تناسب سابق علم وإعلان.

ولعلّه صلى‌الله‌عليه‌وآله امر بهذه الدعوة في الشعب تحديا لكبرياء قريش ، ولما فيها من يأس للكافرين.

والظاهر أنّ خبر أبي رافع خبر حاضر ناظر مباشر اذ هو مولى العبّاس بن عبد المطّلب وهو من بني هاشم المدعوّين والمجتمعين ، فلعلّه كان مصطحبا لمولاه هذا ، ولا نجد فيما بأيدينا مباشرا غيره سوى علي عليه‌السلام ، ورجل من أصحاب النبيّ من ولد عبد المطّلب ، لم يعرّف بسوى هذا ـ روى عنه الخبر : السيد ابن طاوس في «سعد السعود» عن الجزء الخامس من تفسير محمّد بن العبّاس الحجّام

__________________

(١) تفسير فرات : ٣٠٠ ـ ٣٠٤ ، الحديث ٤٠٤ ـ ٤٠٨ وبهامش الصفحات مصادر اُخرى من غير الشيعة.

٣٧٢

بسنده عن مبارك بن فضالة والحسن البصري قالا :

إنّ قوما خاضوا في أمر علي عليه‌السلام بعد الّذي كان من وقعة الجمل ، فقال رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ويلكم ما تريدون من أوّل سابق بالإيمان بالله والإقرار بما جاء من عند الله؟ لقد كنت عاشر عشرة من ولد عبد المطّلب إذ أتانا علي بن أبي طالب عليه‌السلام فقال : أجيبوا رسول الله الى غداء غد في منزل أبي طالب.

فلمّا ولّى تغامزنا وقلنا : أترى محمّدا أن يشبعنا اليوم؟ وما منّا يومئذ من العشرة رجلا الّا وهو يأكل الجذعة (١) السمينة ويشرب الفرق من اللّبن.

فغدوا عليه في منزل أبي طالب ، واذا نحن برسول الله ، فحيّيناه بتحيّة الجاهلية وحيّانا هو بتحية الإسلام : فأوّل ما أنكرنا منه ذلك. ثمّ أمر بجفنة من خبز ولحم فقدّمت إلينا ، ووضع يده اليمنى على ذروتها وقال : بسم الله ، كلوا على اسم الله. فتغيّرنا لذلك ثمّ تمسّكنا لحاجتنا الى الطعام ، وذلك أننا جوّعنا أنفسنا للميعاد بالأمس. فأكلنا حتّى أنهينا ، والجفنة كما هي مدفّقة ثمّ دفع إلينا عسّا من لبن ـ وكان عليّ يخدمنا ـ فشربنا كلّنا حتّى روينا والعسّ على حاله.

حتّى اذا فرغنا قال : يا بني عبد المطّلب : انّي نذير لكم من الله عزوجل ، انّي أتيتكم بما لم يأت به أحد من العرب ، فإن تطيعوني ترشدوا وتفلحوا تنجحوا. انّ هذه مائدة أمرني الله بها فصنعتها لكم كما صنع عيسى بن مريم عليه‌السلام لقومه ، فمن كفر بعد ذلك منكم فإنّ الله يعذّبه عذابا لا يعذّبه أحدا من العالمين ، واتقوا الله واسمعوا ما أقول لكم. واعلموا ـ يا بني عبد المطّلب ـ أنّ الله لم يبعث رسولا الّا جعل له أخا ووزيرا ووصيا ووارثا من أهله ، وقد جعل لي وزيرا كما جعل للأنبياء قبلي ، وإنّ الله قد أرسلني الى الناس كافة وأنزل عليّ : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) وقد والله

__________________

(١) الجذعة : الغنم له سنة تامة ـ مجمع البحرين.

٣٧٣

أنبأني به وسمّاه لي ، ولكن أمرني أن أدعوكم وأنصح لكم واعرض لكم ، لئلا يكون لكم الحجة فيما بعد ، وأنتم عشيرتي وخالص رهطي ، فأيّكم يسبق إليها على أن يؤاخيني في الله ويؤازرني في الله عزوجل ، ومع ذلك يكون لي يدا على جميع من خالفني فأتّخذه وصيّا ووليّا ووزيرا يؤدّي عني ويبلّغ رسالتي ويقضي ديني من بعدي وعداتي مع أشياء أشترطها؟! فسكتوا. فأعادها ثلاث مرات ويسكتون ، ويثب فيها علي عليه‌السلام فلمّا سمعها أبو لهب قال : تبّا لك يا محمّد ولما جئتنا به ، ألهذا دعوتنا؟!

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أمّا والله لتقومن أو يكون في غيركم!

فوثب علي عليه‌السلام فقال : يا رسول الله أنا لها.

فقال رسول الله : يا أبا الحسن (كذا) (١) أنت لها ، قضي القضاء وجفّ القلم ، يا علي اصطفاك الله بأوّلها وجعلك وليّ آخرها (٢).

فهذا خبر آخر عن مباشر آخر لم يعرّف بأكثر من انّه عاشر عشرة من المدعوّين من العشيرة الأقربين بني عبد المطّلب ، ومن أصحاب رسول الله. ويختلف عن خبر أبي رافع بإبدال موعد الدعوة من الشعب الى منزل أبي طالب ـ ولا يهمّ هذا بعد أن كان منزل أبي طالب في شعبه لأكثر من عامين ـ ومن عدد الأربعين الى العشيرة ، وسيأتي الجمع بينهما ، وبتفصيل أكثر أيضا.

ولكنّه يشترك مع خبر أبي رافع في استبعاد أن تكون الدعوة للإعلان بالنبوّة بعد الكتمان. بل تقريب أن تكون مسبوقة بالإعلان لا الكتمان ، فمقال الرسول لا زال لا يناسب ذلك.

سوى علي عليه‌السلام وهذين الصحابيّين : أبي رافع ورجل من آل عبد المطّلب

__________________

(١) مما يُلتفت النظر تكنيته له بأبي الحسن يومئذٍ؟

(٢) سعد السعود : ١٠٦.

٣٧٤

لا نجد فيما بأيدينا من رواة الخبر مباشرا آخر. ولعلّه لدفع وهم عدم اشتهار القصّة قال الشيخ الطبرسي في «مجمع البيان» : وقد فعل ذلك النبيّ واشتهرت القصّة بذلك عند الخاص والعام.

ثمّ أورد عن الثعلبي في تفسيره الخبر المأثور عن البراء بن عازب الأنصاري ـ وهو ثالث صحابيّ راو للخبر غير مباشر فيه ـ قال : لمّا نزلت هذه الآية جمع رسول الله بني عبد المطّلب ـ وهم يومئذ أربعون رجلا ـ الرجل منهم يأكل المسنّة (الجفرة) ويشرب العس. فأمر عليّا عليه‌السلام برجل شاة فأدّمها (١) ، ثمّ قال : ادنوا بسم الله ، فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتّى صدروا ، ثمّ دعا بقعب (٢) من لبن فجرع منه جرعة ثمّ قال لهم : اشربوا بسم الله ، فشربوا حتّى رووا.

فبدرهم أبو لهب فقال : هذا ما سحركم به الرجل. فسكت يومئذ ولم يتكلّم. ثمّ دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ، ثمّ أنذرهم رسول الله فقال : يا بني عبد المطّلب! انّي أنا النذير إليكم ـ من الله عزوجل ـ والبشير ، فأسلموا وأطيعوني تهتدوا ، ثمّ قال : من يؤاخيني ويؤازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي (في أهلي) يفضي ديني ، فسكت القوم ، فأعادها ثلاثا كلّ ذلك يسكت القوم ويقول علي عليه‌السلام : أنا. فقال المرّة الثالثة : أنت. فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب : أطع ابنك فقد أمّره عليك؟! (٣).

ولا يمتاز الخبر عن الأوّلين بشيء سوى ما يمكن أن يجمع به بين عددي المدعوّين في الخبرين : العشرة والأربعين ، وذلك أنّ ابن عازب قال : فدنا القوم عشرة عشرة. وقد قال من قال : وهم يومئذ أربعون رجلا.

__________________

(١) أدّمها : صنع منها أداما أي طعاما.

(٢) القعب : إناء من خشب للسوائل.

(٣) مجمع البيان للطبرسي ٧ : ٣٢٢ عن تفسير الثعلبي.

٣٧٥

وسوى الخبر السابق عن تفسير الحجّام لا نجد فيما بأيدينا أيّ خبر آخر عن أيّ رجل آخر من بني هاشم بل بني عبد المطّلب من العشيرة الأقربين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المدعوّين بهذه الدعوة الخاصّة ، حتّى عن العبّاس عمّه الحاضر في تلك الدعوة والمحجم عن الاستجابة لدعوة الرسول ، ممّا جعله علي عليه‌السلام سببا لوراثته من ابن عمّه النبيّ دون عمّه العبّاس ، إن صحّ التعبير بالوارثة ، وذلك :

فيما رواه السيد ابن طاوس في «سعد السعود» عن تفسير الحجّام أيضا عن الحسين بن الحكم الجري بأسناده ومنها عن الطبري بسنده عن ربيعة بن ناجد : أنّ رجلا قال لعلي عليه‌السلام : يا أمير المؤمنين لم ورثت ابن عمّك دون عمّك؟ فقال علي عليه‌السلام : هاؤم! ثلاث مرّات حتّى اشرأبّ الناس ونشروا آذانهم ثمّ قال : دعا رسول الله ، أو جمع بني عبد المطّلب ، كلّهم يأكل الجذعة ويشرب الفرق ، فصنع لهم مدّا من طعام فأكلوا حتّى شبعوا ، وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس ثمّ دعا بغمر (١) فشربوا حتّى رووا وبقي الشراب كأنّه لم يمس ولم يشربوا (٢) ثمّ قال : يا بني عبد المطّلب إنّي بعثت إليكم خاصّة ، والى الناس عامّة ، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم ، فأيّكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي ووارثي؟ فلم يقم إليه أحد.

فقمت ـ وكنت أصغر القوم سنّا ـ فقال : اجلس. ثمّ قال (قوله) ثلاث مرّات كلّ ذلك أقوم إليه فيقول لي : اجلس حتّى كانت الثالثة ، فضرب يده على يدي. فلذلك ورثت ابن عمّي دون عمّي (٣).

__________________

(١) الغمر : القدح الصغير.

(٢) التكملة من الطبري ٢ : ٣٢١.

(٣) سعد السعود : ١٠٤ ، ١٠٥ ط الحيدرية. واسم الراوي في النسخة المطبوعة : أبي ربيعة بن ماجد ، وفي البحار ١٨ : ٢١٤ أبي ربيعة بن ناجد وفي علل الشرائع ربيعة ابن ناجد وكذلك في الطبري ٣ : ٣٢١ وهو الصحيح.

٣٧٦

ورواه الصدوق في «علل الشرائع» بسنده عن ربيعة بن ناجد (١).

وكذلك الطبري في تأريخه (٢) ولم نجد الخبر في كتاب الحبري المطبوع في طبعتين (٣).

وهذا الخبر كالأخبار السابقة إنّما ينسجم مع كون الدعوة في الشعب أو بعد الإعلان لا مع السّر والكتمان ، ولا سيّما بالنظر الى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّي بعثت إليكم خاصّة ، والى الناس عامّة». وهذه الجملة وان كانت تنسجم مع المبادأة بالدعوة الّا أنّ سائر الجمل في كلام الرسول لا تنسجم وذلك. والخبر ليس فيه عدد المدعوّين ، ولكن ...

روى مختصره فرات بن ابراهيم في تفسيره مسندا عن علي عليه‌السلام قال : دعاهم فجمعهم على فخذة شاة وقعب من لبن ، وإنّ فيهم يومئذ ثلاثين رجلا (٤).

ونقله القميّ في تفسيره فقال : نزلت بمكّة فجمع رسول الله بني هاشم وهم أربعون رجلا ، كلّ واحد منهم يأكل الجذعة ويشرب القربة ، فاتّخذ لهم طعاما يسيرا ، وأكلوا حتّى شبعوا ، فقال رسول الله : من يكون وصيّي ووزيري وخليفتي؟ فقال لهم أبو لهب : جزما سحركم محمّد. فتفرّقوا.

فلمّا كان اليوم الثاني أمر رسول الله ففعل لهم مثل ذلك ، فقال لهم رسول الله : أيّكم يكون وصيّي ووزيري وخليفتي؟ فقال أبو لهب : جزما سحركم محمّد. فتفرّقوا.

__________________

(١) علل الشرائع : ٦٧ كما في البحار ١٨ : ١٧٧.

(٢) تأريخ الطبري ٢ : ٣٢١.

(٣) طبعة السيد أحمد الحسيني. وطبعة السيد محمد رضا الحسيني الجلالي.

(٤) تفسير فرات : ١١١ و ١١٢ ، كما في البحار ١٨ : ٢١١ ، ٢١٢.

٣٧٧

فلمّا كان اليوم الثالث أمر رسول الله ففعل لهم مثل ذلك فقال لهم رسول الله : أيّكم يكون وزيري وينجز عداتي ويقضي ديني؟

فقام علي عليه‌السلام فقال : أنا يا رسول الله. فقال رسول الله : أنت هو. وكان أصغرهم سنّا وأحمشهم ـ أي أدقّهم ـ ساقا وأقلّهم مالا (١).

وأوّل ما في هذا الخبر المختص بل المختزل بل المنقول بالمعنى لا النص هو أنّه عبّر عن المدعوّين ببني هاشم لا بني عبد المطّلب ، ففوّت المطعن على ابن تيمية ومن شاكله ممّن طعن في الخبر بأنّ بني عبد المطّلب لم يبلغوا يومئذ أربعين رجلا. ولكن الخبر كسوابقه إنّما ينسجم مع كون الدعوة في الشعب أو بعد الإعلان لا مع السرّ والكتمان ، ولا مع مبادأتهم بالدعوة.

والطريق المسند للخبر عن علي عليه‌السلام غير منحصر بربيعة بن ناجد فالسيد كما رواه عنه في «سعد السعود» رواه في «الطرف» عن الأعمش (٢) ، والصدوق الّذي رواه عن بن ناجد رواه أيضا بسند الأعمش عن عبد الله ابن الحارث بن نوفل عن علي عليه‌السلام قال : لمّا انزلت (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) أي رهطك المخلصين ، دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بني عبد المطّلب وهم اذ ذاك أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا ، فقال : أيّكم يكون أخي ووارثي ووزيري ووصيّي وخليفتي فيكم بعدي؟ فعرض عليهم ذلك رجلا رجلا ، كلّهم يأبى ذلك حتّى أتى عليّ فقلت : أنا يا رسول الله ، فقال : يا بني عبد المطّلب هذا أخي ووارثي ووصيّي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي. فقام القوم يضحك بعضهم الى بعض ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع وتطيع لهذا الغلام (٣).

__________________

(١) تفسير القمي ٢ : ١٢٤.

(٢) علل الشرائع : ٦٨ كما في البحار ١٨ : ١٧٨.

(٣) الطرف : ٧ كما في البحار ١٨ : ١٧٩.

٣٧٨

والخبر كسوابقه إنّما ينسجم مع كون الدعوة في الشعب أو بعد الإعلان لا مع السرّ والكتمان ، ولا مع مبادأتهم بالدعوة ، بل فيه تعريض بأبي طالب وكأنه عرف بالسماع للرسول.

والسيد ابن طاوس والشيخ الصدوق قد اختصرا الخبر متنا وسندا ، وأكملهما : الشيخ الطوسي في أماليه بطريقين عن الأعمش عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عبّاس عن علي عليه‌السلام قال : لمّا نزلت هذه الآية (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دعاني فقال لي : يا علي ، إنّ الله تعالى أمرني أن انذر عشيرتي الأقربين ، فضقت بذلك ذرعا وعرفت أنّي متى اباديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمتّ على ذلك ، فجاءني جبرئيل فقال : يا محمّد انّك ان لم تفعل ما امرت به عذّبك ربّك! فاصنع لنا يا علي ـ صاعا من طعام واجعل عليه رجل شاة ، واملأ لنا عسّا من لبن. ثمّ اجمع لي بني عبد المطّلب حتّى اكلّمهم وابلّغهم ما امرت به.

ففعلت ما أمرني به ثمّ دعوتهم أجمع ، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا ، فيهم أعمامه : أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب ... فلمّا اجتمعوا له دعاني بالطعام الّذي صنعت لهم ، فجئت به ، فلمّا وضعته تناول رسول الله جذمة (١) من اللحم فنتفها بأسنانه ثمّ ألقاها في نواحي الصفحة ثمّ قال : خذوا بسم الله. فأكل القوم حتّى صدروا ما لهم بشيء من الطعام حاجة ، وما أرى الّا مواضع أيديهم. وأيم الله الّذي نفس عليّ بيده ان كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدّمت لجميعهم. ثمّ جئتهم بذلك العسّ فشربوا حتّى رووا جميعا ، وأيم الله ان كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله. فلمّا أراد رسول الله أن يكلّمهم بدره أبو لهب الى الكلام فقال : لشدّ ما سحركم صاحبكم! فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول الله.

__________________

(١) الجذمة : القطعة ، وفي الطبري : حذية من اللحم : ما قطع طولا.

٣٧٩

فقال لي من الغد : يا عليّ ، انّ هذا الرجل قد سبقني الى ما سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن اكلّمهم. فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثمّ اجمعهم لي. ففعلت ثمّ جمعتهم فدعاني بالطعام فقربته لهم ، ففعل كما فعل بالأمس ، وأكلوا حتّى ما لهم به من حاجة ، ثمّ قال : اسقهم ، فجئتهم بذلك العسّ فشربوا حتّى رووا منه جميعا.

ثمّ تكلّم رسول الله فقال : يا بني عبد المطّلب انّي ـ والله ـ ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به ، انّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله عزوجل أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على أمري فيكون أخي ووصيي ووزيري وخليفتي (في أهلي) من بعدي؟

فأمسك القوم وأحجموا عنها جميعا.

فقمت ... فقلت : أنا ـ يا نبي الله ـ أكون وزيرك على ما بعثك الله به. فأخذ بيدي ـ وانّي لأحدثهم سنّا وأرمصهم عينا وأعظمهم بطنا وأحمشهم ساقا ـ ثمّ قال : انّ هذا أخي ووصيّي ووزيري وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ...

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (١).

وإنمّا كنّى عليه‌السلام بدقّة الساق وعظم البطن ورمص العين أي وسخه عن صغر سنّه ويختلف هذا اللفظ من الخبر عن سوابقه بالنصّ على المبادأة بأمره معهم بهذه الدعوة. وان كان ينقص عن خبر تفسير الحجام بعدم «انذار» فيه ، كسوابقه.

ورواية الخبر عن عبد الله بن عبّاس نوع اعتراف بعدم اسلام أبيه العبّاس يومذاك بهذه الدعوة الخاصّة المكررة ثلاثا ، بينما فيه ـ ما كان في الخبر السابق ـ

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٢٠ ، ٢١ كما في البحار ١٨ : ١٩١ ، ١٩٢ وروى مثله فرات بن ابراهيم في تفسيره : ١٠٨ ، ١٠٩.

٣٨٠