موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

عليّ عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله :

نصّ بعض المؤرّخين أنّه بعد بناء البيت بسنة ، وقبل البعثة بالنبوة بأربع سنين كانت سنة إصابة قريش بقحط شديد كان من آثاره أن تكفّل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بعيشة علي عليه‌السلام عنده في داره مع أولاده (١) فقد نقل الطبرسي في «إعلام الورى» عن «دلائل النبوة» للبيهقي (ت ٥٤٨ ه‍) بسنده عن مجاهد بن جبر (ت ١٠١) قال : «كان ممّا أنعم الله على عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأراد به الخير : أنّ قريشا أصابتهم أزمة شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للعباس عمّه ـ وكان من أيسر بني هاشم ـ : يا عباس! إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال ، وأصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق حتّى تخفّف عنه من عياله.

فانطلقا إليه وقالا له ذلك ، فقال : اتركوا لي عقيلا وخذوا من شئتم. فأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليا فضمّه إليه. فلم يزل عليّ مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى بعثه الله نبيّا فاتّبعه علي وآمن به وصدّقه» (٢).

__________________

(١) وقال ابن شهرآشوب في «المناقب» : ذكر أبو القاسم في أخبار أبي رافع من ثلاثة طرق : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حين تزوّج خديجة قال لعمّه أبي طالب : انّي أحب أن تدفع إليّ بعض ولدك يعينني على أمري ويكفيني ، وأشكر لك بلاءك عندي. فقال أبو طالب : خذ أيّهم شئت. فأخذ عليا عليه‌السلام (المناقب ٢ : ١٨٠). ولا يمكن التسليم لظاهر هذا الخبر ، اذ كيف يمكن أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذه إليه «حين تزوّج خديجة» في حين أنّ عليا عليه‌السلام ولد بعد ثلاثين سنة من عام الفيل ـ على المشهور ـ وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تزوّج خديجة قبل ذلك بخمس سنين على المشهور أيضا! اللهم الّا أن يحمل الخبر على خلاف المشهور في ميلاد عليّ أو زواج خديجة عليهما‌السلام أو المسامحة في قوله «حين تزوّج خديجة» بأكثر من سبع سنين.

(٢) إعلام الورى : ٣٨ ، ٣٩.

٣٢١

ورواه عنه الصدوق في «علل الشرائع» (١) وفي «الخصال» روى عنه عليه السلام قال : إنّ رسول الله استوهبني من أبي في صباي ، فكنت أكيله وشريبه ومونسه ومحدّثه (٢).

ورواه الطبرسي في «اعلام الورى» عن «دلائل النبوة» للبیهقي عن ابن اسحاق أيضاً (٣).

ونقله ابن شهرآشوب في «المناقب» عن مغازي محمّد بن اسحاق ، والبلاذري والطبرسي ، والبستي ، والخرگوشي ، والثعلبي ، والواحدي ، والخوارزمي في أربعينه ، والنسوي في المعرفة ، عن مجاهد .. وفيه : وأخذ رسول الله عليا وهو ابن ست سنين ، كسنّه يوم أخذه أبو طالب (٤). أي من أبيه عبد المطّلب عند وفاته.

ونقله الاربلي في «كشف الغمّة» عن «المناقب» للخوارزمي عن ابن اسحاق (٥).

وقال البلاذري في «أنساب الأشراف» : «قالوا : وكان أبو طالب قد أقل وأقتر ، فأخذ رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ عليا ليخفّف عنه مؤونته ، فنشأ عنده» (٦).

وروى الخبر أبو الفرج في «مقاتل الطالبيين» بسنده عن سهل بن سعد الساعدي قال : «كان رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ قد أخذ عليا من أبيه وهو صغير ، في سنة أصابت قريشا وقحط نالهم ، وأخذ حمزة جعفرا ، وأخذ العباس طالبا ، ليكفوا أباهم مؤونتهم ويخففوا عنه ثقلهم ، وكان أبو طالب

__________________

(١) علل الشرائع ١ : ٢٠١.

(٢) الخصال ٢ : ٥٧٢.

(٣) اعلام الورى ١ : ٣٨ ، ١٠٥ عن البيهقي في دلائل النبوة ٢ : ١٦٢ عن مجاهد أيضاً.

(٤) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٧٩ ، ١٨٠.

(٥) كشف الغمّة ١ : ٧٩.

(٦) أنساب الأشراف ٢ : ٩٠.

٣٢٢

يحبّ عقيلاٌ ولذلك قال : دعوا لي عقيلا وخذوا من شئتم. فقال رسول الله : اخترت من اختار الله لي عليكم : عليا» (١).

ونقله ابن أبي الحديد في «شرح النهج» عن البلاذري والأصفهاني هكذا : انّ قريشا أصابتها أزمة وقحط ، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ لعمّيه حمزة والعباس : ألا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل؟ فجاؤوا إليه وسألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفوه أمرهم ، فقال : دعوا لي عقيلا وخذوا من شئتم ـ وكان شديد الحبّ لعقيل ـ فأخذ العباس طالبا وأخذ حمزة جعفرا ، وأخذ محمّد ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ عليا عليه‌السلام وقال لهم : قد اخترت من اختاره الله لي عليكم : عليا.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين : ١٥ ، هذا وفي بعض التواريخ ، ويحضرني الآن منها «شرح الأخبار» للقاضي النعمان المصري المغربي التميمي الشيعي الفاطمي الإسماعيلي ، فيه أنّه كان بين كلّ واحد من ولد أبي طالب عشر سنين (ج ١ : ١٨٨) فإذا كان لعلي عليه‌السلام يومئذ ست سنين كان لجعفر ست عشرة سنة ولعقيل ست وعشرون سنة ولطالب ست وثلاثون سنة ، ولذلك يبدو الخبر غريبا.

ولعلّه لهذا انفرد القاضي بذكر سبب آخر لذلك سوى القحط قال : انّ سببه في ذلك : أنّ أشراف العرب والسادات منهم كانوا اذا شبّ لأحدهم الولد وأراد تقويمه وتأديبه ، دفعه الى شريف من أشراف قومه ليلي ذلك منه ويستخدمه فيما يقومه به ، لئلّا يدلّ في ذلك عليه دلالة الولد على الوالد. وكان لأبي طالب ثلاثة من الولد (كذا) فلمّا شبّ عقيل دفعه أبو طالب الى عباس أخيه ، ولما شبّ جعفر دفعه الى حمزة أخيه ، ولما شبّ عليّ دفعه الى رسول الله ـ صلوات الله عليه وآله ـ.

وفي رواية اخرى : أنّه دفع جعفرا الى عباس ، وعليا عليه‌السلام الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأبقى عقيلا عنده. فلمّا لحق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالرجال وبان بنفسه وتأهّل كان علي عليه‌السلام عند رسول الله (ج ١ : ١٨٨).

فالمغربي وان أغرب في خبره هذا ولكنّه ابتعد بذلك عن الغرابة في أعمار هؤلاء الأبناء.

٣٢٣

قالوا : فكان علي عليه‌السلام في حجر رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ منذ كان عمره ست سنين.

وهذا يطابق قوله عليه‌السلام : «لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الامّة سبع سنين» وقوله : «كنت أسمع الصوت وابصر الضوء سنين سبعا ، ورسول الله حينئذ صامت ما اذن له في الإنذار والتبليغ».

وذلك لأنّه اذا كان عمره يوم إظهار الدعوة ثلاث عشرة سنة ، وتسليمه الى رسول الله من أبيه وهو ابن ست ، فقد صحّ أنّه كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم سبع سنين ، وابن ستّ تصحّ منه العبادة اذا كان ذا تمييز ، على أنّ عبادة مثله هي التعظيم والإجلال وخشوع القلب واستخذاء الجوارح اذا شاهد شيئا من جلال الله سبحانه وآياته الباهرة. ومثل هذا موجود في الصبيان (١).

هذا ما نقله ابن أبي الحديد في «شرح النهج» عن البلاذري والأصفهاني ، وقد مرّ عليك خبرهما ورأيت البلاذري قد اختصر الخبر جدّا في سطر ونصف تقريبا ، والأصفهاني رواه بسنده عن سهل بن سعد الساعدي ، وقد خلا كلاهما عن ذكر عمر علي عليه‌السلام يومذاك. ولعلّه نقله عن نسخة اخرى منهما.

نعم نقل الخبر ابن شهرآشوب في «المناقب» عن عدّة منهم البلاذري والطبري والخوارزمي والخرگوشي والواحدي والثعلبي والبستي والنسوي ، ومغازي محمّد بن اسحاق ، عن مجاهد أيضا ، وفيه : وأخذ رسول الله عليا وهو ابن ست سنين ، كسنه يوم أخذه أبو طالب (٢) أي من أبيه عبد المطّلب عند وفاته. ولم يعيّن ذلك عن أيّ واحد ممّن أخذ منهم الخبر.

ومهما كان ، فان كلام ابن أبي الحديد توجيه وجيه لكلام الإمام عليه‌السلام.

__________________

(١) شرح النهج ١ : ١٥.

(٢) مناقب آل أبي طالب ٢ : ١٧٩ ـ ١٨٠.

٣٢٤

الفصل الثالث

البعثة النبويّة المباركة

٣٢٥
٣٢٦

كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ بدء أمره محدّثا مسدّدا :

روى الشريف الرضيّ في «نهج البلاغة» عن علي عليه‌السلام أنّه قال في وصف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره» (١).

وروى ابن أبي الحديد في شرحه : أن بعض أصحاب الإمام الباقر عليه‌السلام سأله عن قول الله تعالى : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً)(٢) فقال عليه‌السلام : «يوكّل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم ، ويؤدّون إليهم تبليغهم الرسالة. وو كلّ بمحمّد ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع يرشده الى الخيرات ومكارم الأخلاق ، ويصدّه عن الشرّ ومساوئ الأخلاق» (٣).

__________________

(١) نهج البلاغة ، الخطبة القاصعة : ٢٩٢ / المقطع : ١١٨ عن مسعدة بن صدقة عن الباقر عليه‌السلام.

(٢) الجن : ٢٧.

(٣) شرح النهج ١٣ : ٢٠٧.

٣٢٧

ولعلّ من مصاديق ذلك ما رفعه ابن اسحاق يقول : ذكر لي : أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ كان ممّا يحدّث به عمّا كان الله يحفظه به في صغره وأمر جاهليته! أنّه قال : «لقد رأيتني في غلمان قريش ننقل الحجارة لبعض ما نلعب به ، فإنّي اقبل معهم وادبر ، وكلّنا قد أخذ إزاره فجعله على عاتقه ليحمل عليه الحجارة فتعرّى! اذ لكمني لاكم ثمّ قال : شدّ عليك إزارك ، وما أراه فأخذته وشددته عليّ ، ثمّ جعلت أحمل الحجارة على رقبتي وإزاري عليّ من بين أصحابي» (١).

وان كان الطبري يروي في تأريخه بسنده عن محمّد بن الحنفية عن أبيه عليّ عليه‌السلام قال : «سمعت رسول الله يقول : ما هممت بشيء ممّا كان أهل الجاهلية يعملون به غير مرّتين ، كلّ ذلك يحول الله بيني وبين ما اريد من ذلك ، ثمّ ما هممت بسوء حتّى أكرمني الله برسالته.

قلت ليلة لغلام من قريش كان يرعى معي بأعلى مكّة : لو أبصرت لي غنمي حتّى أدخل مكّة فأسمر بها كما يسمر الشباب (!) فخرجت اريد ذلك ، حتّى اذا جئت أول دار من دور مكّة ، سمعت عزفا بالدّف والمزامير ، فقلت : ما هذا؟ قالوا : هذا فلان تزوّج ابنة فلان. فجلست أنظر إليهم ، فضرب الله على اذني فنمت ، فما أيقظني الّا مسّ الشمس ، فرجعت الى صاحبي ، فقال : ما فعلت؟ فقلت : ما صنعت شيئا ، ثمّ أخبرته الخبر.

ثمّ قلت له ليلة اخرى مثل ذلك ، فقال : افعل ، فخرجت فسمعت حين دخلت مكّة مثل ما سمعت حين دخلتها تلك الليلة ، فجلست أنظر ، فضرب الله على اذني ، فما أيقظني الّا مسّ الشمس ، فرجعت الى صاحبي فأخبرته الخبر ، ثمّ ما هممت بعدها بسوء حتّى أكرمني الله برسالته» (٢).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ١ : ١٩٤.

(٢) الطبري ٢ : ٢٧٩ ورواه عنه ابن أبي الحديد ١٣ : ٢٠٧.

٣٢٨

هذا من مصاديق التسديد في السيرة ، وأمّا في الفكرة : فمنه ما رواه الصدوق في «اكمال الدين» بسنده عن العباس بن عبد المطّلب عن أبي طالب في خبر بحيرا الراهب أنّه قال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : «يا غلام! أسألك بحق اللات والعزّى ... فزعموا أنّ رسول الله قال له : لا تسألني باللات والعزّى ، فو الله ما أبغضت شيئا قط بغضهما» (١).

أمّا قوله في الخبر السابق : «لكمني لاكم ثمّ قال : شدّ عليك إزارك ، وما أراه» فنفهم منه أنّه ـ بناء على ذلك وعلى ما ورد في كثير من الأخبار ـ كان محدّثا ، من ذلك : ما رواه الصفّار (ت ٢٩٠ ه‍) في كتابه «بصائر الدرجات» بسنده عن زرارة قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام : من الرسول؟ من النبيّ؟ من المحدّث؟ فقال : «الرسول : الّذي يأتيه جبرئيل فيكلّمه قبلا كما يرى أحدكم صاحبه الّذي يكلّمه ، فهذا الرسول» الى قوله : «وأمّا المحدّث ، فهو : الّذي يسمع كلام الملك فيحدّثه ، من غير أن يراه ، ومن غير أن يأتيه في النوم» (٢).

وما رواه الكليني في «اصول الكافي» بسنده عن الأحول قال : سألت أبا جعفر عن الرسول والنبيّ والمحدّث؟ قال : «الرسول : الّذي يأتيه جبرئيل قبلا فيراه ويكلّمه ، فهذا الرسول» الى قوله : «وأمّا المحدّث ، فهو : الّذي يحدّث فيسمع ، ولا يعاين ، ولا يرى في منامه» (٣).

ثمّ كان نبيّا مبشّرا :

وفي نفس الخبرين عن معنى النبوة المجرّدة أي بلا رسالة ، قال في الخبر

__________________

(١) اكمال الدين : ١٧٨ ـ ١٨٥. وابن هشام ١ : ١٩٣ عن ابن اسحاق مرفوعا.

(٢) كما في البحار ١٨ : ٢٧٠ عن بصائر الدرجات : ١٠٩. ونحوه خبر آخر فيه عنه عن الباقر عليه‌السلام أيضا وآخر عنه عن الصادق عليه‌السلام.

(٣) اصول الكافي ١ : ١٧٦ ونحوه خبران آخران فيه عنه وعن الرضا عليه‌السلام.

٣٢٩

الأول : «والنبيّ : الّذي يؤتى في النوم ، نحو رؤيا ابراهيم عليه‌السلام ، ونحو ما كان يأخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من السبات اذا أتاه جبرئيل في النوم. فهكذا النبيّ» وقال في الخبر الثاني : «وأمّا النبيّ فهو : الّذي يرى في منامه نحو رؤيا ابراهيم عليه‌السلام ، ونحو ما كان رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أسباب النبوة قبل الوحي ، حتّى أتاه جبرئيل من عند الله بالرسالة».

وروى ابن أبي الحديد في «شرح النهج» عن الإمام الباقر عليه‌السلام : «وكلّ (الله) بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ملكا عظيما منذ فصل عن الرضاع ، يرشده الى الخيرات ومكارم الأخلاق ، ويصدّه عن الشرّ ومساوئ الأخلاق. وهو الّذي كان يناديه : السلام عليك يا محمّد يا رسول الله وهو شابّ لم يبلغ درجة الرسالة بعد ، فيظن أنّ ذلك من الحجر والأرض ، فيتأمل فلا يرى شيئا» (١).

وفي التفسير المنسوب الى الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام عن أبيه قال : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا ترك التجارة الى الشام ، وتصدّق بكل ما رزقه الله تعالى من تلك التجارات ، كان يغدو كلّ يوم الى حراء يصعده وينظر من قلله الى آثار رحمة الله ، والى أنواع عجائب رحمته وبدائع حكمته ، وينظر الى أكناف السماء وأقطار الأرض والبحار والمفاوز والفيافي ، فيعتبر بتلك الآثار ، ويتذكر بتلك الآيات ، ويعبد الله حقّ عبادته» (٢).

وقال الطبرسي في «اعلام الورى» : ذكر علي بن إبراهيم وهو من أجلّ رواة أصحابنا قال : «انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا أتى له سبع وثلاثون سنة ، كان يرى في نومه كأنّ آتيا أتاه فيقول : يا رسول الله! وكان بين الجبال يرعى غنما (لأبي طالب) ، فنظر الى شخص يقول له : يا رسول الله ، فقال له : من أنت؟ قال : أنا جبرئيل ، أرسلني الله

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ١٣ : ٢٠٧.

(٢) التفسير المنسوب الى الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام كما في البحار ١٨ : ٢٠٥.

٣٣٠

إليك ليتّخذك رسولا. وكان رسول الله يكتم ذلك ، فأنزل جبرئيل بماء من السماء فقال : يا محمّد قم فتوضأ ، فعلّمه الوضوء على الوجه واليدين من المرفق ، ومسح الرأس والرجلين الى الكعبين وعلّمه الركوع والسجود» (١).

ونقل ذلك ابن شهرآشوب في كتابه «المناقب» وقبل ذلك بدأ فصل المبعث ببيان درجات البعثة فقال : «ولبعثته درجات : أوّلها : الرؤيا الصادقة ، والثانية : ما رواه الشعبي ، وداود بن عامر (٢) : أنّ الله قرن جبرئيل بنبوة نبيّه ثلاث سنين يسمع حسّه ولا يرى شخصه ، ويعلّمه الشيء بعد الشيء ، ولا ينزل عليه القرآن. فكان في هذه المدّة مبشّرا غير مبعوث الى الامّة».

ويقصد بما رواه الشعبي : ما رواه ابن سعد في «الطبقات» عن الواقدي بسنده عنه قال : قرن اسرافيل بنبوة رسول الله ثلاث سنين ، يسمع حسّه ولا يرى شخصه ، ثمّ كان بعد ذلك جبرئيل عليه‌السلام (٣).

ويقصد بما رواه داود عن عامر الشعبي أيضا : ما رواه عنه الطبري أيضا قال : انزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة ، فقرن بنبوّته اسرافيل ثلاث سنين ، فكان يعلّمه الكلمة والشيء ، ولم ينزل القرآن على لسانه. فلمّا مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبرئيل عليه‌السلام. فنزل القرآن على لسانه عشر سنين بمكّة ، وعشر سنين بالمدينة (٤).

__________________

(١) «اعلام الورى» ١ : ١٠٢ ، وعنه في قصص الأنبياء : ٣١٨ ، وعنه ابن شهرآشوب في المناقب ١ : ٤٣. وفي آخر خبر الطبرسي : فلمّا تمّ له أربعون سنة أمره بالصلاة وعلّمه حدودها ، ولم ينزّل عليه أوقاتها فكان يصلي ركعتين ركعتين في كلّ وقت».

(٢) كذا في المناقب ١ : ٤١ والصحيح : ما رواه داود عن عامر الشعبي.

(٣) الطبقات ١ : ١٩١ والطبري ٢ : ٣٨٦ عنه.

(٤) الطبري ٢ : ٣٨٧.

٣٣١

وقال الطبري بعد هذا : فلعلّ الّذين قالوا : كان مقامه بمكّة بعد الوحي عشرا ، عدّوا مقامه بها من حين أتاه جبرئيل بالوحي من الله عزوجل ، وأظهر الدعاء الى التوحيد وعدّ الّذين قالوا : كان مقامه ثلاث عشرة سنة ، من أوّل الوقت الّذي استنبئ فيه ، وكان المقرون به اسرافيل ، وهي السنون الثلاث الّتي لم يكن أمر فيها بإظهار الدعوة (١).

ولكن يبقى أنّ ابن شهرآشوب بدّل جبرئيل بإسرافيل سهوا.

أمّا من طرقنا فلا أقلّ ممّا ذكره الشيخ المفيد في «الاختصاص» قال : «قرن اسرافيل برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاث سنين ، يسمع الصوت ولا يرى شيئا ، ثمّ قرن به جبرئيل عليه‌السلام عشر سنين ، وذلك حيث اوحي إليه ، فأقام بمكّة عشر سنين ثمّ هاجر الى المدينة فأقام بها عشر سنين (٢).

وهذا يعني أنّ تلك السنوات الثلاث كانت منذ بدء البعثة في الأربعين من عمره صلى‌الله‌عليه‌وآله الى الثالث والأربعين ، كما نصّ عليه داود بن عامر في خبره. وابن داود لم يذكر أنّه لم يكن يرى شخصه ، وإنمّا نصّ عليه خبر الشعبي وما ذكره الشيخ المفيد وابن شهرآشوب.

فعلى ما ذا كان قبل البعثة؟

قبل أن نقف وايّاكم على مختلف الأخبار في هذا المضمار ، لنعد فنعيد النظرة على واقع حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما قبل البعثة من حيث العبادة والدّيانة.

والحقيقة هي أنّ واقع الحال في البعثة وما قبلها غير بيّن ، فالقرآن الكريم

__________________

(١) الطبري ٢ : ٣٨٧ ورواه ابن سعد في الطبقات ١ : ١٢٧ وابن كثير في البداية والنهاية ٣ : ٤ واليعقوبي ٢ : ٢٣ مرسلا. وروى الحاكم في المستدرك ٢ : ٦١ عن سعيد بن المسيب أنّ القرآن نزل على الرسول وهو ابن ثلاث وأربعين.

(٢) الاختصاص : ١٣٠ ، ولا نؤكد نسبة الاختصاص الى الشيخ المفيد.

٣٣٢

يقول : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ)(١) فحيث لم يكن يدري قبل بعثته ما الكتاب ولا الإيمان فهل لم يكن كذلك يؤمن ويتديّن بكتاب أو دين كما هو ظاهر لفظ القرآن الكريم؟ أم ما ذا؟

وأقدم ما نعلم من السابقة التأريخية لهذا التساؤل ـ مع الأسف ـ ليس عصر الرسول نفسه أو المعصومين من عترته عليهم‌السلام ، بل حتّى بعد عصر الغيبة الصغرى وفي بدايات الغيبة الكبرى ، فقد طرح هذا السؤال نفسه ضمن مسائل علم الاصول ، وإليك نماذج من ذلك :

السيد المرتضى علم الهدى رضى الله عنه يقول في كتابه «الذريعة الى اصول الشريعة» : «قد استقصينا هذا الكلام وفرّغناه في كتاب «الذخيرة» (٢) ويقرّره كذلك في «الذريعة» فيقول : «هل كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متعبّدا بشرائع من تقدّمه من الأنبياء عليهم‌السلام؟ في هذا الباب مسألتان : احداهما : قبل النبوة ، والاخرى : بعدها. وفي المسألة الاولى ثلاثة مذاهب : احدها : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ما كان متعبدا قطعا. والآخر : أنّه كان متعبّدا قطعا. والثالث : التوقف. وهذا هو الصحيح. والّذي يدلّ عليه : أنّ العبادة بالشرائع تابعة لما يعلمه الله تعالى من المصلحة بها في التكليف العقلي ، ولا يمتنع أن يعلم الله تعالى أن لا مصلحة للنبيّ قبل نبوته في العبادة بشيء من الشرائع ، كما أنّه غير ممتنع أن يعلم أنّ له في ذلك مصلحة ، واذا كان كلّ واحد من الأمرين جائزا ، ولا دلالة توجب القطع على أحدهما ، وجب التوقف.

__________________

(١) الشورى : ٥٢.

(٢) حقق الكتاب المحقق السيد أحمد الحسيني ، وطبع في مؤسسة النشر الإسلامي بقم المقدّسة سنة ١٤١١ ه‍ في ٦٠٧ صفحة ، يبدأ فيه باب النبوات من ٣٢٢ الى ٤٠٨ ولم أجد الكلام المذكور فيه ولا في سائر أبواب الكتاب ، بل التحويل على الذخيرة لا يوجد في الذريعة أيضا ٢ : ٥٩٥ ط جامعة طهران.

٣٣٣

وليس يقتضي علمه صلى‌الله‌عليه‌وآله بأن غيره نبيّ أن يتعبّد بشريعته ، بل لا بد من أمر زائد على هذا العلم. ولو ثبت أنّه حج أو اعتمر قبل نبوّته لقطع به على أنّه كان متعبدا ، وبالتظنيّ لا يثبت مثل ذلك. ولم يثبت أنّه تولى التذكية بيده ، ولو ثبت أنّه ذكّى بيده لجاز أن يكون من شرع غيره في ذلك الوقت أن يستعين بغيره في الذكاة فذكّى على سبيل المعونة لغيره ، ولا شبهة في أنّ أكل لحم المذكّى غير موقوف على الشرع ، لأنّه بعد الذكاة يصير مثل كلّ مباح.

وليس لمن قطع على أنّه ما كان متعبدا أن يتعلّق بالقول : بأنّه لو كان تعبّد بشيء من الشرائع لكان فيه متّبعا لصاحب تلك الشريعة ومقتديا به ، وذلك لا يجوز ، لأنّه أفضل الخلق ، واتّباع الأفضل للمفضول قبيح.

ذلك أنّه غير ممتنع أن يوجب الله تعالى عليه بعض ما قامت عليه الحجة به من بعض الشرائع المتقدمة لا على وجه الاقتداء بغيره فيها ولا الاتّباع» (١).

وقال المحقّق أبو القاسم الحلّي ـ طيّب الله رمسه ـ في اصوله : «لو كان متعبّدا بشرع من قبله لكان طريقه الى ذلك إمّا الوحي أو النقل ، ويلزم من الأوّل : أن يكون شرعا له لا شرعا لغيره ، ومن الثاني : التعويل على نقل اليهود ، وهو باطل ، لأنّه ليس بتواتر ، لما تطرق إليه من القدح المانع من إفادة اليقين. ونقل الآحاد منهم لا يوجب العمل ، لعدم الثقة.

ولو كان متعبّدا بشرع غيره لوجب عليه البحث عن ذلك الشرع ، لكنّ ذلك باطل ، لأنّه لو وجب لفعله ، ولو فعله لاشتهر ، ولوجب على الصحابة والتابعين والمسلمين الى يومنا هذا متابعته على الخوض فيه ، ونحن نعلم من الدّين خلاف ذلك» (٢).

__________________

(١) الذريعة الى اصول الشريعة ٢ : ٥٩٥ ، ٥٩٦ ط جامعة طهران.

(٢) كما في البحار ١٨ : ٢٧٥ ـ ٢٧٦ باختصار. أما في كتابه «معارج الأصول»

٣٣٤

فالسيد المرتضى توقّف ، والمحقّق نفى وأنكر ، ولكنّ تلميذه العلامة عاد فتوقف : فقد قال ـ قدّس الله روحه ـ في شرحه على «مختصر الاصول» لابن الحاجب : «اختلف الناس في أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هل كان متعبدا بشرع أحد من الأنبياء قبله قبل النبوة؟ أم لا؟ فذهب جماعة الى أنّه كان متعبدا. ونفاه آخرون.

والمثبتون اختلفوا : فذهب بعضهم الى أنّه : كان متعبّدا بشرع نوح ، وآخرون : بشرع ابراهيم ، وآخرون : بشرع موسى ، وآخرون : بشرع عيسى ، وآخرون : بما ثبت أنّه من الشرع».

ولم يتكلم العلّامة فيه بما ينمّ عن مختاره وإنمّا قرّر مختار ابن الحاجب الشافعي (ت ٦٤٦ ه‍) بأنّه كان متعبدا بما ثبت بالتواتر أنّه من شرع قبله ، عيسى بل موسى عليها‌السلام ، فإنّ شريعة عيسى هي شريعة موسى عليه‌السلام في الأعم الأغلب.

وقرّر استدلاله لذلك «بما نقل نقلا ـ يقارب التواتر ـ أنّه كان يصلّي ويحجّ ويعتمر ويطوف بالبيت ، ويتجنّب الميتة ويذكّي ويأكل اللحم ، ويركب الحمار (!) وهذه امور لا يدركها العقل ، فلا مصير إليها الّا من الشرع».

ولكنّه ردّ استدلال غيره على هذا المذهب نفسه : «بأنّ عيسى كان مبعوثا الى جميع المكلّفين ، والنبيّ كان من المكلّفين ، فيكون عيسى مبعوثا إليه» فقال : «لا نسلّم عموم دعوة من تقدّمه».

__________________

المطبوع فكما يلي : فائدة : اختلف الناس في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هل كان متعبدا بشرع من قبله؟ أم لا؟ وهذا الخلاف عديم الفائدة ، لأنا لا نشك في أن جميع ما أتى به لم يكن نقلا عن الأنبياء عليهم‌السلام ، بل عن الله تعالى بواسطة الملك ، ونجمع على أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل الأنبياء ، واذا أجمعنا على ثمرة المسألة فالدخول بعد ذلك فيها كلفة : ١٢١. انتهى ، وقد ذكر العلّامة الطهراني للمحقق كتابا آخر في الاصول باسم «نهج الوصول» الذريعة ٢٤ : ٤٢٦ ، ٤٢٧ فلعل المجلسي نقل كلامه من ذلك الكتاب ، ولم يسمّه.

٣٣٥

ولكنّه قال : إنّ الشرع المنقول إليه إن كان آحادا فهو غير مقبول وأمّا اذا كان متواترا فقد كان يعمل به من دون لزوم المخالطة لأرباب تلك الشريعة ، حتّى يلزم عدم تعبده به من عدم مخالطة لهم. فالنتيجة : أنّه كان يعمل بما ثبت بالتواتر انّه شرع قبله ، بدليل نقلي يقارب التواتر كما قال.

وقد تقدّم من السيد المرتضى : أنّه لو ثبت لقطع به على أنّه كان متعبدا ، ولكنّه لم يثبت عنه ، التظنّي لا يثبت مثل ذلك.

أمّا النصوص المتقدمة فإنّما دلّت على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في فكره وسلوكه الديني العقائدي العقلي والعملي محدّثا مسدّدا.

وبخصوص الصلاة فقد مرّ خبر القطب الراوندي عن علي بن ابراهيم القمّي : أنّه بعد ما «أتى عليه سبع وثلاثون سنة ... نزل عليه جبرئيل وأنزل عليه ماء من السماء وعلّمه الوضوء والركوع والسجود» (١) فقط ، لا الصلاة بحدودها وأوقاتها ففي تمام الخبر : «فلمّا تمّ له أربعون سنة علّمه حدود الصلاة ولم ينزّل عليه أوقاتها ، فكان يصلي ركعتين ركعتين في كلّ وقت» (٢) ممّا يدلّ عليه كثير من معتبر الأخبار ، في تفصيل تشريع الصلوات في أبواب عديدة من «وسائل الشيعة» وكذلك لدى العامة أيضا.

وأمّا شأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله في كثير من المناسك والمناهي والتروك فليكن كشأن آبائه وأجداده الأمجاد ممّا دلّ عليه كثير من الأخبار التأريخية وغيرها كما مرّ في محلّه ، أمّا أكثر من ذلك التحنّث بالحنيفية «الإبراهيمية» فلا نصّ يصرّح به ، ولا دليل عليه.

__________________

(١) اعلام الورى : ٣٦ وسيأتي وجه تقديم السجود على الركوع.

(٢) اعلام الورى ١ : ١٠٢.

٣٣٦

وان كان المولى المجلسي ـ قدس الله سره ـ قال : «إنّ الّذي ظهر لي من الأخبار المعتبرة والآثار المستفيضة هو : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان قبل بعثته ـ منذ أكمل الله عقله في بدو سنّه ـ نبيّا مؤيّدا بروح القدس ، يكلّمه الملك ويسمع الصوت ، ويرى في المنام ... وكان يعبد الله بصنوف العبادات إمّا موافقا لما أمر به الناس بعد التبليغ ، وهو أظهر ، أو على وجه آخر ، امّا مطابقا لشريعة ابراهيم عليه‌السلام أو غيره ممّن تقدّمه من الأنبياء ، لا على وجه كونه تابعا لهم وعاملا بشريعتهم ، بل بأنّ ما اوحي إليه كان مطابقا لبعض شرائعهم ، أو على وجه آخر ، نسخ بما نزل عليه بعد الإرسال. ولا أظن أن يخفى صحة ما ذكرت على ذي فطرة مستقيمة وفطنة غير سقيمة ... ولنذكر بعض الوجوه لزيادة الاطمئنان ، على وجه الإجمال» ثمّ ذكر وجوها ستة (١).

ولنعد لنستثني من نفينا لنصّ صريح في الإجابة على السؤال بهذا الشأن : ما رواه الكليني في «اصول الكافي» بسنده عن أبي حمزة الثمالي قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن العلم أهو شيء يتعلمه العالم [منكم] من أفواه الرجال؟ أم في الكتاب عندكم تقرءونه فتعلمون منه؟

قال : الأمر أعظم من ذلك وأوجب ، أمّا سمعت قول الله عزوجل : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ)(٢) ثمّ قال : أيّ شيء يقول أصحابكم في هذه الآية؟ أيقرّون أنّه كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الايمان؟ فقلت : لا أدري ـ جعلت فداك ـ ما يقولون ، فقال : بلى قد كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الإيمان ، حتّى بعث الله ـ عزوجل ـ الروح الّتي ذكر

__________________

(١) بحار الأنوار ١٨ : ٢٧٧ ـ ٢٨١.

(٢) الشورى : ٥٢.

٣٣٧

في الكتاب ، فلمّا أوحاها إليه علم بها العلم والفهم ، وهي الروح الّتي يعطيها الله ـ عزوجل ـ من شاء ، فإذا أعطاها عبدا علّمه الفهم» (١).

فسؤال الثمالي في هذا الخبر من الإمام الصادق عليه‌السلام وان كان عن مصدر العلم للعالم الإلهي الرّباني ، ولم يكن السؤال عن حال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل البعثة من حيث الديانة والعبادة الّا أنّ الإمام أجابه بما اشتمل على ذلك اذ قال : بأنّ مصدر العلم للعالم الإلهي الرّباني هي الروح الّتي يعطيها الله من شاء من عباده ، فإذا أعطاها عبدا علّمه الفهم ، بعد ما كان في حال لا يدري ما الكتاب ولا الايمان ، كما في نصّ القرآن.

ولكنّ المولى المجلسي فسّر الروح هنا بروح القدس وقال كما مرّ : «كان منذ أكمل الله عقله في بدو سنّه نبيّا مؤيدا بروح القدس» ولذلك أجاب عن الاستدلال بالآية يقول : «وأمّا استدلالهم بقوله تعالى : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) فلا يدلّ الّا على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في حال لم يكن يعلم القرآن وبعض شرائع الإيمان ، ولعلّ ذلك كان في حال ولادته قبل تأييده بروح القدس ، كما دلّت عليه رواية أبي حمزة وغيرها» (٢).

اذن يبقى علينا أن نبيّن معنى الروح :

قد روى الكليني في «اصول الكافي» بسنده عن أبي بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله تبارك وتعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ)؟ قال : «خلق من خلق الله أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخبره ويسدّده ، وهو مع الأئمة من بعده» (٣).

__________________

(١) اصول الكافي ١ : ٢٧٣ ، ٢٧٤.

(٢) البحار ١٨ : ٢٨١.

(٣) اصول الكافي ١ : ٢٧٣.

٣٣٨

وروى فيه بسنده عنه أيضا قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)(١) قال : «خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل ، كان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو مع الأئمة ، وهو من الملكوت» (٢).

وروى فيه بسنده عنه أيضا قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) قال : خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل ، لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو مع الأئمة يسدّدهم ، وليس كلّ من طلب وجد» (٣).

وروى فيه بسنده عن المفضل بن عمر قال : سألته عن علم الإمام بما في أقطار الأرض وهو في بيته ، مرخى عليه ستره؟ فقال : «يا مفضّل ، انّ الله تبارك وتعالى جعل في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله خمسة أرواح : روح الحياة فبه دبّ ودرج ، وروح القوة فبه نهض وجاهد ، وروح الشهوة فبه أكل وشرب ، وأتى النساء من الحلال ، وروح الإيمان فبه امن وعدل ، وروح القدس فبه حمل النبوة ـ فإذا قبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله انتقل روح القدس فصار الى الإمام ـ وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يسهو ـ والأربعة الأرواح تنام وتغفل وتلهو وتسهو ـ وروح القدس كان يرى به» (٤).

ونقله المجلسي وقال في بيانه : «أي كان يرى النبيّ والإمام بروح القدس ما غاب عنه في أقطار الأرض والسماء وما دون العرش» (٥).

__________________

(١) الإسراء : ٨٥.

(٢) اصول الكافي ١ : ٢٧٣.

(٣) اصول الكافي ١ : ٢٧٣.

(٤) اصول الكافي ١ : ٢٧٣.

(٥) بحار الأنوار ١ : ٢٦٤.

٣٣٩

فإذا ضممنا الى ذلك أنّه لم يكن يرى جبرئيل ولا أيّ ملك قبل نزول وحي القرآن عليه وإنّما كان يسمع ويحسّ ولا يرى الشخص ، كما مرّ في الخبر المعتبر ، أنتج : أنّ هذا الروح ـ روح القدس ـ أيضا لم يكن معه قبل نزول وحي القرآن عليه ، وإنّما اوتيه بعد ذلك أو معه ، لا قبله منذ اكتمال عقله في بدوّ سنّه كما ذهب إليه المولى المجلسي ـ قدّس الله سره ـ.

وتعليق الكلام على الوصف ان كان مشعرا بالعلّية ـ كما هو الحقّ ـ فقد علّق الإمام عليه‌السلام وجود هذه الروح على وصف الرسالة : «كان مع رسول الله» في الخبرين الأوّلين ، وليس حتّى النبوة ، ممّا يشعر بأنّ هذه الروح ـ روح القدس ـ كانت مصاحبة مع وصف الرسالة ومتزامنة في البداية معها ، لا قبلها ، حتّى مع النبوة ، فضلا عمّا قبلها. ولا يقدح في هذا خلوّ الخبر الثالث من هذا التعليق ، فانّه بصدد النفي عن غيره لا الإثبات له.

وبعد كلّ ما تقدم ، فإن ما نستطيع الجزم به هو : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مؤمنا موحدا يعبد الله ويلتزم بما ثبت له أنّه شرع الله تعالى ، وبما يؤدّي إليه عقله الفطري السليم ، والمؤيد المسدّد ، فكان أفضل الخلق واكملهم خلقا وخلقا وعقلا ... وعليه فما يذكر عنه ممّا يتنافى مع التسديد وفقا لشرع الله ، لا أساس له من الصحة ... كالخبر عن استلامه الأصنام! ذلك ما نقله القاضي عياض في كتابه «الشفاء في أحوال المصطفى» ثمّ نقل عن أحمد بن حنبل : أنّه حديث موضوع (١).

مع أنّ المؤرخين ـ ومنهم المسعودي ـ عدّوا عددا من العرب الجاهليين لم يشاركوا الجاهلية في شركها ، كقسّ بن ساعدة الإيادي ، واميّة بن أبي الصلت الثقفي ، وزيد بن عمرو بن نفيل العدوي ، وأبيه عمرو بن نفيل أخي الخطّاب بن نفيل

__________________

(١) كما في السيرة الحلبية ١ : ١٢٥ و ٢٧٠. والسيرة النبوية لدحلان ١ : ٥١. راجع الصحيح ١ : ١٥٨.

٣٤٠