موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

ولعلّ الذين تناولوا السيرة بالتلخيص والاختصار ، إنّما خفّفوا من ثقل الكتاب بعض أخباره الّتي استبعدوها غير مؤمنين بصحّتها ، ناقلين من الأخبار ما يرون فيها القرب من الحقّ ، ومستبعدين ما لا يجري في ذلك مع فكرتهم وعقيدتهم مفنّدين إياه رادّين له.

ولعلّ من علل انتشار أخبار ابن إسحاق ثمّ كتابه في السيرة كثرة رحلاته ، فالراجح في تأريخ مولده في المدينة أنّه كان سنة ٨٥ ه‍ ولا يرتاب الرجاليّون وأصحاب الطبقات في أنّه أمضى شبابه في المدينة فتى جميلا «فارسي الخلقة» جذّاب الوجه له شعرة حسنة ولذلك حكى ابن النديم بشأنه في فهرسته : أنّه اتّهم بأنّه يجلس في مؤخّر المسجد للصلاة فيغازل بعض النساء ، فأمر أمير المدينة بإحضاره وضربه اسواطا ونهاه عن الجلوس في مؤخّر المسجد. ولعلّه لهذا لم يرو عنه من أهل المدينة غير راو واحد هو إبراهيم بن سعد فحسب (١).

ولعلّه لهذا رحل منها سنة ١١٥ ه‍ أي في الثلاثين من عمره إلى الاسكندرية في مصر ، ويظن أنّها اولى رحلاته ، فانفرد برواية أحاديث عن عدة من رجال الحديث بها.

ثمّ رحل إلى الكوفة والحيرة ، ولعلّه بها التقى بالمنصور فصنّف لابنه المهدي كتاب السيرة كما سبق ، فرواها عنه زياد بن عبد الملك البكّائي العامري وغيره ، ورحل إلى الجزيرة أي الموصل ، والرّي حتّى إذا بنيت بغداد فرجع إليها وفيها ألقى عصا الترحال ، وله من كلّ هذه البلدان رواة كثيرون. وعاش في بغداد حتّى توفي بها فدفن في مقابر الخيزران.

وقد كان ابن إسحاق يعدّ في طبقة تلامذة عبد الملك بن شهاب الزهري وأقرانه ، وله عنه روايات ، ونقل أصحاب الطبقات أنّ شيخه ابن شهاب الزهري

__________________

(١) وانظر تهذيب التهذيب ٩ : ٤٤.

٢١

لم يكن يتّهمه بشيء بل كان يوثّقه ، وتبعه في توثيق ابن إسحاق من الفقهاء الأئمة : سفيان الثوري وشعبة ، بالإضافة إلى راويته زياد ابن عبد الملك البكّائي عنه. وإن كان هشام بن عروة بن الزبير من رواة السيرة ، ومالك بن أنس من أئمة الفقهاء يتحاملان عليه بالجرح والتضعيف ويتّهمانه بالكذب والدّجل والتّدليس ، والقول بالقدر ، والنقل عن غير الثقات ، وأخطاء في الأنساب. ولكن لعلّه لأن ابن إسحاق كان يطعن في نسب مالك وعلمه ويقول : ايتوني ببعض كتبه حتّى ابيّن لكم عيوبه ، فأنا بيطار كتبه (١)! إذن فالحملة متقابلة من الطرفين ، والتضعيف ضعيف لأنه معلوم الوجه والعلة «الشخصية».

مغازي الواقدي :

أمّا الواقدي محمّد بن عمر بن واقد مولى بني سهم ، فقد ذكر تلميذه ابن سعد في «الطبقات الكبرى» أنّه ولد في المدينة سنة ١٣٠ ه‍ أي بعد خروج ابن إسحاق منها بخمسة عشر عاما ، ولذلك لم يرو عنه وإن كان قد روى عن سائر رواة الأخبار عن الزهري ، مع تشابه كبير بين فقرات كتاب السيرة لابن إسحاق وكتاب المغازي للواقدي ، ولذلك زعم مستشرقان هما (فلهوزن وهو رفتس) أنّه سرق منه ولم يسنده إليه ، وفنّد زعمهما مستشرق آخر هو (مارسدن جونس) محقّق المغازي كما في مقدّمته للكتاب (٢) ثمّ احتمل أن يكون الواقدي قد أعرض عن الرواية عن ابن إسحاق نظرا إلى عدم توثيق علماء المدينة له (٣).

__________________

(١) راجع ترجمته وهذه الأقوال في الكامل في الضعفاء لابن عدي ٦ : ١٠٢ ـ ١١٢.

(٢) مغازي الواقدي : ٢٩.

(٣) بل مرّ أنّه رحل عن المدينة شابّاً قبل تأليفه السيرة فلم يروها عنه من أهل المدينة أحد ، فلم يرو عنه الواقدي.

٢٢

ثمّ قال : يبدو واضحا للقارئ الحديث أنّ من أهم السّمات الّتي تجعل الواقدي في منزلة خاصة بين أصحاب السّير والمغازي تطبيقه المنهج التأريخي العلمي الفنّي ، فإنّا نلاحظ عند الواقدي ـ أكثر ممّا نلاحظ عند غيره من المؤرّخين المتقدمين ـ أنّه كان يرتّب التفاصيل المختلفة للحوادث بطريقة منطقية لا تتغير ، فهو مثلا يبدأ مغازيه بذكر قائمة طويلة من الرجال الذين نقل عنهم تلك الأخبار ثمّ يذكر المغازي واحدة واحدة مع تأريخ محدد للغزوة بدقّة ، وغالبا ما يذكر تفاصيل جغرافية عن موقع الغزوة ، ثمّ يذكر المغازي الّتي غزاها النبي بنفسه ، وأسماء الّذين استخلفهم على المدينة أثناء غزواته ، وأخيرا يذكر شعار المسلمين في القتال ، كلّ ذلك بالإضافة إلى وصفه لكلّ غزوة باسلوب موحّد : فيذكر أوّلا اسم الغزوة وتأريخها وأميرها.

وكثيرا ما يقدّم لنا الواقدي قصة الواقعة بإسناد جامع ، أي يجمع الرجال والأسانيد في متن واحد. وإذا كانت الغزوة قد نزل فيها آيات كثيرة من القرآن الكريم ، فإنّ الواقدي يفردها وحدها مع تفسيرها ويضعها في نهاية أخبار الغزوة ، وفي المغازي المهمة يذكر الواقدي أسماء الّذين استشهدوا فيها.

وإنّ ما أورده في الكتاب من التفاصيل الجغرافية ليوحي بجهده ومعرفته للدقائق في الأخبار الّتي جمعها في رحلته إلى شرق الأرض وغربها طلبا للعلم (١). وقد روى الخطيب البغدادي وابن سيد الناس (٢) عن الواقدي أنّه قال : ما أدركت رجلا من أبناء الصحابة وأبناء الشهداء ولا مولى لهم إلّا سألته : هل سمعت أحدا من أهلك يخبرك عن مشهده وأين قتل؟ فإذا أعلمني مضيت إلى الموضع فاعاينه ، وما علمت غزاة إلّا مضيت إلى الموضع فاعاينه ، حتّى لقد مضيت إلى «المريسيع» فنظرت إليها.

__________________

(١) مقدمة المحقق للمغازي ١ : ٣١.

(٢) تأريخ بغداد ٣ : ٦ ، وعيون الاثر ١ : ١٨.

٢٣

ورووا عن هارون الغروي قال : رأيت الواقدي بمكة ومعه ركوة فقلت : أين تريد؟ قال : اريد أن أمضي إلى حنين حتّى أرى الموضع والوقعة.

ويشهد لنباهة الواقدي بهذا الشأن ما قصّه تلميذه وراويته ابن سعد في الطبقات :

إنّ هارون الرشيد ويحيى بن خالد البرمكي حين زارا المدينة في حجتهما ، طلبا من يدلّهما على المشاهد وقبور الشهداء ، فدلّوهما على الواقدي ، فصحبهما في زيارتهما فلم يدع موضعا من المواضع ولا مشهدا من المشاهد إلّا مرّ بهما عليه. فمنحه هارون الرشيد بعشرة آلاف درهم ، فصرفها في قضاء ديون كانت قد تراكمت عليه وزوّج بعض ولده وبقي في يسر وسعة (١).

ولكنّه يعود فيقول : إنّه لحقه دين بعد ذلك فذهب إلى العراق سنة ١٨٠ ه‍ (٢) ويفصّل الخطيب عن الواقدي يقول : كانت للناس في يدي مائة الف درهم اضارب بها في الحنطة ، وتلفت الدراهم ، فشخصت إلى العراق فقصدت يحيى بن خالد البرمكي (٣) ، ويفصّل ابن سعد عنه أيضا يقول : ثمّ إنّ الدّهر أعضّنا ، فقالت لي أمّ عبد الله : يا أبا عبد الله ما قعودك وهذا وزير أمير المؤمنين قد عرفك وسألك أن تسير إليه حيث استقرت به الدار. فرحلت من المدينة. ولمّا دخل بغداد وجد الخليفة والبلاط قد انتقلوا إلى الرّقة بالشام فرحل إليهم حتّى لحق بهم (٤) فيقول : صار إليّ من السلطان ستمائة الف درهم ما وجبت علي فيها الزكاة (٥) ثمّ رجع معهم إلى بغداد

__________________

(١) انظر الطبقات ٥ : ٣١٥.

(٢) الطبقات ٧ : ٧٧.

(٣) تأريخ بغداد ٣ : ٤.

(٤) الطبقات ٥ : ٣١٥.

(٥) تأريخ بغداد ٣ : ٢٠.

٢٤

وبقي بها ، حتّى قدمها المأمون فجعله قاضيا لعسكر المهدي (١) وكان العسكر في الجانب الشرقي وكان الواقدي في الجانب الغربي فلمّا انتقل حمل كتبه ، على عشرين ومائة وقر (٢) فولّي القضاء مدّة أربع سنوات قبل وفاته ، وأوصى إلى المأمون فقبل وصيته وأرسل إليه بأكفانه وقضى دينه (٣).

ذكر ابن سعد ـ وهو تلميذه وكاتبه وراويته ـ يقول : مات ببغداد ليلة الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة سبع ومائتين ودفن يوم الثلاثاء في مقابر الخيزران ، وهو ابن ثمان وسبعين سنة (٤).

مكانة الواقدي في الرواية والعلم :

وتتجلى مكانته في الرواية والعلم في وصف كاتبه وتلميذه ابن سعد له حيث يقول : كان عالما بالمغازي والسيرة والفتوح واختلاف الناس في الحديث والأحكام ، واجتماعهم على ما أجمعوا عليه ، وقد فسّر ذلك في كتب استخرجها ووضعها وحدّث بها (٥).

وقال عنه ابن النديم في الفهرست : إنّه كان عنده غلامان يعملان ليلا ونهارا في نسخ الكتب ، وقد ترك عند وفاته ستمائة قمطر من الكتب يحتاج كلّ منها إلى رجلين لحمله (٦).

__________________

(١) الطبقات ٧ : ٧٧.

(٢) تأريخ بغداد ٣ : ٥ وعيون الاثر ١ : ١٨ والوافي بالوفيات ٤ : ٢٣٨ وسير اعلام النبلاء ٧ : ١١٨.

(٣) الطبقات ٥ : ٣١٥. الطبقات ٥ : ٣٢١ وتأريخ بغداد ٣ : ٢٠ وتأريخ دمشق ١١ : ٣ والوافي بالوفيات ٤ : ٢٣٨.

(٤) الطبقات ٧ : ٧٧.

(٥) الطبقات ٥ : ١٤٤.

(٦) الفهرست : ١٤٤.

٢٥

ونقل الخطيب البغدادي عن علي بن المديني : أنّ ما جمع الواقدي من الأحاديث بلغ عشرين ألف حديث (١).

ونقل ابن سيد الناس عن يحيى بن معين أنّه قال : أغرب الواقدي على رسول الله في عشرين ألف حديث. ثمّ قال ابن سيد الناس : وقد روينا عنه من تتبعه آثار مواضع الوقائع وسؤاله من أبناء الشهداء والصحابة ومواليهم عن أحوال سلفهم ما يقتضي انفرادا بالروايات وأخبارا لا تدخل تحت الحصر (٢).

ونقل الذهبي عن إبراهيم الحربي أنّه كان يقول عنه : إنّه كان أعلم الناس بأمر الإسلام ، فأمّا أمر الجاهلية فلم يعلم منها شيئا (٣) ثمّ ذكروا له زهاء ثلاثين كتابا.

ونرى في قائمة كتبه كتاب الطبقات ، ولنا أن نتمثّله في كتاب الطبقات الكبرى لتلميذه وكاتبه محمّد بن سعد ، فقد نقل عنه كثيرا ولا شكّ أنّه صنّفه على غرار كتاب شيخه وروى فيه عن غيره أيضا.

ومن كتبه كتاب الرّدة ، ذكر فيه ارتداد العرب بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومحاربة الصحابة لطلحة بن خويلد الأسدي ومسيلمة الكذّاب وسجاح في اليمامة والأسود العنسي في اليمن. وقد نقل عنه تلميذه ابن سعد في الطبقات والطبري في تأريخه أخبار الأحداث الّتي تلت وفاة النبي ، وإنّما هو من كتابه في الرّدة.

ويمكن القول بأنّ ما نقله ابن سعد ، والطبري عنه عن الواقدي من أخبار الجاهلية فهو من كتاب سمّوه : «كتاب التأريخ والمغازي والمبعث» ، هكذا بتقديم المغازي على المبعث وتأخير المبعث عن المغازي ، الّذي عدّوه غير كتاب المغازي. والطبري ينقل المغازي عن الواقدي مباشرة ولكنّه حين يورد أخبار الجاهلية

__________________

(١) تأريخ بغداد ٣ : ١٣.

(٢) عيون الأثر ١ : ٢٠.

(٣) سير الأعلام ٧ : ١١٧.

٢٦

وما قبل الإسلام فإنّه يرويها عن ابن سعد عن الواقدي ، ممّا يدلّ على أنّه اعتمد في المغازي على كتاب المغازي للواقدي ، وأمّا في أخبار الجاهلية فهي من كتاب آخر له لعلّه هو التأريخ والمبعث.

ومن كتبه «فتوح الشام وفتوح العراق» ، وقد نقل البلاذري في كتابه «فتوح البلدان» عن الواقدي كثيرا ، وهو من تلامذة ابن سعد كاتب الواقدي ، فهو قد روى كتاب شيخه له ورواه البلاذري كما نقل ابن كثير في «البداية والنهاية» كثيرا من حوادث سنة ٦٤ ه‍ والطبري نقل عنه كثيرا من حوادث النصف الثاني من القرن الثاني أي التي عاشها الواقدي.

حول تشيع الواقدي وابن إسحاق :

قال ابن النديم في فهرسته عن الواقدي : كان يتشيّع ، حسن المذهب ، يلزم التقيّة ، وهو الّذي روى انّ عليا كان من معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كالعصا لموسى واحياء الموتى لعيسى بن مريم عليهما‌السلام ، وغير ذلك من الأخبار (١).

ونقل هذا القول عنه السيد الأمين العاملي صاحب «أعيان الشيعة» وترجم له (٢) ، وكذلك ذكره آقا بزرك الطهراني في «الذريعة إلى تصانيف الشيعة» (٣) عند الحديث عن تأريخ الواقدي. بينما لم يذكره الشيخ الطوسي في فهرسته ولا رجاله ولا ذكر كتابا من كتبه حتّى مقتل الحسين عليه‌السلام.

__________________

(١) الفهرست : ١٤٤ ، هذا وقد روى ابن عدي الرجالي عنه في كتاب الكامل في الضعفاء ٦ : ٢٤٢ ، برقم ١٧١٩ بسنده عن بشر بن سعيد ، قال : سألت زيد الجهمي : أوصى النبي إلى أحد؟ فقال : لا.

(٢) أعيان الشيعة ٤٦ : ١٧١.

(٣) الذريعة ٣ : ٢٩٣.

٢٧

وابن أبي الحديد حينما ينقل فقرة طويلة عن الواقدي ثمّ يورد رواية اخرى مختلفة عن الاولى يبدؤها بقوله : «وفي رواية الشيعة» (١) ، ممّا يدلّ على أنّه لم يعتبره شيعيا ولا ممثّلا لهم.

ومن الطريف أن يلاحظ أنّ ابن إسحاق أيضا كان يتّهم بالتشيّع (٢).

ولعلّ السبب في وصفهما بالتشيّع لا يرجع إلى عقيدتهما الشخصية ، بل إلى ما ورد في كتابيهما من الأخبار التي يعرضونها ممّا تقتضيه طبيعة التأليف في مثل هذه الموضوعات لا عن عقيدة صحيحة بها ، وإلى ما أورداه في بعض المواضع من كتابيهما بشأن جماعة من الصحابة منهم بعض الخلفاء فيذكرانهم بعبارات لا تضعهم في الموضع الموضوع لهما عند كثير من المسلمين.

ولذلك فانّ أكثر النقّاد من المحدّثين الأوائل كانوا يضعّفون الواقدي في الحديث.

فقد قال البخاري والرازي والنّسائي والدارقطني : انّه متروك الحديث ، ولكنّهم لم يجمعوا على ذلك ، فقد وصفه الدراوردي بأنّه : أمير المؤمنين في الحديث.

وقال يزيد بن هارون : الواقدي ثقة.

ووثّقه مصعب الزبيري ، ومجاهد بن موسى ، والمسيّب وأبو عبيد القاسم بن سلام ، وأبو بكر الصغاني (٣).

وقال إبراهيم الحربي : هو آمن الناس على أهل الإسلام (٤).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٣ : ٣٣٩.

(٢) معجم الادباء ١٨ : ٧.

(٣) تهذيب التهذيب ٩ : ٣٦٤.

(٤) عيون الأثر ١ : ١٨.

٢٨

وقال ابن النديم : كان عالما بالمغازي والسّير والفتوح واختلاف الناس في الحديث والفقه والأحكام والأخبار (١).

أمّا بالنسبة لابن إسحاق : فقد عقد الخطيب البغدادي في كتابه «تأريخ بغداد» وكذلك ابن سيّد الناس في كتابه «عيون الأثر» فصلين فنّدا فيهما جميع المطاعن الّتي وجّهت إليه.

وبالنسبة لتشيّعه وقوله بالقدر قالا ما ملخّصه : أمّا ما رمي به من التدليس والقدر والتشيّع فلا يوجب ردّ روايته ، ولا يوقع فيها كبير وهن ، أمّا التدليس فمنه القادح وغير القادح ، ولا يحمل ما وقع هنا من مطلق التدليس على التدليس المقيد بالقادح في العدالة ، وكذلك القدر والتشيّع لا يقتضيان الردّ إلّا بضميمة اخرى لم نجدها هنا.

والعجيب أنّك لا تجد شيئا من هذا التشكيك في عبد الملك بن هشام مهذّب سيرة ابن إسحاق ، فلو كان العيب في هذا الباقي من سيرة ابن إسحاق لشمل الشك ابن هشام أيضا.

وعندئذ نطمئن إلى انّ العيب ليس في هذا الباقي بل فيما قال عنه ابن هشام : «وتارك بعض ما يذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب ... أشياء بعضها يشنع الحديث به ، وبعض يسوء بعض الناس ذكره ، وبعض لم يقرّ لنا البكّائي بروايته ، ومستقص ما سوى ذلك».

وعندئذ تجد محور اتّهام التشيّع أيضا. وقد رأينا أنّا إذا استثنينا هذين المتهمين بالتشيّع لم يبق لعامة المسلمين شيء يذكر في السيرة ولا المغازي. وعندئذ ندرك أيضا أنّ السابقين الأولين إلى تدوين سيرة الرسول ومغازيه أي الصدر الأول من تأريخ الإسلام هم من شيعة أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أو المقاربين لهم المتّهمين بهم.

__________________

(١) الفهرست : ١٤٤.

٢٩

نقد كتب السيرة :

لعلّ النظر إلى تراث السلف الصالح ـ ولا سيّما سيرة الرسول الكريم ـ بنظرة التقديس ، هو الّذي أدّى بالمؤلّفين في السيرة على اختلاف طبقاتهم أن لا يقفوا موقف الناقد البصير ، فلم نر منهم من يعرض لما تحمله السيرة بين دفتيها من أخبار ضعيفة بعيدة عن الحقيقة لينقدها ويأتي على نقاط الضعف فيها ، فهذا ما حرمه هذا العلم في جميع أدواره السالفة إلى عهدنا هذا الأخير ، حيث أخذ المستشرقون والمتأثّرون بهم يتناولون خبرا أو خبرين من السيرة وسيلة للطّعن في شخص النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله أو ما يتصل به ، فآمن بعض أصحاب الأقلام الجديدة بأنّ في السيرة أخبارا لا تمتّ إلى الحقّ بصلة في قليل ولا كثير ، ثمّ تجرّءوا فأقدموا على تهذيب السيرة ممّا الصق بها وهي ليست منها ، كقصة شقّ الصدر والغرانيق (١) وغرام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله بزوجة زيد ربيبه!

إنّ سيرة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كسائر العظماء اضيف إليها ما ليس منها ، إمّا عن حب وهوى وحسن نيّة وطويّة ، وإمّا عن حقد وسوء قصد متعمّد ، ولكنّها تمتاز عن سير جميع العظماء بأنّ شيئا كثيرا منها ضمّه الوحي الإلهي وضمن حفظه القرآن الكريم ، وكثيرا منها مرويّ على لسان الحفّاظ الثّقات من المحدّثين. فعلى هذه الاسس الصحيحة يجب أن تبنى السيرة ، وأن تحلّل التحليل العلميّ النزيه بملاحظة ظروف الوسط وحال البيئة وجوانبها المختلفة من عقائد ونظم وعادات وتقاليد وطقوس ، وأن لا يبنى الأساس على المعجزات والكرامات وخوارق العادات إلّا ما خرج بالدليل بل يبنى على أساس «إنّ الله أبى أن يجري الأشياء إلّا بأسباب» (٢) اللهمّ إلّا ما خرج بالدليل الثابت المعقول.

__________________

(١) انظر ملخّص القصّة في ذيل الصفحة التالية.

(٢) اصول الكافي ١ : ١٨٣ ، عن الصادق عليه‌السلام وهي رواية الصفار القمي في بصائر الدرجات كما عنه في بحارالانوار ٢ : ٩٠.

٣٠

الخلاف في كتب السيرة وبينها :

إنّ الدارس لكتب السيرة والتأريخ يلاحظ أنّ ما روته من أنباء الخوارق والمعجزات وغيرها من كثير من الأنباء ، ينقص ثمّ يزيد بزيادة الأزمان التي وضعت فيها هذه الكتب ، فقديمها أقلّ رواية للخوارق من متأخّرها ، وما ورد من الخوارق في الكتب القديمة أقلّ بعدا عن مقتضى العقل ممّا ورد في كتب المتأخّرين.

فهذه ابن اسحاق في السيرةأو قل ابن إسحاق أقدم السّير المعروفة اليوم تغفل كثيرا عمّا ذكره أبو الفداء في تأريخه وما ذكره القاضي عياض في «الشفاء» وعن جميع كتب المتأخرين تقريبا.

فلا بدّ للباحث من أن يقبل لنفسه مقياسا يعرض عليه ما اتّفقوا عليه وما اختلفوا فيه ، فما صدّقه هذا المقياس أقرّه وأقرّ به وقرّبه ، وما لم يصدّقه فلم يورده بل يردّه» (١).

__________________

(١) مثلا : إنّ قصة الغرانيق التي تذهب إلى أن النبي لما ضاق ذرعا بسادات قريش فتلا عليهم سورة النجم حتّى إذا بلغ فيها إلى قوله سبحانه (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) أضاف إليها «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» ثم أتمّ السورة فسجد وسجد المسلمون والمشركون!

وقد رواها ابن إسحاق ثم قال : إنّها من وضع الزنادقة. وذكرها ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية» فقال «ذكروا قصّة الغرانيق ، وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحا لئلا يسمعها من لا يضعها في مواضعها ، إلّا أنّ أصل القصّة في الصحيح ، ثمّ ذكر حديثا عن البخاري في أمرها وأردفه بقوله «انفرد به البخاري دون مسلم».

أمّا الّذي يتخذ عصمة الرسول في تبليغ الرسالة مقياسا للأخذ والردّ ، فلا يتردد في نفي القصّة من أساسها ، بل يتّفق مع ابن إسحاق في أنّها من وضع الزنادقة ، ويكتفي في ردّها بما فيها من نقض ما للرسول من عصمة في تبليغ رسالة ربّه ، كما تقتضي ذلك قواعد النقد العلمي ، كما فعل هيكل في كتابه : ٤٨ و ١٦١ ـ ١٤٧.

٣١

وهناك سبب آخر يوجب تمحيص ما ورد في كتب السلف ونقده نقدا علميا دقيقا ، هو أنّ أقدمها كتب بعد وفاة النبي بمائة سنة أو أكثر ، وبعد أن فشت في الدولة الإسلامية دعايات سياسية وغير سياسية كان اختلاق الروايات والأحاديث من وسائلها للغلبة على خصومها ، فكيف بما كتب متأخرا في أشدّ أزمان الاضطرابات والقلاقل؟ وكيف بما ورد في المتأخّر من كتب السيرة؟ فهل يمكن الأخذ به بدون تمحيص بدقّة علميّة؟ وقد أدّت المنازعات السياسية وغيرها الّتي حدثت بعد الصدر الأول من الإسلام ، إلى اختلاق كثير من الروايات والأحاديث تأييدا لها ، هذا والحديث لم يدوّن إلى أواخر عصر الأمويين.

ذلك لأنّ عمر عزم على ذلك فأصبح يوما يقول : إنّي كنت أردت أن أكتب السنن ، ثمّ عدلت عن كتابتها ، فإنّي ـ والله ـ لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا! ثمّ كتب إلى الأمصار بذلك يقول : من كان عنده شيء غير القرآن فليمحه! وظل الأمر كذلك ـ ما عدا عهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه الحسن عليهما‌السلام ـ حتّى أمر عمر بن عبد العزيز بجمع الحديث (١).

أمّا كيف روى مثل البخاري مثل قصّة الغرانيق ـ مثلا ـ؟ فقد اعتذر عن مثل ذلك النووي في شرحه لصحيح مسلم قال : «أخذ جماعة على البخاري ومسلم أحاديث أخلّا بشرطيهما فيها ونزلت عن درجة ما التزماه» وقد التزما بمقياس السند والثقة بالرواية في قبول الحديث ورفضه ، ولكنّه وحده غير كاف لذلك.

بل إنّ خير مقياس يقاس به الحديث والخبر عن النبي ما روي عنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال : «إنّكم ستختلفون من بعدي ، فما جاءكم عني فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فمنّي وما خالفه فليس منّي» (٢) فهو مقياس صحيح أخذ به كثير من

__________________

(١) طبقات ابن سعد ٣ : ٢٠٦.

(٢) اُصول الحنفية للشاشي : ٤٣.

٣٢

الثقات ، وهو يتفق مع قواعد النقد العلمي ، وقال ابن خلدون بشأنه : «إنّني لا أعتقد صحة سند حديث ولا قول صحابي عالم يخالف ظاهر القرآن ، وإن وثّقوا رجاله ، فربّ راو يوثّق للاغترار بظاهر حاله وهو سيّئ الباطن. ولو انتقدت الروايات من جهة فحوى متنها كما تنتقد من جهة سندها لقضت المتون على كثير من الأسانيد بالنقض. وقد قالوا : إنّ من علامة الحديث الموضوع : مخالفته لظاهر القرآن ، أو القواعد المقرّرة في الشريعة ، أو لبرهان العقل ، أو الحسّ والعيان وسائر اليقينيّات».

حقّا إنّ اختلاف المسلمين بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بلغ حدّا دعا الدعاة فيهم إلى اختلاق الآلاف المؤلّفة من الأحاديث والروايات.

لمّا قتل عثمان وبدأت الحروب الداخلية بين المسلمين بخصومة خصماء علي عليه‌السلام ، وأيّد أمير المؤمنين من أيّده ، ثمّ استتبّ الأمر لبني أميّة جعل المحدّثون المتّصلون ببني أميّة يضعّفون ما يروى عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام وفضائله ، وكما جعل أنصار عائشة يشيعون عنها ما يؤيّد دعواها.

ومن طريف ما يروى في ذلك : ما رواه الذهبي في ترجمة إسماعيل بن المثنّى الاسترآبادي : كان يعظ بدمشق ، فقام إليه رجل فسأله عن قول النبيّ : أنا مدينة العلم وعلي بابها؟ فأطرق إسماعيل لحظة ثمّ رفع رأسه وقال : نعم لا يعرف هذا الحديث عن النبيّ إلّا من كان في صدر الإسلام ، إنّما قال النبيّ : أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعليّ بابها! فسّر الحاضرون بذلك ، فسألوه أن يخرج لهم إسناده ، فوعدهم به (١) وذكر القصة ابن عساكر فقال : فأنعم ولم يخرجه لهم (٢). أجل ، هكذا كانت الأحاديث تلفّق لأغراض سياسية ولأهواء عاجلة حتّى كثرت وشاعت.

__________________

(١) لسان الميزان ١ : ٤٢٢.

(٢) تأريخ ابن عساكر ٣ : ٣٤ وانظر كتاب : فتح الملك العلي بصحة حديث مدينة العلم علي : ١٥٦ ط ـ الحيدرية ـ النجف الأشرف. بتحقيق الدكتور الشيخ محمد هادي الأميني النجفي.

٣٣

هذا ، وقد تولّى كتّاب السيرة كتابتها ـ كما مر خبرها ـ للخلفاء : فابن إسحاق كتب سيرته للمنصور وابنه المهدي ، والواقدي كتب مغازيه للرشيد ووزيره يحيى بن خالد البرمكيّ ، اللهمّ إلّا هشام الكلبي والمدائني فإنّهما لم يكتبا لأحد منهم ، ولكنّهم كلهم ما كان لهم أن ينازعوا مع الخليفة في آرائه خوفا منه ، ولذلك فإنّه لا ينطبق على ما كتبوه مقاييس الصحة بدقّة.

ومن أمثلة الاختلاف في النقل الّذي يبدأ بذكر معجزة نراها تزيد بزيادة الزمان إلى معاجز : ما حدث في أثناء مسيرة جيش العسرة إلى تبوك :

فقد روى ابن هشام قال : «قال ابن إسحاق : فلمّا أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا ذلك إلى رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ فدعا رسول الله ، فأرسل الله سحابة فأمطرت حتّى ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء» (١).

أمّا صحيح مسلم فيروي قصّة تبوك بصورة اخرى لا تقتصر على هذه المعجزة بل تزيدها زيادة كثيرة على غير ما ورد في سيرة ابن إسحاق :

فقد روى مسلم في صحيحه بسنده عن معاذ بن جبل : «أنّ النبيّ قال لمن سار معه إلى تبوك : إنّكم ستأتون ـ إن شاء الله ـ غدا عين تبوك ، وإنّكم لن تأتوها حتّى يضحى النهار ، فمن جاءها منكم فلا يمسّ من مائها شيئا حتّى آتي. فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان ، والعين مثل الشرك تبضّ بشيء من ماء. فسألهما رسول الله : هل مسستما من مائها شيئا؟ قالا : نعم ، فسبّهما النبيّ وقال لهما ما شاء الله أن يقول (!) ثمّ غرفوا بأيديهم من العين قليلا قليلا حتّى اجتمع في شيء غسل رسول الله فيه يديه ووجهه ثمّ أعاده فيها فجرت العين بماء منهمر ـ أو قال : غزير ـ حتّى استقى الناس ، ثمّ قال : يا معاذ يوشك ـ إن طالت بك الحياة ـ أن ترى ما هاهنا قد ملئ

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧٣.

٣٤

جنانا» (١) فهل ارتوى المسلمون في طريق تبوك بماء العين المنهمر ـ بعد السباب! ـ أم بمطر من سحاب بدعاء مستجاب من نبيّ مجاب؟ أليس في القليل الأول غنى عن الثاني الكثير؟! اللهمّ إلّا أن نبني على ترجيح الحديث الأكثر إعجازا ولا نقتنع بالقليل منه!

هذا وقد روى ابن إسحاق بعد روايته خبر السحابة خبرا آخر يؤيده قال : «فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال : قلت لمحمود بن لبيد : هل كان الناس يعرفون النّفاق فيهم؟ قال : نعم والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن أبيه ومن عمّه وفي عشيرته ، ثمّ يلبس بعضهم بعضا على ذلك ، ولقد أخبرني رجال من قومي قالوا : لمّا كان من أمر الماء بالحجر ما كان ودعا رسول الله حين دعا فأرسل الله السحابة فأمطرت حتّى ارتوى الناس قالوا : أقبلنا على رجل من المنافقين معروف نفاقه كان يسير مع رسول الله حيث سار ، فقلنا له : ويحك! هل بعد هذا شيء؟ فقال : «سحابة مارّة» اللهمّ إلّا أن يكون ذكر كثرة النّفاق في بعض الصحابة ممّا يشنع ذكره ويسوء بعض الناس ، وإن كان لم يحذفه ابن هشام ، واختار مسلم ما سلم من ذكره ، وهذا هو الراجح في الظن.

شرائط دراسة التأريخ :

لا شكّ في أنّ البحث في التأريخ أمر خطير وعمل شاق جدا ، فالباحث فيه كمن يريد أن يلج بحرا خضما هائجا ، وإنّما يمدّ ببصره إلى قاعه ليغنم منه لآلئه ودراريه.

__________________

(١) صحيح مسلم ٧ : ٦٠ ط ١٣٣٢ ، ورواه قبله الواقدي في المغازي ٣ : ١٠١٢ ـ ١٠١٣ ورواه قبله ابن اسحاق في السيرة ٤ : ١٧١ إلا أنه ذكره لمنزل وادي المشقق في طريق عودته من تبوك. ورواه معاصره مالك في الموطأ ١ : ١٤٣ باب الجمع بين الصلاتين في السفر والحضر من كتاب قصر الصلاة في السفر.

(٢) ابن اسحاق في السیرة ٤ : ١٦٦.

٣٥

والباحث في التأريخ إن كان يطمح من بحثه إلى إحقاق الحقّ وازهاق الباطل ، فإنّه لا يتسنى له ذلك إلّا إذا كان واسع الاطلاع ، بعيد النظر ، شديد الحب للحق ، موطّنا نفسه على اتّباعه ، مبتعدا عن التعصب المذهبيّ المقيت ، ورعا في إصدار الأحكام ، خبيرا بطرق الاستنباط ، عارفا بأمراض التأريخ وعلله ، ملمّا بظروفه ومراحله ، مؤثرا مصلحة الإسلام والمسلمين على ما سواها ، متحرر الفكر ، غير مشدود لما ورثه من أهله وقومه.

وذلك لمساس التأريخ ـ ولا سيّما سيرة الرسول الكريم ـ بمختلف نواحي الحياة. فمنه تؤخذ العقيدة الدينية ، وأحكام الإسلام ، ومعارفه وعلومه ، وأدبه وأخلاقه ، وعلى أساسه تقول الأجيال كلمتها في كل شيء ، وعلى ضوئه تحكم على كل شيء.

وقد ابتلي التأريخ والسيرة ـ ككثير من الامور ـ بنظرتين مفرطة واخرى مفرّطة : فمن مقبل على التأريخ والسيرة مكبّ على أخذ ما فيه ، غثّه وسمينه ، ينتهل منه ريّه في كلّ جوانب الحياة ، ويعتبره من أسلم المسلّمات بها ، دون حذر عمّا داخله من الدسّ والخرافات بعيدا عمّا نبّه إليه الرسول من حتميّة ظهور المفترين عليه ، غير معتبر بما اعترف به الزنادقة الملحدون ممّا رواه المؤرخون : أنّهم وضعوا آلاف الأحاديث كذبا على الله ورسوله حلّلوا بها الحرام وحرّموا بها الحلال ، وأزالوا بها الحقّ عن نصابه ، وزوّروا كثيرا من الأحاديث الصحيحة وافتعلوا الكرامات والمناقب حبّا في المال والمناصب.

وآخرون فرّطوا فيه فغلّبوا التشاؤم وتنكّروا للتأريخ جملة وتفصيلا ، اتهموه ببعض ما فيه وتحاملوا عليه ، وجعلوا ذلك حجة لاعراضهم عنه وابتعادهم منه. وذلك ظلم قبيح وفصم لعرى الأجيال ، وحرمان للمتأخرين من دروس الماضي ، وهدم لبناء الدّين وطعن في تعاليم الأنبياء الّذين حثّوا على تدارس الماضي والاستماع إليه ، مع تمحيص الحقّ عمّا علق به من شوائب الباطل.

٣٦

وبين هاتين النزعتين المفرطة والمفرّطة تنجلي النمرقة الوسطى باهتمام مفكّري المسلمين وعلمائهم بالدراسات التأريخية ، وبذل الوسع لإماطة اللثام عن كثير من جوانبه الّتي بدت قائمة مشوهة بفعل الدّخلاء عليه ، ممّن جنّدوا أنفسهم لهدم الدّين وطمس معالم الحقّ والتجنّي عليه (١).

طمس معالم الحقّ :

قلنا نعرض الروايات ـ الّتي يدّعى أنّها تسجّل سيرة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ على القرآن الحكيم ، ذلك لانّا لو راجعنا وصف هذا النبيّ العظيم في القرآن الكريم ، لوجدناه يصفه بأنّه : على (خُلُقٍ عَظِيمٍ)(٢) و (خاتَمَ النَّبِيِّينَ)(٣) ينهى الناس عن الاستخفاف به (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً)(٤) ويلعن الّذين يؤذونه (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ)(٥).

ولكنّا لو راجعنا بعض تلك الروايات الّتي يدّعى أنّها تسجّل لنا سيرته لوجدناه فيها : طفلا كسائر الأطفال ، ورجلا يتكلّم كسائر الجهّال ، بل أضعف عقلا من سائر العقّال ، فهو بحاجة دائمة إلى من يشرف عليه ويدبّر شئونه ، ويأخذ بيده ويرشده ، ويحلّ له مشاكله ويشدّ قلبه ويطمئنه ، ويؤيّده ويساعده ، وإلّا فهو يغضب فيكون غضبه عجزا واضطرابا بل وسبابا (٦) ويرضى فيكون رضاه سخفا وميوعة!

__________________

(١) مقدمة : دراسات في التأريخ الاسلامي : ٨ ، ٩ للشيخ محمد باقر الناصري بتصرف.

(٢) القلم : ٤.

(٣) الاحزاب : ٤٠.

(٤) النور : ٦٣.

(٥) الاحزاب : ٥٧.

(٦) كما مرّ عن صحيح مسلم.

٣٧

وإلّا فكيف نفسّر : أنّه رأى الرأي فنزلت الآيات تصوّب رأي غيره وتفنّد رأيه ، فقعد يبكي؟! وأنّه كان له شيطان يعتريه ويأتيه في صورة جبرئيل! ثمّ أعانه الله عليه فأسلم! ولعلّه من فعل شيطانه أنّه مرّ على سباطة قوم فبال قائما (١)! ثمّ شرب النبيذ؟! ثمّ إنّه رأى زوجة ابنه بالتبنّي في حالة مثيرة فعشقها! وإنّه كان يعشق عائشة حتّى أنّه حملها على عاتقه بطلبها لتنظر إلى رقص السودان في مسجده ، وخدّها على خدّه! ثمّ إنّه ترك الجيش لينفرد بزوجته ليسابقها في الصحراء!

والطامة الكبرى الّتي شملت شيخ الأنبياء إبراهيم : انّه كان أولى بالشكّ من إبراهيم! إلى ما هنالك ممّا يزيد في قبحه على ما ذكر أكثر بكثير ، كلّ ذلك ممّا «قد فاجأتنا به الأنباء والسّير» في المجاميع الحديثة وكتب السيرة! وفيها عن حياته الزوجية ما نتذمّر من ذكره فضلا عن القيام بأمره! وأدهى ما في الأمر وأمرّ أنّها مدوّنة في الكتب الّتي توصف بأنها أصحّ كتاب بعد الذكر الحكيم ، وهي تحاول أن تصوّر لنا سيدنا ومولانا ونبيّنا أفضل الأنبياء والمرسلين وأشرف السفراء المقرّبين!!

قال محقّقو ابن اسحاق في السيرةفي مقدّمتهم : «ولعلّ النظر إلى تراث السالفين ولا سيّما ما يتصل منه بعلم السّير نظرة فيها الكثير من التقديس ، هو الّذي حال دون هؤلاء وهؤلاء أن يقفوا من هذا العلم موقفا فقدناه في جميع المؤلفين المتقدّمين

__________________

(١) صحیح البخاري ١ : ٦٣ ومسلم ١ : ١٥٧ والمصنف لابن أبي شيبة ١٤ : ٢٣٤ وشرح الكرماني ١١ : ٤٠ وفتح الباري ١ : ٢٦١ ـ ٢٦٣ ونقله ابن شاذان (م ٢٦٠ هـ) في الايضاح : ٥٨ باسنادهم عن حذيفة قال : انه مال الى سباطة قوم فبال قائماً فتفحّج (= باعد بين رجليه) حتى اشفقت عليه فصببت عليه الماء من خلفه فاستنجي! ونقله ابن الاثير في النهاية في مواد : سباطة وفحج وأبض ومأبض. ونقله الازرق في تسهيل المنافع : ٦٦ عن أبي هريرة وعن الامام الشافعي. ومجلة تراثنا ع ٣٢ و ٣٣ : ٢١٦ : حديث السباطة سنداً ودلالة للسيّد حسن الشيرازي.

٣٨

على اختلاف طبقاتهم ، فلم نر منهم من عرض لما تحمله السّير بين دفتيها من أخبار تتّصف بالبعد عن الحقيقة ، فنقدها وأتى على مواضع الضعف منها.

هذا ما حرمه هذا العلم في جميع أدواره السالفة إلى ما قبل أيّامنا هذه بقليل ، إذ رأينا الإيمان بأنّ في السيرة أخبارا لا تتصل بالحقّ في قليل ولا كثير ، تصحبه الجرأة ثمّ الإقدام ، ورأينا فكرة جديدة تجري بها أقلام مجدّدة ، يتناول أصحابها الخبر أو الخبرين من السيرة ، ممّا كان يتخذ مطعنا علينا في شخص النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ أو ما يتصل به ، فخلّصوه ممّا لصق به ممّا ليس منه ، وأقاموا حوله سياجا من الحجج والبراهين ، صحّ بها وأصبح حجة على الطاعنين فيه.

ومثل هذا ما فعله الاستاذ الإمام الشيخ محمّد عبده في قصّة النبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ، وتزويجه زينب بنت جحش من زيد بن حارثة ثمّ ما كان من تزوّج الرسول ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إيّاها بعد تطليق زيد لها ممّا أرجف فيه الطاعنون ولغوا لغوا كثيرا.

ومنهم من عرض للكتاب في قصّة أو قصّتين منه فصاغها في اسلوب جديد ، ومثّل للناس الخبر في قالب قصصيّ خرج به عن أسانيده وذكر رواته ـ تلك الطريقة الّتي هي سرّ تقديس هذه الأخبار في هذه الكتب! ـ فبدت المعاني في هذا القالب الجديد كما يبدو الجسد في الغلالة الرقيقة لا تكاد تخفي منه شيئا. وهذا الاسلوب الجديد بما يتضمن من التّهكم بالفكرة السقيمة والخبر الغث ، يخلق به المؤلف في القارئ روح التحفّظ في قبول الأفكار وتسلّمها.

ومنهم من جرى مع ابن إسحاق في شوطه ، فتناول السيرة كما تناولها ابن إسحاق ، مبتدئا بميلاد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وما سبقه أو عاصره من حوادث ، ثمّ جرى يذكر حياة الرسول إلى أن قبضه الله إلى جواره ، ناقلا من الأخبار ما يرى فيها القرب من الحقّ ، ومستبعدا ما لا يجري في ذلك مع فكرته وما يعتقد ،

٣٩

مفندا مزاعم الطاعنين رادّا على المكذبين. فجاء كتابه سيرة للرسول جديدة في اسلوبها ، نقية من اللغو والهراء» (١).

أجل ، إذا كان المراجع إلى هذه المراجع ـ الصحاح وغيرها ـ ملئ النفس بتقديس النصّ تقديسا عشوائيا ساذجا ، فهو يمتنع ويمنع عن تقويم النصوص تقويما سليما يزنها بميزان الاعتبار.

ولا مبرر لهذا التقديس ما لم يثبت أنّ هذا الحديث ممّا صدر عنه أو من شئونه أو من صفاته ، اللهمّ إلّا إذا كان لا يعرف شيئا ممّا يجب أن يتوفر في شخص رسول الله وخليفته وحجته على عباده ، وكان خالي الذهن عن المنطلقات الأساسية والضوابط الحقيقية الّتي يجب أن يتوفر عليها من يحاول دراسة التأريخ بصورة علميّة ، وسيرة الرسول الكريم بصورة خاصة (٢).

سحاب مركوم على الحقّ المظلوم :

أمّا كيف حدث كلّ هذا الحديث الموضوع للنيل من كرامة الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فنحن نرى ذلك من التعتيم الّذي اصطنعه بنو اميّة وبنو مروان على معالم الشخصية النبوية ، مستفيدين من سياسة المنع من الحديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بل إحراق ما كتبه كبار الصحابة عنه : ابتداء من الخليفة الأوّل إذ أحرق خمسمائة حديث كان قد جمعها هو من أحاديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣). ثمّ اشتدّ الأمر على عهد الخليفة الثاني فإنّه جمع ما كتبه الصحابة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأحرقه ، ولعلّ ذلك بعد أن اتصل به كعب الأحبار الحبر اليهودي المسلم.

__________________

(١) مقدمة ابن اسحاق في السيرة١ : ح ، ط.

(٢) انظر مقدمة الصحيح في السيرة ١ : ١٦ ، ١٧.

(٣) راجع المصادر في كتاب النص والاجتهاد : ١٥١.

٤٠