موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

فقالا له : هذا ابنك وجدناه بأعلى مكّة. فأخذه عبد المطّلب فجعله على عنقه وطاف به الكعبة يعوّذه ويدعو له ثمّ أرسل به الى امّه آمنة (١).

قصّة شقّ الصدر!

انّ خبر رضاع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من حليمة السعدية من المسلّم به من أخبار التأريخ اجمالا ، الّا انّ عمدة ما ورد بتفصيل الخبر فيه خبران ذكرهما الطبري :

الخبر الأوّل : رواية ابن اسحاق عن الجهم بن أبي الجهم عن عبد الله ابن جعفر بن ابي طالب ، عن حليمة السعدية. وقد رواها الطبري عن ابن اسحاق يصف الجهم بأنّه مولى عبد الله بن جعفر ، بينما رواها عنه ابن هشام في سيرته يصف الجهم بأنّه مولى الحارث بن حاطب الجمحي. وفي الخبر عن حليمة أنّها قالت : انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان ـ بعد رجوعنا به من امّه بأشهر ـ مع أخيه ـ عبد الله بن الحارث السعدي ـ في بهم (٢) لنا خلف بيوتنا اذ أتانا أخوه يشتدّ ويقول : انّ أخي القرشي قد أخذه رجلان عليهما ثياب بيض ، فأضجعاه فشقّا بطنه و ...! فخرجت أنا وأبوه نحوه فوجدناه قائما منتقعا وجهه! فقلنا له : ما لك يا بني؟ قال : جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقّا بطني فالتمسا فيه شيئا لا أدري ما هو! (٣).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة١ : ١٧١ ـ ١٧٧ بتصرف ورواه عنه الطبري ٢ : ١٥٨ ، ١٦٠ ، ورواه عنهما ابن أبي الحديد في شرح النهج ٣ : ٢٥٢ ، ٢٥٣ وروى المجلسي عن الكازروني في (المنتقى) : انّ رسول الله لمّا تزوّج بخديجة سمعت به حليمة فقدمت على رسول الله فشكت إليه جدب البلاد وهلاك الماشية. فكلّم رسول الله خديجة فأعطتها أربعين شاة وبعيرا ، فانصرفت الى أهلها. وبعد الإسلام قدمت عليه فاستأذنت عليه ، فقال : امّي امّي ، وعمد الى ردائه فبسطه لها فقعدت عليه (البحار ١٥ : ٤٠١).

(٢) البهم : الصغار من الغنم.

(٣) ابن اسحاق في السيرة١ : ١٧١ ـ ١٧٤ ، والطبري ٢ : ١٥٨ ـ ١٦٠.

٢٤١

والخبر الثاني : رواية الطبري أيضا بسنده عن ثور بن يزيد الشامي ، عن مكحول الشامي ، عن شدّاد بن أوس. والظاهر أنّ هذا الخبر هو ما رواه ابن اسحاق عن ثور بن يزيد أيضا الّا أنّه نسي ما بعد ثور من السند فقال «عن بعض اهل العلم ، ولا أحسبه الّا عن خالد بن معدان الكلاعي» ثمّ اختصره وتصرّف فيه ما قد نسيه كالسند ، فقرّب فيه من الخبر السابق اذ قال فيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله انّه قال : استرضعت في بني سعد ، فبينا أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهما لنا ، اذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض بطست من ذهب مملوءة ثلجا ، ثمّ أخذاني فشقّا بطني ، واستخرجا قلبي فشقّاه ، فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ، ثمّ غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتّى أنقياه (١).

بينما نرى في رواية الطبري. بسنده عن ثور بن يزيد نفسه عن مكحول الشامي عن شدّاد بن أوس عن النبي ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ انّه قال : وكنت مسترضعا في بني ليث بن بكر ، فبينا أنا ذات يوم منتبذ من أهلي في بطن واد مع أتراب لي من الصبيان نتقاذف بالجلة (٢) اذ أتانا رهط ثلاثة معهم طست من ذهب ملئ ثلجا ، فأخذوني من بين أصحابي ، فخرج أصحابي هرّابا حتّى انتهوا الى شفير الوادي ... ثمّ انطلقوا هرّابا مسرعين الى الحيّ يؤذنونهم ويستصرخونهم على القوم. فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض ... ثمّ شقّ ما بين مفرق صدري الى منتهى عانتي ... ثمّ أخرج أحشاء بطني فغسلها بذلك الثلج ... ثمّ أعادها مكانها. ثمّ قام الثاني منهم ... ثمّ أدخل يده في جوفي فأخرج قلبي ، فصدعه ثمّ أخرج منه مضغة سوداء فرمى بها ... فإذا أنا بخاتم في يده ... فختم به قلبي فامتلأ نورا

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة١ : ١٧٥.

(٢) الجلّة بالفتح : بعر البعير ، ومنه الإبل الجلّالة ، والحيوان الجلّال ، وهذا ما يبعدنا عن تصديق الخبر أيضا.

٢٤٢

وذلك نور النبوة والحكمة ، ثمّ أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهرا. ثمّ قام الثالث ... فأمرّ يده ما بين مفرق صدري الى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشقّ بإذن الله ، ثمّ أخذ بيدي فأنهضني (١).

فنرى رواية الطبري هذه عن شداد بن أوس تختلف عن رواية ابن اسحاق في : المكان الّذي جرى فيه الحادث ، وفي : عدد الأشخاص الّذين جاءوه ، وفي : الكيفية الّتي وقع عليها ، الى غير ذلك ممّا اشتملت عليه رواية الطبري من الخصوصيات التفصيلية الّتي لم تتفق معها رواية ابن اسحاق ، مع أن كلتيهما تمرّان بثور بن يزيد الكلاعي الشامي المتوفى في ١٥٥ كما في كتب الرجال ومنها «تهذيب التهذيب» ، ولذلك نرى ابن اسحاق يسحق موارد الخلاف في هذا الخبر باختصاره للتفصيلات الواردة فيه ، وبالتصرف في عدد الملائكة ، فبينما نجد خبر ثور بن يزيد عن شدّاد بن أوس يذكر عدد الملائكة الحاضرين للقيام بالعملية على رسول الله : ثلاثة ، نجد ابن اسحاق قد أعاد العدد الى اثنين كي يتوافق العدد فيه مع ما في خبر الجهم عن عبد الله بن جعفر.

وكذلك في عدد من معه ، فبينما نجد خبر ثور عن شداد يذكر «مع أتراب لي من الصبيان» نرى ابن اسحاق قد أعاد العدد الى فرد بنفس النسبة الّتي في خبر الجهم عن ابن جعفر «مع أخ لي» ، وكذلك بالتصرف في المكان الّذي جرى فيه الحادث ، فبينما نجد خبر ثور عن شداد يذكر مكان الحادث «منتبذ من أهلي في بطن واد» نرى ابن اسحاق قد أعاده الى «خلف بيوتنا».

وكذلك بالتصرف في حال الرسول حينئذ : فبينما نرى خبر ثور عن شدّاد يذكر «نتقاذف بالجلة» نرى ابن اسحاق قد أبى على النبي اللعب بالجلة ولو في صغره

__________________

(١) الطبري ٢ : ١٦٠ ـ ١٦٢.

٢٤٣

وأصرّ على تكرير ما في خبر الجهم «نرعى بهما لنا» أي نرعى الصغار من الغنم ، وليت شعري اذا كان الّذي أو الّذين معه أترابه وهو كما في خبر الجهم بعد أشهر من فصاله فكيف يرعى الغنم؟!

وانّ هذا لعمري لدليل على وضع الخبر وقصر حبل الكذب! وهذا الاختلاف بذاته لمن الدواعي الّتي تثير الشكوك حول هذه الحادثة ، وبخاصة اذا نظرنا الى أسانيد هذه الروايات وعرضناها على الاصول الّتي لا بد من توفّرها لقبول الرواية ، وان كان لم يقنع بهذا القدر من التشكيك كثير من كتّاب السيرة (١).

وحينما نراجع تراجم الرجال نجد انّ ارباب التراجم قد رجموا ثور ابن يزيد بأنّه : شاميّ كان يرى القدر ، أي هو من القدرية وأنا أرى أنّ القدرية الّتي ينسب إليها الشاميون في شعاع أفكار الأمويين هي أنّ أعمال العباد بقدر مقدّر قد قضى به الله ، لا القدر بمعنى يجتمع مع ارادة الإنسان واختياره.

وعلى هذا فهو متهم بوضع ما يؤيد به مذهبه القدري الجبري ، كما قال السيد المرتضى العاملي :

«ألا تعني هذه الرواية انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان مجبرا على عمل الخير ، وليس لارادته فيه أيّ أثر أو فعّالية أو دور؟! لأن حظّ الشيطان قد ابعد عنه بشكل قطعي وقهريّ ، وبعملية جراحية ، وهل اذا كان الله يريد أن لا يكون عبده شرّيرا احتاج في اعمال قدرته الى عمليات جراحية كهذه على مرأى من الناس ومسمع؟!» (٢) هذا الى خمس نقاط اخرى نقد بها السيد المرتضى هذا الخبر. ولعلّه أخذ هذا المعنى عن رواية جاهلية عن أميّة بن أبي الصلت : أنّه دخل على اخته فنام على سرير في ناحية البيت ، فانشق جانب من السقف في البيت ، واذا بطائرين قد وقع أحدهما

__________________

(١) السيد الحسني في كتابه : سيرة المصطفى : ٤٦ بعد ان اعترف بما في ذلك من التشكيك.

(٢) الصحيح من سيرة النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله ١ : ٨٦.

٢٤٤

على صدره ووقف الآخر مكانه ، فشقّ الواقع على صدره صدره ، فأخرج قلبه ، فقال الطائر الواقف للطائر الّذي على صدره : أوعى؟ قال : وعى ، قال : اقبل؟ قال : أبى ، ثمّ ردّ قلبه بموضعه (١).

هذا ، وقد روى المجلسي في بحاره هذا الخبر عن الكازروني في كتابه (المنتقى في مولد المصطفى) بنفس السند ثمّ علّق عليه الكازروني يقول : هذا حديث حسن غريب بهذا السياق ، يعدّ في أفراد محمّد بن يعلى ، وكان يلقّب بزنبور ، وليس بذاك ، ولمكحول عن شداد أحاديث غير انّها مرسلة. ثمّ علّق المحقق الرباني الشيرازي يقول : محمّد بن يعلى ضعّفه ابن حجر في «التقريب» وحكى عن أبي حاتم انّه قال : متروك ، وقال الخطيب : يتكلم فيه. توفّي ٢٠٥ (٢).

أمّا الخبر الأوّل عن عبد الله بن جعفر فهو عن مولاه الجهم بن أبي الجهم ، وان كان عبد الله بن جعفر يخالط بني اميّة بجسده ولا يخالطهم بفكره وعقيدته ، فما مولاه من ذلك ببعيد (٣).

ولا يحضرني الآن كتاب عبد الكريم الخطيب اذ نقل عنه السيد المرتضى : انّه ناقش في كتابه سند رواية ابن اسحاق اذ قال «عن بعض أهل العلم» (٤). وكذلك محمد حسين هيكل في كتابه (٥).

__________________

(١) كما في الأغاني ٣ : ١٨٨ ـ ١٩٠.

(٢) البحار ١٥ : ٣٩٦ ـ ٤٠٠.

(٣) ولعلّه هو مولاه أبو اللسلاس الّذي روى فيه الطبري عن أبي مخنف : انّه دخل على مولاه والناس يعزّونه بمقتل الحسين عليه‌السلام ، فقال : هذا ما لقينا ودخل علينا من الحسين! فحذفه عبد الله بن جعفر بنعله وقال : يا بن اللخناء أللحسين تقول هذا! (الطبري ٥ : ٤٦٦).

(٤) الصحيح ١ : ٨٤ عن كتاب : النبي محمد : ١٩٦.

(٥) حياة محمّد : ٧٣.

٢٤٥

وقد ناقش هذا الخبر الشيخ أبو ريّة ، نقاشا موضوعيا سليما في كتابه القيّم «أضواء على السّنة المحمّدية» فنقل تشكيك استاذه الشيخ محمّد عبده في تفسيره اذ قال «والمحقق عندنا انّه ليس للشيطان سلطان على عباد الله المخلصين ، وخيرهم الأنبياء والمرسلون. أمّا ما ورد في حديث ازالة حظّ الشيطان من قلبه ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ فهو من الأخبار الظنية ، لأنّه من رواية الآحاد ، ولمّا كان موضوعها عالم الغيب ، والايمان بالغيب من قسم العقائد ، وهي لا يؤخذ فيها بالظّن ، لقوله تعالى (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) كنّا غير مكلّفين بالايمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا» (١).

والشيخ عبده اذ ينفي سلطان الشيطان على المخلصين من عباد الله يستند الى ما جاء في سورة الحجر من الكتاب العزيز في قوله سبحانه (قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ)(٢) وقد جاء أبو ريّة بهذه الآيات ثمّ قال : فكيف يدفعون الكتاب بالسنّة ، أو يعارضون المتواتر الّذي يفيد اليقين ، بأحاديث الآحاد الّتي لا تفيد الّا الظن ان صحّت (٣).

وقال : وقد نصّت هذه الروايات على أنّ صدره ـ صلوات الله عليه ـ قد شقّ واخرجت منه العلقة السوداء! وحظّ الشيطان كما يقولون ، وكأنّ العملية الاولى لم تنجح فاعيد شقّ صدره ، ووقع ذلك مرّات عديدة بلغت خمسا ، أربع منها باتّفاق

__________________

(١) تفسير القرآن الحكيم ٣ : ٢٩١ ، ٢٩٢ كما في الأضواء : ١٨٨.

(٢) الحجر : ٣٩ ـ ٤٢.

(٣) أضواء : ١٨٨.

٢٤٦

كما يقولون : في الثالثة من عمره ، وفي العاشرة ، وعند مبعثه ، وعند الإسراء ، ومرّة خامسة فيها خلاف. وقد قالوا : انّ تكرار الشق إنمّا هو زيادة في تشريف النبي (١).

وفي تفسير الآية الاولى من سورة الإسراء وبمناسبة حديث الإسراء قال الشيخ الطبرسي في تفسيره «وقد وردت روايات كثيرة في قصّة المعراج في عروج نبينا الى السماء ورواها كثير من الصحابة. وتنقسم جملتها الى أربعة وجوه» الى ان قال «ورابعها : ما لا يصحّ ظاهره ولا يمكن تأويله الّا على التعسّف البعيد ، فالأولى ان لا نقبله» الى ان قال «وأمّا الرابع : فنحو ما روي أنه شقّ بطنه وغسلته الملائكة ، ذلك لانه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان طاهرا مطهّرا من كلّ سوء وعيب ، وكيف يطهر القلب وما فيه من الاعتقاد ، بالماء (٢).

ولهذا لم يذكر هذا الخبر ضمن أخباره عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتابه (إعلام الورى).

وفي نفس الوقت نرى البعض يعتبر هذا الخبر من ارهاصات النبوة ومثار اعجاب وتقدير خصّ به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يحصل لأيّ من الأنبياء السابقين كالحلبي في كتابه : (انسان العيون في سيرة الأمين المأمون) (٣)

والبوطي في كتابه : (فقه السيرة) (٤) والسيد الحسني في كتابه : (سيرة المصطفى) مع الاعتراف بضعف مستنده (٥).

وعلّق عليه السيد المرتضى فقال متسائلا : ولم اختص نبينا بهذه العملية

__________________

(١) اضواء : ١٨٧.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٦٩ ط بيروت.

(٣) المعروف بالسيرة الحلبية ١ : ٣٦٨.

(٤) فقه السيرة : ٥٣.

(٥) سيرة المصطفى : ٤٦.

٢٤٧

ولم تحصل لأي من الأنبياء السابقين؟! أفهل يعقل ان يكون هو بحاجة الى هذه العملية فقط دون سائر الأنبياء؟ اذن فكيف يكون أكملهم وأفضلهم؟! أم يقولون : قد كان فيهم للشيطان حظّ أيضا ولكنّه لم يقتطع منهم بعملية جراحية كهذه ، ولذلك أصبح هذا أفضلهم وأكملهم؟! (١).

ولا تخلو كتب السيرة والحديث عند غير الإمامية عن هذه الرواية غالبا حتّى بعض الصحاح كصحيح مسلم ، فقد روى بسنده عن أنس بن مالك قال : انّ رسول الله أتاه جبرئيل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه وصرعه فشقّ عن قلبه فاستخرج القلب فاستخرج منه علقة فقال : هذا حظّ الشيطان منك ، ثمّ غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثمّ لأمه ثمّ أعاده الى مكانه. وجاء الغلمان يسعون الى امّه ـ يعني ظئره ـ فقالوا : انّ محمّدا قد قتل ، فاستقبلوه وهو منتقع اللون! قال انس : وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره (٢). وهي عند الإمامية قصّة لم يصحّحها حديث ولا اعتبار ، وهم برآء من هذه وأمثالها. وقد نقلها المحدث المجلسي في بحاره عن كتاب (فضائل شاذان بن جبرئيل القمّي) نقلا عمّن يسمّيه الواقدي. ثمّ قال المجلسي : أقول : هذا الخبر ـ وان لم نعتمد عليه كثيرا ، لكونه من طرق المخالفين ـ إنمّا أوردته لما فيه من الغرائب!

وعلّق عليه المحقق الربّاني الشيرازي يقول : نحن في غنى من ان نسرد كلّ ما عثرنا عليه ممّا جاء في فضائله من المعاجز وخوارق العادات كما كان كاتبو سيرته من القدماء يفعلون ذلك ، فنحن لا نحتاج في اثبات عظمته إليها ، بعد ما ملأت فضائله الآفاق (٣).

__________________

(١) الصحيح في السيرة ١ : ٨٦.

(٢) صحيح مسلم ١ : ١٠١ ـ ١٠٢ بأربعة طرق.

(٣) البحار ١٥ : ٣٥٣ ـ ٣٥٧ ـ الهامش.

٢٤٨

وأين هذه الصورة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك الوصف الّذي يصفه به صنوه وصهره وأخوه ثمّ وصيه علي عليه‌السلام اذ قال في كلام له «ولقد قرن الله به من لدن ان كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره» (١).

وروى ابن أبي الحديد : انّ بعض أصحاب الامام الباقر عليه‌السلام سأله عن قوله سبحانه (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً)(٢)؟ فقال عليه‌السلام : «يوكّل الله تعالى بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم ويؤدّون إليهم تبليغ الرسالة ، ووكّل بمحمّد ملكا عظيما منذ فصل من الرضاع ، يرشده الى الخيرات ومكارم الأخلاق ، ويصدّه عن الشر ومكاره الأخلاق» (٣).

وفود عبد المطّلب على سيف بن ذي يزن :

روى الصدوق في (اكمال الدين) بسنده عن ابن عباس قال : لمّا ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة ـ وذلك بعد مولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بسنتين ـ أتاه وفد العرب وأشرافها وشعراؤها بالتهنئة ، تمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه.

فأتاه وفد من قريش ومعهم عبد المطّلب بن هاشم ، وأميّة بن عبد شمس ، وعبد الله بن جدعان ، واسيد بن خويلد بن عبد العزّى (كذا) ، ووهب بن عبد مناف (أبو آمنة أمّ النبي) وأناس من وجوه قريش.

__________________

(١) نهج البلاغة ، القسم الأوّل : الخطبة القاصعة : ١٩٢ ، المقطع ١١٨ عن مسعدة بن صدقة عن الامام الباقر عليه‌السلام.

(٢) الجن : ٢٧.

(٣) شرح النهج للمعتزلي ١٣ : ٢٠٧ ، وعنه في البحار ١٥ : ٣٦١.

٢٤٩

فقدموا عليه في صنعاء ، فاستأذنوا فإذا هو في رأس قصر يقال له (غمدان) فدخل عليه الآذن فأخبره بمكانهم فأذن لهم ، فلمّا دخلوا عليه دنا عبد المطّلب منه فاستأذنه في الكلام ، فقال : ان كنت ممّن يتكلّم بين يدي الملوك فقد أذنّا لك. فتكلّم عبد المطّلب فقال فيما قال : نحن ـ أيّها الملك ـ أهل حرم الله وسدنة بيته ، أشخصنا إليك الّذي أبهجنا من كشف الكرب الّذي فدحنا ، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة. قال : وأيّهم أنت أيّها المتكلّم؟ قال : أنا عبد المطّلب بن هاشم. فأقبل عليه وعلى القوم فقال :

مرحبا وأهلا ومستناخا سهلا ، قد سمع الملك مقالتكم وقبل وسيلتكم ، فلكم الكرامة ما أقمتم والحباء اذا ظعنتم.

ثمّ أمر بهم الى دار ضيافة الوفود فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف ، ثمّ انتبه لهم فأرسل الى عبد المطّلب فأخلى له مجلسه وأدناه ، ثمّ قال له : يا عبد المطّلب : انّي مفوّض إليك من سرّ على أمر ما لو كان غيرك لم أبح له به ، ولكنّي رأيتك معدنه فاطلعتك عليه ، فليكن عندك مطويا حتّى يأذن الله فيه فإن الله بالغ أمره : إنّي أجد في الكتاب المكنون والعلم المخزون الّذي اخترناه لأنفسنا وحجبناه دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة ، للناس عامة ولرهطك كافة ولك خاصّة.

فقال عبد المطّلب : فما هو؟ فقال : اذا ولد بتهامة غلام بين كتفيه شامة ، كانت له : الإمامة ولكم به الدعامة الى يوم القيامة. هذا حينه الّذي يولد فيه أو قد ولد ، اسمه محمّد ، يموت أبوه وامّه ويكفله جدّه وعمّه. وقد ولد سرارا والله باعثه جهارا وجاعل له منّا أنصارا ، ليعزّ بهم أولياءه ويذلّ بهم أعداءه ، يضرب بهم الناس عن عرض (١) ويستبيح بهم كرائم الأرض ، يكسر الأوثان

__________________

(١) العرض بضم العين : من يعترض لهم.

٢٥٠

ويخمد النيران ويعبد الرحمن ويزجر الشيطان ، قوله فصل وحكمه عدل ، يأمر بالمعروف ويفعله وينهى عن المنكر ويبطله.

فقال عبد المطّلب : فهل الملك ساري بإفصاح فقد أوضح لي بعض الايضاح؟

فقال ابن ذي يزن : والبيت ذي الحجب ، والعلامات على النصب ، انّك يا عبد المطّلب لجده غير كذب ، فخرّ عبد المطّلب ساجدا لله! فقال له ابن ذي يزن : فهل أحسست شيئا ممّا ذكرته؟ قال : كان لي ابن كنت به معجبا وعليه رفيقا ، فزوجته بكريمة من كرائم قومي : اسمها آمنة بنت وهب ، فجاءت بغلام سمّيته محمّدا ، مات أبوه وامّه ، وكفلته أنا وعمّه!

فقال سيف بن ذي يزن : انّ الّذي قلت لك كما قلت ، فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود فإنّهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا!

ثمّ أمر لكلّ رجل من القوم بعشرة أعبد وعشر إماء وحلي من البرود ومائة من الابل وخمسة أرطال ذهب وعشرة أرطال فضّة وكرش مملوءة عنبرا! وأمر لعبد المطّلب بعشرة أضعاف ذلك وقال : اذا حال الحول فأتني فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول (١).

هذا ، وقد سبق في ذكر ملوك اليمن قول المسعودي بأن يكسوم بن ابرهة الأشرم ملك اليمن بعد هلاك أبيه ابرهة بالأبابيل عشرين عاما ، ثمّ ملك أخوه مسروق بن أبرهة ثلاث سنين ، وانّ سيف بن ذي يزن كان قد مضى الى قيصر يستنجده ـ وذلك قبل هلاك يكسوم بأربع سنين ـ فأبى أن ينجده وقال : أنتم يهود والحبشة نصارى ، وليس في الديانة أن ننصر المخالف على الموافق. فمضى الى كسرى

__________________

(١) اكمال الدين : ١٧٤ ـ ١٧٧. ومختصره في قرب الاسناد : ٢٤٦ الحديث ١٢١٦ ، والخرائج والجرائح ١ : ١١٤ الحديث ١٩٠ وأكثر منه في ١٢٩ الحديث ٢١٥.

٢٥١

انوشيروان فاستنجده ، فوعده انوشيروان بالنصرة على السودان ، ولكنّه شغل بحرب الروم فمات سيف بن ذي يزن. على بابه. فأتى بعده ابنه معديكرب بن سيف ، فوجّه معه أصبهبد الديلم ويعرف في أهل السجون ، فقتل وهرز من الحبشة ثلاثين ألفا ، ثمّ توّج وهرز معديكرب بتاج كان معه ورتّبه في ملكه على اليمن.

وأتت معديكرب الوفود من العرب تهنيه بعود الملك إليه ، وفيهم عبد المطّلب بن هاشم واميّة بن عبد شمس ، وخويلد بن أسد بن عبد العزّى ، وأبو الصلت الثقفي أبو اميّة بن أبي الصلت ، فدخلوا عليه في أعلى قصره المعروف بغمدان بمدينة صنعاء وقد تقدمهم عبد المطّلب فتكلّم فقال فيما قال : نحن أهل حرم الله وسدنة بيته ... الى آخر ما مرّ من الخبر السابق عن (اكمال الدين) ثمّ قال المسعودي : ولمعديكرب بن سيف بن ذي يزن كلام كثير مع عبد المطّلب ، وكوائن أخبره بها في أمر النبي وبدء ظهوره ، بشّر به عبد المطّلب وأخبره عن أحواله وما يكون من أمره (١).

ولاحظنا انّ رواية الصدوق عن ابن عباس كانت مصحّفة في اسم أبي خديجة : خويلد بن اسيد بن عبد العزّى الى : اسيد بن خويلد بن عبد العزّى. وقد ذكره المسعودي صحيحا.

وروى الطبرسي الخبر مرفوعا الى ابن عباس أيضا وقال في آخره : روى هذا الحديث الشيخ أبو بكر البيهقي في كتابه (دلائل النبوة) من طريقين (٢) والظاهر أنهما ما أورده الصدوق عن ابن عباس.

ورواه الكراجكي في كتابه (الكنز) كذلك بنفس السند ، كما في البحار (٣) ومن المعلوم أنّ ابن عباس لم يدرك ذلك. لكنّ الكازروني نقل الخبر في كتابه

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٥٨.

(٢) إعلام الورى : ١٥ ـ ١٧.

(٣) كنز الكراجكي : ٨٢ ـ ٨٤ كما في البحار ١٥ : ١٩١.

٢٥٢

(المنتقى في مولد المصطفى) باسناده الى محمّد بن عبد العزيز عن أبيه عبد العزيز بن عفير ، عن أبيه عفير بن عبد العزيز عن أبيه عبد العزيز بن السفر عن أبيه السفر بن عفير ، عن أبيه عفير بن زرعة بن سيف ابن ذي يزن قال : لمّا ظفر جدّي سيف على الحبشة ـ وذلك بعد مولد النبي بسنتين ـ أتت وفود العرب وأشرافها وشعراؤها لتهنئته ، وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه .. ثمّ ساق الحديث مثل ما تقدم برواية الصدوق ، ثمّ قال الكازروني : هذا الحديث دال على أن الوفادة الى ابن ذي يزن كان في سنة ثلاث من مولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأصح أنّها كانت في سنة سبع ، لأنّه يقول عبد المطّلب فيه : توفّي أبوه وامّه وكفلته أنا وعمّه. وأمّ رسول الله لم تمت حتّى بلغ ست سنين.

فنرى انّ الكازروني قد تنبّه الى هذه الغلطة ولكنّه لم يغلطها بل غلّط بداية الرواية اذ قالت : وذلك بعد مولد النبي بسنتين. بدون أيّ مرجّح فيما بين هذين النصّين. ثمّ لم يغلّط قوله : وكفلته أنا وعمّه. فما معنى ذكر كفالة عمّه أبي طالب الى جانب جدّه عبد المطّلب؟! ثمّ لم ير أيّ تناقض بين هاتين الجملتين : هذا حينه الّذي يولد فيه أو قد ولد. وقوله : وقد ولد سرارا!

والمسعودي قد اختصر الخبر على عادته في (مروج الذهب) ولكنّه صرّح : بأن سيف بن ذي يزن كان يهوديا ولذلك أبى قيصر أن ينصره ، وأبى هو ان يتنصّر أو يظهر له النصرانية فينصره ، بل عدل الى الملك غير العادل انوشيروان عابد النيران فطلب منه الأعوان على الأحباش النصارى. وهؤلاء وان كانوا على غير حقيقة النصرانية ولذلك أهلك الله كثيرا منهم بطير أبابيل ، ولكن فما الدليل على العقيدة الحقّة لدى سيف اليمن؟ أفهل يكفي لذلك رواية أبنائه المسلمين بعد المائتين بل أكثر من الهجرة ، تقصّ على المسلمين جملة جمة من مجد جدّهم سيف اليمن؟!

٢٥٣

وإنمّا قلت بعد المائتين بل أكثر من الهجرة ، اذ لا نرى أيّ أثر لهذا الخبر لا عند ابن اسحاق ولا في ابن اسحاق في السيرةولا الطبري ، بل نراه في اليعقوبي باختصار (١) ، ثمّ في (اكمال الدين) للصدوق منقولا عن ابن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وابن عباس لم يدرك الأمر ولم يسنده ولم يسند عنه ، وإنمّا ينتهي اسناده الى أحفاد سيف لامجاد الاجداد.

وليس في رواية الشيخ الصدوق للخبر حجّة بعد ذكره المرفوع المقطوع ، وقد روى رحمه‌الله أكثر من ستين صفحة من نفس الكتاب قصّة الملك الهندي بلوهرو والحكيم الهندي بوذاسف ، ثمّ عقّبه بقوله : ليس هذا الحديث وما شاكله من أخباره ممّا أعتمده ... وجميعها في الصحة من طريق الرواية دون ما قد صحّ من الأخبار. ثمّ قال : ولا يراد لهذا الحديث وما يشاكله في هذا الكتاب معنى آخر ، وهو : أنّ جميع أهل الوفاق والخلاف يميلون الى مثله من الأحاديث ، فإذا ظفروا به من هذا الكتاب حرصوا على الوقوف على سائر ما فيه (١).

الاستسقاء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

روى المجلسي عن الكازروني في (المنتقى) في ما حدث سنة سبع من مولده صلى‌الله‌عليه‌وآله بسنده الى مخرمة بن نوفل القرشي عن امّه رقيقة بنت صيفي قالت :

__________________

(١) اليعقوبي ٢ : ١٢.

(٢) اكمال الدين : ٦٠٠. نعم روى في (قرب الاسناد) عن الحسن بن ظريف عن معمّر عن الرضا عن أبيه موسى بن جعفر عليهم‌السلام انّه قال في كرامات رسول الله «ومن ذلك أنّ سيف بن ذي يزن حين ظفر بالحبشة ، وفد عليه وفد من قريش فيهم عبد المطّلب فسألهم عنه ووصف لهم صفته ، فأقروا جميعا بأنّ هذه الصفة في محمّد ، فقال : هذا أوان مبعثه ، ومستقره أرض يثرب وموته بها» قرب الأسناد : ١٣٢ ـ ١٤٠ كما في البحار ١٧ : ٢٢٦. فإذا قبلنا بهذا الاجمال فالتفاصيل المشتملة على ذلك التهافت مردودة.

٢٥٤

تتابعت على قريش سنون اقحلت الفرع وارمّت العظم ، فبينا أنا راقدة ـ اللهم ـ أو مهوّمة ومعي صنوي ، فإذا أنا بهاتف صيّت يصرخ ويقول : يا معشر قريش! انّ هذا النبي المبعوث منكم هذا ابّان نجومه ، فحيّ هلا بالحيا والخصب ، ألا فانظروا رجلا منكم طوالا عظاما أبيض بضّا ، أشمّ العرنين ، سهل الخدّين ، له فخر يكظم عليه ، ألا فليخلص هو وولده وليدلف إليه من كلّ بطن رجل ، ألا فليشنّوا من الماء ، وليمسّوا من الطيب ، وليطوّفوا بالبيت سبعا ، ألا وليكن فيهم الطيب الطاهر لذاته ، ألا فليستسق الرجل وليؤمن القوم ، ألا فغثتم ـ اذا شئتم ـ وعشتم! قالت : فأصبحت مذعورا قد قفّ جلدي وولد عقلي ، واقتصصت رؤياي ، فو الحرمة والحرم ان بقي أبطحي الّا قال : هذا شيبة الحمد.

فتتامّت إليه قريش ، وانقضّ إليه من كلّ بطن رجل ، فشنّوا ومسوا واستلموا وطوّفوا ، ثمّ ارتقوا أبا قبيس ، وطفق القوم يدلفون حوله حتّى قرّوا بذروة الجبل ، واستكنفوا جانبيه. ومعه ابن ابنه محمّد وهو يومئذ غلام قد أيفع ، فاعتضده فرفعه على عاتقه ثمّ قال : «اللهم سادّ الخلّة وكاشف الكربة ، أنت عالم غير معلم ومسئول غير مبخّل ، وهذه عبيدك وإماؤك بفناء حرمك ، يشكون إليك سنتهم الّتي اذهبت الخفّ والظلف ، فاسمعن اللهم وامطرن علينا غيثا مريعا مغدقا».

قالت : فما راموا البيت حتّى انفجرت السماء بمائها واكتظّ الوادي بثجيجه (١)

فقلت شعرا :

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا

فقد فقدنا الحيا واجلوّذ المطر (٢)

__________________

(١) الثجيج : الماء المصبوب ، او صوته.

(٢) اجلوّذ : كثر وامتدّ وقت تأخره.

٢٥٥

فجاد بالماء جونيّ له سبل

سحّا ، فعاشت به الأنعام والشجر (١)

مبارك الاسم يستسقى الغمام به

ما في الأنام له عدل ولا خطر (٢)

ورواه اليعقوبي في تأريخه (٣) ، والسهيلي في (الروض الانف) عن البستي النيسابوري باسناده عن دقيقة أيضا ، مستشهدا به لمعنى قول أبي طالب بشأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اذ قال :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

قال : فان قيل : كيف قال أبو طالب هذا ، ولم يره استسقى قط ، وإنمّا كانت استسقاءاته عليه‌السلام بالمدينة في الحضر والسفر ، وفيها شوهد سرعة اجابة الله له؟!

فالجواب : إنّ أبا طالب قد شاهد من ذلك في حياة عبد المطّلب ما دلّه على ما قال.

وإنمّا قال السهيلي هذا تعليقا على رواية ابن هشام : دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله للناس حين القحط ، فنزل المطر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لو أدرك أبو طالب هذا اليوم لسرّه! فقال له بعض أصحابه : كأنّك يا رسول الله أردت قوله ـ وقرأ البيت ـ قال : أجل (٤).

__________________

(١) الجون : اللون الاسود ، والجونيّ نسبة إليه ، والمراد هنا : السحاب الأسود المركوم. والسبل بفتحتين : المطر النازل قبل الوصول للأرض. وله سبل اي له جريان. سحّا : أي منصبا.

(٢) البحار ١٥ : ٤٠٣ ، ٤٠٤ عن المنتقى في مولد المصطفى للكازروني : الباب الرابع من القسم الثاني ، وأخرج الحديث ابن الأثير في اسد الغابة ٥ : ٤٥٤ وابن حجر في الإصابة ٤ : ٢٩٦ والحلبي في السيرة ١ : ١٣١.

(٣) اليعقوبي ٢ : ١٢.

(٤) ابن اسحاق في السيرة١ : ٣٠٠ في المتن وعن الروض الانف في الهامش.

٢٥٦

وفاة أم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكفالة جدّه وعمّه له :

قال ابن اسحاق «وكان رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ مع امّه آمنة بنت وهب وجدّه عبد المطّلب بن هاشم في كلاءة الله وحفظه ، ينبته الله نباتا حسنا لما يريد به من كرامة».

ثمّ روى عن عبد الله بن حزم انّه «لمّا بلغ رسول الله ستّ سنين قدمت به الى أخواله من بني النجّار لزيارتهم ، فلمّا رجعت الى مكّة ماتت بالأبواء بين مكّة والمدينة».

وفسّر ابن هشام خئولة بني النجار لرسول الله بانّ أمّ عبد المطّلب كانت من بني النجار (١).

وروى المجلسي عن الكازروني في (المنتقى) عن ابن عباس وغيره : أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ـ كان مع امّه آمنة ، فلمّا بلغ ستّ سنين خرجت به الى أخواله بني النجار بالمدينة تزورهم به ، ومعه أمّ أيمن تحضنه ، وهم على بعيرين ، فنزلت به في دار النابغة ـ الّتي توفّي ودفن فيها عبد الله ـ فأقامت عندهم شهرا ... ثمّ رجعت به امّه الى مكّة ، فلمّا كانت بالأبواء توفيت فقبرت هناك. ورجعت أمّ أيمن بالنبي الى مكّة (٢).

__________________

(١) ابن اسحاق في السيرة١ : ١٧٧.

(٢) ثمّ لمّا مرّ رسول الله في عمرة الحديبية بالأبواء قال : انّ الله قد أذن لي في زيارة قبر امّي. فأتى رسول الله قبرها فبكى عنده وقال : أدركتني رحم ، رحمتها فبكيت. ثمّ أصلح قبرها. وروي عن بريرة قال : لمّا فتح رسول الله مكّة أتى قبرا فجلس إليه وجلس الناس حوله وهو يبكي ، ثمّ قام. فاستقبله عمر فقال : يا رسول الله ما الّذي أبكاك؟ قال : هذا قبر امّي ، سألت ربّي الزيارة فأذن لي. كما في البحار ١٥ : ١٦٢ عن المنتقى ، الفصل الثالث فيما كان سنة ست من مولده. وروى مسلم في صحيحه حديث الرسول في زيارة أمه هكذا : استأذنت ربي

٢٥٧

والظاهر أنّ هذه الرواية للكازروني عن ابن عباس هي ما رواه الصدوق في (اكمال الدين) بسنده عن عكرمة عن ابن عباس قال : لمّا تمت لرسول الله ست سنين قدمت به امّه آمنة على أخواله من بني النجار فماتت بالأبواء بين مكّة والمدينة.

فبقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يتيما لا اب له ولا أمّ ، فازداد عبد المطّلب رقة له وحفظا. فكان يوضع لعبد المطّلب فراش في ظل الكعبة لا يجلس عليه أحد اجلالا له ، وكان بنوه يجلسون حوله حتّى يخرج عبد المطّلب. فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يخرج وهو غلام فيمشي حتّى يجلس على الفراش! فيعظّمون ذلك أعمامه ويأخذونه ليؤخروه ، فيقول لهم عبد المطّلب اذا رأى ذلك منهم : دعوا ابني فو الله إنّ له لشأنا عظيما! انّي أرى انّه سيأتي عليكم يوم وهو سيّدكم ، إنّي أرى عزته عزة تسود الناس! (١)

ثمّ يحمله فيجلسه معه ويمسح ظهره ويقبّله ويقول : ما رأيت قبله من هو أطيب منه ولا أطهر قط ، ولا جسدا ألين منه ولا أطيب! ثمّ يحمله على عنقه فيطوف به اسبوعا.

وكانت هذه حالته حتّى ادركت عبد المطّلب الوفاة.

فبعث الى ابي طالب ، فدخل عليه وهو في غمرات الموت ومحمّد على صدره ، فبكى وقال لأبي طالب : يا أبا طالب! انظر أن يكون هذا من جسدك بمنزلة كبدك ، فإنّي قد تركت بنيّ كلهم وأوصيتك به ، لأنّك من أمّ أبيه.

__________________

في زيارة أمي فأذن لي ، فزوروا القبور تذكّركم الموت. كما في صحيح مسلم ٣ : ٦٥ ط ١٣٣٤ كتاب الجنائز. ورواه عنه الطبرسي في إعلام الورى : ٩. ورواه عنه أيضا الاربلي في كشف الغمة ١ : ١٦ ط تبريز.

(١) وروى الكليني بسنده عن الصادق عليه‌السلام نحوه (اصول الكافي ١ : ٤٤٨) وذكر مثله (اليعقوبي ٢ : ٩) وفي تأريخ وفاة آمنة قال الكليني : وماتت امّه آمنة وهو ابن أربع سنين (اصول الكافي ١ : ٤٣٩).

٢٥٨

يا أبا طالب! ان ادركت أيّامه فاعلم أنّي كنت من أبصر الناس وأعلم الناس به ، فإن استطعت أن تتبعه فافعل ، وانصره بلسانك ويدك ومالك ، فانّه والله سيسودكم ويملك ما لم يملك أحد من بني آبائي.

يا أبا طالب! ما أعلم أحدا من آبائك مات عنه أبوه على حال أبيه ، ولا امّه على حال امّه ، فاحفظ الوحدة.

هل قبلت وصيتي؟ فقال : نعم ، قد قبلت ، والله عليّ بذلك شهيد.

فقال عبد المطّلب : فمدّ يدك إليّ. فضرب يده على يده.

ثمّ قال عبد المطّلب : الآن خفّف عليّ الموت! ثمّ لم يزل يقبّله ويقول : أشهد انّي لم اقبّل أحدا من ولدي أطيب ريحا منك ، ولا أحسن وجها منك. ثمّ مات. ورسول الله ابن ثماني سنين (١) وبه قال الكليني في الكافي (٢).

فضمّه أبو طالب الى نفسه لا يفارقه ساعة من ليل ولا نهار ، وكان ينام معه حتّى بلغ ، لا يأتمن عليه أحدا (٣).

__________________

(١) روى المجلسي عن الكازروني في المنتقى قال : مات عبد المطّلب وهو ابن ثنتين وثمانى سنة. وقالت أمّ أيمن : رأيت رسول الله يبكي خلف سرير عبد المطّلب. وسئل رسول الله : أتذكر موت عبد المطّلب؟ فقال : نعم أنا يومئذ ابن ثماني سنين (البحار ١٥ : ١٦٢ عن المنتقى : الفصل الثالث) ورواه عن (العدد) وأضاف : حتّى دفن بالحجون (البحار ١٥ : ١٥٦).

(٢) اصول الكافي ١ : ٤٣٩.

(٣) ثمّ روى الصدوق بسنده الى ابن اسحاق عن العباس بن عبد الله ، عن ابيه عبد الله بن معبد ، عن ابيه معبد بن العباس بن عبد المطّلب ـ أو بعض اهله ـ قال : كان يوضع لعبد المطّلب جدّ رسول الله فراش في ظل الكعبة ، فكان لا يجلس عليه أحد من بنيه اجلالا له ، وكان رسول الله يأتي حتّى يجلس عليه ، فيذهب أعمامه يؤخرونه ، فيقول جدّه عبد المطّلب : دعوا ابني فيمسح ظهره ويقول : ان لابني هذا لشأنا.

٢٥٩

قال ابن اسحاق : وكان عبد المطّلب يوصي برسول الله عمّه أبا طالب ، وذلك أن عبد الله وأبا طالب كانا أخوين لأمّ واحدة هي فاطمة بنت عمرو

__________________

ثمّ قال : فتوفّي عبد المطّلب والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ابن ثماني سنين : بعد عام الفيل ثماني سنين.

(والخبر في ابن اسحاق في السيرة١ : ١٧٨ ، وفي تهذيب السيرة : ٤١) ثمّ قال الشيخ الصدوق : انّ ابا طالب كان مؤمنا ولكنّه كان يستر الإيمان ويظهر الشرك ليكون أشدّ تمكنا من تصرف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ثمّ روى بسنده عن الاصبغ بن نباتة قال : سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : والله ما عبد أبي ـ ولا جدي عبد المطّلب ولا هاشم ولا عبد مناف ـ صنما قط. قيل : فما كانوا يعبدون؟ قال : كانوا يصلّون الى البيت على دين ابراهيم عليه‌السلام متمسكين به.

ثمّ روى بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : انّ أبا طالب أظهر الكفر وأسرّ الإيمان ، فلمّا حضرته الوفاة أوحى الله الى رسول الله : اخرج منها فليس لك بها ناصر! فهاجر الى المدينة (اكمال الدين : ١٦٩ ـ ١٧٢).

وروي في (الخصال) بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : هبط جبرئيل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا محمّد! انّ الله عزوجل قد شفّعك في خمسة. في بطن حملك ، وهي آمنة بنت وهب بن عبد مناف ، وفي صلب أنزلك ، وهو عبد الله بن عبد المطّلب. وفي حجر كفلك ، وهو عبد المطّلب بن هاشم ، وفي بيت آواك ، وهو عبد مناف بن عبد المطّلب أبو طالب ، وفي أخ كان لك في الجاهلية. قيل : يا رسول الله! من هذا الأخ؟ فقال : كان انسي وكنت أنسه ، وكان سخيّا يطعم الطعام. ثمّ قال الصدوق : اسمه : الجلّاس بن علقمة (الخصال ١ : ٢٩٢ ، ٢٩٤) وروى مثله بسند آخر في معاني الأخبار : ٤٥ والأمالي ٦ ورواه الكليني في اصول الكافي ١ : ٤٤٦ وروى الصفار في (قرب الإسناد : ٢٧) بسنده عن الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله : انّي مستوهب من ربي أربعة ، وهو واهبهم لي ان شاء الله تعالى : آمنة بنت وهب ، وعبد الله ابن عبد المطّلب ، وأبو طالب بن عبد المطّلب ، ورجل من الأنصار جرت بيني وبينه ملحة ، وروى الطبرسي في (إعلام الورى : ١٠) عن هشام بن عروة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما زالت قريش كاعّة عنّي حتّى مات أبو طالب عليه‌السلام.

٢٦٠