موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي

موسوعة التاريخ الإسلامي - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد هادي اليوسفي الغروي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: أضواء الحوزة ـ لبنان
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٩٦

__________________

وروى القصة بالتفصيل الطبري ٢ : ١٩٣ ـ ٢١٢ عن محمد بن هشام الكلبي عن كتاب حمّاد الراوية الكوفي ، ولكنه روى عن الكلبي قال : اني كنت استخرج أخبار العرب وأنساب آل نصر بين ربيعة ومبالغ أعمار من عمل منهم لآل كسرى وتاريخ سنيّهم ، من بيع الحيرة.

وعزّز ذلك الطبري فقال : وكان أمر آل نصر بن ربيعة ومن كان من ولاة ملوك الفرس وعمالهم على ثغر العرب الذين هم ببادية العراق ، متعالما (معلوما) عند أهل الحيرة مثبتا عندهم في أسفارهم وكنائسهم ـ الطبري ١ : ٦٢٨.

وعلى صحة الحديث النبويّ لعلّ العلّة فيه هو أن بنات النعمان كنّ نصارى مترهّبات ، وكان خسرو پرويز كافرا مجوسيا زرادشتيا لا تحل له النصرانية. ويدل على ذلك خبران رواهما المسعودي في مروج الذهب قال :

كانت حرقة بنت النعمان بن المنذر اذا خرجت الى بيعتها يفرش لها طريقها بالحرير والديباج ، مغشى بالخزّ والوشي ، فتقبل في جواريها حتى تصل الى بيعتها وترجع الى منزلها.

ولما وفد سعد بن أبي وقاص القادسية أميرا عليها قتل رستم وهزم الله الفرس ، أتت حرقة بنت النعمان في حفدة من قومها وجواريها وهنّ في زيّها عليهنّ المسوح والمقطعات السود ، مترهّبات ، يطلبن صلته ـ ٢ : ٧٩.

وقال : وكانت هند بنت النعمان بن المنذر مترهبة في دير لها بالحيرة ، فركب المغيرة بن شعبة إليها وهو أمير الكوفة يومئذ. وهند قد عميت ، فلما جاء المغيرة الى الدير استأذن عليها ، فاتتها جاريتها فقالت لها : هذا المغيرة بن شعبة يستأذن عليك؟ فقالت هند لجاريتها : القي إليه أثاثا ، فألقت له وسادة من شعر ، ودخل المغيرة فقعد عليها وقال : أنا المغيرة : فقالت له : قد عرفتك عامل المدرة (الكوفة) فما جاء بك؟ قال : أتيتك خاطبا إليك نفسك! فقالت : أما والصليب لو أردتني لدين أو جمال ما رجعت الا بحاجتك ، ولكنّي اخبرك الذي أردت له! قال : وما هو؟ قالت : أردت أن تتزوّجني حتى تقوم في الموسم في العرب فتقول : تزوجت ابنة النعمان! قال : ذلك أردت! ـ مروج الذهب ٣ : ٢٥.

١٦١

سائر ملوك الحيرة ومصيرها :

قال المسعودي : «ثم ملك الحيرة جماعة من الفرس ، حتى بلغ عدد الملوك بالحيرة ثلاثة وعشرين ملكا من بني نصر وغيرهم من العرب والفرس ، وكان مدّة ملكهم ستمائة واثنتين وعشرين سنة وثمانية أشهر. وبدأ عمران الحيرة من أوائل المائة الثانية من هؤلاء الملوك فكان عمرانها من بدوه الى أن بنيت الكوفة فتناقص عمرانها : خمسمائة وبضعا وثلاثين سنة (١) ، ثمّ لم يزل عمرانها يتناقص الى أيام المعتضد حيث استولى عليها الخراب. وكان جماعة من خلفاء بني العباس كالسفّاح والمنصور والرشيد وغيرهم ينزلونها ويطيلون المقام بها ، لطيب هوائها وصفاء جوهرها وصحة تربتها وصلابتها ، وقرب الخورنق والنجف منها. وقد كان فيها أديرة كثيرة فيها كثير من الرّهبان ، فلمّا تداعى الخراب إليها لحقوا بغيرها. قال المسعودي «وهي في هذا الوقت ليس بها إلّا الصدى والبوم» (٢).

__________________

وعليه فهنّ نصارى مترهّبات لا يحللن لكافر مجوسيّ زرادشتي.

وعلى أي حال فالعباديون النصارى وهم أخلاط من العرب وغيرهم ، والأحلاف من الأنباط من بقايا سكان العراق من الآراميين والأكديين كانوا يجاورون الاكثرية العرب في الحيرة ، وكانت فيهم جالية فارسية تمتهن الحرف والمهن ، وفيهم بعض اليهود ، فكانت الحيرة سوقا تجارية وزراعية كبرى ، ومتأثرة بالثقافة الفارسية العامة في المنطقة ـ العصر الجاهلي : ٤٧.

(١) وروي في الطبري عن الكلبي : انّ الحيرة بنيت مع الأنبار على عهد بخت نصّر (نبوخذنصر) فلمّا هلك بختنصر تحول أهلها الى الأنبار فخربت الحيرة ، الى أن عمّرت الحيرة مرة أخرى باتخاذ عمرو بن عدي اللخمي اياها منزلا لنفسه ، فعمرت الحيرة خمسمائة وبضعا وثلاثين سنة الى أن وضعت الكوفة ونزلها الاسلام (الطبري ٢ : ٤٣)

(٢) مروج الذهب ٢ : ٨١ ط ٢.

١٦٢

غساسنة الشام :

وفي القرن الخامس الميلادي هاجرت جماعات من أطراف الجزيرة الى جهة شمالها الغربي بجوار حدود المملكة الرومية فأسّسوا دولة الغساسنة الّتي كانت تحت حماية الأمراء الروميين تبعا للقسطنطينية ، كما كان حكام الحيرة عمّالا لملوك الفرس.

وتحضّرت دولة الغساسنة نوعا ما ، فهي كانت تجاور «دمشق» من ناحية ومدينة «بصرى» التأريخية من ناحية اخرى ، فهي كانت تحت تأثير الحضارة الرومية. وبما أنّ الغساسنة كانوا في خلاف مع مناذرة الحيرة اللخميّين ومن ورائهم الفرس ، لذلك كانوا يوالون الرومانيين. وقد بلغ عدد امرائهم بضعة عشر رجلا ، وإليك تفصيل خبرهم :

ملوك الشام من اليمن :

قال المسعودي : «وتفرّقت قبائل العرب لما كان بمأرب فسارت غسّان الى الشام (١) ، وهم من ولد ما زن بن الأزد ، وإنمّا غسّان ماء لم يزل عمرو بن عامر حين خرج من مأرب مقيما على هذا الماء ، وهو ما بين زبيد ورمع وادي الأشعريين بأرض اليمن.

وكانت قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ أوّل من نزل الشام من عرب اليمن ، واتّصلوا بملوك الروم ودخلوا في النصرانية ، فملّكوهم على من بالشام من العرب. وأوّل من ملك منهم النعمان بن عمرو بن مالك ، ثم ملك بعده عمرو بن النعمان بن عمرو ، ثم ملك بعده الحواري بن النعمان.

__________________

(١) هذا ، وقد سبق آنفا أن هجرتهم كانت في القرن الخامس الميلادي ، أي بعد سيل العرم بعديد من القرون ، فالتاريخ الأثري اي المستند على المكتشف من آثارهم لا يدل على أسبق من ذلك.

١٦٣

ثمّ وردت سليح من قضاعة أيضا الشام فغلبت على تنوخ من قضاعة وتنصّرت فملّكها الروم على العرب الّذين بالشام ، وهم ولد سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة أيضا.

فلمّا سارت غسّان الى الشام غلبت على من بالشام من العرب فملكها الروم على العرب ، فكان أوّل ملك من ملوك غسّان بالشام : الحارث بن عمرو بن عامر بن حارثة ، ثم ملك بعده الحارث بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو بن عامر بن حارثة ، وملك بعده النعمان بن الحارث بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة ، ثم ملك بعده المنذر بن الحارث بن جبلة بن ثعلبة بن جفنة بن عمرو ، ثمّ ملك بعده عوف بن المنذر ، ثمّ ملك بعده الحارث بن المنذر ، وكان هذا على عهد بعثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى الإسلام ورغّبه فيه ولم يسلم ، وملك بعده جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث ، وهو الّذي أسلم وارتد عن دينه خوف العار والقود. فجميع من ملك من ملوك غسّان بالشام أحد عشر ملكا ، وكانت ديار ملوك غسّان باليرموك والجولان وغيرهما من غوطة دمشق واعمالها ، ومنهم من نزل الأردن من أرض الشام (١).

وقال اليعقوبي : «كانت قضاعة أوّل من قدم الشام من العرب ، فصارت الى ملوك الروم ودخلوا في النصرانية فملّكوهم فكان أوّلهم : تنوخ ابن مالك بن فهم بن تيم الله بن الأسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.

ثم ورد بنو سليح بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة الى الشام فغلبوا على تنوخ من بني قضاعة ، ودخلوا في ذمة الروم وتنصّروا وأقاموا على ذلك. فلمّا تفرقت الأزد بسيل العرم وصار من صار منهم الى تهامة ، ومن صار الى يثرب ، ومن صار الى عمان ، صارت غسّان الى الشام فقدموا أرض البلقاء» (٢).

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٨٣ ـ ٨٦.

(٢) اليعقوبي ١ : ٢٠٦.

١٦٤

وقال اليعقوبي : «فسأل بنو غسّان بني سليح أن يدخلوا معهم فيما دخلوا فيه من طاعة ملك الروم ، وأن يقيموا في بلادهم لهم ما لهم وعليهم ما عليهم. فكتب رئيس سليح وهو يومئذ «دهمان بن العملق» الى ملك الروم ، وهو يومئذ «نوشر» وكان منزله بانطاكية ، فأجابهم الى ذلك بشروط (منها دفع أتاوة يقبضها ملك الروم) فأقاموا بذلك أزمانا حتّى وقعت بين رجل من غسان يقال له «جذع» ورجل من أصحاب ملك الروم مشاجرة على الأتاوة حتّى ضرب الغسّاني الرومي بسيفه فقتله.

فحمل عليهم صاحب الروم من قبل ملك الروم بجماعة من العرب من قضاعة ، فأقاموا مليّا يحاربونه ببصرى من أرض دمشق ، ثم صاروا الى «المخفق» فلمّا رأى ملك الروم صبرهم على الحرب ومقاومتهم جيوشه كره ان تكون ثلمة عليهم ، وطلب القوم الصلح على ان لا يكون عليهم ملك من غيرهم ، فأجابهم ملك الروم الى ذلك ، وكان رئيس غسّان يومئذ «جفنة بن علية بن عمرو بن عامر» ، فملّك عليهم ، وتنصّرت غسان ، واستقام الّذي بينهم وبين الروم وصارت امورهم واحدة ، فأقاموا بالشام مملكة من قبل صاحب الروم.

وكان أوّل ملك جلّ قدره وعلا ذكره من غسّان بعد جفنة بن علية : الحارث بن مالك بن الحارث بن غضب بن جشم بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن ثعلبة بن حارثة. وملك بعده : الحارث الأكبر ابن كعب بن علية بن عمرو بن عامر. ثمّ ملك أخوه الحارث الأعرج بن كعب فنزل الجولان. ثمّ ملك أخوه الحارث الأصغر ، ثمّ ملك. جبلة بن المنذر. ثمّ ملك الحارث بن جبلة. ثمّ ملك الأيهم بن جبلة. ثم جبلة بن الأيهم» (١).

__________________

(١) اليعقوبي ١ : ٢٠٦ ، ٢٠٧.

١٦٥

والحارث بن جبلة منهم هو الّذي وقعت بينه وبين المنذر بن امرئ القيس اللخمي المعركة الهائلة في «قنسرين» فكان من جرائها قتل المنذر ودخول «قنسرين» في حوزة الحارث بن جبلة ، فأعجب الروم بشجاعته وهابوا سطوته فبالغوا في ترقيته وتقريبه والخلع عليه ، ومنحه الامبراطور جوستينان سنة ٥٢٩ م لقب (البطريرك). وغزا الفرس بلادهم سنة ٦١٤ م فاستولوا على اورشليم ودمشق الشام فانحط أمرهم (١).

وذكر المسعودي من أواخر ملوك غسّان : الحارث بن المنذر وقال : وكان هذا على عهد بعثة رسول الله ، ودعاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الى الإسلام ورغّبه فيه فلم يسلم. وملك بعده جبلة بن الأيهم بن جبلة ، وهو الّذي أسلم وارتد عن الإسلام خوف القود والعار (٢) وذلك أنّ رجلا فزاريا وطأ ازاره ، وكان الخليفة الثاني قد أحسن وفادته ورفع من شأنه ووضعه في مرتبة المهاجرين الأولين ، فلطم الفزاري على رأسه ، فشكاه الفزاري الى الخليفة فلمّا أحسّ بانّ الخليفة سيقتصّ منه للفزاري فرّ الى القسطنطينية.

وروى اليعقوبي في حوادث السنة الثالثة عشرة في بداية خلافة الخليفة الثاني : «أنّ جبلة بن الأيهم الغساني كان في ثلاثين الفا من قومه مع الروم في وقعة اليرموك ، فلمّا انهزم الروم في اليرموك رجعوا الى مواضعهم ، فأرسل إليه يزيد بن أبي سفيان : أن اقطع على أرضك بالخراج والجزية ، فأبى وقال : أنا رجل من العرب ، وإنمّا يؤدي الجزية العلوج! (٣) وأتى جبلة الى الخليفة فقال له : خذ منّي الصدقة ـ

__________________

(١) سيرة المصطفى : ١٧.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٨٤ ، ٨٥.

(٣) اليعقوبي ١ : ١٤٢.

١٦٦

يعني الزكاة ـ كما تصنع بالعرب؟ قال : بل الجزية ـ اذ لم تسلم ـ والّا فالحق بمن هو على دينك ، يريد الروم. فخرج جبلة في ثلاثين الفا من قومه وهم نصارى حتّى لحق بأرض الروم. فندم عمر على ما كان منه في أمر جبلة وقومه» (١).

ولد اسماعيل بن ابراهيم عليه‌السلام :

بدأ اليعقوبي في أواخر الجزء الأول من تاريخه فصلا بهذا العنوان وقال في بدايته «وإنمّا أخّرنا خبر اسماعيل وولده وختمنا بهم أخبار الامم ، لأن الله ـ عزوجل ـ ختم بهم النبوة والملك ، واتصل خبرهم بخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢) وكذلك فعلنا نحن : وقد سبق نقل مقال المسعودي اذ قال : الواضح من أنساب اليمن وما تدين به كهلان وحمير أبناء قحطان إلى هذا الوقت قولا وعملا ، وينقله الباقي عن الماضي والصغير عن الكبير ، والّذي وجدت عليه التواريخ القديمة للعرب وغيرها من الامم ، وعليه وجدت الأكثر من شيوخ ولد قحطان من حمير وكهلان بأرض اليمن والتهائم والأنجاد ، وبلاد حضرموت والشحر والأحقاف ، وبلاد عمان وغيرها من الأمصار : أنّ الصحيح في نسب قحطان : أنّه قحطان بن عابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشد بن سام بن نوح ، وقد كان لعابر ثلاثة أولاد : فالغ وقحطان وملكان وولد لقحطان أحد وثلاثون ذكرا منهم يعرب بن قحطان ، وكان قحطان سريانيّ اللسان ، وقد ثبت انّ قحطان هو يقطن بالسريانية وإنّما عرب فقيل : قحطان وزعم الهيثم بن عدي : ان جرهم بن عابر بن سبأ بن يقطن ، هو قحطان (٣).

__________________

(١) اليعقوبي ١ : ١٣٧.

(٢) اليعقوبي ١ : ٢٢١.

(٣) مروج الذهب ٢ : ٤٥ ونؤكّد هنا ما قدّمناه في عنوان : مبدأ العرب ، ص : ١٠٧.

١٦٧

وتكلّم يعرب وجرهم وعاد وثمود وعملاق ووبار وعبيل وجديس وعبد ضخم بالعربية فسار يعرب بن قحطان من بابل حتّى حلّ باليمن (١). وسار عبد ضخم بن ارم بن نوح بولده ومن تبعه فنزلوا «الطائف» وسار جرهم بن قحطان بولده ومن تبعه وطافوا البلاد حتى أتوا «مكّة» فنزلوها (٢).

وقال عند ذكره أخبار مكّة وبناء البيت ومن تداوله من جرهم وغيرها : ان جرهم بادروا نحو مكّة وعليهم الحارث بن مضاض بن عمرو ابن سعد بن الرقيب بن ظالم بن هيني بن نبت بن جرهم ، حتّى أتوا الوادي ونزلوا مكّة واستوطنوها مع اسماعيل.

وقال قبل هذا : انّ بني كركر وعليهم السميدع بن هوبر بن لاوي بن قيطور بن كركر بن حيدان ، عدمت الماء والمرعى واشتد بها الجهد ، فيممت نحو تهامة يطلبون الماء والمرعى والدار الخصبة ، فأشرف روّادهم وهم المتقدمون منهم لطلب الماء على الوادي فنظروا الطير ترتفع وتنخفض ، فهبطوا الوادي ونظروا الى العريش على الربوة الحمراء الّذي اتّخذته هاجر ليكون مسكنا لها وفيه هاجر واسماعيل ، وقد زمّت حول الماء بالأحجار ومنعته من الجريان فسلّم الروّاد عليها واستأذنوها في نزولهم وشربهم من الماء ، فأنست إليهم وأذنت لهم في النزول. فتلقوا من وراءهم من أهليهم وأخبروهم خبر الماء ، فنزلوا الوادي مطمئنين مستبشرين بالماء ، وبما أضاء الوادي من نور النبوة وموضع البيت الحرام فرحين ، وتكلّم اسماعيل بالعربية خلاف لغة أبيه.

فقيل في بني كركر هؤلاء : انّهم من جرهم ، وقيل انهم من العماليق ، وانّ جرهم تسامعت ببني كركر ونزولهم الوادي وما فيه من الخصب وإدرار الضرع

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ١١٠.

(٢) مروج الذهب ٢ : ١٢١ و ١٢٢.

١٦٨

فبادروا نحو مكّة (١) واستوطنوها مع اسماعيل ، وتزوج اسماعيل : سامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف بن هيني بن نبت بن جرهم.

وعاش اسماعيل مائة وسبعا وثلاثين سنة ، وولد له اثنا عشر ولدا ذكرا وهم : نابت ، وقيدار ، وأدبيل ، وميشام ، ومشمع ، ودوما ، ودوام ، ومشا ، وحدّاد ، وثيما ، ويطور ، ونافش ، وكل هؤلاء قد انسل.

وقبض اسماعيل وله مائة وسبع وثلاثون سنة ، فدفن في المسجد الحرام حيال الموضع الّذي فيه الحجر الأسود (٢).

وقال اليعقوبي : انّ ولد جرهم بن عامر لمّا صار إخوتهم من بني قحطان بن عامر (٣) الى اليمن فملّكوا ، صاروا هم الى أرض تهامة فجاوروا اسماعيل بن ابراهيم. فتزوج اسماعيل : الحنفاء بنت الحارث بن مضاض الجرهمي ، فولدت له اثني عشر ذكرا» ثمّ ذكر أسماءهم فقال «وهذه الأسماء تختلف في الهجاء واللغة لأنّها مترجمة من العبرانية» ثمّ قال : فلمّا كملت لإسماعيل مائة وثلاثون سنة توفي فدفن في الحجر.

فلمّا توفي اسماعيل ولي البيت بعده نابت بن اسماعيل. ثم افترق ولد اسماعيل فمنهم من افترق في البلاد يطلبون السعة وهم الكبار منهم ، وكان من بقي منهم في

__________________

(١) لا يخفى انّ هذا خلاف ما مرّ من خبر القمي في تفسيره عن الصادق عليه‌السلام ، وأنّ جرهم كانت نازلة بعرفات ، وأنّها أوّل من التقى بهاجر وسكن معها حول زمزم.

(٢) كذا في مروج الذهب ٢ : ١٩ ـ ٢١ وسيأتي الصحيح عن اليعقوبي انه دفن في الحجر ، ولذلك سمّي حجر اسماعيل ، لا حيال الحجر الأسود. ولعل الأسود زيادة تحريف من النساخ.

(٣) كذا ، وقد مرّ تأكيد المسعودي في نسب قحطان : أنّه قحطان بن عابر ، وأنّ جرهم هو ابن قحطان. وفي موضع آخر ان جرهم هو الجد الثامن للحارث بن مضاض الجرهمي الّذي نزل ببني جرهم بمكّة. وهو الصحيح الّذي يدلّ عليه ما مرّ من خبر علي بن ابراهيم القميّ عن الصادق عليه‌السلام ، في تفسيره : ١ : ٦١.

١٦٩

الحرم من ولد اسماعيل صغارا فولي البيت المضاض بن عمرو الجرهمي جدّ ولد اسماعيل. ولم يكن أحد يقوم بأمر الكعبة في ايام جرهم غير ولد اسماعيل وكانت جرهم في ايّامها تطيعهم ، تعظيما منهم لهم ومعرفة بقدرهم ، غير انّ ولد اسماعيل كانوا يسلمون ملك مكّة لجرهم للخؤولة.

فقام بأمر الكعبة بعد نابت أمين ثمّ يشجب بن أمين ثم الهميسع ثمّ ادد ثمّ عدنان بن ادد ثمّ معدّ بن عدنان ، ثمّ نزار بن معد ، ثم إياد (١) ثم خرجت ولاية البيت من أيديهم الى خزاعة (٢) ، وسنذكر خبره فيما يأتي. هذا ما قاله اليعقوبي بشأن الجمع بين ولاية البيت وملك مكّة.

وقال المسعودي : لمّا قبض اسماعيل قام بالبيت بعده نابت بن اسماعيل ، ثم غلبت جرهم على ولد اسماعيل من بعد نابت فقام بأمر البيت بعده اناس من جرهم : أوّلهم الحارث بن مضاض. وكان ينزل هناك في الموضع المعروف بقعيقعان في أعلى مكّة وكان كلّ من دخل مكّة بتجارة عشّرها عليه.

وكان السميدع بن هوبر بن لاوي بن قبطور بن كركر بن حيدان ينزل ببني كركر في أجياد من أسفل مكّة ، فأخذ يعشّر من دخل مكّة من ناحيته ، فنازع الحارث بن مضاض سلطانه.

فخرج الحارث بن مضاض ملك جرهم تتقعقع معه الرماح والدّرق ، فسمّي الموضع بقعيقعان لما ذكرنا ، وخرج السميدع ملك العماليق ومعه الجياد من الخيل ، فعرف الموضع بأجياد الى هذا الوقت. فكانت للعماليق وهم على جياد الخيل على جرهم ، فسمّي الموضع فاضحا الى هذا الوقت لفضيحة جرهم.

__________________

(١) اليعقوبي ١ : ٢٢١ ـ ٢٢٦.

(٢) اليعقوبي ١ : ٢٣٨ ، ومروج الذهب ٢ : ٢٩.

١٧٠

وصارت ولاية البيت وملك مكّة الى العماليق. ثمّ اصطلحوا ونحروا الجزر وطبخوا فسمّي الموضع ب (المطابخ) الى الآن (١).

ثمّ كانت بينهم وقعة اخرى كانت لجرهم على العماليق ، وأقاموا ولاة البيت نحو ثلاثمائة سنة ، آخر ملوكهم الحارث بن مضاض الأصغر بن عمرو ابن الحارث بن مضاض الأكبر ، وزادوا في بناء البيت ورفعوه على ما كان عليه من بناء ابراهيم عليه‌السلام (٢).

وقال اليعقوبي : انّ السميدع كان ملك العمالقة نازع المضاض سلطانه فلمّا ظهر عليه المضاض مضى السميدع والعمالقة الى الشام فكان هناك ملك العمالقة بالشام واستقام الأمر لمضاض حتّى توفي. ثمّ ملك بعده الحارث بن مضاض ، ثمّ ملك عمرو بن الحارث بن مضاض ، ثمّ ملك المعتسم بن الظليم ، ثمّ ملك الحواس بن جحش بن مضاض ، ثمّ ملك عداد بن صداد ابن الجندل بن مضاض ، ثمّ ملك فينحاص بن عداد بن صداد ، ثمّ ملك الحارث بن مضاض بن عمرو. وكان هذا آخر من ملك من جرهم. وطغت جرهم وبغت وفسقت في الحرم ، فسلّط الله عليهم الذّر فاهلكوا به عن آخرهم وذلك في عصر ادد بن الهميسع بن أمين من ذرية اسماعيل ، وكان ينكر على جرهم أفعالهم فلمّا هلكت عظم شأنه في قومه وجلّ قدره (٣).

وقال المسعودي : وبغت جرهم في الحرم وطغت ، حتّى فسق رجل منهم في الحرم يسمّى اساف ، بامرأة تدعى نائلة ، فمسخهما الله عزوجل حجرين صيّرا بعد

__________________

(١) ورواه ابن هشام في سيرته عن ابن اسحاق : ١ : ١١٧.

(٢) مروج الذهب ٢ : ٢٢ ـ ٢٣.

(٣) اليعقوبي ١ : ٢٢٢.

١٧١

ذلك وثنين وعبدا تقربا بهما الى الله تعالى. فبعث الله على جرهم الرعاف والنمل وغير ذلك من الآفات ، فهلك كثير منهم. وكثر ولد اسماعيل وصاروا ذوي قوة ومنعة فغلبوا على أخوالهم جرهم وأخرجوهم من مكّة فلحقوا بجهينة في موضع يقال له : أضم ، فأتاهم في بعض الليالي السيل فذهب بهم. وصارت ولاية البيت في ولد اياد بن نزار ابن معد ثمّ الى خزاعة. ثم الى قصي (١).

وقد روى الكليني في (فروع الكافي) عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّ جرهم غلبت بمكّة على ولاية البيت ، فكان يلي ذلك منهم كابر عن كابر ، حتّى بغوا واستحلّوا حرمتها وأكلوا مال الكعبة وظلموا من دخلها ، فلمّا بغوا وعتوا واستحلوا فيها بعث الله عزوجل عليهم الرعاف والنمل وأفناهم (٢).

نقل المجلسي ذلك في (البحار) ثمّ نقل عن الفيروزآبادي أنّ النملة هي قروح في الجنب كالنمل وبثور تخرج في الجسد بالتهاب واحتراق ثمّ يرمّ مكانها يسيرا ثم يدبّ الى موضع آخر كالنمل (٣).

وننتقل هنا الى ذكر خبر المدينة يثرب ، واتيان تبّان أسعد أبي كرب اليمني إليها وتهوده بها ومروره في رجوعه بمكّة ، ثمّ خبر أصحاب الاخدود باليمن ،

__________________

(١) مروج الذهب ٢ : ٢٣ ـ ٣١. وروى ابن هشام في سيرته عن ابن اسحاق : أنّ جرهما بغوا بمكّة واستحلوا حلالا من الحرمة ، فظلموا من دخلها من غير أهلها ، وأكلوا ما كان يهدى الى الكعبة من مال ، فلمّا رأى بنو كنانة وبنو خزاعة ذلك أجمعوا لحربهم واخراجهم من مكة ، فآذنوا بالحرب فاقتتلوا ، فغلبت كنانة وخزاعة على جرهم فنفوهم من مكّة فخرج عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي بغزالي الكعبة وبحجر الركن فدفنها في زمزم (ابن اسحاق في السيرة١ : ١١٩). ودفن زمزم (ابن اسحاق في السيرة: ١ : ١١٨). وانطلق هو ومن معه من جرهم الى اليمن ، فحزنوا على ما فارقوا من أمر مكّة حزنا شديدا (ابن اسحاق في السيرة١ : ١٢٠).

(٢) فروع الكافي ٤ : ٢١١.

(٣) وتجده كذلك في سائر كتب اللغة ومنها : المنجد.

١٧٢

ثمّ دخول الأحباش النصارى الى اليمن وأصحاب الفيل منهم ، ثمّ دخول الفرس المجوس إليها. ثمّ نرجع الى بقية أخبار مكّة والبيت الحرام وولاته ولا سيّما انتقال الأمر الى خزاعة ، وإنمّا قدّمنا هنا ما تقدم منها على خبر تبّان أسعد وأصحاب الفيل.

يثرب بين اليهود والأوس والخزرج :

نقلنا فيما مرّ رواية المسعودي في سبب انتشار العرب من اليمن بعد سيل العرم ، ونزول الأوس والخزرج يثرب «المدينة» وهنا ننقل خبر اليعقوبي في ذلك لما فيه من التفصيل الخاص بهذا الصدد : قال اليعقوبي : انّ تفرق أهل اليمن في البلاد وخروجهم عن ديارهم كان سبب سيل العرم ، وكان رئيس القوم عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد ، وكان كاهنا ، فتكهن أنّ بلاد اليمن تغرق ، فأظهر غضبه على بعض ولده وباع مرباعه وخرج هو وأهل بيته ، فصاروا الى بلاد «عك» ثم ارتحلوا الى «نجران» فحاربتهم مذحج ، ثم ارتحلوا عن نجران فمرّوا «بمكّة» وبها يومئذ «جرهم» فحاربوهم حتّى أخرجوهم عن البلد ، فصاروا الى «الجحفة» ثم ارتحلوا الى «يثرب» فتخلّف بها الأوس والخزرج ابنا حارثة ابن ثعلبة بن عمرو بن عامر ، ولحق بهما جماعة من الأزد من غير ابني حارثة فصاروا حلفاء لهم.

وكانت يثرب منازل اليهود ، وكانوا أكثر من الأزد والأوس والخزرج فغلبوهم وقهروهم ، حتّى كان الرجل من اليهود ليأتي منزل الأوسي أو الخزرجي أو الأزدي فلا يمكّنه دفعه عن ماله وأهله (١) ، وكان رجل يقال له «الفطيون» قد تملّك على اليهود فتملّك على الأزد والأوس والخزرج فسامهم سوء العذاب.

__________________

(١) اليعقوبي ١ : ٢٠٣ ، ونؤكّد أيضا ما قدّمناه في عنوان : مبدأ العرب : ١٠٧.

١٧٣

فخرج مالك بن العجلان الخزرجي الى تبّع أبي كرب تبّان أسعد بن ملكليكرب (١) فأعلمه بغلبة قريظة والنضير عليهم (٢) فسار أبو كرب اليمني إليهم بجيشه حتّى قتل من اليهود مقتلة عظيمة (٣) وخلّف فيهم ابنا له بين اظهرهم فقتله اليهود ، فزحف إليهم وحاربهم (٤).

وروى الطبري وابن هشام عن ابن اسحاق : أنّ تبّان أسعد قد أقبل من قبل المشرق على المدينة وخلّف بين أظهرهم ابنا له فقتل غيلة. فقدمها مرة أخرى لاستئصال اهلها وهدمها.

وكان في المدينة من أحبار اليهود حبران عالمان راسخان في العلم من بني قريظة أحدهما كعب والآخر أسد ، فلمّا سمعا بما يريده تبّان أسعد من هلاك أهل المدينة وهدمها جاءا إليه فقالا له : أيّها الملك! لا تفعل ذلك ، فانك ان أبيت الّا ما تريد حيل بينك وبينها ولم نأمن عليك عاجل العقوبة! فقال لهما : ولم ذلك؟ فقالا : هي مهاجر نبيّ يخرج من هذا الحرم من قريش في آخر الزمان تكون داره وقراره! فتناهى عند ذلك عمّا كان يريد بالمدينة.

وكان تبّع تبّان أسعد وقومه أصحاب أوثان يعبدونها ، فلمّا سمع منهما ذلك أعجبه فاتّبع دينهما اليهودية وانصرف عن المدينة واصطحبهما معه (٥).

وروى ابن شهرآشوب في (المناقب) عن ابن اسحاق : أن تبّع الأول لمّا سار في الآفاق فوصل الى مكّة فلم يعظّمه أهلها ، غضب عليهم ، فقال له وزيره

__________________

(١) تبّان أسعد اسم مركب كمعديكرب ، وتبّان من التبانة بمعنى الفطانة.

(٢) اليعقوبي ١ : ١٩٧.

(٣) اليعقوبي ١ : ٢٠٤.

(٤) اليعقوبي ١ : ١٩٧.

(٥) تهذيب ابن اسحاق في السيرة١ : ٢٠ والطبري ٢ : ١٠٥.

١٧٤

عمياريسا : انّهم جاهلون ومعجبون بهذا البيت! فعزم الملك على أن يخرّب البيت ، فأخذه الله بالصداع وبدأ ينزل من اذنيه وعينيه وأنفه وفمه ماء نتن ، وعجز أطباؤه عنه ، فلمّا أمسى جاء عالم من العلماء الّذين كانوا معه الى وزيره واستأذن منه على الملك ، فاستاذن له الوزير ، فلمّا خلا بالملك قال له : هل أنت نويت في هذا البيت أمرا؟ قال : أجل ، فقال العالم : تب من ذلك ولك خير الدنيا والآخرة! فقال : قد تبت ممّا كنت نويت. فعوفي في الساعة! فآمن بالله وبإبراهيم الخليل ، وخلع على الكعبة سبعة أثواب. وهو أول من كسا الكعبة.

ثمّ خرج الى يثرب ـ وهي أرض فيها عين ماء ـ فاعتزل أربعمائة عالم من الذين كانوا معه وجاءوا الى باب الملك وقالوا : انّا خرجنا من بلداننا وطفنا معك زمانا حتّى جئنا الى هذا المكان ، والآن نحن نريد المقام هنا الى آخر أعمارنا! فسألهم الوزير عن حكمة ذلك؟ قالوا : أيّها الوزير! انّ شرف البيت بمكة بشرف محمد صاحب القبلة إليها وصاحب القرآن والمنبر واللواء ، مولده بمكّة وهجرته الى هاهنا ، وإنّا على رجاء ان ندركه أو يدركه أولادنا! فلمّا سمع الملك ذلك أذن لهم وبنى لهم دورا (١).

وهذا الخبر وان لم يصرح بكون العلماء الذين كانوا مع تبّع اليمنيّ الأوّل يهودا فالظاهر منه أنّهم كانوا يهودا وأنّ نبأهم بمولد رسول الله ومهاجره كان من بشائر شريعة موسى عليه‌السلام وأيضا لم ينص الخبر على يهودية تبّع بل فيه أنّه لمّا تاب ممّا كان قد نواه من هدم البيت وعوفي آمن بالله وبابراهيم الخليل ، لكن يظهر من اصطحابه لعلماء اليهود مكرما لهم سامعا منهم أنّ المقصود بإيمانه بالله انّه كان قبل ذلك فاسقا غير مؤمن في العمل بدينه. وعلى هذا فهذا الخبر أكثر انسجاما مع

__________________

(١) المناقب ١ : ١٥ ط قم المقدسة.

١٧٥

ما أخبر به القرآن الكريم من سبق اليهودية الى اليمن على عهد بلقيس وسليمان وهم قبل تبّع بسبعة قرون تقريبا ، بينما الخبر المعروف في أكثر التواريخ بأن تبّع الأول كان أوّل من آمن باليهودية بدعوة علماء اليهود في مدينة يثرب وأنه أوّل من دعا أهل اليمن الى ذلك ، لا يوافق كتاب الله كما يأتي.

بل روى الصدوق عن ابن عباس انّه كان يقول : لا يشتبهنّ عليكم أمر تبّع فإنه كان مسلما ، وروي عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : إنّ تبّع قال للأوس والخزرج : كونوا هاهنا حتّى يخرج هذا النبي ، فأمّا أنا فلو أدركته لخدمته وخرجت معه (١).

وروى الطبرسي عن سهل بن سعد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : لا تسبّوا تبعا فإنّه كان قد أسلم (٢).

فقرّب النفر الّذين أشاروا عليه من هذيل فقطّع أيديهم وأرجلهم ، ثم مضى حتّى قدم مكّة ، فطاف بالبيت وحلق رأسه ، وأقام بمكّة ستة أيام ينحر بها للناس ويطعم أهلها ويسقيهم.

وأمره ولاة البيت من جرهم بتطهيره ، وأن لا يقرّبوه دما ولا ميتة ، وجعل له بابا ومفتاحا ، وكساه ثيابا يمنية. ثمّ خرج متوجها الى اليمن بمن معه من جنوده والحبرين.

فلمّا وصل الى اليمن دعا قومه الى الدخول في اليهودية. وكانت باليمن نار يتحاكمون إليها فيما يختلفون فيه ، فتأكل الظالم ولا تضرّ المظلوم. فأبوا عليه اليهودية حتّى يحاكموه الى النار. فخرج رجال من قومه بأوثانهم وما يتقرّبون به في دينهم حتّى قعدوا للنار عند مخرجها الّتي تخرج منه ، وخرج الحبران متقلّدين مصاحفهما في اعناقهما حتّى قعدوا عند مخرج النار ، فخرجت النار إليهم فأكلت الأوثان وما قربوا

__________________

(١) اكمال الدين : ١٦٨ ط النجف.

(٢) مجمع البيان ٩ : ٦٦ ، وبه قال البيضاوي في أنوار التنزيل ٢ : ٤١٩.

١٧٦

معها ومن حملها من رجال حمير ، ولمّا أقبلت نحو الحبرين هابوها وحادوا عنها ، فذمرهم من حضرهم من الناس وأمروهم بالصبر لها ، فصبروا حتّى غشيتهم ، وخرج الحبران بمصاحفهما في أعناقهما تعرق جباههما ولم تضرّهما. فأجمعت عند ذلك حمير على اليهودية.

فكذلك كان أصل اليهودية باليمن (١).

ولا يظهر من خبر تبّع تبّان أسعد بن كليكرب هذا وتهود اليمن معه أكان قبل نسخ اليهودية بشريعة عيسى عليه‌السلام أو بعد ذلك ، الّا انّه كان بعد بلقيس وسليمان بن داود ـ وهو من أنبياء بني اسرائيل بعد موسى ـ كان بعدهم بسبعة قرون تقريبا كما في التواريخ ، وبعد تبّع تبّان أسعد هذا بمدة غير قصيرة استولى على اليمن الثالث من أولاده بعد حسّان وعمرو : زرعة ابن تبّان أسعد ، يكنى ذا نؤاس ، وشاع أتباع دين المسيح عليه‌السلام على عهده في مدينة نجران ، فجعل يطلبهم ويحرّقهم بالاخدود. وروى ابن هشام عن ابن اسحاق (٢) والطبري عنه وعن الكلبي (٣) : انّ زرعة ذا نؤاس تهوّد فتسمّى يوسف والتبس هذا على المسعودي فذكره : يوسف ذو نؤاس بن زرعة (٤).

__________________

(١) تهذيب ابن اسحاق في السيرة٢٠ ، ٢١. والطبري ٢ : ١٠٥ ـ ١٠٨ كذا ، وتبّع هذا هو الملك العشرون من ملوك اليمن المعروفين المعدودين في كتب التاريخ ، والعاشر هي بلقيس ثمّ سليمان بن داود ثم ابنه أرحبعم بن سليمان. وسليمان من أنبياء بني اسرائيل من بعد موسى ، والبعد الزمني بين بلقيس وسليمان وتبّع هذا حسب كتب التأريخ سبعة قرون تقريبا ، ومعنى هذا أنّ اليمن كانت مسبوقة باليهودية كما حكى القرآن الكريم (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) (النمل : ٢٤) لا الأوثان والعجب ان لم اجد من المؤرخين من تنبّه لذلك أو تعرض له.

(٢) ابن اسحاق في السيرة١ : ٣١ ، ٣٢.

(٣) الطبري ٢ : ١١٩.

(٤) مروج الذهب ٢ : ٥٢.

١٧٧

أصحاب الاخدود :

روى القميّ في تفسيره بسنده عن عطاء عن ابن عباس : أنّ ذا نؤاس ـ وهو آخر من ملك اليمن من حمير ـ تهوّد ، واجتمعت معه حمير على اليهودية ، وسمّى نفسه يوسف ، وأقام على ذلك حينا من الدهر. ثمّ أخبر أنّ بنجران بقايا قوم على دين النصرانية ، وكانوا على دين عيسى عليه‌السلام وعلى حكم الانجيل ورأس ذلك الدين : عبد الله بن بريا (١) فحمله أهل دينه على ان يسير إليهم ويحملهم على اليهودية

__________________

(١) تفسير القميّ : ٢ : ٤١٤. وروى العياشي في تفسيره بإسناده عن جابر عن الامام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : أرسل علي عليه‌السلام الى اسقف نجران يسأله عن أصحاب الاخدود ، فأخبره بشيء : فقال عليه‌السلام : ليس كما ذكرت ، ولكن سأخبرك عنهم : انّ الله بعث رجلا حبشيا نبيّا ـ وهم حبشية ـ فكذبوه فقاتلهم فقتلوا أصحابه وأسروهم وأسروه ثمّ بنوا له حيرا ثم ملئوه نارا ، ثمّ جمعوا الناس فقالوا : من كان على ديننا وأمره فليعتزل ، ومن كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النار! فجعل أصحابه يتهافتون في النار! فجاءت امرأة معها صبيّ لها ابن شهر ، فلمّا هجمت هابت ورقّت على ابنها ، فنادى الصبيّ لا تهابي وارميني ونفسك في النار ، فانّ هذا ـ والله ـ في الله قليل! فرمت بنفسها في النار وصبيّها.

رواه العلامة الطباطبائي في تفسيره ثم قال : ورواه السيوطي في الدر المنثور عن علي عليه‌السلام بطريقين وعن الحسن عليه‌السلام أيضا (الميزان ٢٠ : ٢٥٧).

وروى ذيل الخبر عن المرأة وطفلها المسعودي في (مروج الذهب ٢ : ٧٨).

وروى الطبرسي في (مجمع البيان) عن سعيد بن جبير : أنّ اهل اسفندهان كانوا مجوسا فلمّا انهزموا قال عمر : ما هم يهود ولا نصارى فليسوا من أهل الكتاب. فقال علي عليه‌السلام : بلى قد كان لهم كتاب رفع ، وذلك أنّ ملكا لهم سكر فوقع على ابنته أو قال : على اخته فلمّا أفاق قال لها : كيف المخرج ممّا وقعت فيه؟ قالت : تجمع أهل مملكتك وتخبرهم أنّك ترى نكاح البنات وتأمرهم أن يحلّوه! فجمعهم فأخبرهم! فأبوا أن يتابعوه ، فخدّ لهم اخدودا في الأرض ، وأوقد فيه النيران وعرضهم عليها فمن أبى قبول ذلك قذفه في النار ، ومن أجاب خلّى سبيله. رواه الطباطبائي ... في (الميزان ٢٠ : ٢٥٦) ثمّ قال ورواه السيوطي في (الدر المنثور).

١٧٨

ويدخلهم فيها ، فسار حتّى قدم نجران ، فجمع من كان بها على دين النصرانية ثمّ عرض عليهم دين اليهودية والدخول فيها ، فأبوا عليه ، فجادلهم وحرص الحرص كله فأبوا عليه وامتنعوا من اليهودية والدخول فيها واختاروا القتل فخدّ لهم اخدودا جعل فيه الحطب وأشعل فيه النار ، فمنهم من أحرق بالنار ومنهم من قتل بالسيف ، ومثّل بهم كلّ مثلة. فبلغ عدد من قتل وأحرق بالنار عشرين الفا.

وأفلت منهم رجل يدعى دوس ذو ثعلبان على فرس له (١). ـ أو جبار ، أو حيار ، أو حيّان ، ابن فيض ، أو قيض (٢) ـ حتّى قدم على صاحب الروم فأخبره بما بلغ ذو نؤاس منهم ، واستنصره عليه. فقال له قيصر : بعدت بلادك من بلادنا ونأت

__________________

وقيل : انّ الذين خدّوا الاخدود ثلاثة : تبّع صاحب اليمن ، وقسطنطين بن هلائي حين صرف النصارى عن التوحيد الى عبادة الصليب ، ونبوخذنصر ملك بابل حين ادعى الربوبية وأمر الناس أن يسجدوا له فامتنع دانيال وأصحابه ، فألقاهم في النار! نقله محققو ابن اسحاق في السيرة١ : ٣٢.

واحتمل التعدد العلامة الطباطبائي في تفسيره (الميزان ٢ : ٢٥٧).

وقال السيد هاشم الحسني في كتابه (سيرة المصطفى : ٢٢) «ذلك ـ ويقصد به خبر اخدود اليمني ـ جاء في بعض التفاسير ولكن لا تؤكده التفاسير الموثوقة ، وليس بعيدا أن يكون من الاسرائيليات التي أدخلها كعب الأحبار وأمثاله».

من هنا يظهر انّ السيد الحسني سامحه الله لم يحسن النظر في روايات أخبار القصّة ، والّا فليس في طريق أيّ رواية من أخبارها كعب الأحبار وأمثاله ، نعم احدى روايات ابن اسحاق تنتهي الى وهب بن منبّه اليماني ، وهو مثل كعب الأحبار ، ولكنّ هذا الخبر لا يتناسب أن يعدّ من الاسرائيليات ، فانّه ليس لصالح بني اسرائيل واليهود بل لصالح النصارى على اليهود ، فكيف يكون من الإسرائيليات؟!

(١) تفسير القميّ ٢ : ٤١٤.

(٢) الطبري ٢ : ١٣٧.

١٧٩

عنّا ، فلا نقدر على ان نتناولها بالجنود ، ولكنّي سأكتب لك الى ملك الحبشة ـ فانّه على هذا الدين وهو أقرب الى بلادكما منّا ـ فينصرك. وكتب معه قيصر الى ملك الحبشة يأمره بنصرهم على من بغى عليهم. هذا على رواية ابن اسحاق (١).

وعلى رواية هشام الكلبي : قدم على ملك الحبشة رأسا ، ومعه إنجيل قد أحرقت النار بعضه ، فأعلمه ما ركبه ذو نؤاس منهم. فقال له : الرجال عندي كثير وليست عندي سفن ، وأنا كاتب الى قيصر أن يبعث إليّ بسفن أحمل فيها الرجال. فكتب الى قيصر بذلك وبعث إليه بالإنجيل المحرّق. فبعث إليه قيصر بسفن كثيرة (٢).

فوجّه النجاشي الى اليمن أربعة آلاف رجل عليهم أرياط بن أصحمة (٣) فعبرت الحبشة الى اليمن من بلاد ناصع والزّيلع ـ وهو ساحل الحبشة ـ الى بلاد غلافقة من ساحل زبيد من أرض اليمن (٤) وعرض البحر بين الساحلين : مسيرة ثلاثة أيام ، وهو أقل المواضع في البحر عرضا ، وبين الساحلين جزيرة الى جانب الحبشة تسمّى سقطرة ، واخرى الى جانب اليمن تسمّى العقل (٥).

فسار إليهم ذو نؤاس ، فلمّا التقوا افترق قومه وانهزموا بعد حروب طويلة ، فلمّا رأى ذو نؤاس ضرب فرسه فاقتحم به البحر فأغرق نفسه خوفا من العار (٦).

__________________

(١) الطبري ٢ : ١٢٤.

(٢) الطبري ٢ : ١٢٤.

(٣) الطبري ٢ : ١٣٢ بخمسة أسانيد عن ابن عباس وعطاء بن يسار وغيرهما. وذكر العدد عن الكلبي وابن اسحاق سبعين ألفا والأول أوفق بوسائط النقل القديمة قطعا ، والثاني أبعد جدا. أما الاسم : أرياط بن أصحمة ، فهو كما في تهذيب ابن اسحاق في السيرة١ : ٢٤ ومروج الذهب ٢ : ٥٢ ، وفي اليعقوبي ١ : ٢٠٠ : أرياط فقط.

(٤) مروج الذهب ٢ : ٥٢.

(٥) مروج الذهب ٢ : ٥٢.

(٦) تهذيب ابن اسحاق في السيرة١ : ٢٤ واليعقوبي ١ : ١٩٩ ومروج الذهب ٢ : ٥٢.

١٨٠