أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٧
هو بالمماسّة. فلا يجوز لأحد أن يزيد على ذلك شيئا ومن زاد على هذا شيئا فقد قفا ما لا علم له به وهو حرام لا يحل ، قال عزوجل : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [سورة الإسراء : ٣٦]. وهذه أمور لا يمكن أن تعرف البتة إلا بخبر صحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا خبر عنه عليهالسلام بغير ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق. فصح أن الشيطان يمس الإنسان الذي يسلطه الله عزوجل عليه مسّا كما جاء في القرآن ، ويثير به من طبائعه السوداء والأبخرة المتصاعدة إلى الدماغ كما يخبر به عن نفسه كل مصروع بلا خلاف ، فيحدث الله عزوجل له الصرع والتخبط حينئذ كما نشاهده ، وهذا هو نص القرآن وما توجبه المشاهدة ، وما زاد على هذا فخرافات من توليد العزّامين والكذابين وبالله تعالى نتأيد.
وأما قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن الشّمس تطلع ومعها قرن الشّيطان ، فإذا ارتفعت فارقها ، فإذا استوت قارنها ، فإذا زالت فارقها وإذا جنحت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها» ونهى عن الصلاة في هذه الأوقات (١).
أو كما قال عليهالسلام مما هذا معناه بلا شك. فقد قلنا إنه عليهالسلام لا يقول إلا بالحق وأن كلامه كله على ظاهره ، إلا أن يأتي نص بأنّ هذا النص ليس على ظاهره فنسمع ونطيع ، أو يقوم بذلك برهان من ضرورة حسّ ، أو أول عقل ، فنعلم أنه عليهالسلام إنما أراد ما قد قام بصحته البرهان لا يجوز غير ذلك. وقد علمنا يقينا أن الشمس في كل دقيقة طالعة على أفق من الآفاق ، مرتفعة على آخر ، مستوية على ثالث ، زائلة عن رابع ، جانحة للغروب على خامس ، غاربة على سادس.
هذا ما لا شك فيه عند كل ذي علم بالهيئة ، فإذ ذلك كذلك فقد صح يقينا أنه عليهالسلام إنما عنى بذلك أفقا ما دون سائر الآفاق لا يجوز غير ذلك ، إذ لو أراد كل أفق لكان الإخبار بأنه يفارقها كذبا ، وحاشى له من ذلك ، فإذ لا شك في هذا كله فلا مرية في أنه عليهالسلام إنما عنى به أفق المدينة ، وهو الأفق الذي أخبر أهله بهذا الخبر ، فأنبأهم بما يقارن الشمس في تلك الأحوال وما يفارقها من الشيطان ، والله عزوجل أعلم بذلك القرن ما هو ، لا نزيد على هذا إذ لا بيان عندنا فيما بينه. إلا أنه ليس شيء من ذلك بممتنع أصلا ، فصح بما ذكرنا أن أول الخبر خاص كما وصفنا ،
__________________
(١) رواه النسائي في المواقيت باب ٣١. وابن ماجة في الإقامة باب ١٤٨. ومالك في القرآن (حديث ٤٤). وأحمد في المسند (٤ / ٣٤٨ ، ٣٤٩).
وأن نهيه عليهالسلام عن الصلاة في تلك الأوقات قضية أخرى وقضية ثانية وحكم غير الأول ، فهو على عمومه في كل زمان وكل مكان ، إلا ما قام البرهان على تخصيصه من هذا الحكم بنص آخر كما بينا في غير هذا الكتاب في كتب الصلاة من تواليفنا والحمد لله رب العالمين كثيرا.
الكلام في الطبائع
قال أبو محمد : ذهبت الأشعرية إلى إنكار الطبائع جملة ، وقالوا : ليس في النار حرّ ولا في الثلج برد ، ولا في العالم طبيعة أصلا ، وقالوا : إنما حدث حرّ النار جملة وبرد الثلج عند الملامسة. قالوا : ولا في الخمر طبيعة إسكار ، ولا في المنيّ قوة يحدث بها ما يحدث منه ، ولكن الله تعالى يخلق منه ما شاء ، وقد كان ممكنا أن يحدث من منيّ الرجل جمل ، ومن منيّ الحمار إنسان ، ومن زريعة الكرم نخل.
قال أبو محمد : ما نعلم لهم حجة شغبوا بها في هذا الهوس أصلا ، وقد ناظرت بعضهم في ذلك فقلت له : إن للغة التي نزل بها القرآن تبطل قولكم لأن من لغة العرب القديمة ذكر الطبيعة والخليقة والسليقة ، والنحيزة ، والغريزة والسجية والشيمة ، والجبلة ، ولا يشك ذو علم في أن هذه الألفاظ استعملت في الجاهلية ، وسمعها النبي صلىاللهعليهوسلم فلم ينكرها قط ، ولا أنكرها أحد من الصحابة رضي الله عنهم ولا أحد ممن بعدهم ، حتى حدث من لا يعتد به.
وقد قال امرؤ القيس :
وإن كنت قد ساءتك منّي خليقة |
|
فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل(١) |
وقال حميد بن ثور الهلالي الكندي :
لكل امرئ يا أم عمرو طبيعة |
|
وتفرق ما بين الرجال الطبائع(٢) |
وقال النابغة :
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم |
|
من الجود والأحلام غير عوازب(٣) |
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم للجارود إذ أخبره أن فيه الحلم والأناة ، فقال له الجارود الله
__________________
(١) البيت في ديوان امرئ القيس (ص ١٣) وأساس البلاغة (ثوب) وكتاب الجيم (٧ / ٢٥٧) ولسان العرب (١ / ٢٤٦ ـ مادة ثوب) و (٩ / ٣٣٧ ـ مادة نظف) وتاج العروس (٢ / ١١١ ـ مادة ثوب).
(٢) لم أجد البيت في ديوان حميد بن ثور المطبوع.
(٣) البيت في ديوان النابغة (ص ٤٩ ـ طبعة تونس).
جبلني عليهما يا رسول الله أم هما كسب؟ فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «بل الله جبلك عليهما» (١).
ومثل هذا كثير ، وكل هذه الألفاظ أسماء مترادفة لمعنى واحد عندهم ، وهو قوة في الشّيء يوجد بها على ما هو عليه ، فاضطرب ولجأ إلى أن قال أقول بهذا في الناس خاصة ، فقلت له : وأنّى لك بالتخصيص وهذا موجود بالحس وببديهة العقل في كل مخلوق في العالم؟ فلم يكن عنده تمويه.
قال أبو محمد : وهذا المذهب الفاسد حداهم على أن سمّوا ما يأتي به الأنبياء عليهمالسلام من الآيات المعجزات خرق عادة ، لأنهم جعلوا امتناع شق القمر ، وشق البحر ، وامتناع إحياء الموتى ، وإخراج ناقة من صخرة وسائر معجزاتهم إنما هي عادات فقط.
قال أبو محمد : معاذ الله من هذا ولو كان ذلك عادة لما كان فيها إعجاز أصلا ، لأن العادة في لغة العرب : الدأب والديدن والديدان ألفاظ مترادفة على معنى واحد ، وهي ما كثر استعمال الإنسان له مما لا يؤمن من تركه إياه ، ولا ينكر زواله عنده بل هو ممكن وجود غيره ومثله ، بخلاف الطبيعة التي الخروج عنها ممتنع ، فالعادة هي استعمال العرب للعمامة والتّلحي ، وحمل القناة ، وكحمل بعض الناس القلنسوة ، وكاستعمال بعضهم حلق الشعر ، وبعضهم توفيره. قال الشاعر :
تقول وقد درأت لها وضيني |
|
أهذا دينه أبدا وديني |
(٢) وقال آخر :
ومن عاداته الخلق الكريم
وقال آخر :
قد عوّد الطير عادات وثقن بها |
|
فهنّ يصحبنه في كلّ مرتحل |
وقال آخر :
عوّدت نفسك عادة فاصبر لها
وقال آخر :
وشديد عادة منتزعه
__________________
(١) رواه أبو داود في الأدب باب ١٤٩ ، وابن ماجة في الزهد باب ١٨ ، وأحمد في المسند (٤ / ٢٠٦).
(٢) الرجز للمثقب العبدي يذكر ناقته. ويروى البيت الأول : «تقول إذا درأت لها وضيني». انظر لسان العرب (١٣ / ١٦٩ ـ مادة دين).
فذكر أن انتزاع العادة يشتد ، إلّا أنه ممكن غير ممتنع ، بخلاف إزالة الطبيعة التي لا سبيل إليها. وربما وضعت العرب لفظة العادة مكان لفظة الطبيعة كما قال حميد بن ثور الهلالي :
سل الرّبع أنّى يمّمت أم سالم |
|
وهل عادة للرّبع أن يتكلّما |
قال أبو محمد : وكل هذه الطبائع والعادات مخلوقة ، خلقها الله عزوجل فرتّب الطبيعة على أنها لا تستحيل أبدا ، ولا يمكن تبدّلها عند كلّ ذي عقل كطبيعة الإنسان بأن يكون له التصرف في العلوم والصناعات إن لم تعترضه آفة ، وطبيعة الحمر والبغال بأن ذلك غير ممكن منها ، وكطبيعة البرّ ألّا ينبت شعيرا ولا جوزا ، وهكذا في كل ما في العالم ، والقوم مقرون بالصفات وهي الطبيعة نفسها ، لأن من الصفات المحوّلة في الموصوف ما هو ذاتي لا يتوهم زواله إلّا بفساد حامله وسقوط الاسم عنه كصفات الخمر التي إن زالت عنها صارت خلًّا وبطل اسم الخمر عنها ، وكصفات الخبز واللحم التي إذا زالت عنهما صارت زبلا ، وسقط اسم الخبز واللحم عنهما ، وهكذا كل شيء له صفة ذاتية ، فهذه هي الطبيعة.
ومن الصفات المحمولة في الموصوف ما لو توهم زواله عنه لم يبطل حامله ، ولا فارقه اسمه ، وهذا القسم ينقسم أقساما ثلاثة ، فأحدها ممتنع الزوال كالعطس ، والقصر ، والزّرق وسواد الزنجي ونحو ذلك ، إلا أنه لو توهم زائلا لبقي الإنسان إنسانا بحاله. وثانيها بطيء الزوال كالمردة وسواد الشعر ، وما أشبه ذلك ، وثالثها : سريع الزوال كحمرة الخجل وصفرة الوجل ، وكمدة الهم ونحو ذلك. فهذه هي حقيقة الكلام في الصفات ، وما عدا ذلك فطريق السوفسطائية الذين لا يحققون حقيقة ونعوذ بالله من الخذلان.
نبوة النساء
قال أبو محمد : هذا فصل لا نعلمه حدث التنازع العظيم فيه إلا عندنا بقرطبة في زماننا ، فإن طائفة ذهبت إلى إبطال كون النبوة في النساء جملة وبدّعت من قال ذلك.
وذهبت طائفة إلى القول بأنه قد كانت في النساء نبوة ، وذهبت طائفة إلى التوقف في ذلك.
قال أبو محمد : ما نعلم للمانعين من ذلك حجة أصلا ، إلا أن بعضهم نزع في ذلك بقول الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) [سورة النحل : ٤٣].
قال أبو محمد : وهذا أمر لا ينازعون فيه ولم يدّع أحد أن الله أرسل امرأة ، وإنما الكلام في النبوة دون الرسالة ، فوجب طلب الحق في ذلك بأن ننظر في معنى لفظة النبوة في اللغة التي خاطبنا الله بها عزوجل ، فوجدنا هذه اللفظة مأخوذة من الإنباء وهو الإعلام ، فمن أعلمه الله عزوجل بما يكون قبل إنى كون أو أوحى إليه منبئا له بأمر ما فهو نبي بلا شك ، وليس هذا من باب الإلهام الذي هو طبيعة لقول الله تعالى : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [سورة النحل : ٦٨].
ولا من باب الظن والتوهم الذي لا يقطع بحقيقته إلا مجنون ، ولا من باب الكهانة التي هي من استراق الشياطين السمع من السماء فيرمون بالشهب الثواقب ، وفيه يقول الله تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) [سورة الأنعام : ١١٢]. وقد انقطعت الكهانة بمجيء رسول الله صلىاللهعليهوسلم. ولا من باب النجوم التي هي تجارب تتعلم ، ولا من باب الرؤيا التي لا يدرى أصدقت أم كذبت ، بل الوحي الذي هو النبوة قصد من الله تعالى إلى إعلام من يوحي إليه بما يعلمه به ، ويكون عند الموحى به إليه حقيقة خارجة عن الوجوه المذكورة ، يحدث الله عزوجل لمن أوحى به إليه علما ضروريا صحة ما أوحى به كعلمه بما أدرك بحواسه وبديهة عقله سواء سواء ، لا مجال للشك في شيء منه إما بمجيء الملك إليه به ، وإما بخطاب يخاطب به في نفسه وهو تعليم من الله تعالى لمن يعلمه دون وساطة معلم. فإن أنكروا أن يكون هذا هو معنى النبوة فليعرّفونا ما معناها ، فإنهم لا يأتون بشيء
أصلا. فإذ ذلك كذلك فقد جاء القرآن بأن الله تعالى عزوجل أرسل ملائكة إلى نساء فأخبروهن بوحي حق من الله تعالى ، فبشروا أم إسحاق بإسحاق عن الله تعالى قال عزوجل : (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) [سورة هود : ٧١ ـ ٧٣].
فهذا خطاب الملائكة لأم إسحاق عن الله عزوجل بالبشارة لها بإسحاق ، ثم يعقوب ، ثم بقولهم لها : أتعجبين من أمر الله ....؟ ولا يمكن البتة أن يكون هذا الخطاب من ملك لغير نبي بوجه من الوجوه ، ووجدناه تعالى قد أرسل جبريل إلى مريم أم عيسى عليهماالسلام فخاطبها وقال لها : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) [سورة مريم : ١٩].
فهذه نبوة صحيحة بوحي صحيح ورسالة من الله تعالى إليها. وكان زكريا عليهالسلام يجد عندها من الله رزقا واردا تمنى من أجله ولدا فاضلا ، ووجدنا أم موسى عليهماالسلام قد أوحى الله إليها بإلقاء ولدها في اليمّ ، وأعلمها بأنه سيرده إليها ويجعله نبيا مرسلا ، فهذه نبوة صحيحة لا شك فيها. وبضرورة العقل يدري كل ذي تمييز صحيح أنها لو لم تكن واثقة بنبوة الله عزوجل لها لكانت بإلقائها ولدها في اليم برؤيا تراها أو بما يقع في نفسها أو قام في هاجسها في غاية الجنون والمرار الهائج ، ولو فعل ذلك أحدنا لكان في غاية الفسق ، أو في غاية الجنون مستحقا لمعافاة دماغه في المارستان لا يشك في هذا أحد ، فصح يقينا أن الوحي الذي ورد لها في إلقاء ولدها في اليم كالوحي الوارد على إبراهيم في الرؤيا في ذبح ولده ، فإن إبراهيم عليهالسلام لو لم يكن نبيا واثقا بصحة الوحي والنبوة الواردة عليه في ذبح ولده ، لكنه ذبح ولده لرؤيا رآها أو ظن وقع في نفسه ، لكان بلا شك فاعل ذلك من غير الأنبياء فاسقا في نهاية الفسق ، أو مجنونا في غاية الجنون ، هذا ما لا يشك فيه أحد من الناس ، فصحّت نبوتهن بيقين. ووجدنا الله تعالى قد قال وقد ذكر من الأنبياء عليهمالسلام في سورة كهيعص ، وذكر مريم في جملتهم ثم قال عزوجل : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) [سورة مريم : ٥٨].
وهذا هو عموم لها معهم لا يجوز تخصيصها من جملتهم. وليس قوله عزوجل : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [سورة المائدة : ٧٥] بمانع من أن تكون نبية فقد قال تعالى : (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) [سورة يوسف : ٤٦] وهو مع ذلك نبي رسول الله وهذا ظاهر وبالله
التوفيق. ويلحق بهن عليهن السلام في ذلك امرأة فرعون بقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «كمل من الرّجال كثير ولم يكمل من النّساء إلّا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» (١). أو كما قال عليهالسلام. والكمال في الرجال لا يكون إلا لبعض المرسلين عليهمالسلام لأن من دونهم ناقص عنهم بلا شك ، وكان تخصيصه صلىاللهعليهوسلم بالكمال مريم وامرأة فرعون تفضيلا لهما على سائر من أوتيت النبوة من النساء بلا شك إذ من نقص عن منزلة آخر ولو بدقيقة لم يكمل ، فصح بهذا الخبر أن هاتين المرأتين كملتا كمالا لم يلحقهما معه امرأة غيرهن أصلا ، وإن كن بنصوص القرآن نبيّات وقد قال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) [سورة البقرة : ٢٥٣].
فالكامل في نوعه هو الذي لا يلحقه أحد من أهل نوعه ، فهم من الرجال الرسل الذين فضلهم الله تعالى على سائر الرسل ، ومنهم نبينا محمّد وإبراهيم عليهما الصلاة السلام بلا شك للنصوص الواردة فيهما بذلك في فضلهما على غيرهما ، وكل من النساء من ذكر عليه الصلاة والسلام.
__________________
(١) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء باب ٣٢ و ٤٦ ، وفضائل الصحابة باب ٣٠ ، والأطعمة باب ٢٥. ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٧٠. والترمذي في الأطعمة باب ٤١. وابن ماجة في الأطعمة باب ١٤. وأحمد في المسند (٤ / ٣٩٤ ، ٤٠٩).
الكلام في الرؤيا
قال أبو محمد : ذهب صالح قبة تلميذ النظام ، إلى أن الذي يرى أحدنا في الرؤيا حق كما هو ، وأنه من رأى أنه بالصين وهو بالأندلس ، فإن الله عزوجل اخترعه في ذلك الوقت بالصين.
قال أبو محمد : وهذا القول في غاية الفساد ، لأن العيان والعقل يضطران إلى كذب هذا القول ويبطلانه ، أما العيان فإننا نشاهد حينئذ هذا النائم عندنا وهو يرى نفسه في ذلك الوقت بالصين ، وأما من طريق العقل فهو معرفتنا بما يرى الحالم من المحيلات من كون مقطوع الرأس حيا وما أشبه ذلك ، وقد صح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنّ رجلا قصّ عليه رؤيا فقال : «لا تخبر بتلاعب الشيطان بك (١)».
قال أبو محمد : والقول الصحيح في الرؤيا هو أنها أنواع ، فمنها : ما يكون من قبل الشيطان وهو ما كان من الأضغاث والتخليط الذي لا ينضبط ، ومنها ما يكون من حديث النفس ، وهو ما يشتغل به المرء في اليقظة فيراه في النوم من خوف عدوّ أو لقاء حبيب ، أو خلاص من خوف أو نحو ذلك ، ومنها ما يكون من قبل الطبع كرؤية من غلب عليه الدم للأنوار ، والزهور ، والخمرة ، والسرور ، ورؤية من غلبت عليه الصّفراء للنيران ، ورؤية صاحب البلغم للثلوج والمياه ، وكرؤية من غلبت عليه السوداء للكهوف وللظلم والمخاوف. ومنها ما يريه الله عزوجل نفس الحالم ، إذا صفت من أكدار الجسد وخلصت من الأفكار الفاسدة ، فيشرف الله عزوجل به على كثير من المغيبات التي لم تأت بعد ، وعلى قدر تفاضل النفس في النقاء والصفاء يكون تفاضل ما تراه في الصدق ، وقد جاء عن النبي صلىاللهعليهوسلم «أنّه لم يبق بعده من النّبوة ، إلى جزء من ستّة وأربعين من النّبوة إلى جزء من سبعين جزءا من النّبوّة» (٢). وهذا نص جليّ على ما
__________________
(١) رواه مسلم في الرؤيا حديث ١٢ و ١٤ و ١٥. وابن ماجة في الرؤيا باب ٥. وأحمد في المسند (٣ / ٣٥٠).
(٢) روي الحديث في الصحاح بألفاظ وطرق مختلفة منها ما رواه البخاري في التعبير باب ٢
ذكرنا من تفاضلها في الصدق والوضوح والصفاء من كل تخليط ، وقد تخرّج هذه النسب والأقسام ، على أنه عليهالسلام إنما أراد بذلك رؤيا الأنبياء عليهمالسلام ، فمنهم من رؤياه جزء من ستة وعشرين جزءا من أجزاء نبوته وخصائصه وفضائله ، ومنهم من رؤياه جزء من سبعين جزءا من نبوته وخصائصه وفضائله ، وهذا هو الأظهر والله أعلم ، ويكون خارجا على مقتضى ألفاظ الحديث بلا تأويل يتكلف. وأما رؤيا غير الأنبياء فقد تكذب وقد تصدق ، إلا أنه لا يقطع على صحة شيء منه إلا بعد ظهور صحته ، حاشى رؤيا الأنبياء فإنها كلها وحي مقطوع على صحته ، كرؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ولو رأى ذلك غير نبي في الرؤيا فأنفذه في اليقظة لكان فاسقا عابثا ، أو مجنونا ذاهب التمييز بلا شك ، وقد تصدق رؤيا الكافر ولا تكون حينئذ جزءا من النبوة ولا مبشرات ولكن إنذارا له أو لغيره ووعظا وبالله تعالى التوفيق.
__________________
(حديث ٦٩٨٣) عن أنس بن مالك بلفظ : «الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستّة وأربعين جزءا من النبوّة» ورواه أيضا برقم (٦٩٩٤) بلفظ : «من رآني في المنام فقد رآني ، فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي. ورؤيا المؤمن جزء من ستّة وأربعين جزءا من النبوّة». ورواه في التعبير باب ٢٦ (حديث ٧٠١٧) عن أبي هريرة بلفظ : «إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب رؤيا المؤمن ، ورؤيا المؤمن جزء من ستّة وأربعين جزءا من النبوة ، وما كان من النبوّة فإنه لا يكذّب». ورواه في الرؤيا (حديث رقم ٦٩٨٧) عن عبادة بن الصامت بلفظ : «رؤيا المؤمن جزء من ستّة وأربعين جزءا من النبوّة». وجاء أيضا بألفاظ أخرى. ورواه مسلم في الرؤيا حديث ٦ ـ ٩. وأبو داود في الأدب باب ٢ و ٨٨. والترمذي في البر والصلة باب ٦٦ ، والرؤيا باب ١ و ٢ و ٦ و ١٠. وابن ماجة في الرؤيا باب ١. والدارمي في الرؤيا باب ٢. ومالك في الشعر حديث ١٧ ، والرؤيا حديث ١ و ٣. وأحمد في المسند (١ / ٢٩٦ ، ٣١٥ ، ٢ / ١٨ ، ٥٠ ، ١١٩ ، ١٢٢ ، ١٣٧ ، ٢١٩ ، ٢٣٢ ، ٢٣٣ ، ٢٦٩ ، ٣٤٢ ، ٣٦٩ ، ٤٣٨ ، ٤٩٥ ، ٥٠٧ ، ٣ / ١٠٦ ، ١٢٦ ، ١٤٩ ، ١٨٥ ، ٢٦٧ ، ٢٦٩ ، ٣٤٢ ، ٤ / ١٠ ، ١١ ، ١٢ ، ١٣ ، ٥ / ٣١٦ ، ٣١٩).
أيّ الخلق أفضل
قال أبو محمد : ذهب قوم إلى أن الأنبياء عليهمالسلام أفضل من الملائكة ، وذهبت طائفة تنتسب إلى الإسلام أن الصالحين غير النبيين أفضل من الملائكة. وذهب بعضهم إلى أن الوليّ أفضل من النبي ، وأنه يكون في هذه الأمة من هو أفضل من عيسى ابن مريم ، ورأيت الباقلاني يقول : جائز أن يكون في هذه الأمة من هو أفضل من رسول الله صلىاللهعليهوسلم من حين بعث إلى أن مات ، ورأيت لأبي هاشم الجبائي : أنه لو طال عمر إنسان من المسلمين في الأعمال الصالحة لأمكن أن يوازي عمل النبي صلىاللهعليهوسلم.
قال أبو محمد : ولو لا أنه استحيى قليلا مما لم يستحيي منه نظيره الباقلاني لقال ما يوجبه هذا القول من أنه كان يزيد فضلا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
قال أبو محمد : وهذه الأقوال كفر مجرد لا تردد فيه وحاشى لله تعالى من أن يكون أحد ولو عمر عمر الدهر يلحق فضل صاحب ، فكيف فضل رسول الله صلىاللهعليهوسلم أو نبي من الأنبياء عليهمالسلام ....؟ فكيف يكون أفضل من رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ هذا ما لا تقبله نفس مسلم ، كأنهم ما سمعوا قول الله عزوجل : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا) [سورة الحديد : ١٠].
وقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «دعوا لي أصحابي فلو كان لأحدكم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» (١).
قال أبو محمد : فكيف يلحق أبدا من إن تصدق هو بمثل جبل أحد من ذهب ، وتصدق الصاحب بنصف مدّ من شعير كان نصف مد الشعير لا يلحقه في الفضل جبل الذهب ، فكيف برسول الله صلىاللهعليهوسلم ....؟
وقال أهل الحق : إن الملائكة أفضل من كل خلق خلقه الله تعالى ، ثم بعدهم
__________________
(١) رواه البخاري في فضائل الصحابة باب ٥. ومسلم في فضائل الصحابة حديث ٢٢١ ، ٢٢٢. وأبو داود في السنّة باب ١٠. والترمذي في المناقب باب ٥٨. وابن ماجة في المقدمة باب ١١. وأحمد في المسند (٣ / ١١ ، ٥٤ ، ٦ / ٦).
الرسل من النبيين عليهمالسلام ، ثم بعدهم الأنبياء عليهمالسلام ، ثم أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، على ما رتبنا قبل.
قال أبو محمد : ومن صحب رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الجن له من الفضل ما لسائر الصحابة بعموم قوله عليهالسلام : «دعوا لي أصحابي» وأفضل الرسل محمد صلىاللهعليهوسلم. أما فضل الملائكة على الرسل من غير الملائكة ، فلبراهين منها قول الله عزوجل لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، إذ يقول : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [سورة الأنعام : ٥٠].
فلو كان الرسول أرفع من الملك أو مثله ما أمر الله تعالى رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يقول لهم هذا القول الذي إنما قاله منحطا عن الترفع بأن يظن أن عنده خزائن الله أو أنه يعلم الغيب ، أو أنه ملك منزل لنفسه المقدسة في مرتبته التي هي دون هذه المراتب بلا شك ، إذ لا يمكن البتة أن يقول هذا عن مراتب هو أرفع منها ، وأيضا فإن الله عزوجل ذكر محمدا الذي هو أفضل الرسل بعد الملائكة وذكر جبرائيل عليهماالسلام فكان التباين في ثناء الله عزوجل عليهما تباينا بعيدا وهو أن الله عزوجل قال : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [سورة التكوير : ١٩ ، ٢٠ ، ٢١].
فهذه صفة جبريل عليهالسلام ، ثم ذكر محمدا عليه الصلاة والسلام فقال : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) [سورة التكوير : ٢٢] ثم زاد تعالى بيانا رافعا للإشكال فقال : (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [سورة التكوير : ٢٣] فعظّم الله تعالى من شأن أكرم الأنبياء والرسل بأن رأى جبريل عليه الصلاة والسلام ثم قال تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) [سورة النجم : ١٣ ـ ١٨].
فامتن الله تعالى كما ترى على محمد المنّة العظمى بأن أراه جبريل مرتين ، وإنما يتفاضل الناس كما قدمنا بوجهين فقط ، أحدهما : الاختصاص المجرد ، وأعظم الاختصاص الرسالة والتعظيم ، فقد حصل ذلك للملائكة ، قال تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) [سورة فاطر : ١] فهم كلهم رسل الله تعالى ثم اختصهم تعالى بأن ابتدأهم في الجنة وحوالي عرشه ، في المكان الذي وعد رسله ومن اتبعهم بأن نهاية كرامتهم تصيّرهم إليه ، وهو موضع خلق الملائكة ومحلهم بلا نهاية مذ خلقوا. وذكرهم عزوجل في غير موضع من كتابه فأثنى على جميعهم ، ووصفهم بأنهم لا يفترون ، ولا
يسأمون ، ولا يعصون الله ، فنفى عنهم الزلل والفترة والسآمة والسهود ، وهذا أمر لم ينفه عزوجل عن الرسل صلوات الله عليهم بل السهو جائز عليهم ، وبالضرورة نعلم أنّ من عصم من السهو أفضل ممن لم يعصم منه ، وأن من عصم من العمد كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام أفضل ممن لم يعصم منه ممن سواهم. فإن اعترض معترض بقول الله عزوجل (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) [سورة الحج : ٧٥].
قيل له : ليس هذا معارضا لقوله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) لأن كلّ آية فإنما تحمل على مقتضاها وموجب لفظها ، ففي هذه الآية أن بعض الملائكة رسل وهذا حق لا شك فيه ، وليس إخبارا عن سائرهم بشيء لا بأنهم رسل ولا بأنهم ليسوا رسلا ، فلا يحل لأحد أن يزيد في الآية ما ليس فيها ، ثم في الآية الأخرى زيادة على ما في هذه الآية ، وإخبار بأن جميع الملائكة رسل ففي تلك الآية بعض ما في هذه الآية ، وفي هذه الآية كل ما في تلك وزيادة ففرض قبول كل ذلك كما أن الله عزوجل إذ ذكر في كهيعص من ذكر من النبيين فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ) [سورة مريم : ٥٨] وقد قال تعالى : (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) [سورة النساء : ١٦٤].
أفترى الرسل الذين لم يقصصهم تعالى عليه جملة أو في هذه السورة خاصة لم ينعم عليهم؟ معاذ الله من هذا فما يقوله مسلم.
والوجه الثاني من أوجه الفضل : هو تفاضل العاملين بتفاضل منازلهم في أعمال الطاعة والعصمة من المعاصي والدنيات وقد نص الله تعالى على أن الملائكة لا يفترون من الطاعة ولا يسأمون منها ، ولا يعصون البتة في شيء أمروا به ، فقد صح أن الله عزوجل عصمهم من الطبائع الناقصة الداعية إلى الفتور والكسل ، كالطعام والتغوط وشهوة الجماع والنوم ، فصح يقينا أنهم أفضل من الرسل الذين لم يعصموا من الفتور والكسل ودواعيهما.
قال أبو محمد : واحتج بعض المخالفين بأن قال : قال الله عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة آل عمران : ٣٤]. قالوا : فدخل في العالمين الملائكة وغيرهم.
قال أبو محمد : هذه الآية قد صح البرهان بأنها ليست على عمومها ، لأنه تعالى لم يذكر فيها آل محمد صلىاللهعليهوسلم ولا خلاف في أنهم أفضل الناس قال الله عزوجل : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [سورة آل عمران : ١١٠].
فإن قال : إن آل إبراهيم هم آل محمد قيل له فنحن إذن أفضل من جميع الأنبياء حاشى آل عمران وآدم ونوحا فقط ، وهذا لا يقوله مسلم ، فصح يقينا أن هذه الآية ليست على عمومها. فإذ لا شك في ذلك فقد صح أن الله عزوجل إنما أراد بها عالمي زمانهم من الناس لا من الرسل ولا من النبيين ، نعم ولا من عالمي غير زمانهم ، لأننا بلا شك أفضل من آل عمران فبطل تعلقهم بهذه الآية جملة وبالله تعالى التوفيق. وصح أنها مثل قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [سورة البقرة : ٤٧].
ولا شك في أنهم لم يفضلوا على الرسل ولا على النبيين ، ولا على أمتنا ولا على الصالحين من غيرهم ، فكيف على الملائكة؟ ونحن لا ننكر إزالة النص عن ظاهره وعمومه ببرهان من نص آخر ، أو من إجماع متيقن ، أو ضرورة حس ، وإنما ننكر ونمنع من إزالة النص عن ظاهره وعمومه بالدعوى ، فهذا ، هو الباطل الذي لا يحلّ في دين ولا يصح في إمكان العقل وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد : وذكر بعضهم قول الله عزوجل : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) [سورة البينة : ٧].
قال أبو محمد : وهذا مما لا حجة لهم فيه أصلا ، لأن هذه الصفة تعم كل مؤمن صالح من الإنس ومن الجن ، وتعم جميع الملائكة عموما مستويا ، فإنما هذه الآية تفضل الملائكة والصالحين من الإنس والجن على سائر البرية وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد : واحتجوا بأمر الله عزوجل الملائكة بالسجود لآدم على جميعهم السلام.
قال أبو محمد : وهذه أعظم حجة عليهم لأن السجود المأمور به لا يخلو من أن يكون سجود عبادة ، وهذا كفر ممن قاله لأنه يجيز أن يكون الله عزوجل يأمر أحدا من خلقه بعبادة غيره ، وإما أن يكون سجود تحيّة وكرامة ، وهو كذلك بلا خلاف من أحد من الناس فإذ هو كذلك فلا دليل أدل على فضل الملائكة على آدم من أن يكون الله تعالى بلغ الغاية في إعظامه وكرامته بأن تحييه الملائكة ، لأنهم لو كانوا دونه لم يكن له كرامة ولا مزية في تحيتهم له ، وقد أخبر الله عزوجل عن يوسف عليهالسلام قال : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) [سورة يوسف : ١٠٠].
وكانت رؤياه التي ذكر الله عزوجل عنه إذ يقول : (إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [سورة يوسف : ٤].
قال أبو محمد : وليس في سجود يعقوب ليوسف ما يوجب أن يوسف أفضل من يعقوب عليهالسلام.
واحتجوا أيضا بأن الملائكة لم يعلموا أسماء الأشياء حتى أنبأهم بها آدم ، على جميعهم السلام ، بتعليم الله عزوجل آدم إياها.
قال أبو محمد : وهذا لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى يعلّم من هو أنقص فضلا وعلما في الجملة أشياء لا يعلمها من هو أفضل منه وأعلم منه بما عدا تلك الأشياء ، فعلم الملائكة ما لا يعلمه آدم ، وعلم آدم أسماء الأشياء ثم أمره بأن يعلمها الملائكة ، كما خص الخضر عليهالسلام بعلم لم يعلمه موسى عليهالسلام ، حتى اتبعه موسى ليتعلم منه ، وعلّم أيضا موسى عليهالسلام علوما لم يعلمها الخضر ، وهكذا صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم أن الخضر قال لموسى عليهالسلام إني على علم من علم الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله لا أعلمه أنا (١).
قال أبو محمد : وليس في هذا أن الخضر أفضل من موسى عليهالسلام.
قال أبو محمد : وقد قال بعض الجهال : إن الله تعالى جعل الملائكة خدام أهل الجنة يأتونهم بالتحف من عند ربهم عزوجل. قال تعالى : (تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) [سورة الأنبياء : ١٠٣]. وقال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) [سورة الرعد : ٢٣].
قال أبو محمد : أما خدمة الملائكة لأهل الجنة وإقبالهم إليهم بالتحف فشيء ما علمناه قط ولا سمعناه إلا من القصاص بالخرافات والتكاذيب ، وإنما الحق ما ذكره الله عزوجل في النص الذي أوردنا ، وهو ولله الحمد من أقوى الحجج في فضل الملائكة على من سواهم ، ويلزم هذا المحتج إذا كان إقبال الملائكة بالبشارات إلى أهل الجنة دليلا على فضل أهل الجنة عليهم ، أن يكون إقبال الرسل إلينا مبشرين ومنذرين بالبشارات من عند الله عزوجل دليلا على أننا أفضل منهم ، وهذا كفر مجرد ، ولكن الحقيقة هي أن الفضل إذا كان للأنبياء عليهمالسلام على الناس بأنهم رسل الله إليهم
__________________
(١) جزء من حديث طويل رواه مسلم في الفضائل (حديث رقم ١٧٠) أوله : عن سعيد بن جبير قال : «قلت لابن عباس : إن نوفا البكاليّ يزعم أن موسى عليهالسلام صاحب بني إسرائيل ليس هو موسى صاحب الخضر عليهالسلام. فقال : كذب عدوّ الله ، سمعت أبيّ بن كعب يقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : قام موسى عليهالسلام خطيبا في بني إسرائيل ، فسئل : أيّ الناس أعلم؟ فقال : أنا أعلم. قال : فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه ... الخ».
ووسائط بين ربهم تعالى وبينهم ، فالفضل واجب للملائكة على الأنبياء والرسل ، لكونهم رسل الله تعالى إليهم ووسائط بينهم وبين ربهم تعالى ، وأما تفضل الله تعالى على أهل الجنة بالأكل والشرب والجماع واللباس والآلات والقصور ، فإنما فضلهم الله عزوجل من ذلك بما يوافق طباعهم ، وقد نزه الله تعالى الملائكة عن هذه الطبائع المستدعية لهذه اللذات ، بل أبانهم وفضلهم بأن جعل طبائعهم لا تلتذّ بشيء من ذلك إلا بذكر الله تعالى وعبادته وطاعته في تنفيذ أوامره تعالى ، فلا منزلة له أعلى من هذه ، وعجل لهم سكنى المحل الرفيع الذي جعل تعالى غاية إكرامنا الوصول إليه ، بعد لقاء الأمرّين في التعب في عمارة هذه الدنيا النكدة وفي كلف الأعمال.
ففي ذلك المكان خلق عزوجل الملائكة منذ ابتدأهم ، وفيه خلدهم ، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد : وقال بعض السخفاء إن الملائكة بمنزلة الهواء والرياح.
قال أبو محمد : وهذا كذب وقحة وجنون ، لأن الملائكة بنص القرآن والسنن.
وإجماع جميع من يقر بالملائكة من أهل الأديان المختلفة عقلا متعبدون مأمورون منهيون ، وليس كذلك الهواء والرياح لكنها لا تعقل ولا هي مكلفة متعبدة ، بل هي مسخرة مصرّفة لا اختيار لها قال تعالى : (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [سورة البقرة : ١٦٤].
وقال تعالى : (سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) [سورة الحاقة : ٧].
وذكر تعالى الملائكة فقال : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [سورة الأنبياء : ٢٧].
وقال تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [سورة الشورى : ٥].
وقال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) [سورة الفرقان : ٢٢].
فقرن تعالى نزول الملائكة برؤيته تعالى وقرن تعالى إتيانه بإتيان الملائكة فقال عزوجل : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) [سورة البقرة : ٢١٠].
واعلم أن إعراب الملائكة هاهنا بالرفع عطفا على الله عزوجل لا على الغمام.
ونص تعالى على أن آدم عليهالسلام إنما أكل من الشجرة ليكون ملكا أو ليخلد ، كما نص تعالى علينا إذ يقول عزوجل : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) [سورة الأعراف : ٢٠].
قال أبو محمد : فبيقين ندري أن آدم عليهالسلام لو لا تيقنه بأن الملائكة أفضل منه وطمعه بأن يصير ملكا لما قبل من إبليس ما غره به من أكل الشجرة التي نهاه الله عزوجل عنها ، ولو علم آدم أن الملك مثله أو دونه لما حمل نفسه على مخالفة أمر الله تعالى لينحط عن منزلته الرفيعة إلى الدون ، هذا ما لا يظنه ذو عقل أصلا.
قال أبو محمد : وقال الله عزوجل : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [سورة النساء : ١٧٢].
فقوله عزوجل بعد ذكر المسيح ولا الملائكة المقربون بلوغ للغاية في علو درجتهم على المسيح عليهالسلام لأن بنية الكلام ورتبته إنما هي إذا أراد القائل نفي صفة ما عن متواضع عنه أن يبدأ بالأدنى ثم بالأعلى وإذا أراد نفي صفة ما عن مترفع عنها أن يبدأ بالأعلى ثم بالأدنى ، فنقول في القسم الأول : ما يطمع في الجلوس بين يدي الخليفة خازنه ولا وزيره ولا أخوه ، ونقول في القسم الثاني : ما ينحط إلى الأكل في السوق وال ولا ذو مرتبة ولا متصاون من التجار أو الصناع ، لا يجوز البتة غير هذا. وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد : وأيضا فإن رسول الله تعالى صلىاللهعليهوسلم أخبر بأن الله تعالى خلق الملائكة من نور وخلق الإنسان من طين وخلق الجن من نار.
قال أبو محمد : ولا يجهل فضل النور على الطين وعلى النار أحد ، إلا من لم يجعل الله له نورا (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) [سورة النور : ٤]. وقد صح أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم دعا ربه في أن يجعل في قلبه نورا (١). فالملائكة من جوهر دعا
__________________
(١) جزء من حديث رواه البخاري في الدعوات باب ٩ ، ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها حديث ١٨١ و ١٨٧ و ١٨٩ ، وأبو داود في التطوع باب ٢٦. والترمذي في الدعوات باب ٣٠ ، وأحمد في المسند (١ / ٢٨٤ ، ٣٤٣ ، ٣٥٢ ، ٣٧٣). ولفظه عند البخاري (حديث رقم ٦٣١٦) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بتّ عند ميمونة ، فقام النبي صلىاللهعليهوسلم فأتى حاجته غسل وجهه ويديه ثم نام ، ثم قام فأتى القربة فأطلق شناقها ثم توضأ وضوءا بين وضوءين لم يكثر وقد أبلغ ، فصلى. فقمت فتمطّيت كراهية أن يرى أني كنت أرقبه ، فتوضأت. فقام يصلي ، فقمت عن يساره ، فأخذ بأذني فأدارني عن يمينه ، فتتامّت صلاته ثلاث عشر ركعة. ثم
أفضل البشر ربّه تعالى في أن يجعل في قلبه منه ، وبالله تعالى التوفيق. وفي هذا كفاية لمن عقل.
قال أبو محمد : وقال عزوجل : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) إلى قوله : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) [سورة الإسراء : ٧٠] فإنما فضل الله تعالى بنص كلامه عزوجل بني آدم على كثير ممن خلق لا على كل من خلق ، وبلا شك أن بني آدم مفضلون على الجن وعلى جميع الحيوان الصامت وعلى ما ليس حيوانا ، فلم يبق خلق يستثنى من تفضيل الله تعالى بني آدم إلا الملائكة فقط.
قال أبو محمد : وأما فضل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، على كل رسول قبله فالثابت عنه عليهالسلام أنه قال : «فضلت على الأنبياء بست» ، وروي : «بخمس» ، وروي : «بأربع» وروي : «بثلاث» (١) رواه جابر بن عبد الله وأنس بن مالك ، وحذيفة بن اليمان ، وأبو هريرة وبقوله صلىاللهعليهوسلم : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» (٢) وأنه عليهالسلام بعث إلى الأحمر والأسود (٣) ، وأنه عليهالسلام أكثر الأنبياء أتباعا (٤) ، وأنه ذو الشفاعة التي يحتاج إليه
__________________
اضطجع ، فنام حتى نفخ ، وكان إذا نام نفخ. فآذنه بلال بالصلاة ، فصلى ولم يتوضّأ ، وكان يقول في دعائه : «اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي بصري نورا ، وفي سمعي نورا ، وعن يميني نورا ، وعن يساري نورا ، وفوقي نورا ، وتحتي نورا ، وأمامي نورا ، وخلفي نورا ، واجعل لي نورا».
(١) رواه بلفظ : «فضّلت على الأنبياء بستّ ...» مسلم في المساجد ومواضع الصلاة حديث ٥ ، والترمذي في السير باب ٥ ، وأحمد في المسند (٢ / ٤١٢) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٢ / ٤٣٢ ، ٩ / ٥) وغيرهم. ورواه بلفظ : «... بخمس» الطبراني في المعجم الكبير (٧ / ١٨٤) والهيثمي في مجمع الزوائد (٨ / ٢٥٩) والمتقي الهندي في كنز العمال (٣١٩٣٣). ورواه بلفظ : «فضلت بأربع ...» أحمد في المسند (٥ / ٢٦٥) والهيثمي في مجمع الزوائد (٨ / ٢٥٩) والسيوطي في الدر المنثور (١ / ٢١٢ ، ٤٣٤) والمتقي الهندي في كنز العمال (٣١٩٣٤ ، ٣١٩٤٦ ، ٣٢٠٧٧). ورواه بلفظ «فضّلت على الناس بثلاث ...» البيهقي في السنن الكبرى ١ / ٢١٤ ، ٢٣٣) وفي دلائل النبوة (٥ / ٤٧٥) والمتقي الهندي في كنز العمال (٣٢٠٧٨). ورواه البيهقي أيضا في دلائل النبوة (٥ / ٤٨٨) بلفظ : «فضلت على آدم بخصلتين ...».
(٢) رواه الترمذي في المناقب باب ١ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٧.
(٣) روى مسلم في المساجد ومواضع الصلاة عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد قبلي : كان كلّ نبيّ يبعث إلى قومه خاصّة وبعثت إلى كل أحمر وأسود ...» الحديث ..
(٤) رواه مسلم في الإيمان (حديث ٣٣٠) عن أنس بن مالك بلفظ : «أنا أول الناس يشفع في الجنة ، وأنا أكثر الأنبياء تبعا». ورواه (رقم ٣٣١) بلفظ : «أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة ، وأنا أول من يقرع باب الجنة».
يوم القيامة فيها النبيون فمن دونهم (١). أماتنا الله على ملّته ولا خالف بنا عنه. وهو أيضا عليهالسلام خليل الله وكليمه.
الكلام في الفقر والغنى
قال أبو محمد : اختلف قوم في أي الأمرين أفضل الفقر أم الغنى؟
قال أبو محمد : وهذا سؤال فاسد لأن تفاضل العمل والجزاء في الجنة إنما هو للعامل لا لحالة محمولة فيه ، إلا أن يأتي نص بتفضيل الله تعالى حالا على حال ، وليس هاهنا نص في فضل إحدى هاتين الحالتين على الأخرى.
قال أبو محمد : وإنما الصواب أن يقال أيهما أفضل الغنى أم الفقر ...؟ والجواب هاهنا هو ما قال الله تعالى إذ يقول : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [سورة النمل : ٩٠].
فإن كان الغنيّ أفضل عملا من الفقير فالغنيّ أفضل ، وإن كان الفقير أفضل عملا من الغنيّ فالفقير أفضل ، وإن كان عملهما متساويا فهما سواء قال عزوجل : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [سورة الزلزلة : ٧ ، ٨].
وقد استعاذ النبي صلىاللهعليهوسلم من فتنة الفقر وفتنة الغنى ، جعل الله عزوجل الشكر بإزاء الغنى والصّبر بإزاء الفقر فمن اتقى الله عزوجل فهو الفاضل غنيا كان أو فقيرا. وقد اعترض بعضهم هاهنا بالحديث الوارد : بأن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بكذا وكذا خريفا (٢) ونزع الآخرون بقول الله عزوجل : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) [سورة الضحى : ٧ ، ٨].
قال أبو محمد : والغنى نعمة إذا قام حاملها بالواجب عليه فيها ، وأما فقراء المهاجرين فهم كانوا أكثر وكان الغنى فيهم قليلا والأمر كله فيهم وفي غيرهم راجع إلى العمل بالنص وبالإجماع على أنه تعالى لا يجزي بالجنة على فقر ليس معه عمل خير ، ولا على غنىّ ليس معه عمل خير ، وبالله تعالى التوفيق.
__________________
(١) جزء من حديث ، وفيه : «... وأول شافع ومشفّع» رواه مسلم في الفضائل حديث ٣ ، وأبو داود في السنّة باب ١٣ ، والترمذي في المناقب باب ١ ، وابن ماجة في الزهد باب ٣٧ ، والدارمي في المقدمة باب ٨ ، وأحمد في المسند (٢ / ٥٤٠ ، ٣ / ٢).
(٢) رواه مسلم في الزهد والرقائق (حديث ٣٧) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إن فقراء المهاجرين يسبقون الأغنياء يوم القيامة إلى الجنة بأربعين خريفا».
الكلام في الاسم والمسمى
قال أبو محمد : ذهب قوم إلى الاسم هو المسمى ، وقال آخرون الاسم غير المسمى. واحتج من قال إن الاسم هو المسمى بقول الله تعالى : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [سورة الرحمن : ٧٨].
قال : ولا يجوز أن يقال تبارك غير الله فلو كان الاسم غير المسمى ما جاز أن يقال تبارك اسم ربك ، وبقوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [سورة الأعلى : ١].
قالوا : ومن الممتنع أن يأمر الله عزوجل بأن يسبّح غيره. وبقوله عزوجل : (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) [سورة يوسف : ٤٠].
وقالوا : الاسم مشتق من السموّ ، وأنكروا على من قال إنه مشتق من الوسم ، وهو العلامة. وذكروا قول لبيد :
إلى الحول ثمّ اسم السّلام عليكما |
|
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر(١) |
وقالوا : قال سيبويه الأفعال أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء. قالوا : إنما أراد المسلمين ، هذا كل ما احتجوا به فقد تقصيناه لهم ولا حجة لهم في شيء منه ، أما قول الله عزوجل : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) [سورة الرحمن : ٧٨].
وذو الجلال فحق ، ومعنى تبارك تفاعل من البركة. والبركة واجبة لاسم الله عزوجل الذي هو كلمة مؤلفة من حروف الهجاء ، ونحن نتبرك بالذكر له وبتعظيمه ونجلّه ونكرمه فله منا التبارك وله الإجلال منا ومن الله تعالى ، وله الإكرام من الله تعالى ومنا
__________________
(١) البيت في ديوان لبيد (ص ٢١٤) والأشباه والنظائر (٧ / ٩٦) والأغاني (١٣ / ٤٠) وبغية الوعاة (١ / ٤٢٩) وخزانة الأدب (٤ / ٣٣٧ ، ٣٤٠ ، ٣٤٢) والخصائص (٣ / ٢٩) والدرر (٥ / ١٥) وشرح المفصل (٣ / ١٤) والعقد الفريد (٢ / ٧٨ ، ٣ / ٥٧) ولسان العرب (٤ / ٥٤٥ ـ مادة عذر) والمقاصد النحوية (٣ / ٣٧٥) والمصنف (٣ / ١٣٥) وأمالي الزجاجي (ص ٦٣) وشرح الأشموني (٢ / ٣٠٧) وشرح عمدة الحافظ (ص ٥٠٧) والمقرب (١ / ٢١٣) وهمع الهوامع (٢ / ٤٩ ، ١٥٨).