جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي
المحقق: صفاء الدين البصري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ١٧٥
لم يكن مكسورا كانت مفخّما (١) ، كما في قولنا : «الله أكبر» وهو : المنفرد باستحقاق العبادة ، والعبادة أوفر ما يكون من الخضوع والخشوع ، وأصله من التّذلّل ، يقال : بعير معبّد ، أي : مذلّل.
ونعماؤه ونعمه (٢) واحدة ، وهي الفائدة الحسنة الواصلة إلى الفقير بقصد (٣) الإحسان إليه ، فقولنا : الحسنة ، احترازا عن (٤) القبيحة ، كما إذا سرق شخص مالا وتصدّق به على غيره وبقصده (٥) الإحسان ، حتّى يخرج عنه ما لا قصد فيه ، كمن ألقى طعاما في الطّريق ولم يقصد انتفاع أحد به ، [أو أساء] القصد فيه [و] (٦) الاضرار ، كمن قدّم إلى غيره طعاما مسموما ، أو مبنّجا (٧).
والصّلاة في اللّغة من الله : الرّحمة ، ومن الملائكة : الاستغفار ، ومن المؤمنين (٨) : الدّعاء. وفي الشّرع : عبارة عن ذات الأذكار والرّكوع والسّجود.
والرّسل : جمع رسول ، وهو يكون من الملائكة والبشر ، والنّبيّ لا يكون إلّا من البشر خاصّة (٩) ، ويقال : نبىء ـ بالهمزة ـ ونبيّ ـ بتشديد الياء بغير همز (١٠) وقرئ بهما ، فمن همزه فهو مأخوذ من النّبإ ، وهو : الخبر ، لأنّه مخبر عن الله تعالى ، ومن لم
__________________
(١) كذا في الأصل ، والصّحيح : مفخّمة.
(٢) «ج» : نعمته.
(٣) «ج» : يقصد بها.
(٤) «ج» : من.
(٥) «ج» : يقصد به.
(٦) أضفناه لاستقامة المعنى.
(٧) البنج : نبت له حبّ يخلط بالعقل ويورث الخبال ، وربّما أسكر إذا شربه الإنسان بعد ذو به ، ويقال : انّه يورث السّبات. المصباح المنير ١ : ٦٢.
(٨) «ج» : الآدميّين.
(٩) الفرق بين الرّسول والنّبيّ أنّ الأوّل يؤمر بتبليغ الرّسالة ، والثّاني ينزل عليه الوحي ، أعم من أن يؤمر بالتّبليغ أولا.
(١٠) «ج» : همزة.
يهمز فهو مأخوذ من نبا ، أي : علا ، لأنّه علا على سائر الخلق ، لكونه أشرفهم ، ومحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم أشرف من خلق الله تعالى ، لأنّه أشرف من الملائكة وكافّة البشر.
والأنبياء : جمع نبيّ ، وهو : المخبر عن الله تعالى بغير واسطة بشر. ومحمّد : مشتقّ من الحمد ، وهو : الّذي كثرت محامده.
المصطفى : المختار من الخلق.
والمعصومون : الموصوفون بالعصمة ، وهي في أصل اللّغة : المنع ، وفي الاصطلاح :
عبارة عن لطف يفعله الله تعالى بالمكلّف [بحيث] لا يكون له معه داع إلى فعل المعصية ، ولا إلى ترك الطاعة ، مع قدرته على ذلك.
أنباء : جمع نبأ ، والنّبإ هو : الخبر ، ويراد به : المخبر ، كما في قولهم : رجل عدل ، ويراد به : عادل ، ورضا ، ويراد به : راض ، وذلك إشارة إلى الأئمّة عليهمالسلام ، لكونهم مخبرين عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
[وبعد : كلمة يفصل بها بين الخطابين : الخطاب الماضي والخطاب المستقبل ، وهي من أوجز كلام العرب وأوضحه ، وتقديرها : بعد حمد الله تعالى والصّلاة على نبيّه محمّد وآله ، فالصّورة كذا].
والواجب : ما يستحقّ فاعله المدح والثّواب ، وتاركه : الذّم والعقاب.
والاعتقاد : هو من الأعراض النّفسانيّة ، وهو : ما يتصوّره العاقل ويصدّق به تصديقا جازما.
وقوله : على جميع العباد ، المراد به : المكلّفون.
ولخّصت ، أي : بيّنت ، والمسائل الاصوليّة ، أي (١) : المنسوبة إلى علم الأصول ، وهو عبارة عن العلم بذات الله تعالى ، وصفاته ، وعدله ، ونبوّة الأنبياء وتصديقهم فيما جاءوا به من [عند] الله تعالى ، وإمامة الأئمّة. وإنّما سمّي بعلم
__________________
(١) «ج» : هي.
الاصول ، لأنّ الأصل ، هو : ما يبنى عليه غيره ، وباقي علوم الدّين مبنيّة عليه ؛ فيكون أصلا لها.
على الأعيان ، أي : على كلّ واحد واحد من المكلّفين بعينه ، ولا يسقط عن واحد بقيام غيره [به] بخلاف الواجب على الكفاية ، فإنّه الّذي يجب على الجميع ، ويسقط عن البعض بقيام البعض [الآخر] به ، كالجهاد.
والتّكليف قسمان : علميّ ، وهو مجرّد اعتقاد ، كعلم الاصول ـ الّذي تقدّم ذكره ـ وعمليّ ، وهو اعتقاد مع عمل ، ولا يكفي العلم به عن العمل ، كالعبادات الشّرعيّة.
الموفّق : [اسم فاعل من التّوفيق] (١) وهو : ما يكون المكلّف معه أقرب إلى فعل الطّاعة ، وأبعد عن فعل المعصية.
__________________
(١) «ج» : فاعل التّوفيق.
فى صفات الله تعالى
قال «قدّس الله روحه» :
فنقول : يجب على المكلّف أن يعرف أنّ الله تعالى موجود ، لأنّه أوجد العالم بعد أن لم يكن ، إذ لو كان العالم قديما ، لكان إمّا متحرّكا ، أو ساكنا ، والقسمان باطلان.
أمّا الحركة ؛ فلأنّ ماهيّتها تستدعي المسبوقيّة بالغير ، والقديم لا يصحّ أن يكون مسبوقا بالغير (١) ، ولا يعقل قدم الحركة ، وكذلك السّكون ، لأنّه عبارة عن الكون الثّاني في المكان الأوّل ، فيكون مسبوقا بالكون الأوّل بالضّرورة ، والأزليّ لا يكون مسبوقا بالغير (٢) ، فثبت حدوث العالم.
أقول : نذكر أوّلا تفسير الألفاظ الّتي اشتمل عليها هذا الفصل ؛ فالمكلّف : هو الإنسان الحيّ ، البالغ ، العاقل.
والعالم : عبارة عمّا سوى الله تعالى ، وإنّما سمّي العالم عالما ، لأنّه علامة على وجود الله تعالى.
والجسم : هو القابل للقسمة طولا وعرضا وعمقا.
والقديم : هو الّذي لا أوّل لوجوده ، أو : الّذي لا يسبقه غيره.
والمحدث : مقابله ، وهو ما (٣) لوجوده أوّل ، أو : الّذي يسبقه غيره.
والحركة : هي الحصول الأوّل للجسم في المكان الثّاني.
والسّكون : هو الحصول الثّاني للجسم في المكان الأوّل ، وذلك لأنّ الجسم لا بدّ له إذا وجد من مكان ، فأوّل حصوله في المكان يسمّى كونا مطلقا ، ففي الآن الثّاني إن كان في مكان آخر فهو الحركة ، وإن بقي في الآن الثّاني في ذلك المكان ، فهو السّكون.
__________________
(١) «ج» : بغيره.
(٢) «ج» : بغيره.
(٣) «ج» : الّذي.
إذا تبيّن هذا ؛ فنقول : معرفة الله تعالى واجبة على كلّ مكلّف ، لأنّها دافعة للضّرر ، وكلّما كان دافعا للضّرر فهو واجب.
أمّا أنّها دافعة للضّرر ؛ فلأنّ المكلّف إذا نظر في نفسه وجد عليه منافع من الوجود والحياة والشّهوة والحواس ، ويعلم أنّها ليست من نفسه ، بل من غيره.
فيقول : هذه المنافع الّتي حصلت لي من الغير لا تخلو : إمّا أن يكون الموصل لها إليّ قصد بها النّفع أو الضّرر ؛ فإن قصد النّفع فيكون منعما عليّ ، وشكر المنعم واجب بالضّرورة فيجب عليّ معرفته لأشكره ، لأنّ شكر المنعم واجب بضرورة العقل ، ولا أشكره إلّا بعد معرفته ، لأنّ الشّكر إنّما يكون شكرا إذا وقع على وجه يليق بالمشكور ، ولو لم يعرفه ، لجاز أن لا يليق به فلا يكون شكرا ، واذا لم يشكره جوّز حصول الضّرر بتركه (١) الشّكر. وإن كان الموصل لها قاصدا للضّرر فيجب عليّ أن أعرفه ، لأحترز من ضرره ، لأنّه ما لم أعرفه لا يمكن (٢) الاحتراز من ضرره ، فيجب عليّ أن أعرف فاعل هذه المنافع : إمّا لأشكره ، أو لأحترز من ضرره ، لأنّ الاحتراز من الضّرر واجب أيضا بضرورة العقل.
وأمّا أنّ كلّما كان دافعا للضّرر فهو واجب ؛ فلأنّه ضروريّ ، فثبت وجوب المعرفة ، فيجب على المكلّف أن يعرف أنّ له صانعا أوجده.
والطّريق إلى معرفته : النّظر ، الّذي هو الفكر ، وهو عبارة عن ترتيب أمور ذهنيّة يتوصّل بها إلى معرفة شيء آخر.
فقولنا : ترتيب ، هو عبارة عن جعل أشياء بحيث يكون لبعضها إلى بعض نسبة بالتّقدّم والتّأخّر. وقولنا : أمور ذهنيّة ، حتّى يخرج عنه ترتيب الامور الخارجيّة ، مثل : ترتيب الأجسام على ما ذكر. وقولنا : ذهنيّة ليعمّ المعلومة والمظنونة.
وإنّما قلنا : انّ الطّريق إلى معرفة الله تعالى النّظر ، لأنّ الطّريق الّتي يتوصّل
__________________
(١) «ج» : بترك.
(٢) «ج» : أتمكّن من.
بها إلى معرفة الأشياء أربعة : إمّا ضرورة ، أو خبر ، أو حسّ ، أو نظر ، وكلّ من الثّلاثة الاوّل لا يصلح أن يكون طريقا إلى المعرفة ، فتعيّن الرّابع. أمّا أنّه تعالى لا يكون معلوما بالضّرورة ؛ فلوجهين :
الأوّل : انّ الحكم المعلوم بالضّرورة من شأنه أنّ العاقل إذا تصوّر طرفيه جزم بالحكم من غير توقّف ولا طلب دليل ، وليس كذلك العلم به تعالى ، وإلّا لما طلب الدّليل على ذلك.
الثّاني : انّ من شأن المعلوم بالضّرورة اتّفاق العقلاء فيه ، وقد وقع الخلاف بينهم فيه تعالى ، فإنّ (١) طائفة من النّاس نفوا الصّانع (٢) ؛ كما حكى الله تعالى [عنهم في قوله تعالى] (٣) : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (٤).
وباقي العقلاء أثبتوا الصّانع ، ثمّ اختلفوا فيه ؛ فمنهم من اعتقد كونه جسما ، ومنهم من اعتقد كونه ليس بجسم.
والّذين نفوا عنه الجسميّة ؛ منهم (٥) من اعتقد أنّ له صفات زائدة على ذاته ، قديمة كقدمه ؛ ومنهم من نفى عنه ذلك ، وقال : إنّ صفاته غير زائدة على ذاته ؛ فلا يكون معلوما بالضّرورة.
وأمّا أنّه لا يكون معلوما بالحسّ أو الخبر ؛ فلأنّ كلّ واحد منهما إنّما يكون طريقا إلى العلم بالمحسوسات ، والباري تعالى ليس بمحسوس ـ لما يأتي ـ فلم يبق إلّا أن يكون الطّريق إلى معرفته النّظر.
__________________
(١) «ج» : لأنّ.
(٢) وهم : الكفرة والملاحدة.
(٣) «ج» : في قوله عنهم.
(٤) الجاثية : ٢٤.
(٥) «ج» : فمنهم.
وإذا كانت معرفة الله تعالى واجبة وهي لا تتمّ إلّا بالنّظر ، فيكون النّظر واجبا ، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، فثبت وجوب النّظر عقلا على كلّ مكلّف.
وأمّا كيفيّة النّظر والاستدلال به ؛ فيقول المكلّف : هذا العالم موجود ، وكلّ موجود [فهو] إمّا قديم أو محدث (١) ، لانحصار الموجود فيهما ؛ فالعالم لا يخلو : إمّا أن يكون قديما أو محدثا ، لا جائز أن يكون قديما ، فتعيّن أن يكون محدثا ، وإذا كان محدثا فهو مصنوع ، وكلّ مصنوع لا بدّ له من صانع بالضّرورة.
وإنّما قلنا : انّ العالم لا يجوز له أن يكون قديما ، لأنّ العالم : إمّا أجسام ، أو أعراض حالّة في الأجسام ، فلو كانت الأجسام قديمة ، لكانت في القدم حاصلة في مكان ، لأنّ ذلك لازم لها ، لأنّ وجود جسم لا في مكان محال ، وإذا كانت الأجسام في القدم في مكان ؛ فإمّا أن تكون ثابتة فيه أولا ؛ فإن كانت ثابتة فيه فهي السّاكنة ، وإن لم تكن ثابتة فيه فهي المتحرّكة ، فثبت أنّ كلّ جسم لا يخلو من الحركة والسّكون ، [فلو كان الجسم قديما لكان في القدم : إمّا ساكنا أو متحرّكا] ، والقسمان وهما : [كون الجسم] (٢) في القدم متحرّكا أو ساكنا ، باطلان.
أمّا بطلان الحركة ؛ فلأنّ ماهيّتها [أي : حقيقتها] تستدعي [أي : تقتضي] المسبوقيّة بالحصول الأوّل بالغير ، لأنّ الحركة عبارة عن الحصول الأوّل في المكان الثّاني ، فيكون مسبوقا بالحصول الأوّل [في المكان الأوّل] الّذي هو غيره ، والمسبوق بغيره لا يكون قديما ، لأنّ القديم هو : الّذي لا يسبقه غيره ، فلا يعقل قدم الحركة ، فثبت حدوث الحركة.
وأمّا السّكون ؛ فلأنّه عبارة عن الحصول الثّاني في المكان الأوّل ، والحصول الثّاني مسبوق بالحصول الأوّل الّذي هو غيره ، والمسبوق بغيره لا يكون قديما ، فثبت
__________________
(١) في النّسخة الحجريّة : حادث.
(٢) «ج» : كونه.
حدوث السّكون أيضا ، وثبت أنّ كلّ جسم لا يخلو من الحوادث ، [وكلّ ما لا يخلو من الحوادث] فهو حادث بالضّرورة ، فثبت حدوث الأجسام.
وأمّا حدوث الأعراض ؛ فلأنّها مفتقرة في وجودها إلى الأجسام المحدثة ، والمحتاج الى المحدث أولى بالحدوث ، فثبت حدوث العالم.
قال «قدّس الله روحه» :
فيجب أن يكون له محدث بالضّرورة ، وهو المطلوب. ولا يجوز أن يكون ذلك المحدث محدثا ، وإلّا لافتقر إلى محدث آخر ؛ فإمّا أن يتسلسل ، أو يدور ، أو يثبت المطلوب وهو إثبات مؤثّر غير محدث ، والدّور والتّسلسل باطلان (١) ، فثبت المطلوب.
أقول : لمّا ثبت حدوث العالم وجب احتياجه إلى صانع ضرورة احتياج كلّ
__________________
(١) معنى الدّور أن يوجد شيئان ، كلّ واحد منهما علّة للآخر ، وبطلانه واضح ، لأنّه يستلزم توقّف الشّيء على نفسه ، مثال قول الشّاعر :
مسألة الدّور جرت |
|
بيني وبين من أحب |
لو لا مشيبي ما جفا |
|
لو لا جفاه لم أشب |
يقول الشّاعر : إن حبيبه جفاه لشيبه ، وانّ الشّيب حصل أوّلا ، ثمّ أعقبه الجفاء ، ثمّ ناقض نفسه ، وقال : انّ الشّيب كان من جفاء الحبيب ، أي : انّ الجفاء حصل أوّلا ثمّ أعقبه المشيب ، فيكون كلّ من الجفاء والشّيب متقدّما ومتأخّرا في آن واحد ، وبالتّالي يكون الشّيء متقدّما على نفسه وكذا لو قلت : لا يوجد المساء إلّا بعد الصّباح ، ولا يوجد الصّباح إلّا بعد المساء.
ومعنى التّسلسل أن يفرض وجود حوادث أو أفراد من جنس واحد لا تتناهى في جانب الماضي ، وكلّ فرد مسبوق بغيره على أن يكون السّابق علّة للّاحق ، وهو جائز في جانب المستقبل والأبد ، كالأعداد ، فإنّها تقبل الزّيادة ، ولا يمنع العقل من عدم تناهيها ، أمّا التّسلسل في جانب الماضي والأزل بحيث لا يكون لها أوّل فمحال ، لأنّ الأفراد إذا لم تنته إلى موجود بالذّات يلزم أن لا يوجد شيء أبدا ، فلو افترضنا أنّ كلّ فرد من أفراد الإنسان لا بدّ أن يولد من إنسان مثله ، كانت النّتيجة المنطقيّة أنّه لم يوجد إنسان أبدا ، تماما كما لو قلت : لا يدخل أحد إلى هذه الغرفة حتّى يدخلها إنسان قبله ، فتكون النّتيجة ـ والحال هذه ـ أن لا يدخل الغرفة أحد ، حيث يصبح المعنى : أنّ دخول الإنسان الغرفة شرط في دخوله إليها ، وبديهة أنّ الشّيء الواحد لا يكون شرطا لنفسه بنفسه ، ولا علّة ومعلولا لها في آن واحد لشيء واحد. معالم الفلسفة الإسلاميّة : ٥٣.
صنعة إلى صانع ، وهو المطلوب.
فنقول : إذا ثبت أنّ للعالم صانعا ، فلا يجوز أن يكون [محدثا] مثله ، لأنّه لو كان محدثا افتقر إلى محدث آخر بالضّرورة ؛ فإن كان هو الأوّل لزم الدّور ، وإن كان محدثا ثانيا أو ثالثا أو رابعا إلى غير النّهاية لزم التّسلسل ، وهما باطلان ـ لما يأتي ـ فبطل أن يكون صانع العالم محدثا ، فتعيّن أن يكون قديما ، وهو المطلوب.
أمّا بطلان الدّور ؛ فلأنّه عبارة عن توقّف كلّ شيء من الشّيئين على الآخر [فيما] توقّف عليه فيه ، فإذا كان كلّ واحد من الشّيئين موجدا للآخر ، فاذا فرض أحدهما مؤثّرا في الآخر : كان الّذي هو أثّر موقوفا على مؤثّره ، ضرورة توقّف الأثر على المؤثر ، فلو فرض أنّ الآخر مؤثّر فيه : كان موقوفا عليه أيضا ، فيكون موقوفا على علّته وعلى ما تتوقّف عليه علّته وهو نفسه ، فيلزم أن يكون كلّ واحد منهما متوقّفا على نفسه ، وتوقّف الشّيء على نفسه محال ، لأنّ المتوقّف متأخّر ، والمتوقّف عليه متقدّم ، فيلزم أن يكون كلّ واحد منهما متقدّما على نفسه متأخّرا عنها ، والمتقدّم من حيث هو متقدّم موجود ، والمتأخّر من حيث هو مؤخّر (١) معدوم ، فيلزم أن يكون الشّيء الواحد في [زمان واحد] (٢) موجودا ، معدوما ، وهو باطل بالضّرورة.
وأمّا بطلان التّسلسل ؛ فلأنّه يلزم منه وجود امور غير متناهية مترتّبة من العلل والمعلولات في الوجود ، وهو محال.
وأيضا : فإنّا إذا فرضنا سلسلة غير متناهية من المحدثات ، وكلّ محدث ممكن ؛ فمجموعها ممكن ، والممكن لا وجود له من نفسه ، فيحتاج إلى مؤثّر ، فالمؤثّر فيه : إمّا نفسه ، أو جزؤه ، أو الخارج منه (٣). لا جائز أن يكون المؤثّر فيه نفسه ، لاستحالة تأثير الشّيء في نفسه ، لأنّ المؤثّر متقدّم على أثره ، والشّيء لا يتقدّم على نفسه ، ولا جائز أن
__________________
(١) «ج» : متأخّر.
(٢) «ج» : الزّمان الواحد.
(٣) «ج» : عنه.
يكون المؤثّر فيه جزؤه ، وإلّا لزم أن يكون ذلك الجزء مؤثّرا في [الجميع لأنّ المؤثّر في الجملة مؤثّر في] كلّ واحد من أجزائها ، ومن جملة الأجزاء نفسه وعلله ، فيلزم أن يكون مؤثّرا في نفسه وفي علله ، وهو محال. فبقي أن يكون المؤثّر فيها خارجا عنها ، وهو الواجب ، فثبت بطلان التّسلسل ، وإذا بطل الدّور والتّسلسل ، ثبت أنّ صانع العالم قديم ، وهو المطلوب.
قال «قدّس الله روحه» :
ويجب أن يعتقد أنّه تعالى واجب الوجود (١) ، لأنّه لو كان ممكن الوجود (٢) ، لافتقر إلى مؤثّر : فإمّا أن يدور ، أو يتسلسل ، أو ينتهي إلى واجب الوجود ، وهو المطلوب.
__________________
(١) أحكام الواجب أربعة :
١ ـ لا يكون واجبا بالغير ، لأنّ معنى وجوبه بالذّات أنّه لم يوجد بسبب موجد ، ومعنى وجوبه بالغير أنّه وجد بسبب ، وعليه يلزم اجتماع النقيضين ، وهو محال.
٢ ـ لا يمكن أن يكون مركبا ، لأنّ المركّب مفتقر إلى أجزائه ، والواجب غير مفتقر إلى شيء ، وكما لا يكون الغير جزءا له ، كذلك لا يكون هو جزءا للغير.
٣ ـ وجود الواجب نفس حقيقته ، ولا شيء غير الوجود ؛ إذ لو كان للواجب ماهيّة زائدة على وجوده لكان الوجود عارضا ووصفا له ، والوصف مفتقر إلى الموصوف ، والواجب لا يفتقر إلى شيء.
٤ ـ لا يكون الواجب أكثر من واحد ، لأنّه : إمّا ان لا يكون بين الواجبين أيّة علاقة بحيث يكون أحدهما مباينا للآخر ، وإمّا أن يكون أحدهما علّة للثّاني ، وإمّا أن يكونا معلولين لعلّة ثالثة ، وعلى الأوّل لا يكون كلّ منهما واجبا ؛ إذ المفروض أنّهما متباينان ، وعلى الوجهين الآخرين يكون الواجب مفتقرا إلى علّة ، وهو خلاف الفرض. وكما لا يكون أكثر من واحد كذلك لا يجوز عليه العدم ، لأنّه واجب الوجود بالذّات. معالم الفلسفة الاسلاميّة : ٣٨ :
(٢) أحكام الممكن أربعة :
١ ـ أن لا تقتضي ذاته وجودا ولا عدما ؛ إذ لو اقتضت الوجود ، لكان الممكن واجبا لذاته ، ولو اقتضت العدم ، لكان ممتنعا لذاته ، وهو خلاف الفرض.
٢ ـ أنّ الإمكان الذّاتي وصف ملازم للممكن لا ينفكّ عنه بحال ، لأنّه لو انفكّ عنه ، لانقلب الإمكان إلى الامتناع أو الوجوب ، وقدّمنا أنّ ذلك محال.
أقول : كلّ معقول فهو : إمّا واجب ، أو ممكن ، أو ممتنع ؛ وذلك لأنّ كلّ ما يتصوّره العقل : فإمّا أن يصحّ وجوده في الخارج ، أو لا يصح ؛ فالّذي يصحّ وجوده في الخارج : فإمّا أن لا يصحّ عدمه ، أو يصحّ عدمه ، فالأوّل هو الواجب ، وهو ما يصحّ وجوده لذاته ، ويمتنع عدمه لذاته ، والثّاني هو الممكن ، وهو ما يصح عدمه ووجوده. والثّالث : هو الممتنع ، وهو ما لا يصحّ وجوده ويجب عدمه وهو [ما] لا وجود له البتّة (١) ، فبقي أن يكون الموجود : إمّا واجبا ، وإمّا (٢) ممكنا.
فنقول : صانع العالم موجود ؛ فإمّا أن يكون واجبا ، أو ممكنا. لا جائز أن يكون ممكنا ، فتعيّن أن يكون واجبا ، لانحصار الموجود (٣) فيهما. وإنّما قلنا : انّه لا يجوز أن يكون ممكنا ، لأنّ الممكن هو الّذي لا وجود له من ذاته ، بل وجوده من غيره ، فلو كان صانع العالم ممكنا ، لافتقر إلى موجد يوجده ، فذلك الموجد إن كان واجب الوجود ، فهو المطلوب ، وإن كان ممكن الوجود أيضا ، احتاج إلى موجد يوجده ، ضرورة افتقار الممكن إلى موجد.
فإن كان موجده الممكن الأوّل ، لزم الدّور ، وإن كان موجده ممكنا ثالثا ،
__________________
٣ ـ أنّ الإمكان هو السّبب الوحيد لاحتياج الممكن إلى فاعل ، أي : انّ طبيعة الممكن بذاتها تستدعي الاحتياج إلى موجد ، وكما أنّ وجود الممكن يحتاج إلى علّة ، فبقاؤه واستمراره يحتاج إلى علّة أيضا ، لأنّ سبب الحاجة إلى موجد هو الإمكان ، ولكنّ علّة الإيجاد هي بنفسها علّة البقاء.
٤ ـ أنّ وجود الممكن ليس بأولى من عدمه ، ولا عدمه أولى من وجوده ، فالنّسبة إلى طرفي الوجود والعدم متساوية ، وكلّ منهما مفتقر إلى سبب ، غير أنّ سبب الوجود توافر المؤثّرات الخارجيّة ، وسبب العدم فقدان تلك المؤثّرات ، وبكلمة : إنّ عدم السّبب ، سبب العدم ، معالم الفلسفة الاسلامية : ٣٨.
(١) الفرق بين الممكن والممتنع : أنّ كلّا منهما معدوم ، ولكنّ الأوّل معدوم غير قابل للوجود ، والثّاني معدوم قابل له ، وبهذا يتميّز عن المستحيل الّذي لا يمكن وجوده بحال ؛ فالممكن له حظ من الوجود ، على العكس من الممتنع. والفرق بين واجب الوجود وممكن الوجود : أنّ كلّا منهما موجود ، لكنّ الأوّل موجود بذاته ، والثّاني بعلّته. معالم الفلسفة الاسلاميّة : ٣٧.
(٢) «ج» : أو.
(٣) «ج» : الوجود.
وللثالث موجد رابع ، وهكذا إلى غير النّهاية ، لزم التّسلسل. وقد تقدّم بطلانهما ، فثبت أنّ صانع العالم واجب الوجود ، وهو المطلوب.
قال «قدّس الله روحه» :
ويجب أن يعتقد أنّه تعالى قديم ، أزليّ ، باق ، أبديّ ، لأنّه لو جاز عليه العدم ، لم يكن واجب الوجود ، وقد ثبت أنّه تعالى واجب الوجود.
أقول : القديم : هو الّذي لا يسبقه غيره ، والأزليّ : هو الّذي لا أوّل لوجوده ، والأبديّ : هو الّذي لا آخر لوجوده ، والباقي : هو المستمر في الوجود.
فنقول : الباري تعالى قديم ، أزليّ ، باق ، أبديّ ، لأنّه لو لم يكن وجوده بهذه الصّفات ، لزم صحّة العدم عليه : إمّا قبل وجوده على تقدير أن لا يكون قديما ولا أزليّا ، أو بعد وجوده على تقدير أن لا يكون أبديّا ، وفي أثناء وجوده على تقدير أن لا يكون باقيا ، وكلّ ما يصح (١) عليه العدم ، فوجوده من غيره ، لأنّ الّذي يعدم عن الشّيء إنّما يكون من غيره لا من ذاته ، لأنّ مقتضى الذّات لا يزول ، ومثاله من المحسوسات : كما في الشّمس لمّا [كان ضوؤها] (٢) من ذاتها ، بمعنى : أنّ الله تعالى خلقها مضيئة بنفسها ، لم يعدم عنها الضّوء ، ولمّا كان ما يستضيء بها ضوؤه من غيره ، صحّ عدم الضّوء عليه ، فنسبة الوجود إلى الواجب كنسبة الضّوء إلى الشّمس ، ونسبة الوجود إلى الممكن كنسبة الضّوء إلى المستضيء بضوء الشمس ، فيلزم مع صحّة العدم عليه أن يكون وجوده من غيره ، وكلّما كان وجوده من غيره ، فهو ممكن ، فيلزم أن يكون صانع العالم ممكنا ، وذلك محال ، لما ثبت من أنّه واجب الوجود ، فثبت أن يكون له هذه الصّفات (٣) ، وهو المطلوب.
قال «قدس الله روحه» :
__________________
(١) «ج» : صحّ.
(٢) «ج» : كانت في ضوئها.
(٣) «ج» : الأوصاف.
ويجب أن يعتقد أنّه تعالى قادر ، لأنّه لو كان موجبا ، لزم قدم العالم ، لاستحالة انفكاك المعلول عن العلّة (١) ، وقد بيّنّا أنّ العالم محدث (٢).
أقول : لمّا فرغ من إثبات الذّات شرع في إثبات الصّفات ، وهي : إمّا ثبوتيّة (٣) ، وتسمّى : «صفات الكمال» ، وإمّا سلبيّة (٤) ، وتسمّى : «صفات التّنزيه» و «صفات «الجلال».
فأوّل الثّبوتيّة : كونه قادرا ، ومتى أثبتنا له تعالى صفة أو سلبنا عنه صفة ، فيجب أوّلا أن نعرف معنى تلك الصّفة ، فنقول : الذّوات ثلاث :
منها : ما لا يصحّ منه فعل ، فلا يوصف بالنّسبة إلى ذلك الفعل ، لا بأنّه قادر ، ولا بأنّه موجب.
ومنها : ما يصحّ منه الفعل ، ولا يصح منه التّرك ، فيسمى : «موجبا» ؛ كالنّار بالنّسبة إلى الإحراق وترك الإحراق.
ومنها : ما يصحّ منه الفعل ، والتّرك ؛ كالإنسان بالنّسبة إلى الحركة ، ويسمّى :
«قادرا مختارا» وهو الّذي يصحّ منه أن يفعل ، وأن لا يفعل ، إذا كان الفعل ممكنا ولم يمنع منه مانع.
فقولنا : يصحّ منه أن يفعل ، يدخل فيه القادر والموجب ، وهو : الّذي يصحّ منه الفعل ، ولا يصحّ منه التّرك.
وقولنا : أن لا يفعل ، يخرج عنه الموجب ، لأنّه لا يصحّ منه ترك الفعل.
وقولنا : إذا كان الفعل ممكنا ، لأنّ قدرة القادر لا تتعلّق إلّا بالممكن ، فإنّ المستحيل لا تتعلّق به قدرة ؛ كجعل الجسم في حالة واحدة : متحرّكا ، ساكنا ، أو :
__________________
(١) «ج» : علّته.
(٢) راجع ص : ٤٧.
(٣) وهي الّتي تثبت ما يليق بذاته ؛ كالقدرة والعلم والكلام ، وغير ذلك.
(٤) وهي الّتي تنفي عنه ما لا يليق به ؛ ككونه ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر ، وغير ذلك.
موجودا ، معدوما.
وقولنا : ولم يمنع منه مانع ، حتّى يدخل فيه المقيّد ، فإنّه (١) لا يقع منه الحركة ، ولا يقال : انّه ليس بقادر عليها ، ولا أنّه عاجز عنها ، بل بمانع (٢) منها ، وهو : القيد ، وكذلك فعل القبيح بالنّسبة إلى الله تعالى لا يقع منه وإن كان قادرا [عليه بل] لمانع [منه] وهو علمه بقبحه.
وأمّا الدّليل على أنّه تعالى قادر ، فنقول : الباري تعالى صدر منه فعل [وكلّ من صدر منه فعل] : فإمّا أن يكون موجبا ، أو قادرا مختارا ، ولا واسطة بينهما. لا جائز أن يكون موجبا ، فبقي (٣) أن يكون مختارا.
وإنّما قلنا : إنّه لا يجوز أن يكون موجبا ، لأنّ الموجب لا ينفكّ عنه فعله ، أو (٤) ويقارنه في الوجود (٥) ، وسمّي (٦) الموجب : «علّة» وفعله : «معلولا» ، والمعلول لا يتخلّف عن علّته ، فلو كان موجبا وهو قديم ، لزم من قدمه قدم معلوله ، فيكون العالم قديما ، وقد ثبت حدوثه ، وقدمه مع حدوثه محال ، فثبت أنّه تعالى قادر مختار ، وهو المطلوب.
قال «قدّس الله روحه» :
ويجب أن يعتقد أنّه تعالى عالم ، لأنّه فعل الأفعال المحكمة المتقنة (٧) ، وكلّ
__________________
(١) «ج» : لأنّه.
(٢) «ج» : لمانع.
(٣) «ج» : فتعيّن.
(٤) «ج» : و.
(٥) «ج» : وجوده.
(٦) «ج» : ويسمّى.
(٧) حدّ الفعل المحكم المتقن ، هو : المطابق بالمنافع المقصودة. والحكم والمنافع الموافقة للغرض ، والغاية ظاهرة جليّا في نظام السّماوات والأرض ، وفي الإنسان وتركيبة أعضائه ، كما هو مقرّر في توحيد المفضّل بن عمر ، من إملاء الإمام الصّادق (ع) ، فليراجع.
من كان كذلك كان عالما بالضّرورة.
أقول : من صفاته الثّبوتيّة : كونه تعالى عالما ، والعالم ، هو : المبيّن للأشياء تبيينا يصحّ معه إيقاع الفعل متقنا محكما ، ومعنى الفعل المحكم ، هو : الفعل الّذي يكون مطابقا للمنفعة المقصودة منه ، أو الّذي يترتّب أثره عليه ؛ كما يقال : هذه سكّين محكمة ، بمعنى : أنّها مطابقة للمنفعة المقصودة منها ، وهي : قطع ما تلاقيه ، أو : قلم محكم ، بمعنى : انّه مطابق للمنفعة المقصودة منه ، وهي : الكتابة ، وترتيب أثر كلّ واحد منهما عليه ، وهو : القطع والكتابة. وكذلك إذا قلنا : هذه كتابه متقنة ، بمعنى أنّها على الوجه المرتّب (١) ، المصطلح عليه.
والدّليل [على] انّه تعالى عالم : هو أن نقول (٢) : الباري تعالى صدر عنه أفعال محكمة متقنة (٣) ، وكلّ من صدر عنه [أفعال محكمة متقنة] (٤) ، يجب أن يكون عالما ؛ فالباري يجب أن يكون عالما ، فها هنا مقدّمتان :
__________________
(١) «ج» : المترتّب.
(٢) «ج» : يقول.
(٣) اختلفوا : هل يفعل الله لغرض وحكمة ، أو يفعل دون أيّ موجب للفعل؟
قال الأشاعرة : يستحيل أن تكون أفعال الله معلّلة بالأغراض والمقاصد. واستدلّوا :
أوّلا : بأنّ الله لا يجب عليه شيء ، ولا يقبح منه شيء ، إذن لا يجب أن يكون لفعله غرض ، كما أنّه لا يقبح منه الفعل بلا غرض.
ثانيا : انّه لو فعل لغرض ، من جلب مصلحة أو دفع مفسدة ، لكان محتاجا إلى استكمال ذاته بتحصيل الغرض ، والله سبحانه يستحيل عليه الاحتياج.
وقال الإماميّة والمعتزلة : إنّ كلّ فعل لا يقع لغرض ، فهو عبث ، والله منزّه عن العبث واللّغو. أمّا قول الأشاعرة بأنّ الفعل لغرض يستدعي الاحتياج والنّقصان ، فجوابه : أنّ هذا يتمّ لو كان الغرض والنّفع عائدا إلى الله ، أمّا إذا عاد إلى العبد ونظام الكائنات حسبما تقتضيه المصلحة ، فلا يلزم شيء من ذلك ، وقد جاء في الآية ١٦ من سورة الأنبياء : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) معالم الفلسفة الإسلاميّة : ١٠٣.
(٤) «ج» : فعل متقن محكم.
الأولى : انّه صدر عنه (١) أفعال محكمة متقنة ، وهي مقدّمة حسّيّة معلومة بالضّرورة لمن تأمّل مخلوقاته من : السّماوات ، وما خلق فيها من الشّمس ، والقمر ، والكواكب ، وما يترتّب على طلوع الشّمس من وجود النّهار ، وما يترتّب على غروبها من وجود اللّيل ، وما يترتّب على قربها من رءوسنا من حرّ الزّمان الّذي بسببه يحصل إنضاج الثّمار ، واشتداد الزّرع ، وتنشيف الأرض من الماء (٢) ، ليمكن زرعها ، وتقليل الرّطوبات من الأبدان حتّى لا تستولى عليها الرّطوبات فتفسدها ، وما يترتّب على بعدها من رءوسنا من برد الزّمان الّذي بسببه تكثر الأمطار والأنداء ، ليحصل بذلك التّمكّن من الزّرع ، وتنمية الثّمار والأشجار ، وترطيب الأبدان حتّى لا تستولي عليها اليبوسة فتفسدها.
ومن حكمته تعالى : أنّه لم يجعل الزّمان كلّه حرّا (٣) ، وإلّا أدّى إلى تحليل الأجساد ، فناء رطوباتها ، ولم يجعله كلّه باردا (٤) ، وإلّا أدّى إلى جمود الأجساد ، واستيلاء الرّطوبات عليها ، فيؤدّي إلى فسادها ، وتعذّر الحركة عليها ، ولم يجعل بعضه حارّا في الغاية ، وبعضه باردا في الغاية ، وإلّا لزم الخروج من ضدّ إلى ضدّ ، فتحصل منه نكاية عظيمة في الأجساد (٥) ، بل اقتضت حكمته [تعالى] أن جعل الزّمان قسما حارّا في الغاية ، وقسما يليه معتدلا في الحرارة والبرودة ، فلا تحصل منه نكاية في الأجساد ، وبعده قسم بارد في الغاية ، وبعده قسم معتدل ، وهي : الفصول الأربعة للسّنة.
__________________
(١) «ج» : منه :
(٢) «ج» : المياه.
(٣) «ج» : حارّا.
(٤) «ج» : بردا.
(٥) «ج» : الأجسام.
ومن حكمته تعالى : أن جعل [في مقدّم فم الإنسان] (١) حدادا لقطع الغذاء ، وفي مؤخّره عراضا لطحنه ، وجعل للعينين أهدابا تقيها ممّا يلاقيها من المؤذيات لها ، وكذلك جعل الأظفار في رءوس الأنامل ، ليكون دعامة لها ، لئلّا تحفى.
وأمّا المقدّمة الثّانية ـ وهي أنّ كلّ من صدر منه الأفعال المحكمة المتقنة ، فهو عالم ـ : فلأنّه معلوم بالبديهة (٢) لكلّ عاقل ؛ فإنّ كلّ عاقل يجزم بأنّ الكتابة المحكمة لا تصدر إلّا من عالم بها ، وكذا (٣) باقي الصّناعات.
قال «قدّس الله روحه» :
ويجب أن يعتقد أنّه تعالى حيّ ، لأنّ معنى الحيّ ، هو : الّذي يصحّ منه أن يقدر ويعلم. وقد بيّنا أنّه تعالى قادر عالم (٤) ، فيكون حيّا بالضّرورة.
أقول : معنى الحيّ ، هو : الّذي يصحّ منه أن يقدر ويعلم ، وقد ثبت أنّه تعالى قادر عالم ، فيكون حيّا بالضّرورة ، لأنّ غير الحيّ يستحيل أن يكون قادرا عالما بالضّرورة.
قال «قدّس الله روحه» :
ويجب أن يعتقد أنّه تعالى قادر على كلّ مقدور ، [و] عالم بكلّ معلوم ، لأنّ نسبة المقدورات إليه على السّويّة (٥) ، لأنّ المقتضي لاستناد الأشياء إليه هو الإمكان ، وجميع الأشياء مشتركة في هذا المعنى ، وليس علمه ببعض الأشياء أولى من علمه بالبعض الآخر ؛ فإمّا أن لا يعلم شيئا منها ـ وقد بيّنّا استحالته ـ [أو يعلم البعض دون البعض ، وهو ترجيح من غير مرجّح] ، أو يعلم الجميع ، وهو المطلوب.
__________________
(١) «ج» : الأسنان في مقدّم الفم.
(٢) «ج» : بالبديهيّة.
(٣) «ج» : وكذلك.
(٤) راجع ص : ٥٦ و ٥٧.
(٥) «ج» : بالسّويّة.