الشيخ الحسن بن أبي الحسن الديلمي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٢
ISBN: 4-5503-75-2
الصفحات: ٥٣٢
لا يعمل شيئاً من الخير رياء ، ولا يتركه حياءً ، الخير منه مأمول ، والشر منه مأمون ، إن كان بين الغافلين كّتب من الذاكرين ، وإن كان بين الذاكرين لم يكتب من الغافلين.
يعفو عمن ظلمه ، ويعطي من حرمه ، ويصل من قطعه ، قريباً معروفه ، صادق قوله ، حسن فعله ، مقبل خيره ، مدبر شره ، غائب مكره ، في الزلازل وقور ، وفي المكاره صبور وفي الرخاء شكور ، لا يحيف على ما يبغض ، ولا يأثم فيمن يحب ، ولا يدّعي ما ليس له ، ولا يجحد ما عليه ، يعترف بالحق قبل أن يشهد به عليه ، لا يضيع ما استحفظ ، ولا ينابز بالألقاب ، لا يبغي على أحد ، ولا يغلبه الحسد ، ولا يضار بالجار ، ولايشمت بالمصاب ، مؤد للأمانات ، عامل بالطاعات ، سريع إلى الخيرات ، بطيء عن المنكرات ، يأمر بالمعروف ويفعله ، وينهى عن المنكر ويجتنبه ، لا يدخل فى الأمور بجهل ، ولا يخرج من الحق بعجز ، إن صمت لم يعبه الصمت ، وإن نطق لم يعبه اللفظ ، وإن ضحك لم يعلُ به صوته ، قانع بالذي قدر له ، لا يجمح به الغيظ ، ولا يغلبه الهوى ، ولايقهره الشح.
يخالط الناس ليعلم ويفارقهم ليسلم ، يتكلم ليغنم ، ويسأل ليفهم ، نفسه منه في عناء ، والناس منه في راحة ، أراح الناس من نفسه ، وأتعبها لآخرته ، إن بُغي عليه صبر ليكون الله هو المنتصر له ، يقتدي بمن سلف من أهل الخير قبله ، فهو قدوة لمن خلف من طالب البر بعده.
اُولئك عمال الله ، ومطايا أمره وطاعته وسرج أرضه وبريته ، اُولئك شيعتنا وأحبتنا ، ألا ، ها شوقاً إليهم ».
فصاح همام بن عبادة صيحة ووقع مغشياً عليه ، فحركوه فإذا هو قد فارق الدنيا رحمة الله عليه. واستعبر الربيع باكياً وقال : لأسرع ما أودت موعظتك ـ يا أمير المؤمنين ـ بابن أخي ، ولوددت اني بمكانه.
فقال أمير المؤمنين عليهالسلام : « هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها ، أما ـ والله ـ لقد كنت أخافها عليه ».
فقال له قائل : فما بالك أنت يا أمير المؤنين؟
فقال : « ويحك ، ان لكل واحد أجلاً لن يعدوه ، وسبباَ لن يتجاوزه ، فمهلاَ لا تعدلها ، فإنما نفثها على لسانك الشيطان ».
قال : فصلى عليه أمير المؤمنين عشية ذلك اليوم وشهد جنازته ، ونحن معه.
قال الراوي عن نوف : فصرت إلى الربيع بن خيثم فذكرت له ما حدثني نوف ، فبكى الربيع حتى كادت نفسه أن تغيظ ، وقال : صدق أخي ، لا جرم ان موعظة أمير المؤمنين وكلامه ذلك مني بمرأىً ومسمع ، وما ذكرت ما كان من همام بن عبادة ـ يومئذ ـ وأنا في بُلَهْنية (١) إلا كدرها ، ولا شدة إلا فرّجها (٢).
وروى الفضيل بن يسار (٣) عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : « إن شيعة علي عليهالسلام كانوا المنظور إليهم ، وأصحاب الودائع في الودائع ، مرضيين عند الناس ، شهب الليل مصابيح النهار ».
وقال عليهالسلام : « الناس ثلاثة أصناف : صنف تزينوا بنا ، وصنف أكلوا بنا ، وصنف اهتدوا بهدانا واقتدوا بأمرنا ، وهم أقل الأصناف ، اُولئك الحكماء السعداء النجباء الفقهاء العلماء الحلماء ».
وقال أبو جعفر عليهالسلام للفضيل بن يسار : « يا فضيل ، تأتي الجبل تنحت منه ، والمؤمن لا يستقل منه شيء ».
قال عليهالسلام لأبي المقدام؟ « إنما شيعة على الشاحبون الناحلون الذابلون ، ذابلة شفاههم ، مصفرة وجوههم ، متغيرة ألوانهم ، خميصة بطونهم ، إذا جنهم الليل اتخذوا الأرض فراشاً ، وترابها بساطاً ، وماءها طيباً ، والقران شعاراً ، والدعاء دثاراً ، كثير سجودهم ، غزيرة دموعهم ، كثير دعاؤهم ، كثير بكاؤهم ، يفرح الناس وهم محزونون ، (٤).
__________________
١ ـ بلهنية من العيش : سعة ورفاهية « القاموس المحيط ـ بلهن ـ ٤ : ٢٠٣ ».
٢ ـ كنز الفوائد : ٣٠ ـ ٣٤.
٣ ـ في الأصل : الفضيل بن بشار ، وهو تصحيف ، صوابه ما أثبتناه في المتن ، وهو الفضيل بن يسار النهدي ، عده الشيخ من أصحاب الباقر عليهالسلام تارة ، ومن أصحاب ألصادق عليهالسلام تارة اُخرى ، وعده الشيخ المفيد في الرسالة العددية من الفقهاء والاعلام المأخوذ منهم ألحلال والحرام وألفتا في الأحكام الذين لا يطعن عليهم ولا طريق لذم واحد منهم ، مات في حياة أبي عبد الله عليهالسلام. اُنظر « رجاك الشيخ : ١٣٢ رقم ١ و ٢٧١ رقم ١٥ ، رجال النجاشي : ٢١٥ ، مجمع الرجال ٥ : ٣٦ ، معجم رجال الحديث ١٣ : ٣٣٥ ».
٤ ـ الخصال : ٤٤٤ / ٤٠.
وقال جابر بن يزيد الجعفي : دخلت على مولاي أبي جعفر الباقر عليهالسلام فقال : « يا جابر ، ليس من انتحل التشيع وحبنا أهل البيت بلسانه كان من شيعتنا ، فلا تذهبن بكم المذاهب ، فوالله ما شيعتنا إلاّ من اتقى الله وأطاعه ، إن شيعتنا لا يطمعون طمع الغراب ، ولايهرون هرير الكلاب ، وإن شيعتنا أهل التواضع والتخشع ، والتعبد والورع والاجتهاد ، وتعهد الأخوان ، ومواصلة الجيران والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام والغارمين ، وصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الأرحام ، وتلاوة القران ، وكثرة الذكر لله تعالى ، وكف الألسن إلاّ من خير ».
فقال جابر : يا مولاي ، ما أعرف أحداً اليوم بهذه الصفات.
فقال : « يا جابر ، حَسِبَ الرجل ان يقول اُحب علياً وأتولاه ، ولا يكون مع ذلك عاملاً بقوله! فلو قال : اُحب رسول الله ـ فرسول الله خير من علي ـ ولم يتبع سيرته ، ولم يعمل بسنته ، ما أغنى عنه ذلك من الله شيئاً ، فاتقوا الله واعملوا لما عند الله ، فإن أحب العباد إلى الله أعملهم بطاعته وأتقاهم له ، وإنه ليس بين الله وبين أحد قرابة ، وما معنا براءة من النار ، ولا لنا على الله من حجة ، من كان طائعاً لله فهو لنا ولي ولو كان عبداً حبشياً ، ومن كان عاصيا لله فهو لنا عدو وإن كان حراً قرشياً.
والله ما تنال شفاعتنا الا بالتقوى والورع والعمل الصالح ، والجد والإجتهاد ، فلا تغتروا بالعمل ويسقط عنكم (١) ، فاذن أنتم أعز على الله منا ، فاتقوا الله وكونوا لنا زيناً ولا تكونوا لنا شيناً ، قولوا للناس حسناً ، حببونا إلى الناس ولا تبغضونا إليهم ، قولوا فينا كل خير ، وادفعوا عنا كل قبيح ، وجروا إلينا كل مودة ، فما قيل فينا من خير فنحن أهله ، وما قيل فينا من شر فلسنا كذلك ، لنا حق في كتاب الله ، وقرابة من رسول الله ، وولادة طاهرة طيبة ، فهكذا قولوا ، ولا تعدوا بنا أقدارنا ، فإنما نحن عبيد الله مربوبون ، لانملك إلاّ ما ملكنا ، ولا نأخذ إلاّ ما أعطانا ، لا نستطيع لأنفسنا نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ، لا والله لا أعلم ـ أنا ، ولا أحد من آبائي ـ الغيب ، ولا يعلم الغيب إلاّ الله ، كما قال سبحانه : (إن الله عنده علم الساعة وينزّل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) (٢) ».
__________________
١ ـ كذا في الأصل ، والظاهر أن المراد : فلا تغتروا بأن العمل يسقط عنكم.
٢ ـ لقمان ٣١ : ٣٤.
وقال عليهالسلام لمحمد بن مسلم : « يا محمد ، لا تذهبن بكم المذاهب ، فوالله ما شيعتنا منكم إلا من أطاع الله » (١).
وقال النبي صلىاللهعليهوآله : « الإيمان في عشر خصال : المعرفة ، والطاعة ، والعلم ، والعمل ، والورع ، والاجتهاد ، والصبر ، والصدق ، والرضا ، والتسليم ، فمتى فقد صاحبهاواحدة منها انفك نظامه » (٢).
وقال عليه واله السلام : « خمس لا يجتمعن إلاّ في مؤمن حقاً يوجب الله له بهن الجنة : الفقه في الإسلام ، والورع في الدين ، والنور في القلب ، وحسن السمت في الوجه ، والمودة في الناس » (٣).
وقال صلىاللهعليهوآله : « إن في الفردوس لعيناً ماؤها أحلى من الشهد ، وألين من الزبد ، وأبرد من الثلج ، وأطيب من المسك ، فيها طينة طيبة خلقنا الله منها ، وخلق شيعتنا من فضلتها ، فمن لم يكن من تلك الطينة فليس منا ولا من شيعتنا ، وهي الميثاق الذي أخذ الله ـ تعالى ذكره ـ عليه ولاية علي وأهل بيته عليهمالسلام » (٤).
وقال صلىاللهعليهوآله : « لا يكمل المؤمن الإيمان حتى يكون فيه خمس خصال : التوكل على الله ، والتفويض إلى الله ، والتسليم لأمر الله ، والصبر على بلاء الله ، والرضا بقضاء الله ، إنه من أحب في الله ، وأبغض في الله ، وأعطى في الله ، ومنع في إلله ، فقد استكمل الأيمان ».
وقال صلىاللهعليهوآله : « أيها الناس ، إن العبد لا يكتب في المسلمين حتى يسلم الناس من يده ولسانه ، ولا ينال درجة ألمؤمنين حتى يسلم أخوه من بوائقه وجاره من بوادره ، ولا يعدّ في المتقين حتى [ لا ] (٥) يقول مالا بأس به حذار ما به البأس.
أيها الناس ، إنه من خاف البيات أدلج ، ومن أجدّ في السير وصل ، وإنما تعرفون عواقب أعمالكم لوقد طويت صحائف اجالكم ».
وروى نوف البكالي قال : سمعت مولاي أمير المؤمنين عليهالسلام ، يقول :
__________________
١ ـ تنبيه الخواطر ٢ : ١٨٥.
٢ ـ كنز الفوائد : ١٨٥.
٣ ـ كنز الفوائد : ١٨٤.
٤ ـ أمالي الطوسي ٢ : ٢٦٩.
٥ ـ أثبتناه لضرورة السياق.
« خلقنا من طينة ، وخلق شيعتنا من فضل طينتنا ، فإذا [ كان يوم القيامة ] (١) الحقوا بنا ».
فقلت : يا أمير المؤمنين ، صف لي شيعتك ، فبكى عليهالسلام ، ثم قال : « شيعتي ـ والله ـ الحلماء الحكماء ، العلماء بالله وبدينه ، العاملون بأمره ، المهتدون بطاعته ، أحلاس عبادة ، وانضاء زهادة ، صفر الوجوه من السهر ، عمش العيون من البكاء ، خمص البطون من الصيام ، ذبل الشفاه من الدعاء ، مصابيح كل ظلمة ، وربحان كل قبيله ، تعرف الزهادة من سيماهم ، والرهبانية في وجوههم ، لا يسبون من المسلمين خلقاً ، ولا يقتفون منهم اثرا ، شرورهم مأمونة ، وأنفسهم عفيفة ، وحوائجهم خفيفة ، وقلوبهم محزونة ، فهم الأكايس (٢) الألباء ، الخلصاء النجباء ، الرّواعون فراراً بدينهم ، الذين إنشهدوا لم يعرفوا ، وإن غابوا لم يفتقدوا ، اولئك شيعتي الأطيبون ، وإخواني الأكرمون ، ألا ، ها شوقاً إلى رؤيتهم » (٣).
وروى عبد الله بن عباس ، قال لي الحسين بن علي عليهماالسلام : « يا بن عباس ، لا تتكلمن بما لا يعنيك فإنني أخاف عليك الوزر ، ولا تتكلمن بما يعنيك حتى ترى له موضعاً ، فربّ متكلم قد تكلم بحق فعيب ، ولا تمارين حليماً ولا سفيهاً ، فإن الحليم يقليك ، والسفيه يرديك ، ولا تقولن خلف أحد إذا توارى عنك ، إلاّ مثل ما تحب أن يقول عنك إذا تواريت عنه ، واعمل عمل عبد يعلم أنه مأخوذ بالإجرام مجزي بالأحسان ، والسلام » (٤).
وقال علي بن الحسين : « إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره ، وإن كان عندك اعتذاره ، فما كل من تسمعه نكراَ ، يمكنك أن توسعه عذراً ».
وروي أن بعض الأنصار حضرته الوفاة ، فأوصى ولداً له فقال : يا بني ، احفظ وصيتي ، فإنك إن لم تحفظها مني ، كنت خليقاً أن لاتحفظها من غيري.
يا بني ، اتق الله ، وإن استطعت أن تكون اليوم خيراً منك أمس ، وغداً خيراً منك اليوم ، وإن عثر عاثر من الناس فاحمد الله أن لا تكونه ، وإياك والطمع فإنه فقر
__________________
١ ـ أثبتناه من تنبيه الخواطر.
٢ ـ الأكياس ، من الكيس : وهو العقل والفطنة « القاموس المحيط ـ كيس ـ ٢ : ٢٤٧ ».
٣ ـ تنبيه الخواطر ٢ : ٧٠ ، باختلاف يسير.
٤ ـ كنز الفوائد : ١٩٤.
حاضر ، وعليك باليأس فإنك إن تأيس من شيء إلاّ أغناك الله عنه ، وإياك وما يعتذر منه ، فإنه لا يعتذر من كل خير ، وإذا صليت فصلّ صلاة مودع ، وأنت ترى انك لا تبقى لصلاة بعدها أبداً ».
ومن كتاب الكراجكي : روي عن النبي صلىاللهعليهوآله ، أنه قال : « كونوا في الدنيا أضيافاَ ، واتخذوا المساجد بيوتاً ، وعوّدوا قلوبكم الرقة ، وأكثروا من التفكر والبكاء من خشية الله ، ولا تختلفن بكم الأهواء ، تبنون مالا تسكنون ، وتجمعون مالا تأكلون ، وتأملون مالا تدركون » (١).
وقال صلىاللهعليهوآله : « نزل جبريل إليَّ في أحسن صورة فقال : يا محمد ، ربك يقرؤك السلام ، ويقول : إني أوحيت إلى الدنيا : أن تسهلي وبطئي وتيسّري لأعدائي حتى يبغضوا لقائي ، وتشدّدي وتعسّري وتضيقي على أوليائي ليحبّوا لقائي ، فإني جعلت الدنيا سجناً لأوليائي ، وجنة لأعدائي ».
وروي عنه صلىاللهعليهوآله ، أنه قال : « إذا أحب الله تعالى عبداً نصب في قلبه نائحة من الخوف ، وإذا أبغض عبداً جعل في قلبه مزماراً من الضحك ، فإن الله تعالى يحب كل باك حزين ، ما يدخل النار من بكى من خشية الله ، حتى يرجع اللبن الضرع ، ولن يجتمع في منخري مؤمن دخان جهنم وغبار في سبيل الله ».
وروي أن رجلاً قال لأمير المؤمنين عليهالسلام : عظني. فقال له : « لا تكن ممن يرجو الأخرة بغير عمل ، ويؤخر التوبة بطول أمل ، يقول في الدنيا بقول الزاهدين ، ويعمل عمل الراغبين ، إن اُعطي لم يشبع ، وإن مُنع لم يقنع ، يعجز عن شكر ما اُوتي ، ويبتغي الزيادة فيما بقي ، ينهى ولا ينتهي ، يأمر بما لا يأتي ، يحب الصالحين ولا يعمل عملهم ، يبغض المذنبين وهو أحدهم ، يكره الموت لكثرة ذنوبه ويقيم على [ ما ] (٢) يكره الموتله ، إن سقم ظل نادماً ، وإن صحّ أمن لاهياً ، يعجب بنفسه إذا عوفي ، ويقنط إذا ابتلي ، إن أصابه بلاء دعا مضطراً ، وإن ناله رخاء أعرض مغتراً ، تغلبه نفسه على ما يظن ، ولايغلبها على ما يستيقن ، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه ، ويرجو لنفسه بأكثر من عمله.
إن استغنى بطر ، وإن افتقر قنط ووهن ، يقصر إذا عمل ، ويبالغ إذا سأل ، إن
__________________
١ ـ كنز الفوائد : ١٦٠.
٢ ـ أثبتناه من نهج البلاغة.
عرضت له شهوة أسلف المعصية وسوّف التوبة ، وإن عرته محنة انفرج عن شرائط الملّة ، يصف العبرة ولا يعتبر ، ويبالغ في الموعظة ولا يتّعظ ، فهو بالقول مدلّ ، ومن العمل مقل ، ينافس فيما يفنى ، ويسامح فيما يبقى ، يرى الغنم مغرماً والغُرم مغنماً ، يخشى الموت ولا يبادر الفوت ، يستعظم من معصية غيره ما يستقل أكثر منه من نفسه ، ويستكثر منطاعته ما يحقره من طاعة غيره ، فهو على الناس طاعن ، ولنفسه مداهن ، اللهو مع الأغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقراء ، يحكم على غيره لنفسه ، ولا يحكم عليها لغيره ، يرشد غيره ويغوي نفسه ، فهو يطاع ويعصي ، ويستوفي ولا يوفي ، يخشى الخلق في غير ربه ، ولا يخشى ربه في (١) خلقه » (٢).
وقال عليهالسلام : « ذمتي بما أقول رهينة ، وأنا به زعيم ، إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات ، حجزه التقوى عن تقحم الشبهات » (٣).
وقال عليهالسلام : « كان لي أخ في الله ، وكان يعظمه في عيني صغر الدنيا في عينه ، وكان خارجاً عن سلطان بطنه ، لا يشتهي مالا يجد ، ولا يكثر إذا وجد ، وكان أكثر دهره صامتاَ ، فإن قال بذ(٤) القائلين ، ونقع غليل السائلين ، وكان ضعيفاً مستضعفاً ، فإذا جاء الجد فليثٌ عاد ، وصلُّ واد ، لا يدلي بحجة حتى يأتي قاضياً ، وكان لايشكو وجعاً إلا عند برئه ، وكان لا يلوم أحداً على ما يجد العذر في مثله حتى يسمع اعتذاره ، وكان يقول ما يفعل ولا يقول ما لا يفعل ، وكان على أن يسكت أحرص منه على أن يتكلم ، وكان إن غلب على الكلام لم يُغلب على السكوت ، وكان إذا بدهه أمران نظر أيهما أقرب إلى الهوى فخالفه ، فعليكم بهذه الخلائق فالزموها وتنافسوا فيها ، فإن لم تستطيعوها فاعلموا إن أخذ القليل خير من ترك الكثير » (٥).
« ولو لم يأمر الله بطاعته لكان يجب أن لا يعصى شكراً لنعمته » (٦).
____________
١ ـ في الأصل زيادة : غير.
٢ ـ نهج البلاغة ٣ : ١٨٩ / ١٥٠ ، باختلاف يسير ، ووفيه : قال الرضي : لو لم يكن في هذا الكتاب إلاّ هذا الكلام لكفى [ به ] موعظة ناجعة ، وحكمة بالغة ، وبصيرة لمبصر ، وعبرة لناظر مفكر.
٣ ـ نهج البلاغة ١ : ٤٢ / ١٥.
٤ ـ بذّ : غلب وفاق « الصحاح ـ بذذ ـ ٢ : ٥٦١ ».
٥ ـ نهج البلاغة ٣ : ٢٢٣ / ٢٨٩.
٦ ـ نهج البلاغة ٣ : ٢٢٤ / ٢٩٠ ، وفيه : لو لم يتوعد الله على معصيته لكان يجب أن لا يعصى شكراً لنعمه.
ومن كتاب كنز الفوائد : عن أبي سعيد الحذاء قال : كان النبي صلىاللهعليهوآله يوصينا ويقول لنا : « سيأتيكم قوم يسألونكم الحديث عني ، فإذا جاؤوكم فاستوصوا بهم خيرا » (١).
وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « من قضى لأخيه المؤمن حاجة ، كان كمن خدم الله عمره ».
وعن سلمان الفارسي ـ رحمة الله عليه ـ قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « لا يدخل الجنة أحد إلا بجواز : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من الله لفلان ابن فلان ، أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية ».
وقال عليهالسلام : « من حسن اسلام المرء تركه ما لا يعنيه ».
وعنه عليهالسلام قال : « سباب المؤمن فسوق ، وقتاله كفر » (٢).
وقال عليهالسلام : « مما أدرك الناس من كلام الحكمة : إذا لم تستحي فاعمل ما شئت ».
وقال أبو تمام في ذلك :
إذا لم تخش عاقبة الليالي |
|
ولم تستحي فاصنع ما تشاء |
يعيش المرء ما استحيى بخير |
|
ويبقى العود ما بقي اللحاء |
فلا والله ما في العيش بخير |
|
ولا الدنيا اذا ذهب الحياء |
ومما حفظته من كتاب كنز الفوائد : عن أبي عبيدة الحذاء ، عن اَبي جعفر محمد ابن علي عليهالسلام قال : « قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : قال الله تعالى : لايتكل العاملون على أعمالهم التي يعملونها لثوابي ، فإنهم لو اجتهدوا وأتعبوا أنفسهم أعمارهم في عبادتي ، كانوا مقصرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي ، فيما يطلبون من كرامتي ، والنعم في جناني ، ورفيع الدرجات العلى في جواري ، ولكن برحمتي فليثقوا ، وفضلي فليرجوا ، وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا ، فإن رحمتي عند ذلك تسعهم (٣) ، وبمنّي اُبلغهم رضواني ومغفرتي ، واُلبسهم عفوي ، فإنّي أنا الله الرحمن الرحيم بذلك تسميت » (٤).
__________________
١ ـ لم نجده في كنزالفوائد.
٢ ـ كنز الفوائد : ٩٧.
٣ ـ في المصدر : تدركهم.
٤ ـ كنزالفوائد : ١٠٠.
وعن عطاء بن يسار (١) قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام : « يوقف العبد يوم القيامة بين يدي الله فيقول : قيسوا بين نعمتي عليه وعمله ، فتستغرق النعم العمل ، فيقول : قد وهبت له نعمي عليه ، قيسوا بين الخيروالشر ، فإن استوى العملان ، أذهب الله تعالى الشر بالخير ، وأدخله الجنة ، وإن كان له فضل أعطاه الله بفضله ، وإن كان عليه فضل ـ وهو من أهل التقوى ، لم يشرك بالله تعالى ، واتقى الشرك ـ فهو من أهلالمغفرة يغفر الله له برحمته ، ويدخله الجنة إن شاء (٢) بعفوه » (٣).
ومن الكتاب : عن سعد بن خلف ، عن أبي الحسن (٤) عليهالسلام قال : « عليك بالجد ، ولا تخرجنّ نفسك من حد التقصير في عبادة الله وطاعته ، فإن الله تعالى لا يعبد حق عبادته » (٥).
ومن الكتاب : قال عليهالسلام وآله : « استحيوا من الله حق الحياء ، قيل له : يا رسول الله ، إنا نستحي ، فقال : ليس كذلك ، من استحيى من الله حق الحياء ، فليحفظ الرأس وماحوى ، والبطن وما وعى ، وليذكر الموت والبلى ، ومن أراد الاخرة ، ترك زينة الحياة الدنيا ، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء » (٦).
وقال عليهالسلام : « حب الدنيا رأس كل خطيئة » (٧).
وقال عليهالسلام : « إنكم لا تنالون ما تحبّون إلا بالصبر على ما تكرهون ، ولاتبلغون ما تأملون إلا بترك ما تشتهون » (٨).
وقال عليه وآله السلام : « إنكم في زمان من ترك عُشر ما اُمر به هلك ،
__________________
١ ـ في الأصل : « بشار » وما أثبتناه من المصدر هو الصواب ، وهو : عطاء بن يسار ـ بالياء المثناة ـ الهلالي ، أبو محمد المدني القاص مولى ميمونة زوج النبي صلىاللهعليهوآله ، كان صاحب مواعظ ، روى عن معاذ بن جبل وأبي ذر وغيرهم ، توفي سنة ٩٤ هـ. انظر « تهذيب التهذيب ٧ : ٢١٧ ، تقريب التهذيب ٢ : ٢٣ / ٢٠٤ ».
٢ ـ في المصدر زيادة : وبتفضل عليه.
٣ ـ كنز الفوائد : ١٥٠.
٤ ـ في الأصل : عن أبي عبدالله عليهالسلام ، وما أثبتناه من المصدر هو الصواب.
٥ ـ كنز الفوائد : ١٠١.
٦ ـ كنز الفوائد : ٩٨.
٧ ، ٨ ـ كنز الفوائد : ٩٨.
وسيأتي على الناس زمان من عمل به بعشر ما اُمر به نجا » (١).
ومن كتاب قال : دخل ضرار بن ضميرة الليثي (٢) على معاوية بن أبي سفيان ـ حسبه الله ـ يوماً فقال يا ضرار ، صف علياً ، فقال : أو تعفني من ذلك؟ فقال : لا أعفيك.
فقال : كان والله بعيد المدى ، شديد القوى ، يقول فضلاً ، ويحكم عدلاً ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل ووحشته.
كان ـ والله ـ غزير العبرة (٣) ، طويل الفكرة ، (يحاسب نفسه) (٤) ، ويقلب كفه ، ويخاطب نفسه ، ويناجي ربه ، يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ماجشب.
كان ـ والله ـ فينا كأحدنا ، يدنينا إذا أتيناه ، ويجيبنا إذا سألناه ، وكنا معدنوه منا قربنا منه ، لا نكلمه لهيبته ، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته ، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤِ المنظوم ، يعظم أهل الدين ، ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله.
وأشهد بالله ، لقد رأيته في بعض مواقفه ، وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، وهو قائم في محرابه ، قابض على لحيته ، يتململ ، تململ السليم (٥) ، ويبكي بكاء الحزين ، فكأني : الآن اسمعه هو يقول : « يا دنيا ، يا دنيا ، إليَّ تعرضت ، أم إليّ تشوّقت (٦) : هيهات ، هيهات ، غري غيري ، لا حاجة لي فيك ، قد بتتك (١) ثلاثاً لارجعة فيها ، فعمرك
__________________
١ ـ كنز الفوائد : ٩٧.
٢ ـ في ألمصدر : الكافي ، وقد ورد لألفاظ عديدة ، منها في نهج البلاغة ٣ : ١٦٦ / ٧٧ بلفظ : الضبائي ، وفي الشرح الحديدي ١٨ : ٢٢٤ : الضابي ، وفي الاستيعاب ٤٢ : ٣ الصدائي
٣ ـ في المصدر : الدمعة.
٤ ـ ليس في المصدر.
٥ ـ السليم : اللديغ ، كأنهم تفاء لواله بالسلامة « الصحاح ـ سلم ـ ١٩٥٢ : ٥ ».
٦ ـ كذا في الاصل ، والمناسب للسياق : « تشوقت » ، وتشوفت الجارية : تزينت. « الصحاح ـ شوف ـ ٤ : ١٣٨٣ ».
٧ ـ البت : القطع .. ومنه طلقها ثلاثاً بته « الصحاح ـ بتت ـ ١ : ٢٤٢ ».
قصير ، وخطرك يسير ، وأملك حقير ، آه آه ، من قلة الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق ، وعظم المورد » ثم بكى حتى ظننت أن نفسه قد خرجت.
فوكفت دموع معاوية على لحيته [ وجعل ] (١) ينشفها بكمّه ، واختنق القوم بالبكاء ، ثم قال : كان ـ والله ـ أبو الحسن كذلك ، فكيف صبرك عنه يا ضرار؟قال : صبرت من ذبح واحدها على صدرها ، فهى لا ترقأ عبرتها ، ولا تسكن حرارتها ، ثم قام فخرج وهو باك.
فقال معاوية : أما إنكم لو فقدتموني ، لما كان فيكم من يثني عليّ مثل هذا الثناء.
فقال له بعض من كان حاضراً : الصاحب على قدر صاحبه (٢).
وقال أمير المؤمنين عليهالسلام : « ثلاث درجات ، وثلاث كفارات ، وثلاث موبقات ، وثلاث منجيات ، فالدرجات : إفشاء السلام ، وإطعام الطعام ، والصلاة والناس نيام ، والمهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وأعجاب المرء بنفسه. والمنجيات : خوف الله في السروالعلانية ، والقصد ، في الغنى والفقر ، وكلمة العدل في الأرض والسخط. والكفارات : إسباغ الوضوء في السبرات (٣) ، والمشي بالليل والنهار إلى الصلوات ، والمحافظة على الجماعات ».
وعن محمد بن مسلم ، عن أبي عبدالله عليهالسلام قال : « من صدق لسانه زكا عمله ، ومن حسنت نيته زاد الله في رزقه ، ومن حسن بره بأهله زاد الله في عمره » (٤).
وقال عليهالسلام : « ثلاث من كن فيه زوجه الله تعالى من الحور العين كيف شاء : كظم الغيض ، والصبر على السيوف في الله ، ورجل أشرف على مال حرام فتركه لله » (٥).
وقال النبي صلىاللهعليهوآله : « ثلاثة مجالستهم تميت القلب : مجالسة
__________________
١ ـ أثبتناه من كنز الفوائد.
٢ ـ كنز الفوائد : ٢٧٠.
٣ ـ ألسبرات : جمع سبرة ، وهي الغداة الباردة « الصحاح ـ سبر ـ ٢ : ٦٧٥ ».
٤ ـ الخصال : ٨٧ / ٢١.
٥ ـ ألخصال : ٨٥ / ١٤.
الأنذال ، والحديث مع النساء ، ومجالسة الأغنياء » (١).
وقال عليهالسلام : « ثلاث فيهن المقت من اللهّ تعالى : نوم من غيرسهر ، وضحك من غيرعجب ، وأكل على الشبع » (٢).
وقال عليهالسلام : « إن في الجنة درجة لايبلغها إلا ثلاثة : إمام عادل ، وذورحم وصول ، وذوعيال صبور » (٣).
وقال أمير المؤمنين عليهالسلام : « ما زالت نعمة عن قوم ولا غضارة عيش إلاّ بذنوب اجترحوها ، فإن الله ليس بظلام للعبيد ، ولو ان الناس حين تزول عنهم النعم وتنزل بهم النقم ، فزعوا إلى الله بولهٍ من أنفسهم ، وصدق من نياتهم ، وخالص من سريراتهم ، لرد عليهم كل شارد ، ولأصلح لهم كل فاسد ».
وقال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « أحسنوا مجاورة النعم بشكرها والقيام بحقوقها ، ولا تنفروها ، فانها قل ما نفرت عن قوم فعادت إليهم » (٤).
ويقول الله تعالى في بعض كتبه : « إني أنا الله لا إله الا أنا ذو بكة (٥) ، مفقر الزناة ، وتارك تاركي الصلاة عراة » (٦).
وقال عليهالسلام : « من قال : قبح الله الدنيا ، قالت الدنيا : قبح الله أعصانا لربه. من عفّ عن محارم الله كان عابداً ، ومن رضي بقسم الله كان غنياً ، ومن أحسن مجاورة من جاوره كان مسلماً ، ومن صاحب الناس بالذي يحب أن يصاحبوه به كان عدلاً » (٧).
وقال عليه وآله السلام : من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ، ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات ، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصائب ، ومن ارتقب
__________________
١ ـ الخصال : ٨٧ / ٢٠
٢ ـ الخصال : ٨٩ / ٢٥.
٣ ـ الخصال : ٩٣ / ٣٩.
٤ ـ كنز الفوائد : ٢٧١.
٥ ـ بكة : اسم من أسماء مكة المكرمة « الصحاح ـ بكك ـ ٤ : ١٥٧٦ ».
٦ ـ كنز الفوائد : ٢٧١.
٧ ـ كنز الفوائد : ٢٧١.
الموت سارع في الخيرات » (١).
وقال عليه وآله السلام : « اجتهدوا في العمل ، فإن قصر بكم ضعف فكفوا عن المعاصي » (٢).
* * *
__________________
١ ـ كنز الفوائد : ٢٧١.
٢ ـ كنز الفوائد : ٢٧١.
فصل : فيما جاء في الخصال
قال رجل لأحد الزهاد : أوصني ، فقال : اُوصيك بخصلة واحدة ، إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما (١).
ولقي حكيم حكيماً ، فقال له : عظني وأوجز ، قال : عليك بخصلتين : لايراك الله حيث نهاك ، ولايفقدك من حيث أمرك. قال : زدني ، قال : لا أجد للحالين ثالثة (٢).
وقال حكيم الفرس : ثلاث خصال لاينبغي للعاقل أن يضيعهن ، بل يجب أن يحث عليهن نفسه وأقاربه ومن أطاعه : عمل يتزود به لمعاده ، وعلم طب يذب به عن جسده ، وصناعة يستعين بها في معاشه (٣).
وقال بعض الحكماء : أربع خصال يمتن القلب : ترادف الذنب على الذنب ، وملاحاة الأحمق ، وكثرة منافثة (٤) النساء ، والجلوس مع الموتى.
قيل له : ومن الموتى؟ فقال : كل عبد مترف فهو ميت ، وكل من لايعمل فهو ميت (٥).
وقال ابن عباس رحمة الله عليه : خمس خصال تورث خمسة أشياء : ما فشت الفاحشة في قوم قط إلا أخذهم الله بالموت ، وما طفف قوم الميزان إلاّ أخذهم الله بالسنين ، وما نقض قوم العهد إلاّ سلط الله عليهم عدوهم ، وما جار قوم في الحكم إلاّ كان القتل بينهم ، وما منع قوم الزكاة إلا سلط الله عليهم عدوهم (٦).
وقال لقمان الحكيم لابنه في وصيته : يا بني ، أحثك على ست خصال ، ليس منها خصلة إلأّ وهي تقربك إلى رضوان الله عز وجل ، وتباعدك من سخطه :
الأولة : أن تعبد الله لاتشرك به شيئاَ.
__________________
١ ـ كنز الفوائد : ٢٧١ ، ومعدن الجواهر : ٢٣.
٢ ـ كنز الفوائد : ٢٧١ ، ومعدن ألجواهر : ٢٧.
٣ ـ كنز الفوائد : ٢٧١ ، ومعدن الجواهر : ٣٥.
٤ ـ منافثة النساء : ألكلام معهن ومحادثتهن « مجمع البحرين ـ نفث ـ ٢ : ٢٦٦ ».
٥ ـ كنز الفوائد : ٢٧١.
٦ ـ كنز الفوائد : ٢٧٢ ، ومعدن الجواهر : ٥٠.
والثانية : الرضا بقدرالله فيما أحببت أوكرهت.
والثالثة : أن تحب في الله ، وتبغض في الله.
والرابعة : تحب للناس ما تحب لنفسك ، وتكره لهم ماتكرهه (١) لنفسك.
والخامسة : تكظم الغيظ ، وتحسن إلى من أساء إليك.
والسادسة : ترك الهوى ، ومخالفة الردى (٢).
وقال بعضهم : ذوالمروة الكاملة من (٣) اجتمع فيه سبع خصال : إذا ذُكّر ذكر ، وإذا اُعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر ، وإذا عُصي غفر ، وإذا أحسن استبشر ، وإذا أساء استغفر ، وإذا وعد أنجز ويسر (٤).
وقال بعض الحكماء : تحصن بثمان من ثمان : بالعدل في المنطق من [ ملامة ] (٥) الجلساء ، وبالرويَّة في القول من الخطاء ، وبحسن اللفظ من ألبذاء ، وبالأنصاف من الإعتداء ، وبلين الكف من الجفاء ، وبالتودد من ضغائن الأعداء ، وبألمقاربة (٦) من الأستطالة ، وبالتوسط ، في إلاُمور من لطخ العيوب (٧).
وروي أن تسع خصال من الفضل والكمال ، وهي داعية إلى المحبهّ ، مع ما فيها من القربة والمثوبة : الجود على المحتاج ، والمعونة لمستعين ، وحسن التفقد للجيران ، وطلاقة الوجه للإخوان ، ورعاية الغائب فيمن يخلف ، وأداء ألأمانة إلى المؤتمن ، وأعطاءألحق في المعاملة ، وحسن الخلق عند المعاشرة ، والعفو عند المقدرة (٨).
وأوصى إفلاطن أحد أصحابه بعشر خصال ، قال : لا تقبل الرئاسة على أهل مدينتك البتة ، ولا تتهاون بالأمر الصغير إذا كان يقبل النماء ، ولا تلاح رجلاً غضباناً فإنك تقلقه باللجاج ، ولا تجمع في منزلك نفسين يتنازعان في الغلبة ، ولا تفرح بسقطة
__________________
١ ـ في الكنز : ماتكره.
٢ ـ كنز الفوائد : ٢٧٢ ، ومعدن الجوهر : ٥٥.
٣ ـ في الاصل : لمن ، وما أثبتناه من المصدر.
٤ ـ كنز الفوائد : ٢٧٢.
٥ ـ أثبتناه من كنز الفوائد.
٦ ـ في الاصل : وبالمفازة ، وما أثبتناه من كنز الفوائد.
٧ ـ كنز الفوائد : ٢٧٢ ، ومعدن الجوهر : ٦٥
٨ ـ كنز الفوائد : ٢٧٢.
غيرك فإنك لاتدري متى يحدث الزمان بك ، ولا ينفج (١) في وقت الظفر فإنك لاتدري كيف يدور عليك الزمان ، ولاتهزل بخطأ غيرك فإن المنطق لاتملكه ، والق الخطأ من الناس بنوع من الصواب الذي في جوِهرك ، ولا تبذلن مودتك لصديقك دفعة واحدة ، وصير الحق أبداً أمامك ، تسلم دهرك ولا تزال حراً (٢).
* * *
__________________
١ ـ كذا في الأصل ، ولعل الصواب : ولا تنفج ، والنفاج : المتكبر « القاموس المحيط ١ : ٢١١ ».
٢ ـ كنزالفوائد : ٢٧٢ ، ومعدن الجواهر : ٧٣.
تأويل آية
إن سأل سائل عن تأويل قول الله عز وجل : (وجاؤا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل والله المستعان على ماتصفون) (١) فقال : كيف وصف الدم بأنه كذب ، والكذب من صفات الأقوال ، لامن صفات الأجسام؟ وما معنى قول يعقوب عليهالسلام : « فصبر جميل » ، وكيف وصفه بذلك؟ ونحن نعلم أن صبره لا يكون إلاّ جميلاً؟
الجواب : قيل له : أما « كذب » فمعناه في هذا الموضع مكذوب فيه وعليه ، مثل قولهم : هذا ماء سكب ، وشراب صب ، يريدون (٢) مسكوباً ومصبوباً. وقولهم : رجل صوم ، وامرأة نوح ، والمعنى : صائم ونائحة.
قال الشاعر :
تظل جيادهم نوحاً عليهم |
|
مقلدة أعنتها صفوفاً |
أراد نائحة عليهم.
ويقولون : مالفلان معقول ، يريدون عقلاً.
وقد قال الفراء وغيره : يجوز في النحو : بدم كذباً ـ بالنصب على المصدر ـ وتقدير الكلام كذبوا كذباً.
(وأما وصف الصبر بأنه جميل ، لأنه قصد به وجه الله. وقيل : انه أراد صبراًلاشكوى فيه ولا جزاء معه ، وقال أهل العربية : إن ارتفاع الصبر هاهنا ، فشأني صبرجميلاً) (٣) وإنما ذكرنا تفسير هذه الآية لأنه ورد في سياقة الكلام (٤).
__________________
١ ـ يوسف ١٢ : ١٨.
٢ ـ في الأصل : يريدان ، وما أثبتناه من ألمصدر.
٣ ـ ورد في كنز الفوائد بدل مابين القوسين ما لفظه : « وأما وصف الصبر بأنه جميل فلأن الصبر قد يكون جميلاً وغير جميل ، وإنما يكون جميلاً إذا قصد به وجه الله تعالى ، فلما كان في هذا الموضع واقعاً على الوجه المحمود صح وصفه بالجميل ، وقد قيل : أنه أراد صبراً لا شكوى فيه ولا جزع معه ، ولو لم يصفه بذلك لظن مصاحبة الشكوى والجزع له ، وقد قال أهل العربية : إن ارتفاع الصبر هاهنا إنما هو لأن المعنى فشأني صبر جميل والذي اعتقده صبر جميل ».
٤ ـ كنز الفوائد : ٢٧٢ ، ٢٧٣.
فصل من الأدب (١)
روي عن بعض الأدباء أنه قال لابنه : يابني ، اقتن من مكارم الأخلاق خمساً ، وارفض ستاً ، واطلب العز بسبع ، واحرص على ثمان فإن فزت بتسع بلغت المدى ، وان أحرزت عشراً أدركت (٢) الاخرة والدنيا.
فأما الخمس المقتناة : فخفض الجانب ، وبذل المعروف ، وإعطاء النصف (٣) من نفسك ، وتجنب الأذى ، وتوقي الذم.
وأما الستة المرفوضة : فطاعة الهوى ، وارتكاب البغي ، وسلوك التطاول ، وقساوة القلب ، وفظاظة القول ، وكثرة التهاون.
وأما السبعة التي ينال بها العز : فأداء الأمانة ، وكتمان السر وتأليف المُجانب ، وحفظ الأخاء ، وإقالة العترة ، والسعي في حوائج الناس ، والصفح عن الإعتذار.
وأما الثمان التي يحرص عليها : فتعظيم أهل الفضل ، وسلوك طرق الكرم ، والمواساة بملك اليد ، وحفظ النعم بالشكر ، واكتساب الأجر بالصبر ، والاغضاء عن زلل الصديق ، واحتمال النوائب ، وترك الإمتنان بالاحسان.
واما التسع التي تبلغ بها المدى : فالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وحرز اللسان من سقوط الكلام ، وغض الطرف ، وصدق النية ، والرحمة لأهل البلاء ، والموالاة على الدين ، والمسامحة في الاُمور ، والرضا بالمقسوم.
وأما العشرة الكاملة ، التي تنال بها الدنيا والاخرة : فالزهد فيما بقي ، والإستعداد لما يأتي ، وكثرة الندم على مافات ، وإدمان الإستغفار ، واستشعار التقوى ، وخشوع ألقلب ، وكثرة الذكر لله تعالى ، والرضا بأفعال الله سبحانه ، وملازمة الصدق ، والعمل بما ينجي.
__________________
١ ـ كنز الفوائد : ٢٨٨ ، وفيه تمام الفضل.
٢ ـ في المصدر : أحرزت.
٣ ـ في المصدر : النصفة.
فصل في ذكر الغنى والفقر (١)
قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : « ليس الغنى (٢) كثرة الحرص ، وإنما الغنى غنى النفس ».
وقال عليه واله السلام : « ثلاث خصال من صفة أولياء الله تعالى : الثقة بالله في كل شيء ، والغنى به عن كل شيء ، والإفتقار إليه في كل شيء ».
وقال صلىاللهعليهوآله : « ألا اُخبركم بأشقى الأشقياء؟ » قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : « من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة » نعوذ بالله من ذلك.
وقال أميرالمؤمنين عليهالسلام : « الفقر يخرس الفطن عن حجته ، والمقلّ غريب في بلدته ، ومن فتح على نفسه باباً من المسألة فتح الله عليه باباً من الفقر ».
وقال : « العفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى ».
وقال : « من كساه الغنى ثوبه ، خفي عن الناس عيبه ».
وقال : « من أبدى إلى الناس ضره فقد فضح نفسه ، وخير الغنى ترك السؤال ، وشر الفقر لزوم الخضوع ».
وقال : « استغن عن من شئت تكون نظيره ، واحتج إلى من شئت تكون أسيره ، وأفضل على من شئت تكن أميره » [ وقال عليهالسلام : ] (٣) « لاملك أذهب للفاقة من الرضا بالقنوع ».
وروي أن الماء نضب عن (٤) صخرة فوجد عليها مكتوباً : إنما يتبين الغني والفقير بعد العرض على الله عز وجل.
وقال رجل للصادق عليهالسلام : عظني ، فقال : « لاتحدث نفسك بفقر ، ولابطول عمر ».
وقيل : ما استغنى أحد بالله ، إلا افتقر الناس إليه.
__________________
١ ـ كنز الفوائد : ٢٨٨ ـ ٢٨٩ ، وفيه تمام الفصل.
٢ ـ في المصدر زيادة في.
٣ ـ أثبتناه من المصدر.
٤ ـ في المصدر : صب على.
وقيل : الفقير من طمع والغني من قنع (١).
وانشد أمير المؤمنين صلوات الله عليه :
ادفع الدنيا بما اندفعت |
|
وأقطع الدنيا بما انقطعت |
يطلب المرء الغنى عبثاً |
|
والغنى في النفس لو قنعت |
ومن قطعة أبي ذؤيب :
والنفس راغبة إذا رغبتها |
|
وإذا تردّ إلى قليل تقنع |
لمحمود الوراق :
أراك يزيدك الاثراء حرصاً |
|
على الدنيا كأنك لا تموت |
فهل لك غاية إن صرت يوماً |
|
إليها ، قلت : حسبي قد غنيت |
تظل على الغنى أبداً فقيراً |
|
تخاف فوات شيء لا يفوت |
وله أيضاً :
يا عائب الفقرألا تزدجر |
|
عيب الغنى أكبر لو تعتبر |
من شرف الفقر ومن فضله |
|
على الغنى إن صح منك النظر |
أنك تعصي لتنال الغنى |
|
ولست تعصي الله كي تفتقر |
لغيره :
أرى اُناسا بأدنى الدين قد قنعوا |
|
ولا أراهم رضوا في العيش بالدون |
فاستغن بالله عن دنيا الملوك كما |
|
استغنى الملوك بدنياهم عن الدين |
وقال آخر :
دليلك ان الفقر خير من الغنى |
|
وأن قليل المال خير من المثري |
لقاؤك إنساناً عصى الله في الغنى |
|
ولم تر إنساناً عصى الله في الفقر |
* * *
__________________
١ ـ في الأصل : اقنع ، وما أثبتناه من المصدر.