نهاية الأفكار - ج ٤ - ٢

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي

نهاية الأفكار - ج ٤ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٥

تقرير ابحاث آية الله الشيخ آغا ضياء العراقي قدس سره

من غير احتياج في مرحلة صحة العمل ولا في المعذرية والمنجزية إلى تعيين شخص خاص في العمل برأيه ( واما ) في فرض تعدد المجتهد واختلافهم في الفتاوى وتساويهم في الفضل ، وان كان لا محيص من الاخذ والاختيار مقدمة لتحصيل الحجة على امتثال الاحكام ، ويجب العمل شرعا على طبق ما يختاره لصيرورته بعد الاخذ حجة تعيينية على المقلد ( إلا ) انه لا يتفاوت الحال فيه بين القولين في التقليد.

( المقام الثاني ) في وجوب التقليد أو جوازه على العامي وبيان أدلته ( ولا يخفى ) أن عمدة المستند على لزوم التقليد بالنسبة إلى المقلد العامي ، وهو الامر الجبلي الفطري الارتكازي في نفوس عامة الناس على لزوم رجوع الجاهل بالوظيفة إلى العالم بها بنحو موجب لجريهم عليه طبعا وعلمهم بالحكم بلا التفات منهم إلى وجه علمهم ، كما في سائر ارتكازاتهم بحسب الفطرة والجبلة التي أودعها فيهم بارئهم ( والى ذلك ) أيضا يرجع السيرة المعهودة من العرف والعقلاء والمتدينين من الصدر الأول على رجوعهم في كل ما جهلوا به إلى العالم ، بل ويرشد إليه ما ورد في الأدلة الشرعية من ارجاع الجاهل إلى العالم ( وعليه ) فيكفي مثل هذا الارتكاز الفطري دليلا على المسألة ( ولا يحتاج ) إلى اتعاب النفس بجعل المستند الحامل للعامي على التقليد بالنسبة إلي الوظائف التكليفية والوضعية دليل الانسداد ( بتقريب ) ان المقلد العامي بعد علمه بثبوت المبدأ وارسال الرسل وتشريع الشريعة ، وعلمه بلزوم التعرض للوظائف الشرعية المقررة له ، وعدم تمكنه من الامتثال التفصيلي باستخراج وظائفه من الأدلة ، ولا من الامتثال الاجمالي بالاحتياط ، لعدم معرفته بموارد الاحتياطات ، وللعسر والحرج المنفيين في الشريعة ، يحكم عقله السليم بلزوم الرجوع إلى فتوى المجتهد لكونها أقرب الطرق لديه إلى الواقع ( كيف ) وعلى ذلك يشكل في مرجعية فتوى المجتهد في تعيين وظائفه في الموارد التي يكون المقلد ظانا على خلاف رأي المجتهد ( فنفس بنائهم ) على الرجوع إلى فتوى المجتهد وعدم اعتنائهم بظنونهم على خلاف رأي المجتهد من غير نكير من أحد يكشف عن أن المستند الباعث على حملهم على التقليد هو الامر الجبلي الفطري السليم على لزوم

٢٤١

رجوع الجاهل إلى العالم ، لا انه ملاك الانسداد ( ولقد ) عرفت كفاية هذا العلم الارتكازي في لزوم التقليد على العامي في الاحكام الفرعية ( والا ) فبعد عدم تمكن المقلد من الرجوع إلى الأدلة والاجتهاد فيها لا يمكن اثبات هذه المسألة بالتقليد للزوم الدور أو التسلسل ( إلا ) إذا كان العامي غير ملتفت بحصر الوظيفة بالتقليد في الاحكام الفرعية ، بأن كان شاكا في تعيين وظيفته الفعلية من حيث التقليد أو الاحتياط أو تحصيل الاجتهاد في المسائل الفرعية ( حيث ) ان مثله جاهل في مسألة الرجوع إلى الغير في المسائل الفرعية أيضا ( فيجعل ) مركز اجتهاده حينئذ ولو بمقتضى الاركاز في الرجوع إلى المجتهد في تعيين هذه الوظيفة ، من غير أن يكون اجتهاده ذلك من أدلة جواز التقليد في الاحكام الفرعية ، فيفتيه المجتهد بما استقر عليه رأيه من كون الوظيفة الفعلية هو التقليد دون الاحتياط أو تحصيل الاجتهاد ( وعلى كل حال ففي كل تقليد لا بد من انتهاء امر التعبد بقول الغير إلى اجتهاد المقلد العامي وقطعه الوجداني بمرجعية الغير ولو بمقتضى الفطرة الارتكازية في نفوس عامة الناس من مرجعية العالم بالوظيفة للجاهل بها ( فان ) مرجع الحجج التعبدية إلى حجتها بالغير ولا بد من انهاء كل ما بالغير إلى ما بالذات.

( وكيف كان ) فما ذكرناه من الدليل الارتكازي هو العمدة في المستند لوجوب أصل التقليد ( والا ) فما عداه من الأدلة الشرعية قابل للمناقشة ( اما الاجماع ) المدعى في المقام ، وكذا السيرة المستمرة من الصدر الأول فالمناقشة فيهما ظاهرة ، لقوة احتمال كون مدرك المجمعين ، وكذا مبنى السيرة هي القاعدة المرتكزة في نفوس عامة الناس ( ومع ) هذا الاحتمال لا يحصل الوثوق من هذا الاتفاق بنحو يكشف عن رأي المعصوم (ع) ، ليكون بنفسه دليلا على المسألة في مقابل العقل الفطري الارتكازي ( واما الآيات ) فعمدتها آيتي النفر والسؤال ( وهما ) أيضا قاصرتان عن إفادة حجية فتوى العالم في حق العامي ( أما ) آية السؤال ، فلقوة احتمال كون ايجاب السؤال عن أهل الذكر لأجل حصول العلم بالواقع ، لا لمحض التعبد بقولهم ولو لم يفد العلم للسائل ( فالمراد ) من الآية والله العالم فاسئلوا أهل الذكر

٢٤٢

الذكر إن كنتم لا تعلمون حتى تعلموا ، كما يقال لمن ينكر شيئا لعدم علمه به سل فلانا ان كنت لا تعلم ( مضافا ) إلى ورود الآية المباركة في أصول العقائد التي لا يكتفي فيها بغير العلم ، لظهورها بمقتضى السياق في إرادة علماء أهل الكتاب والسؤال عنهم فيما لديهم من علامات النبوة المكتوبة في كتبهم السماوية ( والى ) ما ورد من تفسير أهل الذكر بالأئمة المعصومين (ع) المعلوم إفادة قولهم العلم بالواقع ( واما ) آية النفر ، فلمنع اقتضائها وجوب الحذر مطلقا ولو مع عدم حصول العلم للمنذرين بالفتح ( إذ لا إطلاق ) من هذه الجهة وإنما اطلاقها مسوق لايجاب الانذار على النافرين بما تفقهوا من الاحكام ، لا لبيان وجوب الحذر والقبول مطلقا ، فيمكن ان يكون الحذر المطلوب عقيب الانذار منوطا بحصول العلم لاقتضاء تراكم إخباراتهم لافشاء الحق الموجب لحصول العلم ( فمعنى الآية ) والله العالم انه يجب على النافرين الانذار بما تفقهوا إذا رجعوا إلى المتخلفين لعله يحصل لهم العلم فيحذرون ( وربما يشهد ) لذلك استشهاد الإمام (ع) بالآية على وجوب نفر جماعة من كل بلد لمعرفة الامام اللاحق إذا حدث على الامام السابق حدث ( كقول أبي عبد الله (ع) ليعقوب بن شعيب بعد ما سئله عن الامام إذا حدث عليه حدث كيف يصنع الناس .. أين قول الله عز وجل فلولا نفر الآية : ثم قال (ع) هم في عذر ما داموا في الطلب وهؤلاء الذين ينتظرونهم في عذر حتى يرجع إليهم أصحابهم ، مع وضوح ان الإمامة لا تثبت الا بالعلم ( مؤيدا ) ذلك بما في الآية من التعبير بالطائفة التي هي عبارة عن الجماعة ( إذ من المعلوم ) ان اخبار الجماعة بشيء موجب عادة للعلم بذلك الشيء ( لا يقال ) انه كذلك لو أريد من الجمع في الآية انذار مجموع النافرين من حيث المجموع ( واما ) لو أريد منه العموم الافرادي ، فلا موقع لهذا الاشكال ( فإنه يقال ) ان مجرد كون الجمع في الجملات المذكورة في الآية على نحو العموم الاستغراقي لا يقتضى اطلاق الآية من حيث مطلوبية الحذر عقيب إنذارهم على الاطلاق ( إلا ) في فرض كون الانذار الواجب هو انذار كل واحد من النافرين طائفة من المتخلفين ( فان ) وجوب انذارهم كذلك يلازم

٢٤٣

اطلاقها على وجه يستفاد منه وجوب القبول تعبدا وإثبات مثله من الآية محل منع ( نعم ) لو اغمض النظر عما ذكرنا لا وجه للمناقشة فيها من جهة تخصيصها بباب الخبر والحكاية عما رووه وسمعوا من الأحاديث المشتملة على التخويف ( كيف ) وان الانذار بما تفقه ظاهر في دخل الفقاهة وانشاء التخويف في الحجية ووجوب الحذر عقيب الانذار ( ومن المعلوم ) أن ذلك إنما يناسب مقام الفتوى لا مقام الرواية والحكاية عن قول المعصوم (ع) الذي لا يكون لحيث فهم الراوي واستفادته دخل في الحجية ووجوب الحذر ( فإذا ) كان ظاهر الآية هو الانذار بما تفقه من حيث فقاهته واستفادته من كلام المعصوم (ع) ( فلا محالة ) تكون من أدلة حجية الفتوى ، ولا يكون لها مساس بباب الانذار في مقام الحكاية والرواية الذي هو اخبار عن قول المعصوم (ع).

( وأما الاخبار ) الدالة على جواز الافتاء والاستفتاء مفهوما ومنطوقا مطابقة والتزاما ، فهي وإن كانت أحسن ما في الباب ( كقول ) الباقر (ع) لأبان بن تغلب إجلس في المسجد وأفت الناس فاني أحب ان يرى في شيعتي مثلك ( وقول ) الصادق (ع) في خبر طويل .. فأما من كان من الفقهاء صائنا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه ( ومفهوم ) ما ورد في النهي عن الافتاء بغير علم ( وما ورد ) من الارجاع إلى مثل الأسدي يعنى أبا بصير ، وزكريا بن آدم ، ويونس بن عبد الرحمن وأضرابهم من ثقات أصحابهم عليهم‌السلام ( وكذا ) ما ورد من الارجاع إلى رواة الاحكام في الترافع ، كمقبولة عمر بن حنظلة ، ومشهورة أبي خديجة ، والتوقيع الشريف لا حمد بن إسحاق .. وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة ( فيخصص ) بها ما دل على النهي عن اتباع غير العلم والذم على التقليد من الآيات والاخبار على فرض شمولها للتقليد في الاحكام الفرعية بالحمل لها على التقليد في الأصول الاعتقادية المطلوب فيها العلم واليقين ، وعلى تقليد الفسقة من العلماء في الفروع الفقهية ( كما يشهد ) به المروى في الاحتجاج من قوله (ع) وكذلك عوام أمتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق

٢٤٤

الظاهر والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا إلى قوله (ع) .. من قلد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله سبحانه بالتقليد لفسقة فقهائهم ( ولا مجال ) للمناقشة في دلالة تلك الأخبار بجعلها من أدلة حجية الرواية لا الفتوى بمحض كون الافتاء في الصدر الأول بنقل الرواية بألفاظها أو بمضمونها ( إذ نقل ) الرواية منهم في مقام الافتاء بالواقع للجاهل بالأحكام إنما كان باعمال الرأي والنظر في حكم المسألة والاجتهاد في استفادته من ظاهر الرواية ، لا بصرف نقل الرواية عن الامام بما هو ، كيف وان صرف نقل الرواية لا يكون إفتاء الحكم المسألة ، ولا يصدق على مثله عنوان الفقيه والعارف بالأحكام الذي أفيد في تلك الأخبار لزوم رجوع العوام إليه في أخذ الفتوى وتقليده في المسائل الفرعية ( ولذلك ) اعتبر في المقبولة حيث النظر والمعرفة بالأحكام فيمن يترافع لديه بقوله (ع) ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا وكذا في مشهورة أبى خديجة ( ودعوى ) ان المقبولة ونظرائها واردة في مقام القضاء ولا ربط لها بباب الفتوى ، مندفعة بعدم الفصل بينهما ( فحمل ) تلك الأخبار حينئذ على بيان حجية الرواية لا الفتوى ناشئ عن قلة التأمل فيها ( نعم ) بعد استقلال عقل المقلد بمرجعية فتوى العالم في جميع الأحكام الفرعية لا يثمر بحث المجتهد فيها إلا من حيث اطلاقها من جهة بعض خصوصيات المرجع من حيث الحياة والا علمية والا وثقية ونحوها مما كان المقلد جاهلا في اعتباره في المرجع ( وإلا ) فبالنسبة إلى أصل وجوب التقليد لا يكون البحث فيها مثمرا لا في حق المجتهد في افتائه بالوجوب ولا في حق المقلد ( الا ) إذا فرض كون المقلد جاهلا في تعيين الوظيفة الفعلية من حيث التقليد أو تحصيل الاجتهاد في الاحكام الفرعية أو الاحتياط ، فيكون لبحث المجتهد حينئذ واستنباطه من تلك الأدلة مجال ، فيفتي إياه بكون الوظيفة هو التقليد في الاحكام الفرعية.

( وعلى كل حال ) فالتقليد حيثما قلنا بوجوبه على العامي فوجوبه لا يكون الا طريقيا لا شرطيا لصحة العمل ، كما يوهمه اطلاق كلامهم بطلان عمل تارك

٢٤٥

طريقي الاجتهاد والتقليد ، بداهة أنه لا مدخلية للتقليد في صحة عمل العامي ( بل يكفي ) في صحته واقعا مجرد كونه مطابقا للواقع ولو من باب الاتفاق ، وظاهرا مجرد اتفاق كونه على وفق رأي من وجب عليه تقليده تعيينا والاستطراق به إلى الواقع ولو لم يكن حين العمل ملتفتا إلى فتوى من وجب عليه تقليده ، فقولهم بوجوب التقليد على العامي انما هو من جهة كونه طريقا له إلى الاحكام الواقعية وأنه بدونه لا يتمكن الجاهل الملتفت من قصد التقرب في عباداته ( مع أنه ) لاوجه لحصر طريق تصحيح الأعمال الصادرة من المكلف عبادة ومعاملة بالامرين المزبورين بعد امكان تصحيحها بالاحتياط الحاوي لجميع ما احتمل دخله في صحة العمل وجودا وعدما ، كما هو ظاهر.

( ثم إن ) مرجع حجية فتوى المجتهد بالحكم الشرعي على المقلد العامي انما هو باعتبار كشفه عن رأيه واعتقاده الذي هو الحجة على المقلد ، لا باعتبار كشفه بنفسه عن الواقع ، فما هو موضوع الحجية في باب الفتوى انما هو رأي المجتهد بما هو طريق إلى الواقع لا نفس فتواه واخباره بالحكم فتكون حجية فتواه في حق المقلد من باب كونها طريقا إلى ما هو الطريق إلى الواقع وهو رأيه واعتقاده في حكم المسألة ( ولذلك ) يصح للمقلد الاعتماد في مقام العمل على رأيه المستكشف بطريق آخر غير فتواه كما لو علم من مذاقه ان رأيه على اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده الخاص ( فلو أفتى ) بوجوب شيء في مسألة ليس له الاتيان بضده ولا يكاد يصح عنه أيضا إذا كان عباديا ولو لم يكن له فتوى في تلك المسألة أصلا ( وبذلك ) اتضح الفرق بين باب حجية الفتوى وباب حجية الخبر ( فان ) موضوع الحجية في باب الخبر هو نفس الاخبار بما هو حاك عن الواقع ولا مدخل في الحجية لحيث فهم المخبر واعتقاده ، بخلاف باب الفتوى ، فان الحجة على العامي انما هو رأى المفتي واعتقاده فيكون بين البابين من هذه الجهة تمام المعاكسة ( وبذلك ) يظهر وجه رجوع الأصحاب عند اعوازهم النصوص إلى فتاوى علي بن بابويه وغيره ممن دأبه على الافتاء بمضامين الاخبار ( حيث ) أن رجوعهم إلى مثله انما هو باعتبار كشف فتواه في المسألة عن كونها مضمون رواية عن المعصوم (ع) ، لا باعتبار كشفها عن

٢٤٦

رأيه واعتقاده الذي هو موضوع الحجية في باب التقليد ( لوضوح ) ان فتوى الفقيه من هذه الجهة انما تكون حجة في حق العامي ، لا في حق مجتهد آخر مثله.

( ثم لا يخفى ) ان الارتكاز العقلي على لزوم رجوع الجاهل إلى العالم انما هو قضية اجمالية لا يكاد يستكشف منها الخصوصيات المحتملة دخلها في المرجع من مثل الحياة والايمان والعدالة والأعلمية والذكورية والحرية ونحوها لا اثباتا ولا نفيا ( ولذلك ) كان المجال لرجوع المقلد في هذه الخصوصيات بحكم العقل الاجمالي إلى العالم إذا شك في اعتبارها في المرجع كلا أو بعضا ( ولا محيص ) له عند الشك من الرجوع أولا إلى من هو جامع جميع ما احتمل دخله في المرجع من الصفات ، فيفتيه العالم بها بما استقر عليه رأيه بمقتضى استفادته من الأدلة الشرعية اطلاقا وتقييدا.

( المقام الثالث ) قد اختلفوا في وجوب تقليد الأعلم عند اختلاف الاحياء في العلم والفضيلة وعدم وجوبه ومساواته مع العالم من هذه الجهة على قولين ( والظاهر ) ان الخلاف كما يظهر من تصريح بعضهم انما هو في فرض كون فتوى الأعلم مخالفة لفتوى غيره ، بل ومع علم المقلد باختلافهما في الفتوى أيضا ( والا ) ففي فرض توافقهما في الفتوى وعلم المقلد بذلك لا اشكال ظاهرا في التخيير بينهما لعدم الدليل على تعين الرجوع إلى الأعلم ، بل لا ثمرة للنزاع في هذا الفرض ، لان العمل بفتوى أحدهما عمل بالآخر أيضا ولا تختص الحجية حينئذ بواحد معين لكونهما من قبيل تعدد الرواية في حكم المسألة ، وقد عرفت خروج البناء والالتزام في العمل على طبق الحجة عن موضوع الحكم الشرعي والمصححية للعمل ( ودعوى ) سقوط فتوى المفضول عن الحجية مع وجود الأفضل بالمرة واندراجها فيما دل على النهي عن اتباع غير العلم ( يدفعها ) اطلاق الأدلة المتقدمة كتابا وسنة ( بل ويدفعها ) السيرة القطعية والقاعدة الارتكازية الفطرية ( وحينئذ ) فلا ينبغي التشكيك في حجية فتوى غير الأعلم في نفسها ( وانما ) الاشكال كله في فرض كون فتوى

٢٤٧

الأعلم مخالفة لفتوى غيره مع علم المقلد بالمخالفة أيضا ( والا ) ففي فرض عدم العلم بمخالفة الفتويين يمكن احراز عدم المخالفة بالأصل ، نظير احراز عدم المخالفة للكتاب والسنة بمثله في الشرط ونحوه ( وقد عرفت ) ان المسألة ذات قولين ( أحدهما ) تعين تقليد الأعلم وهو المعروف المشهور بين الأصحاب ، بل عن المحقق الثاني الاجماع عليه ، وعن محكى السيد في الذريعة كونه من المسلمات عند الشيعة ( وثانيهما ) جواز الرجوع إلى غير الأعلم كما عن جماعة منهم الفصول لأمور يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى ( ولكن التحقيق ) وفاقا للمشهور هو الأول ( للأصل ) للشك في حجية فتوى المفضول عند معارضتها مع فتوى الأفضل ، وهو كاف في عدم حجيتها وعدم جواز الاعتماد عليها في مقام العمل ( بل يمكن ) ان يقال بصيرورة مشكوك الحجية حينئذ مشمولا لما دل على النهي عن اتباع غير العلم كتابا وسنة بناء على حمل النهي فيها عن العمل المنشأ للتشريع بمؤداه ولو كان ذلك من جهة عدم اقتضاء الحجية فيها ، لا لاقتضاء عدمها كما في نواهي القياس ( من غير ) أن يكون في البين ما يقتضي خروجه من الأصل ومن مورد تلك النواهي ، عدا ما توهم من أدلة مشروعية التقليد ( وهي ) غير صالحة لذلك ( اما القاعدة ) الارتكازية التي هي عمدة ما في الباب ، فظاهرة ( إذ لا اطلاق ) لها يقتضي جواز الرجوع إلى كل عالم ولو مفضولا حتى عند تعارض فتواه مع فتوى الأفضل في زمانه ، لولا دعوى اقتضائها تعين الرجوع حينئذ إلى الأفضل من باب القدر المتيقن في الحجية ( واما سيرة ) المتشرعة فلم يعلم قيامها على الرجوع إلى المفضول مطلقا ، بل المتيقن منها في الرجوع إليه مع وجود الأفضل انما هو في ظرف عدم العلم بالمعارضة والمخالفة لفتوى الأفضل ( وأما الآيات ) كآيتي النفر والسؤال فعلى فرض نهوضهما على حجية فتوى العالم تعبدا والغض عما ذكرنا فيهما من الاشكال ، فغايتهما الدلالة على حجية فتوى كل عالم في الجملة موجبة جزئية ( وأما ) اطلاقهما لحال تعارض فتوى العالم مع فتوى الأعلم فلا ( وهكذا ) الكلام في الاخبار ( إذ نقول ) ان غايتها الدلالة على حجية فتوى كل عالم ولو كان مفضولا في الجملة ( وأما ) اطلاقها لحال المعارضة مع فتوى

٢٤٨

الأفضل فلا ( وبالجملة ) ان اثبات حجية فتوى العالم مطلقا حتى مع المعارضة والمخالفة لفتوى الأعلم في زمانه منوط بثبوت الاطلاق الأحوالي لتلك الأخبار ( وحيث ) انه لم يحرز ثبوت هذا الاطلاق ، ولم تكن قضية اطلاقها الأحوالي أيضا تابعة لعمومها الافرادي ( فلا جرم ) عند الشك تسقط فتوى المفضول من الحجية عند المعارضة لفتوى الأفضل ، للشك في حجيتها حينئذ ، فتبقى تحت الأصل والاطلاقات الناهية عن اتباع غير العلم بالتقريب الذي ذكرناه.

( ثم لا يخفى ) ان العمدة في تخصيص الحجية عند المعارضة مع فتوى الأعلم هو ما ذكرناه من قضية الأصل ( وإلا ) فلا مجال لاثبات تعين تقليد الأعلم بمقتضى الأخبار الدالة على ترجيح الأعلم والأفقه عند المعارضة التي ( منها ) المقبولة من قوله (ع) الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما ( ومنها ) خبر داود بن حصين من قوله (ع) .. ينظر إلى قول أفقههما وأعلمهما ( ومنها ) ما في خبر موسى بن أكيل من قوله (ع) ينظر إلى أعدلهما وأفقههما فيمضي حكمه ( بتقريب ) انها وان كانت ظاهرة في الاختصاص بباب القضاء وفصل الخصومات ( ولكن ) الترجيح بالأعلمية والأفقهية فيها لما كان بمناط تقديم الفتوى ، يتعدى إلى باب الفتوى أيضا لوحدة المناط ( لان ) حكم الحاكم في الشبهات الحكمية ليس الا انشاء الفتوى المستنبطة من الأدلة في الواقعة الجزئية التي وقعت المنازعة فيها ، فالحكم والفتوى مشتركان في المدرك مختلفان في الموضوع ، فتكون الفتوى هو الاخبار عن ثبوت الحكم الكلي للموضوع الكلي ، والحكم هو انشاء تلك الفتوى في الموضوع الشخصي المترافع فيه ، فحجية كل حكم مستلزمة لحجية الفتوى ( مضافا ) إلى امكان دعوى عدم الفصل بينهما بالاجماع المركب فان كل من قال بتقديم حكم الأعلم في مقام فصل الخصومة قال بتقديم فتواه مطلقا ( بل قد يقال ) ان المراد من الحكم في تلك الأخبار هو معناه اللغوي ، نظير قوله سبحانه وتعالى ومن لم يحكم بما انزل الله الآية.

( ولا يخفى ) ما في هذا الاستدلال من الضعف ( اما الاجماع المركب )

٢٤٩

فممنوع جدا مع هذا الخلاف العظيم في المسألة والتزام القائلين بجواز تقليد العالم مطلقا بالتفكيك بين باب القضاء وباب الفتوى ( ومثله ) في المنع دعوى المناط المزبور واستفادته من الاخبار المزبورة ( فان ) الترجيح بالأعلمية فيها لأجل رفع الخصومة وحسم مادة النزاع عن البين لا يقتضى الترجيح به في باب الفتوى والتقليد ، وكون حكم الحاكم في الواقعة الجزئية انشاءا للفتوى المستنبطة من الأدلة لا يلازم اتحادهما في الترجيح حتى يتعدى إلى باب الفتوى والتقليد ( فان ) الخصومة لا بد من رفعها بأي نحو كان ( ولذلك ) ذكر الترجيح بالأعدلية والأورعية والأصدقية في تلك الأخبار ، مع أنها غير معتبرة في باب الفتوى بلا اشكال ( وعليه ) أين يبقى مجال الاستدلال بتلك الأخبار على الترجيح بالأعلمية في باب الفتوى عند المعارضة والمخالفة ، وأين مناط قطعي يتعدى به إلى باب التقليد ( واما ) احتمال كون المراد من الحكم في تلك الأخبار معناه اللغوي ، نظير ما في الآية المباركة ، فهو كما ترى لا يستأهل ردا.

( واضعف ) من ذلك الاستدلال على وجوب تقليد الأعلم وتعينه بملاك التعيين والتخيير لكونه في الحقيقة من صغريات مسألة التعيين والتخيير ، حيث يعلم تفصيلا بوجوب العمل على طبق فتوى الأعلم اما تعيينا أو تخييرا ويشك في وجوب العمل على طبق فتوى غيره لاحتمال عدم حجيته مع وجود ما يحتمل التعيين ( والأصل ) فيه يقتضى التعيين بناء على ما هو التحقيق من الاشتغال في تلك المسألة ( إذ فيه ) ان جعل المقام من صغريات تلك المسألة مبني على جعل التخيير فيه في المسألة الفرعية وهو باطل قطعا لامتناع الوجوب التخييري في العمل في كلية باب التعارض المنتهى فيه الامر إلى التناقض في المدلول ( بل التخيير ) فيه راجع إلى التخيير في المسألة الأصولية أعني الاخذ بإحدى الفتويين الراجع إلى ايجاب التعبد بكل منهما مشروطا بالأخذ ( وفى مثله ) يكون المقام من باب دوران الامر بين حجية فتوى الأعلم ووجوب العمل على طبقها من غير اشتراطها بالأخذ والالتزام بمؤديها ، وبين حجية كل منهما مشروطا بالأخذ بها ( ومن المعلوم ) أن لازم ذلك هو عدم اليقين بحجية

٢٥٠

فتوى الأعلم مطلقا ( فإنه ) قبل الاخذ بها يشك في حجيتها ووجوب التعبد بها ، وكذا بعد الاخذ بفتوى غيره ( ومع ) هذا الشك كيف يمكن دعوى اندراج المقام في مسألة التعيين والتخيير المستلزم لليقين بوجوب العمل على طبق المعين على كل تقدير ( نعم ) حيث أن الاخذ بفتوى الأعلم موجب لليقين بحجيتها ، بخلاف فتوى غيره ، فأنه مع الاخذ بها يشك في حجيتها ، ينتهى الامر إلى مقطوع الحجية بالأخذ ومشكوكها فيحكم العقل بوجوب الاخذ بما هو مقطوع الحجية دون مشكوكها ( وبذلك ) يفترق المقام على مسألة التعيين والتخيير في المسألة الفرعية ، حيث نقول بالتعيين في المقام ولو مع عدم القول به في تلك المسألة والمصير فيها إلى البراءة ( ولعل ) مثل هذه الجهة أيضا هو الموجب لمصيرهم إلى التعيين في المقام مع تشكيكهم في تلك المسألة.

( وقد استدل ) لوجوب تقليد الأعلم والمنع عن تقليد غيره بوجهين آخرين ( أحدهما ) دعوى الاجماع على وجوب تقليد الأعلم عند التعارض واختلاف الفتوى ( وثانيهما ) ان فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من فتوى غيره ، فيجب الاخذ به لقضاء العقل بلزوم الاخذ بالأقرب عند التعارض والاختلاف ( وفيهما ) من الضعف ما لا يخفى ( أما الاجماع ) فلا وجه لدعواه في المسألة مع وجود هذا الخلاف العظيم ( مضافا ) إلى قوة احتمال كون مدرك المتفقين هو الأصل الذي قررناه ( إذ معه ) لا مجال لتحصيل الاجاع بالظفر باتفاق جماعة من الاعلام ( وأما الدليل ) العقلي فممنوع صغرى وكبرى ( اما الصغرى ) فبمنع كون فتوى الأعلم أقرب إلى الواقع من غيره ( بل قد يكون ) فتوى غيره أقرب إلى الواقع من فتواه خصوصا لموافقته لفتوى من هو أعلم منه ممن مات ، أو للشهرة ونحوها من الأمور الداخلية والخارجية ( واما دعوى ) ان المناط في الأقربية انما هو على أقربية الفتوى في نفسها مع قطع النظر عن الأمور الخارجية ولا شبهة في أقربية فتوى الأعلم من فتوى غيره ( فهي ) مع كونها ممنوعة لا تكون صغرى لتلك الكبرى العقلية ( إذ هي ) غير مختصة بالأقربية الحاصلة من نفس الفتوى ( واما الكبرى ) فبأنه لا دليل على اعتبار الأقربية بنظر العقل في الامارات التعبدية

٢٥١

التي منها فتوى المجتهد في حق المقلد ( فان ) حجية فتوى العالم في حق العامي وان كانت من باب الطريقية كغيرها من الطرق التعبدية لا من باب السببية والموضوعية الا انه لم يعلم كون المناط في التعبد بها هو القرب إلى الواقع بنظر العقل كي يدور في مقام الترجيح مدار الأقربية ( فلعل ) المناط في نظر الشارع في التعبد بها شيء آخر يكون الأعلم وغيره فيه سيان ( وكون ) غلبة الايصال في نظر الشارع حكمة لجعل مطلق الطرق غير العلمية ( لا يقتضي العلية والا ) لاقتضى القول به في التعبد بساير الطرق والامارات غير العلمية كالبينة ونحوها ( مع أنه ) قد يكون فتوى العالم أقرب إلى الواقع من فتوى الأعلم لموافقته لفتوى اعلم الميت ، أو لجهة أخرى ، فيلزم الاخذ بفتوى العالم المطابق لفتوى الأعلم الميت ، ولا أقل من تأتي احتمال التعيين في فتوى العالم أيضا ( وفى مثله ) ربما ينتهى الامر إلى الاخذ بأحوط القولين في المسألة ( نعم ) لو كان القولان مخالفين للاحتياط تعين الاخذ بفتوى الأعلم لاحتمال عدم مناطية الأقربية الحاصلة من أمر خارجي ( بل بما ذكرنا ) يمكن الخدشة في مرجعية الأعلم على الاطلاق حتى فيما كان فتواه في المسألة مخالفة للاحتياط وكان فتوى غيره موافقة للاحتياط ( إذ في مثله ) يمكن القول بجواز الاخذ بفتوى غيره لانتفاء ما يقتضي تعين الاخذ بخصوص فتوى الأعلم.

( بقى الكلام ) في أدلة القول بجواز تقليد العالم مطلقا ومساواته مع الأعلم وهي أمور ( منها ) إطلاقات الأدلة كتابا وسنة ( ومنها ) سيرة المتشرعة من الصدر الأول على الرجوع إلى أصحاب الأئمة وأرباب النظر والاجتهاد مع العلم باختلافهم في العلم والفضيلة ، بل واختلافهم في الانظار ( ويظهر ) الجواب عنهما مما تقدم سابقا فراجع ( ومنها ) ان وجوب الرجوع إلى الأعلم عسر منفى في الشريعة ، لانحصاره في واحد مضافا إلى لزوم المشقة الشديدة في حق المرجع من رجوع جميع المقلدين إليه لاخذ الفتوى منه ( وفيه ) منع عسرية تقليد الأعلم ، لا عليه ولا على المقلدين خصوصا في زماننا الذي تداول فيه طبع الكتب والرسائل العملية ( فان ) الرجوع إلى كتبه ورسائله لاخذ الفتوى امر سهل في نفسه ( وأما ) تشخيص

٢٥٢

الأعلمية ، فليس بأشكل من تشخيص أصل الاجتهاد ( فكما أن ) المرجع في تشخيص الاجتهاد هو أهل الخبرة ، كذلك في تشخيص الأعلمية ( واما العمل ) على طبق فتوى الأعلم ، فليس فيه أيضا صعوبة ، بل الصعوبة في العمل بفتوى غيره لكثرة إفتائه بالاحتياط بلحاظ عدم اقتداره على استخراج حكم المسألة عن مداركها كما هو خصوصا إذا كان مغمورا في بحر التقوى والورع ( ومنها ) انه لو وجب تقليد الأعلم لما جاز رجوع الشيعة في الصدر الأول إلى فتاوى أصحاب الأئمة (ع) مع تمكنهم من الوصول إلى الامام واستعلام حكم الواقعة منه (ع) والتالي باطل فالمقدم مثله ، ومنافاته أيضا لما يظهر من الاخبار من ارجاع الأئمة إلى فتاوى أصحابهم واظهارهم الشوق في جلوسهم للفتيا ( ومنها ) ما استند إليه المحقق القمي قده من دليل الانسداد القاضي بجواز الرجوع إلى العالم مطلقا ( ولكن ) في الأول ما لا يخفى من فساد المقايسة ( لوضوح ) ان مورد البحث في المقام إنما هو في فرض العلم بمخالفة فتوى العالم لفتوى الأعلم ، وفي هذا الفرض يقطع بعدم رجوع الشيعة إلى من يخالف قوله قول الإمام (ع) ، لمكان اليقين ببطلان قوله ومخالفته للواقع ، وأين ذلك ومفروض البحث في المقام ( واما ) ما استند إليه المحقق القمي قده ، فله وجه على أصله ( لان ) المدار عنده على الظن بالواقع من أيهما حصل ( ولكن ) الكلام معه في أصل المبنى ( لما تقدم ) سابقا من أن عمدة المستند على وجوب رجوع الجاهل إلى العالم ولزوم التقليد انما هو الارتكاز الفطري الجبلي في نفوس عامة الناس بضميمة تقرير الشارع وامضائه إياه ، لا انه قضية مقدمات الانسداد ( ولذا ) ترى بناء كل من تعرض للمسألة على جعله من الظنون الخاصة ، كساير الطرق والامارات التعبدية ، لا من الظنون المطلقة الثابتة حجيتها بدليل الانسداد ( هذا كله ) بالنظر إلى ما يستفيده المجتهد من الأدلة.

( وأما بالنظر إلى ) ما يصلح ان يكون مستندا للمقلد العامي في حكم المسألة ( فان ) استقل عقله بتساوي الأعلم وغيره في الرجوع إليه لاخذ الفتوى ( وإلا ) فلا بد من رجوعه إلى الأعلم في تعيين هذه الوظيفة ( إذ بعد ) ان كانت قضية

٢٥٣

الارتكاز الفطري قضية اجمالية من حيث الخصوصيات المحتملة دخلها شرعا في موضوع الحجية بحيث لا يكاد يستكشف منها هذه الخصوصيات لا نفيا ولا اثباتا ( فلا جرم ) يستقل عقله بمناط حكمه الاجمالي بالرجوع إلى من هو مجمع جميع ما احتمل دخله في المرجع من الصفات ، فيجب عليه الرجوع في هذه المسألة إلى الأعلم ، وليس له الرجوع بدوا إلى غيره في استعلام حكم المسألة إلا على نحو دائر ، إذ لم يثبت بعد جواز تقليده ( نعم ) لا بأس بالرجوع إليه في سائر المسائل الفرعية إذا أفتى الأعلم بجواز تقليد المفضول ، فصح تقليده إياه في المسائل الفرعية حينئذ بمقتضى فتوى الأعلم بجوازه.

تنبيهات

( الأول ) المراد من الأعلم من كان أحسن استنباطا من غيره لكونه أقوى نظرا في تنقيح قواعد المسألة ومداركها ، وأكثر خبرة في كيفية تطبيقها على مواردها ، وأجود فهما للاخبار في استنباط المسائل الفرعية من مضامينها مطابقة والتزاما وإشارة وتلويحا ، وأكثر اطلاعا بمدارك المسألة ونظائرها ، كما يرشد إليه قوله (ع) أنتم اعلم الناس ان عرفتم معاني كلامنا ( نعم ) لا عبرة بكثرة الاستنباط والإحاطة بالفروع الفقهية ( لان ) ذلك يجامع مع ضعف الملكة أيضا.

( الثاني ) إذا دار الامر بين الأعلم العادل والعالم الأعدل الأورع ففي تقديم الأعلم على الأورع أو التخيير بينهما وجهان ، أقواهما الأول لبناء العقلاء على تعينه وعدم دخل لحيث الأعدلية والأورعية فيما هو مناط التقليد وحجية الفتوى ( نعم ) لو كان هناك مجتهدان متساويان في الفضيلة مختلفان في الفتوى ، وكان أحدهما أورع من الآخر ، فقد يقال كما عن جماعة من الأساطين بلزوم تقديم الأورع ( ولكنه ) لا يخلو عن اشكال ، لعدم الدليل على الترجيح بالأورعية سوى ما يظهر من اخبار العلاج كالمقبولة ونحوها ( ومثله ) مختص بباب القضاء وفصل الخصومات ( وعلى فرض ) التعدي إلى باب تعارض الاخبار لا يتعدى إلى باب الفتوى الا بعدم الفصل

٢٥٤

بينهما ، وهو أيضا غير معلوم ، بل المعلوم عدمه ( ومعه ) يكون الحكم هو التخيير في الاخذ بإحدى الفتويين كما لو كانا متساويين في الورع والعدالة ( نعم ) لو انتهى الامر إلى الشك يمكن دعوى وجوب تقديم الأورع لكونه هو المتيقن في الحجية عند التعارض والاختلاف في الفتوى ( ولكن ) أنى ينتهى الامر إلى ذلك.

( الثالث ) انما يجب تقليد الأعلم ويجب الفحص فيما لو علم بالتفاضل والاختلاف في الفتوى تفصيلا أو اجمالا ( واما ) إذا لم يعلم باختلاف الفتوى لا تفصيلا ولا اجمالا ، فلا يجب تقليد الأعلم ولا الفحص أيضا ( وتفصيل ) الكلام في ذلك ، هو أنه تارة يعلم تفصيلا أو اجمالا بالتفاضل والاختلاف في الفتوى ( وأخرى ) يعلم بالتفاضل دون الاختلاف ( وثالثة ) بعكس ذلك ( ورابعة ) لا يعلم بالتفاضل ولا بالاختلاف في الفتوى ( اما الصورة الأولى ) فمع العلم التفصيلي باختلاف الفتوى وأفضلية شخص معين ، لا اشكال في لزوم الرجوع إلى الأفضل ، ومع العلم الاجمالي بهما يجب الفحص ولا مجال للرجوع إلى فتوى أحدهما المعين أو المخير قبل الفحص ، لكونه من باب اشتباه الحجة بغير الحجة ، ومع العجز عن معرفة الأفضل يجب الاخذ بأحوط القولين ( واما الصورة الثانية ) وهي صورة العلم بالتفاضل تفصيلا أم اجمالا مع الجهل في أصل الاختلاف في الفتوى ، فلا يجب عليه تقليد الأفضل ولو مع العلم به تفصيلا ولا الفحص أيضا ( إذ لا مانع ) حينئذ عن الاخذ باطلاق دليل الحجية بالإضافة إلى فتوى المفضول المنتهى بعد تعارض الفتويين إلى التخيير في الاخذ بأيهما ( ولا يعتنى ) باحتمال الاختلاف الموجب لسقوط فتوى المفضول من الحجية الفعلية ، لاندفاعه بالأصل ، نظير أصالة عدم المخالفة للكتاب والسنة في الشرط ونحوه ( واما الصورة الثالثة ) وهي صورة العلم بالاختلاف في الفتوى والجهل بالتفاضل ، فتتصور على وجهين ( فإنه ) تارة يكون احتمال الأعلمية ثنائيا بان يحتمل تساويهما في الفضيلة ويحتمل أعلمية زيد ( وأخرى ) يكون الاحتمال ثلاثيا بان يحتمل كونهما متساويين ، ويحتمل أعلمية زيد من عمرو ، ويحتمل العكس أيضا ( وقد يقال ) في الأول بوجوب الاخذ بفتوى محتمل

٢٥٥

الأعلمية للقطع بحجية فتواه والشك في حجية فتوى غيره ( وفي الثاني ) بلزوم العمل بأحوط القولين ( لان ) مع العلم باختلاف الفتوى والشك في الأعلمية بالنسبة إلى كل واحد منهما تصير كل من الفتويين مشكوكة الحجية ولا مجال في مثله للاخذ بواحدة منها ولو تخييرا ( ويندفع ) الأول بأصالة عدم التفاضل ( فان ) المانع عن جواز العمل بفتوى الآخر انما هو حيث الأفضلية المدفوعة بالأصل ( فإذا جرى ) الأصل المزبور يترتب عليه جواز الاخذ بفتوى غيره وعدم تعين الاخذ بفتوى من احتمل أعلميته ( وإذا ) ثبت هذا الجواز الشرعي فلا جرم ينتهي الامر إلى التخيير في الاخذ بهما ، بلا احتياج إلى احراز عنوان تساويهما في الفضل كي يقال بمثبتية الأصل المزبور بالنسبة إليه ( وتوهم ) انتفاء اليقين السابق في مثله مدفوع بأنه لا نعني من أفضلية شخص الا مزيد فضل لشخص لا يكون لغيره تلك المزية ، ومن المعلوم كون ذلك بنفسه أمرا حادثا مسبوقا بالعدم فإذا شك في حدوثه له فالأصل عدمه ( ولو سلم ) عدم اجداء مثل هذا الأصل في المقام ، لكون المجدي هو نفي أفضليته بالقياس إلى المجتهد الآخر نقول أنه يمكن تصويره فيما لو علم سابقا بتساويهما في الفضل فشك في حصول مزيد فضل لأحدهما بالقياس إلى الآخر ، حيث يقال انه لم يكن ذلك أفضل من هذا والآن كما كان ( ويمكن ) تقريب الأصل بوجه آخر وهو ان يقال ان هذا المجتهد قبل بلوغه مرتبة الاجتهاد لم يكن أفضل من هذا المجتهد الآخر وبعد بلوغه مرتبة الاجتهاد يشك في أفضليته منه والأصل عدمه ( وهكذا ) الكلام في فرض احتمال الأفضلية في كل منهما ( فإنه ) يجري أصالة عدم التفاضل بالنسبة إلى كل منهما ونتيجة ذلك عدم وجوب الفحص وجواز الاخذ بفتوى كل منهما بمقتضى حكم العقل بالتخيير وحجية ما يختاره من الفتويين ( واما الصورة الرابعة ) وهي عدم العلم لا باختلاف الفتوى ولا بالتفاضل فالحكم فيها أظهر مما سبق ).

٢٥٦

المقام الرابع

( قد اختلف ) كلمات الاعلام في اشتراط الحياة في المفتى وعدمه على أقوال ( ثالثها ) التفصيل بين التقليد ابتداء ، والبقاء عليه استدامة ( ويظهر ) من بعضهم تفاصيل اخر ( كالتفصيل ) بين صورة وجود المجتهد الحي وتمكن المقلد من الرجوع إليه في اخذ المسائل الفرعية ، وصورة عدم وجوده بالاشتراط في الأول دون الثاني ( والتفصيل ) بين ان يكون المفتي ممن يعلم من حاله انه لا يفتى الا بمنطوقات الأدلة كالصدوقين واضرابهما من المتقدمين فيجوز تقليده حيا وميتا ، وبين من يعلم أنه يعمل بالافراد الخفية للعمومات واللوازم غير الجلية للملزومات فلا يجوز تقليده حيا وميتا ( ولكنهما ) في الحقيقة ليسا تفصيلا فيما هو مورد البحث في المقام ( لان ) الأخير تفصيل في أصل التقليد ولذلك لم يفرق جوازا ومنعا بين الحي والميت ( والأول ) خارج عن مورد البحث ( فان ) مورد البحث جوازا ومنعا انما هو في فرض وجود المجتهد الحي وتمكن المقلد من الرجوع إليه ( وإلا ) ففي فرض انحصار الطريق للعامي بالرجوع إلى فتاوى الأموات فلا يظن بأحد الاشكال في جواز الرجوع إلى فتاوى الأموات ( ثم الظاهر ) أيضا ان مورد الكلام إنما هو في صورة مخالفة رأى الميت لرأي المجتهد الحي ، وإلا ففي صورة موافقة رأيه لرأيه ، فعلى ما ذكرنا سابقا من أن الواجب على المقلد هو العمل على طبق رأي الغير واحدا كان أو متعددا ، لا تترتب على هذا النزاع ثمرة عملية من حيث صحة العمل وعدم صحته ( إذ العمل ) المطابق لرأي الميت المطابق لرأي المجتهد الحي مما يقطع بصحته مطلقا قلنا بجواز تقليد الميت أم لم نقل به ، غاية الامر تكون صحته على فرض القول بالجواز لأجل موافقته لرأي الجميع ، وعلى فرض عدم الجواز لأجل موافقته لرأي المجتهد الحي فعلى كل حال تكون صحة العمل محرزة عند العقل ( نعم ) ثمرة النزاع على ذلك انما يكون من حيث التشريع وعدمه في العمل الناشئ عن التعبد برأي الميت ( وكيف كان ) فتنقيح البحث في هذه المسألة تارة يكون في جواز تقليد الميت ابتداء ( وأخرى ) في جواز البقاء عليه استدامة

٢٥٧

( اما الأول ) فالمعروف بين الأصحاب عدم الجواز ، وهو المختار ، للشك في حجية رأى الميت ولو مع الاخذ به والأصل عدم الحجية بالتقريب المتقدم في المسألة السابقة ( بعد ) عدم ثبوت قيام السيرة وبناء العقلاء على الرجوع إلى الأموات ابتداء ، واجمال الارتكاز الفطري من هذه الجهات على نحو لا يمكن ان يستكشف منه الاطلاق من جهة هذه الخصوصيات ، وقصور الأدلة اللفظية من الآيات والاخبار عن اثبات حجية فتوى الميت بالنسبة إلى التقليد البدوي لعدم كونها مسوقة في مقام الاطلاق من جهة هذه الخصوصيات ، وعدم امكان شمولها للفتاوى المختلفة على فرض كونها مطلقة ( مضافا ) إلى استفاضة نقل الاجماع على عدم الجواز من أعاظم العلماء وأكابر الفقهاء الذين لهم المقام الرفيع في الضبط والاتقان ( بل يمكن ) تحصيل الاجماع في المسألة من أصحابنا الامامية من نقل هذه الاجماعات ( فان ) كل من تعرض للمسألة ادعى الاجماع واتفاق الامامية على عدم الجواز في التقليد الابتدائي ، مع تلقى الأصحاب لنقلهم له بالقبول بلا تشكيك أو توقف من أحد ، مع ما يرى من بنائهم غالبا على التشكيك في الاجماعات المنقولة في الموارد الأخرى ( فان ) ذلك كله موجب للحدس القوى بالاتفاق المزبور ويستكشف به رأي المعصوم (ع) في المسألة ( مضافا ) إلى أنه لم ينقل الخلاف في المسألة إلا من جماعة من علمائنا الأخباريين ، وبعض المجتهدين ، كالأردبيلي والفاضل التوني والمحقق القمي ونظرائهم ( ومن المعلوم ) عدم إضرار خلافهم بالاتفاق المزبور ( خصوصا ) مع ظهور كلمات بعضهم في غير ما هو مورد الكلام ( إذ الظاهر ) ان مخالفة الأخباريين في التقليد بمعنى آخر غير ما هو مورد البحث ( لان ) ما يجوز عندهم من الفتوى التي يعول عليها عبارة عن نقل الأحاديث بالمعنى ، وهو الذي قالوا بجواز التعويل عليها حيا وميتا ، لا ما يدعيه المجتهدون من العمل بالرأي الحاصل من اعمال الظنون الاجتهادية في الأدلة ( فان ) ذلك مما لم يجوز الاخباري العمل على وفقه لا في حق المجتهد نفسه ولا في حق المقلد ، ( بل هو ) جار عندهم مجرى العمل بالاستحسان والقياس ، ولذا منعوا عنه أشد المنع وشددوا النكير على المجتهدين وأرباب الفتاوي بأنه من

٢٥٨

العمل بالرأي المنهى عنه في الاخبار ( ومثله ) خلاف فاضل التوني قده ( فان ) الظاهر منه كون خلافه كالأخباريين في التقليد بمعنى آخر ( ولذا ) بنى على التفصيل فيما حكي عنه بين من لا يفتي إلا بمنطوقات الأدلة ومداليلها الظاهرة ، وبين من يفتي بالمداليل الالتزامية ويأخذ بالافراد الخفية للعمومات ، فالتزم في الأول بجواز التقليد حيا وميتا ، وعدم جوازه في الثاني كذلك ( واما ) سائر المجتهدين فظاهر خلاف بعضهم أيضا إنما هو في فرض عدم وجود المجتهد الحي أو عدم تمكن المقلد من الرجوع إليه ( ومثله ) أيضا خارج عن مفروض البحث وعن مورد الاجماعات ( وحينئذ ) ففي هذه الاجماعات كفاية في حكم المسألة وسقوط ما يتصور في المقام من الاستصحابات الجارية أو المتوهم جريانها بتقريبات مختلفة من استصحاب حجية الفتوى تارة ، ووجوب العمل على طبقها أخرى ، واستصحاب الاحكام الظاهرية من نحو وجوب السورة في الصلاة وحرمة العصير العنبي ووجوب القصر في الثمانية الملفقة من الذهاب والإياب وغيرها بنحو التنجيز أو التعليق على وجود المكلف أو الاخذ أو البلوغ ونحوها من أنحاء التعليق ( فان ) العمدة في سقوط هذه الأصول إنما هو هذا الاجماع ( وإلا ) فلا قصور في جريانها ولو ببعض تقريباتها ، كما سنشير إليها في المسألة الآتية ( ولا ينتهى النوبة ) مع جريانها إلى أصالة عدم الحجية ( لان ) جريانها موقوف على عدم جريان هذه الأصول الشرعية ( وإلا ) كان هي المعول عليها دونها ( بل لولا ) هذا الاجماع يشكل تعين مرجعية المجتهد الحي مطلقا حتى في فرض كون الميت اعلم فضلا عما لو كان فتواه موافقة للمشهور أو الاحتياط ( فان ) في مثله يمكن دعوى حكم العقل بتعين الاخذ بفتوى الميت لأقربيتها إلى الواقع ( ولكن ) اطلاق معاقد اجماعاتهم على عدم جواز تقليد الميت ابتداءا يمنع عن ذلك كله ( فإذا ) العمدة في المسألة هو الاجماع وبه كفاية والله العالم ( هذا كله في تقليد الميت بدوا ).

( وأما البقاء عليه استدامة ) ففيه أيضا خلاف بين الاعلام في الجواز مطلقا أو العدم كذلك ، أو التفصيل بين المسائل التي قلده فيها وعمل بها في حياته ، وبين غيرها ،

٢٥٩

بالجواز في الأول وعدم جوازه في الثاني ( ولكن ) المختار وفاقا لغير واحد من الأعاظم هو الجواز مطلقا حتى في المسائل التي لم يعمل بها إما لفسق أو لعدم وقوعها مورد ابتلائه الفعلي ( فإنه ) وإن لم يكن مجال للاستدلال له بالأدلة اللفظية كتابا وسنة ولا بالعقل الارتكازي لاجماله من جهة هذه الخصوصيات ( إلا أنه ) قضية استصحاب بقاء الأحكام التكليفية والوضعية الظاهرية الناشئة عن قيام رأي المجتهد وحجيته الثابتة في حق المقلد سابقا في زمان حياته بناءا على ما هو التحقيق من كون مفاد دليل حجية الفتوى كسائر أدلة حجية الامارات هو الامر بالمعاملة واحداث احكام تكليفية ظاهرية على طبق المؤدى ( فإذا أفتى ) المجتهد بوجوب السورة في الصلاة وحرمة العصير العنبي ونحو ذلك تكون هذه الأحكام بدليل حجية الفتوى ثابتة في حق المقلد ظاهرا ومنجرة عليه في زمان حياته وإن لم يعمل بها فسقا ( فإذا ) شك في بقائها بعد موته لأجل الشك في حجية رأيه بعده يجرى فيها استصحاب البقاء لتمامية أركانه من اليقين بالثبوت سابقا والشك في البقاء لاحقا واتحاد القضيتين موضوعا ومحمولا ( وذلك ) بعد عدم قيام اجماع منهم بالخصوص على المنع في المسألة واختصاص معقد الاجماع المتقدم بالتقليد البدوي للميت ( واما الاشكال ) على هذا الاستصحاب بأن ثبوت تلك الأحكام الظاهرية لمعروضاتها في حق المقلد سابقا إنما هو باعتبار كونها مما قام عليه رأي المجتهد ، لأنه من جزيئات وجوب اتباع رأي المجتهد وظنه ( فإذا كان ) لرأي المجتهد دخل في الموضوع ، فلا بد في استصحاب بقائها من احراز بقاء الرأي بعد الموت ( والا ) فمع اليقين بزواله بالموت عند النزع كما قيل أو الشك فيه ، فلا استصحاب لعدم احراز اتحاد القضيتين موضوعا ومحمولا مع الشك الوجداني في بقاء الرأي الذي هو مقوم المعروض « إلا » بتوهم كفاية مجرد حدوث الرأي في زمان في بقاء حجيته وثبوت تلك الأحكام إلى الأبد ( وهو ) واضح البطلان ، بشهادة بنائهم على عدم جواز اتباع رأيه عند زواله بنسيان غير عادي أو جنون أو اغماء ونحو ذلك ( كيف ) وان حجية رأي المجتهد بالإضافة إلى المقلد ليست بأعظم منها بالإضافة إلى المجتهد

٢٦٠