نهاية الأفكار - ج ٤ - ٢

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي

نهاية الأفكار - ج ٤ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٥

تقرير ابحاث آية الله الشيخ آغا ضياء العراقي قدس سره

يختلف وجه ترجيح السند في هذه المرجحات من كونه تارة لأجل قوة احتمال الصدور ، وأخرى لأجل قوة المضمون ، وثالثة لأجل قوة الجهة ( نعم ) انما تتمحض المخالفة للعامة في الترجيح بالجهة فيما إذا كان الخبران مقطوعي الصدور ( ولكن ) ذلك لا يقتضى كونها كذلك حتى في غير مقطوعي الصدور.

( ويترتب ) على ما ذكرنا عدم ملاحظة الترتيب بين المرجحات لان الجميع حينئذ في عرض واحد ( ولازمه ) وقوع التزاحم بين المرجحات ، فيما لو كان لاحد الخبرين مزية من جهة كالشهرة في الرواية ، ولآخر مزية أخرى كالمخالفة للعامة فيقدم ما هو أقوى مناطا في القرب إلى الصدور ، ومع تساويهما فالتخيير بينهما ( نعم ) بناءا على الاقتصار في الترجيح على المرجحات المنصوصة يمكن الالتزام بالترتيب بينها تعبدا حسب الترتيب المذكور في المقبولة والمرفوعة بعد الجمع بينهما ، لولا دعوى ان مفادهما مجرد بيان ان هذا مرجح وذاك مرجح آخر ( بخلافه ) على القول بالتعدي وإناطة الترجيح بالظن أو بمطلق الأقربية العرفية إلى الواقع أو الصدور ( فإنه ) بعد اقتضائه رفع اليد عن خصوصية المرجحات بمقتضى التعليلات الواردة فيها ( لا محيص ) من الغاء الترتيب بين المرجحات ، لعدم اجتماع القول بالترتيب بينها مع البناء على التعدي منها ( ولذلك ) أشكل المحقق الخراساني قده على العلامة الأنصاري قده ، بعدم امكان الجمع بين القول بالترتيب بين المرجحات مع الالتزام بالتعدي عنها ( هذا ) على المختار من استفادة كون الاخبار المرجحة بصدد اثبات مرجح واحد.

( واما ) بناءا على استفادة كونها بصدد اثبات مرجحات متعددة من حيث الصدور تارة والجهة أخرى والمضمون ثالثة ( فلا شبهة ) في أن لازمه هو الترتيب بين المرجح الصدوري » والمرجح الجهتي ( لا من جهة ) تقدم رتبة التعبد بالصدور على التعبد بجهة الصدور والمضمون ( لوضوح ) ان التعبد بالجهة والمضمون بعد أن كان من آثار الكلام الواقعي الصادر من الامام يكون التعبد بالسند بالنسبة إلى التعبد بالجهة والمضمون بمنزلة المنقح لموضوع الأثر الواقعي ، نظير

٢٠١

التعبد بالحياة بالنسبة إلى الأثر المترتب على الحياة الواقعية ، ويكون نسبة التعبد بهما إلى التعبد بالسند من قبيل الحكم الواقعي لموضوع قامت الامارة على اثباته ظاهر ( ولازمه ) هو تقدم التعبد بالجهة والمضمون رتبة على التعبد بالسند ، كتقدم الأثر الواقعي المترتب على موضوع قامت الامارة أو الأصل على اثباته ظاهرا ( بل من جهة ) ان موضوع التعبد بالجهة والمضمون هو الكلام الواقعي الصادر من المعصوم (ع) ، فان لازمه هو عدم جريان التعبد بالجهة والمضمون الا بعد الفراغ عن ثبوت أصل السند واحرازه بالوجدان أو التعبد ( فلو كان ) أحد المتعارضين واجدا للمرجح السندي كالشهرة في الرواية ، وكان الآخر واجدا للمرجح الجهتي أو المضموني كالمخالفة للعامة والموافقة للكتاب يقدم ذو المرجح السندي على ذي المرجح الجهتي أو المضموني لان المرجح السندي باقتضائه لطرح المرجوح سندا موجب لسقوط موضوع أصالة الجهة والدلالة فلا يبقى معه كلام الامام حتى تنتهي النوبة إلى ترجيح جهته أو مضمونه على الآخر ( هذا ) في الترتيب بين المرجح الصدوري ، والمرجح الجهتي والمضموني ( وأما المرجح الجهتي ) والمضموني فالظاهر أنه لا ترتيب بينهما ( لان ) التعبد بالجهة والدلالة اثران عرضيان للكلام الواقعي بلا تقدم رتبي لأحدهما على الآخر ( وما يرى ) من بنائهم على تقديم الجمع على التقية ، في مقام الترجيح ، فإنما هو من جهة ان طرح الجهة يؤدى إلى طرح السند ، بخلاف طرح الدلالة في مقام الجمع فإنه لا يوجب طرح السند رأسا ، إذ يبقى معه مقدار من الدلالة يوجب الاخذ بسنده ( لا انه ) من جهة تقدم الأصل الجهتي على الأصل الدلالي.

( ثم انه ) على هذا المبنى وان صح الجمع بين الترتيب في المرجحات وبين الالتزام بالتعدي ( ولكن ) اللازم حينئذ ان يكون التعدي من كل مرجح إلى ما هو الأقرب من سنخه لا مطلقا ، فيتعدى من التعليل بعدم الريب في المجمع عليه ومن تعليق الحكم على الأوصاف إلى الأقربية الصدورية ( ومن ) التعليل بالرشد في مخالفة العامة بناء على كونها من المرجحات الجهتية إلى الأقربية الجهتية ( ومن الترجيح ) بموافقة الكتاب إلى الأقربية المضمونية للواقع ، مع أن هذا التفصيل خلاف

٢٠٢

ظاهر كلمات الشيخ قده ( فان ) ظاهره هو التعدي إلى مطلق الأقرب إلى الواقع أو الصدور ، وهو كما ترى لا يتم الا بارجاع جميع المرجحات إلى مرجح واحد صدوري.

( ولكن ) الذي يسهل الخطب هو فساد أصل هذا المبنى ( لما عرفت ) من أن موضوع الأصل الجهتي والدلالي هو الكلام الصادر من المعصوم (ع) ولا بد في جريانهما من احراز موضوعهما بالوجدان أو التعبد ، وبعد سقوط المتعارضين عن الحجية الفعلية وعدم شمول عموم السند لهما ، وعدم مرجح سندي في البين حسب الفرض لذي المرجح الجهتي أو المضموني لم يحرز كلام الامام حتى ينتهى إلى ترجيح أصله العقلائي على غيره ( وحينئذ ) فبعد عدم كفاية مجرد اقتضاء الحجية لمثل هذا الترجيح ، فلا محيص من ارجاع هذين المرجحين إلى المرجح الصدوري بارجاع الامر بالأخذ بما يخالف العامة وما يوافق الكتاب عند التعارض إلى التعبد بالبناء على أنه هو الصادر وان غيره الموافق للعامة أو المخالف للكتاب غير صادر ولازمه هو كون جميع المرجحات في عرض واحد بلا تقدم لاحدها على الآخر.

( والى ما ذكرنا ) نظر المحقق الخراساني قده فيما أفاد من عدم الترتيب بين المرجحات ووقوع التزاحم بينها فيما لو وجد في أحد المتعارضين مرجح وفي الآخر آخر .. الخ : فلا يرد عليه ما أورد : تارة بان الترجيح بمخالفة الكتاب ، وموافقة العامة يرجع إلى التخصيص في الأصول العقلائية التي تقتضي البناء على صدور الكلام على وفق المراد وان مضمونه تمام المراد. والترجيح بالشهرة وبالصفات يرجع إلى التخصيص في أدلة حجية خبر الواحد فلا وجه لارجاع المرجحات كلها إلى المرجح الصدوري .. وأخرى على ما افاده بقوله لا معنى للتعبد بعد ما يتعين حمله على التقية : بأنه ناشئ عن الخلط بين الحمل على التقية في باب تعارض الخبرين ، وبين الحمل على التقية في غير باب التعارض ، فان ما لا يمكن فيه التعبد بالصدور مع الحمل على التقية انما هو فيما لو كان الخبر في حد نفسه ظاهرا في التقية ( واما ) لو كان الخبر في نفسه غير ظاهر فيها فالحمل على التقية انما هو بعد وقوع التعارض بينه وبين

٢٠٣

الخبر المخالف للعامة ، ووقوع التعارض بينهما فرع شمول أدلة التعبد بالصدور لكل من الموافق والمخالف ( إذ فيه ) ان مبنى الاشكال على كون المخالفة للعامة من المرجحات الجهتية إذا كان من جهة امتناع جريان أصالة الجهة مع عدم احراز موضوعها الذي هو كلام الإمام (ع) ، فكيف يصير ذلك جوابا عن اشكاله ، وكيف يكون هذا المقدار من البيان مصححا لكون المخالفة والموافقة للعامة من المرجحات الجهتية بعد عدم احراز موضوعها الذي هو كلام الامام لا وجدانا ولا تعبدا ، لسقوط المتعارضين عن الحجية الفعلية وعدم شمول عموم دليل السند لواحد منهما بالفعل ، مع عدم مرجح سندي في البين حسب الفرض يقتضي التعبد الفعلي بصدور المخالف ( إذ في مثله ) أين كلام الامام حتى ينتهى الامر إلى التعبد بترجيح جهته على الجهة في الآخر ( وشمول ) عموم التعبد بالسند لكل واحد من الخبرين في حد نفسه مع قطع النظر عن معارضة ، غير مجد في التعبد الفعلي بهذا الترجيح ( إذ بمثل هذه ) الحجية الاقتضائية لا يحرز كون الخبر المخالف كلاما للامام حتى يترتب عليه اثره الذي هو التعبد بترجيح أصالة الجهة فيه على أصالة الجهة في الخبر الآخر الموافق للعامة ( وعلى فرض ) كفاية مجرد اقتضاء الحجية لذلك .. نقول ان أصالة الجهة بعد أن تكون من آثار الكلام الواقعي للامام لا من آثار التعبد به فلازم الترجيح بها هو تقديم هذا الترجيح على الترجيح السندي ، لاقتضاء دليل الترجيح بها في الخبر المخالف للعامة للعلم الاجمالي في الخبر الموافق لهم اما بعدم صدوره ، أو بوجوب حمله على التقية ، ومع هذا العلم الاجمالي لا مجال لترجيح سنده في فرض وجود مرجح سندي فيه من أوصاف الراوي أو الشهرة في الرواية والى ذلك يرجع مقالة المحقق الرشتي قده فيما أورده في بدايعه على العلامة الأنصاري قده ( فلا يتوجه ) عليه اشكال المحقق الخراساني قده بمنع دوران أمر الموافق بين الصدور تقيه وعدم الصدور رأسا ، لاحتمال صدوره لبيان حكم الله واقعا وعدم صدور المخالف المعارض له ( إذ هذا ) الاشكال انما يرد عليه فيما لو أراد بالدوران المزبور في الخبر الموافق الدوران الواقعي مع قطع النظر عن ملاحظة أدلة الترجيح

٢٠٤

بالجهة المقتضية لكون الخبر الموافق لهم على تقدير صدوره صادرا تقية ( كيف ) وهذا الاحتمال مما لا يكاد خفائه على الأصاغر من الطلبة فضلا على مثله قده ( بل المقصود ) هو الدوران الحاصل من ملاحظة الأدلة المرجحة لأصالة الجهة في الخبر المخالف للعامة على أصالة الجهة في الخبر الموافق لهم المقتضية لحمل الموافق على تقدير صدوره واقعا على التقية ( فإنه ) بملاحظة أدلة الترجيح يصير الخبر الموافق محصورا بين الاحتمالين لارتفاع احتمال صدوره لبيان حكم الله الواقعي ( فعدم ) الالتزام بذلك يشهد بما ذكرناه من رجوع المرجح الجهتي أيضا إلى المرجح الصدوري فتأمل.

( الامر الثالث ) في مرجحية الشهرة ، وهي على اقسام الشهرة الروائية والشهرة العملية ، والشهرة الفتوائية ( اما الشهرة ) الروائية فهي عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة وأرباب الحديث بكثرة نقلها وتكررها في الأصول وفي كتب المحدثين الجوامع للاخبار ( ولا اشكال ) في الترجيح بها ، بل هو المتيقن من المقبولة المصرحة بالترجيح بالشهرة.

( واما الشهرة ) العملية ، فهي عبارة عن عمل المشهور بالرواية واستنادهم إليها في الفتوى ( والنسبة ) بينها وبين الشهرة الروائية هي العموم من وجه ( إذ رب ) رواية مشهورة بين الرواة ومدونة في كتب المحدثين ولم يعمل بها المشهور ( ورب ) رواية قد عمل بها المشهور ولم تكن مشهورة بين الرواة وأرباب الحديث ( ورب ) رواية اجتمع فيها الأمران ( ولا اشكال ) في الترجيح بهذه الشهرة ، بل الترجيح بها أولى من الترجيح بالشهرة الروائية ، لكونها جابرة لضعف الرواية ومصححة للعمل بها وان كانت الرواية بحسب القواعد الرجالية في منتهى درجة الضعف ( بل اطلاق ) المرجح عليها لا يخلو من مسامحة ( فان ) هذه الشهرة كما تكون جابرة لضعف الرواية ، كذلك تكون موهنة للرواية التي على خلافها وان كانت مشهورة قد رواها الثقات ، نظرا إلى كشف اعراضهم عنها عملا عن خلل فيها يوجب سقوطها عن الاعتبار لارتفاع الوثوق عنها ( فان ) المناط في حجية خبر الواحد بعد أن كان هو الوثوق بسنده وجهته ولو بالأصول العقلائية ، فلا جرم باعراض المشهور من المتقدمين عنه يرتفع الوثوق النوعي بسنده فيخرج عن درجة الاعتبار وان كان بحسب القواعد

٢٠٥

الرجالية في منتهى درجة القوة ( ومن هنا ) قيل إنه كلما ازداد الخبر صحة ازداد باعراض الأصحاب عنه ضعفا ( وعليه ) فالعبرة على الشهرة العملية الاستنادية في الوثوق الذي عليه مدار حجية الخبر ( بل مع ) وجود هذه الشهرة لا يكاد انتهاء الامر إلى الترجيح بشيء من المرجحات ولكن بشرط ان تكون من المتقدمين من أرباب المتون ، وإلا فلا اثر لشهرة المتأخرين ما لم تتصل بشهرة المتقدمين.

( واما الشهرة ) الفتوائية فهي عبارة عن مجرد اشتهار الفتوى من المتقدمين على طبق مضمون الرواية مع عدم العلم باستنادهم في الفتوى إلى الرواية الموجودة في المسألة ( ولا اشكال ) في كون هذه الشهرة موهنة للرواية التي على حلافها ( فان ) اشتهار الفتوى منهم في المتون على خلاف مضمون الرواية مع قرب عصرهم بزمان صدور الاخبار وكون الرواية بمريئهم ومنظرهم ، يكشف كشفا اطمينانيا عن اطلاعهم على خلل فيها سندا أو جهة ، بحيث لو كنا نحن في عصرهم لكنا نطرح الرواية أيضا ( ولا يخفى ) انه على هذا البيان لا يحتاج إلى ضم شهرة المتأخرين إلى شهرة المتقدمين ، بل يكفي في طرح الرواية شهرة الفتوى من القدماء على خلاف مضمون الرواية ، وان كان شهرة المتأخرين على طبق مضمونها ( نعم ) لو أحرز ان فتواهم على خلاف مضمون الرواية من جهة مناقشتهم في دلالتها ، لكان المتبع هو الرواية إذا كانت واجدة لشرائط الحجية ولو لم تكن الشهرة المتأخرة أيضا على طبق مضمونها فضلا عما لو كانت على وفقها ( ومع الشك ) في ذلك وعدم العلم بان فتواهم على خلاف مضمون الرواية ، لأجل اعراضهم عن الرواية سندا أو جهة ، أو لأجل المناقشة في دلالتها يحكم عليها بحكم الاعراض ، لعدم الوثوق الذي عليه مدار حجية الخبر.

( وانما الكلام ) في كون هذه الشهرة مرجحة لاحد المتعارضين ، أو جابرة لضعف الرواية ( ومنشأ ) الاشكال ان الترجيح والجبر بها متفرع على استنادهم في الفتوى إلى الرواية واعتمادهم عليها ، ولا يكفي فيهما مجرد تطابق فتواهم لمضمون الرواية مع عدم احراز استنادهم إليها في الترجيح أو الجبر ، كما لا يكفي فيهما عمل المتأخرين

٢٠٦

بالرواية ما لم يتصل بشهرة المتقدمين ( ولكن ) التحقيق هو التفصيل بين أن يكون الفتوى على طبق القاعدة وبين كونها على خلافها ( فعلى الأول ) لا تكون الشهرة الفتوائية مرجحة لاحد المتعارضين ولا جابرة لضعف الرواية ( فإنه ) مع كون الفتوى على طبق ما تقتضيه القاعدة ، يحتمل قريبا كونها هي المستند في فتواهم ، لا الرواية الموجودة في المسألة ( ومع ) هذا الاحتمال لا يحصل الوثوق باستنادهم في الفتوى إليها ، وان استند إليها المتأخرون في فتواهم ، لما تقدم من أنه لا عيرة بعمل المتأخرين بالرواية في الترجيح والجبر ما لم يتصل بشهرة المتقدمين ( فلا تكون الشهرة الفتوائية حينئذ مرجحة للرواية على معارضها ولا جابرة لضعفها إذا لم يكن لها معارض ( واما على الثاني ) وهو كون الفتوى في المسألة على خلاف ما تقتضيه القاعدة ، فلا قصور في جابرية الشهرة الفتوائية لضعف الرواية الموجودة في المسألة ومرجحيتها خصوصا إذا توافق شهرة المتأخرين مع شهرة المتقدمين في الفتوى على طبق مضمون الرواية ، لحصول العلم العادي بان مستند فتوى المتقدمين هو تلك الرواية ( والموجب ) لذلك أمور ثلاثة بعد انضمام بعضها ببعض ( أحدها ) كون الحكم المفتي به على خلاف ما تقتضيه القاعدة ( وثانيها ) إياء عدالتهم وعلو مقامهم عن الفتوى في المسألة بلا مستند صحيح عندهم ( وثالثها ) بعد أن يكون لهم مستند آخر غير ما وصل إلينا من الرواية بطرقهم ( إذ لو كان ) لهم مستند آخر غير الرواية الموجودة فيما بأيدينا لوصل إلينا منهم ، ولكان المتأخرون الشارحون للمتون يستندون إليه في فتواهم بعثورهم عليه لقرب عصرهم بعصرهم ( حيث ) انه بانضمام هذه الأمور بعضها ببعض مع اتصال شهرة المتأخرين بشهرة المتقدمين يحصل العلم العادي بأنه لا يكون المستند في فتواهم إلا تلك الرواية الموجودة في المسألة ( ومعه ) تكون هذه الشهرة

٢٠٧

جابرة لضعف الرواية إذا لم لها يكن معارض ومرجحة لها على معارضها على تسامح في ذلك.

( الامر الرابع ) في أنه هل يرجع في تعارض العامين من وجه إلى اخبار العلاج بأعمال المرجحات الصدورية والجهية والمضمونية ( أو لا يرجع ) فيهما إليها ، بل يحكم فيهما في مورد الاجتماع بالتساقط مع تساويهما في قوة الدلالة ويكون المرجع هو الأصل الجاري في المسألة ( وعلى الأول ) فهل الرجوع إلى المرجحات في تمام الخبر فيؤخذ بأحد العامين ويطرح الآخر في تمام مدلوله حتى في مادة الافتراق ( أو ان ) الرجوع إليها في مورد تعارضهما وهو مادة الاجتماع ( فيه وجوه ) من انصراف اخبار الترجيح والتخيير إلى صورة تعارض الخبرين بتمام مدلوليهما الموجب لخروج العامين من وجه من مصب الاخبار ( ومن صدق ) التعارض ولو في الجملة وكفايته في دخولهما في مصب الاخبار ( ومن أن ) التعارض بينهما انما هو في بعض مدلوليهما فلا وجه لأعمال المرجحات وطرح أحدهما سندا حتى فيما لا تعارض بينهما ( ولكن الأقوى ) الوجه الأول وهو عدم الرجوع إلى المرجحات حتى في مجمع تصادقهما الذي هو مورد التعارض وفاقا للمشهور بل المعظم ( وذلك ) لا من جهة عدم قابلية الخبر للتبعيض في المدلول من حيث السند ، لامكان دفعه بان ما هو غير قابل للتبعيض انما هو التبعيض الحقيقي بحيث يكون الخبر صادرا في بعض مدلوله وغير صادر في بعض آخر ( واما التبعيض ) التعبدي ، فلا محذور فيه عقلا ، لامكان التعبد بصدور الخبر في بعض مدلوله ، وعدم التعبد به في البعض الآخر ، كيف والتفكيك بين اللوازم والآثار في التنزيلات الشرعية فوق حد الاحصاء ، ولا يأبى العرف أيضا عنه ( بل من جهة ) خروجها من مصب اخبار العلاج ، لاختصاصها صرفا أو انصرافا بما إذا كان التعارض بين الخبرين بنحو لا يتمكن من الجمع بين سنديهما والعمل على طبق مدلولهما ولو في الجملة ( وفي العامين ) من وجه يمكن الجمع بين سنديهما ولو بلحاظ مادة افتراقهما ( فان ) هذا المقدار يكفي في صحة التعبد بسندهما وجهتهما ، نظير

٢٠٨

التعبد بسند العام المتصرف في ظهوره في قبال الخاص الأظهر ( غاية ) الامر يقع بينهما التكاذب في الدلالة في مجمع تصادقهما ، وحيث لا ترجيح لاحد الدلالتين يحكم عليهما في المجمع بحكم الاجمال والرجوع إلى الأصل الموجود في المسألة ، كما في مقطوعي الصدور ، لا إلى المرجحات السندية ، ولا إلى المرجحات الجهتية والمضمونية كالمخالفة للعامة والموافقة للكتاب ، كما هو ظاهر بعض الأعاظم قده على ما ذكر في التقرير خصوصا على مسلك المختار من ارجاع المرجح الجهتي والمضموني إلى المرجح الصدوري كما تقدم بيانه ( وما ذكرنا ) هو الوجه في تسالم الأصحاب على التساقط في العامين من وجه في مجمع تصادقهما والرجوع إلى الأصل.

( الامر الخامس ) في الترجيح بالأصل بناء على التعدي من المرجحات المنصوصة ( فان الذي ) يظهر من بعضهم الترجيح به وتقديم الخبر الموافق للأصل على المخالف له ( ولكن ) فيه نظر واضح ( فان ) الأصول الفقاهية من جهة تأخر مضمونها لا تكون في مرتبة الأدلة الاجتهادية حتى تصلح للمرجحية وتقوية مضمونها ( كيف ) ومورد جريانها انما هو ظرف فقد الدليل الاجتهادي المطابق أو المخالف أما رأسا ، أو لسقوطه عن الحجية بالمعارضة ، فلا مورد لجريان الأصل قبل سقوط المتعارضين ، وبعد سقوطهما عن الحجية يكون الأصل مرجعا لا مرجحا ، من غير فرق في ذلك بين الأصول العقلية والشرعية ، ولا في الثاني بين الأصول التنزيلية وغيرها ( وأما الترجيح ) بالظنون غير المعتبرة ، فعلى القول بالتعدي من المرجحات ، فلا بأس بالترجيح بها ما لم يكن من الظنون المنهى عن أعمالها كالظن القياسي ، والا فلا يعتني به ، لأنه نحو اعمال له الذي هو المنهى عنه.

( بقى الكلام ) فيما يتعلق بالتخيير وهي أمور ( الأول ) قد تقدم ان حكم المتعارضين على الطريقية في الامارات بالنظر إلى عموم دليل الحجية هو التساقط ( وعلى السببية ) والموضوعية هو التخيير على التفصيل المتقدم بين أن يكون التعارض بين الخبرين لأجل تضاد موضوعي الحكمين ولو عرضا ، وبين ان يكون لأجل وحدة موضوعهما ( وبالنظر ) إلى ما يستفاد من اخبار العلاج هو عدم سقوطهما ووجوب

٢٠٩

الترجيح والاخذ بذي المرجح منهما ان كان هناك مرجح ، ومع فقده وتساويهما فالتخيير بينهما ( وقد عرفت ) ان هذا التخيير ليس تخييرا في المسألة الفقهية ، كالتخيير بين القصر والاتمام في المواطن الأربعة ( إذ بعد ) انتهاء الامر في المتعارضين ولو بمقتضى المدلول الالتزامي لهما في أغلب الموارد إلى النفي والاثبات يمتنع الوجوب التخييري في العمل بمؤدى الخبرين لكونه من ايجاب التخيير بين النقيضين ( بل ولا تخييرا ) عمليا منتجا للإباحة الظاهرية بمقتضى اللاحرجية بين الفعل والترك كما في الدوران بين المحذورين ( فان ) ذلك وان كان ممكنا في نفسه ، ولكنه لا يساعده أدلة التخيير ( بل هو ) تخيير في المسألة الأصولية اي في الاخذ بأحدهما في مقام الاستطراق إلى الواقع المنتج لكون المأخوذ حجة تعيينية يتعين العمل بمضمونه بعد الاخذ به ( فان ) الظاهر من قوله (ع) .. بأيهما اخذت من باب التسليم وسعك ، هو أن طرف التخيير هو الاخذ بأحدهما ليكون المأخوذ حجة وطريقا محرزا للواقع الذي لازمه تعين العمل بمضمونه ( ومرجعه ) في الحقيقة إلى الامر التعييني بالعمل بكل واحد من الخبرين مشروطا بالأخذ به ( فان ) ذلك مما يستتبع تخيير المكلف بالأخذ بأحدهما مقدمة لتحصيل الحجة الشرعية ( ومن هنا ) لا يكون الحكم بالتخيير في الاخذ بأحدهما حكما مولويا يترتب العقوبة على تركه من حيث نفسه ، وانما هو ارشاد إلى حكم العقل بوجوبه مقدمة لتحصيل الحجة الشرعية مع القدرة عليه ، كما هو الشأن في حكمه في الشبهة قبل الفحص للقادر على تحصيل الحجة الشرعية.

( الثاني ) في أنه هل بتعين على الحاكم وكذا على المفتي في مقام الافتاء ان يختار أحد الخبرين والافتاء على طبق مضمون ما اختاره من الحكم الفرعي ( أو ان ) له الافتاء بالحكم الأصولي وهو التخيير في الاخذ بأحد الخبرين ، فيختار المقلد ما أحب منهما ولو على خلاف ما اختاره مجتهده ( أو الافتاء ) بالتخيير في العمل بكل منهما ( فنقول ) اما الحاكم والقاضي فلا اشكال في أنه يتعين عليه اختيار أحدهما والحكم على طبقه ، لعدم فصل الخصومة إلا به ولا معنى لتخيير المتخاصمين في الاخذ أو في العمل بأحد الخبرين.

( واما المفتى ) في مقام الافتاء ( فقد ) يقال بابتناء الخلاف المزبور على

٢١٠

الخلاف فيما هو المستفاد من أدلة التخيير من كون التخيير في المسألة الأصولية فيكون التخيير للمفتي أو كونه في المسألة الفرعية فيكون التخيير للمستفتي في العمل بمضمون أحدهما ( ولكنه ) ليس كذلك لتأتي ، الخلاف المذكور ولو على القول بكون التخيير في المسألة الأصولية ( بل التحقيق ) ابتناء هذا الخلاف على الخلاف في شمول الاحكام الطرقية المستفادة من أدلتها كالأحكام الواقعية للجاهل المقلد ، وعدم شمولها له واختصاصها بالمجتهد ( فان قلنا ) باختصاص الأوامر الطرقية بالمجتهد المتمكن من تحصيل شرط العمل بها من الفحص ونحوه وعدم شمولها للعاجز عنه ( فلا شبهة ) في أنه ليس للمجتهد الفتوى بمضمون هذه الوظائف الفعلية غير الشاملة للمقلد العاجز ، لعدم شمول أدلة رجوع الجاهل إلى العالم لمثله ( لوضوح ) ان المراد من العالم هو العالم بوظيفة المقلد لا العالم بوظيفة نفسه ، فيتعين عليه حينئذ اختيار أحد الخبرين والافتاء بمضمون ما اختاره من الحكم الواقعي ( وتوهم ) ان الامر التعييني بمضمون كل واحد من الخبرين بعد أن يكون مشروطا بالأخذ الذي هو وظيفة المجتهد ، فيلزم اختصاص الحكم التعييني المستفاد من المأخوذ بخصوص المجتهد ، فلا يشمله دليل رجوع الجاهل إلى العالم بعد اختصاصه بالعالم بوظيفة المقلد لا العالم بوظيفة نفسه ( مندفع ) بان مجرد إناطة التعبد بمضمون الخبر بالأخذ به لا يقتضى اختصاص مضمونه بخصوص المجتهد الآخذ بل هو حكم واقعي شامل لجميع افراد المكلفين واحتياج التعبد به إلى الفحص والاخذ غير ضائر بعد كون فحص المجتهد وأخذه مجزيا عن فحصه وأخذه ( وبتقريب آخر ) أن أخذ المجتهد بعد أن كان بملاك تحصيل الحجة فبالأخذ بأحد الخبرين يصير المأخوذ حجة تعيينية عليه ( فإذا ) كان دليل تتميم كشفه مثبتا للعلم التنزيلي بالمؤدى يكون المجتهد بمنزله العالم بالوظيفة الواقعية لمقلده فيفتي بمضمون ما اختاره من الحكم الواقعي المشترك بين الجاهل والعالم ، فيترتب عليه رجوع الجاهل إليه ( واما ان قلنا ) ان الاحكام الطرقية الظاهرية كالأحكام الواقعية شاملة للمقلد الجاهل أيضا ، كما هو الظاهر من اطلاق أدلتها ، بلا اختصاص خطاباتها بالمجتهد لا ذاتا ولا عرضا من جهة اشتراطها بالفحص ( لان ) المتيقن من دليل الفحص اشتراطه بأعم من فحص نفسه أو مجتهده ، فيكون

٢١١

فحص المجتهد بمقتضى أدلة الافتاء والاستفتاء فحصا للمقلد أيضا ( فلازمه ) جواز الافتاء في التخيير بالأخذ بأحد الخبرين ( لان ) رأى المجتهد كما هو حجة في تعيين الحكم الفرعي الواقعي باستنباطه من الأدلة ، كذلك حجة في تعيين الحكم الظاهري ، بل قد يقال ان المتعين حينئذ حجية رأيه فيما استنبطه من الأدلة عند تكافؤ الخبرين ، لا ما اختاره لنفسه في مقام العمل لعدم الدليل على حجية ما اختاره لنفسه على مقلده بحيث يكون تكليفا تعيينيا بالنسبة إليه ( نعم ) ليس له الافتاء بالتخيير في المسألة الفرعية بالعمل على طبق أحد الخبرين ( إذ هو ) مع عدم كونه مفادا لأدلة التخيير ، لا يكون مؤدى واحد من الخبرين أيضا ، فيكون الفتوى بالتخيير بالعمل بهما فتوى بلا دليل ، مضافا إلى ما تقدم من امتناع الوجوب التخييري بين العمل بهما بعد انتهاء الامر بينهما في الغالب إلى النقيضين. ( هذا ) إذا أريد من التخيير الوجوب التخييري ( واما ) لو أريد التخيير العملي بمعنى الإباحة ، فعليه وان لم يتوجه الاشكال الأخير ، ولكنه يتوجه عليه اشكال كونه فتوى بلا دليل ( نعم ) لا بأس بالفتوى بالوجوب التخييري بناء على استفادة كون التخيير في المسألة الفرعية ولكنه يتوجه عليه الاشكال الأخير من أنه لا معنى للوجوب التخييري بعد انتهاء الامر بينهما إلى النفي والاثبات ( فعلى كل تقدير ) يسقط القول بالافتاء بالوجوب التخييري.

( الامر الثالث ) هل التخيير في المسألة بدوي فليس للمكلف ان يختار في الزمان الثاني غير ما اختاره في ابتداء الامر ، أو انه استمراري فللمكلف الاختيار في كل زمان في الاخذ باي الخبرين شاء ( فيه وجهان ) بل قولان ، ومورد البحث انما هو في فرض كون التخيير في المسألة الأصولية ( والا ) ففي فرض كونه في المسألة الفرعية ، فلا اشكال في استمراره وان للمكلف ان يعمل بمضمون أحد الخبرين تارة وبمضمون الآخر أخرى ، كما في التخيير بين القصر والاتمام في المواطن الأربعة ( وبعد ذلك ) نقول .. انه قد يقرب الأول بوجهين ( أحدهما ) ما افاده العلامة الأنصاري قده من أن الأخبار الدالة على التخيير مسوقة

٢١٢

لبيان وظيفة المتحير في ابتداء الامر ، فلا اطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحير بعد الالتزام بأحدهما ، واستصحاب التخيير غير جار ( لان ) الثابت سابقا ثبوت الاختيار لمن لم يتخير ، فاثباته لمن اختار والتزام اثبات للحكم في غير موضوعه ( ويتوجه عليه ) أولا ، منع سوق الاخبار لبيان وظيفة المتحير في بدو الامر ( بل هي ) ظاهرة في سوقها لبيان حكم المتحير من حيث هو ، ومقتضى اطلاقها عدم الفرق في الحكم بالتخيير بين ابتداء الامر أو بعده ( وثانيا ) منع كون موضوع التخيير هو المتحير إذ لا دليل على اخذ عنوانه في موضوع التخيير ( بل الموضوع ) هو من جائه الحديثان المتعارضان ، فالتحير حكمة لجعل الحكم المذكور ، كما هو ذلك في الحكم بالترجيح ( ومن الواضح ) بقاء هذا الموضوع على حاله في جميع الأزمنة وعدم انقلابه بالاختيار وبالعلم بالحكم الفعلي ( مع أن ) التحير في الحكم الواقعي متحقق حتى مع الاختيار ، والتحير العقلي في المتعادلين مرتفع بالعلم بالتخيير ( فلا يمكن ، ان يكون عنوانا للموضوع يدور الحكم مداره.

( وثانيهما ) ان طبع الاطلاق في التخيير المأخوذ موضوعا للوجوب يقتضي كون المطلوب صرف وجود الاختيار ، لا الطبيعة المهملة ، ولا السارية ، كما هو ذلك في كلية الأوامر ( ولازمه ) سقوط حكمه بمجرد حصوله في الزمان الأول بلا احتمال بقائه ( فلو شك ) حينئذ في بقاء التخيير ، فلا بد وأن يكون من جهة احتمال تعلق امر جديد به في الزمان الثاني ( وفي مثله ) لا مجال لاستصحاب التخيير ، بل الاستصحاب جار في وجوب العمل بما اختاره في الزمان الأول ( وفيه ) انه كذلك إذا كان الامر بالاختيار شرعيا مولويا ، وليس الامر كذلك ( بل هو ) ارشادي إلى حكم العقل به بمناط وجوب تحصيل الحجة الشرعية للقادر على تحصيلها ، كما ذكرناه ( وما هو ) شرعي انما هو ملزومه الذي هو الامر بالتعبد بكل منهما في ظرف الاخذ به واختياره فيكون اطلاقه تابع اطلاق ملزومه ( فإذا كان ) الظاهر من اطلاق هذا النحو من القضايا الشرطية هو كون الشرط الطبيعة السارية في كل زمان فلا محالة يتبعه اطلاق الامر بالتخيير ولو ارشادا في كون المطلوب طبيعة الاختيار

٢١٣

الساري في كل زمان ، فيتم المطلوب من استمرار التخيير بلا احتياج إلى استصحابه ( اللهم ) الا ان يقال ان ذلك انما يتم لو كانت القضية الشرطية من القضايا الملفوظة ، وليس الامر كذلك ( فان ) منطوق الرواية ليس الا مجرد الامر باختيار أحد المتعارضين ولو ارشاديا ، لا ملزومه الذي هو حجية ما يختاره المكلف في ظرف اختياره ( فإذا ) اقتضت المقدمات الحكمة في التخيير المأخوذ موضوعا للوجوب ولو ارشادا كونه على نحو صرف الوجود المنطبق بتمامه على الاختيار في الزمان الأول ، يتبعه اطلاق ملزومه المستفاد منه ( ولا أقل ) من عدم استفادة شرطية الاختيار بنحو الطبيعة السارية في كل زمان ( نعم ) على ذلك يبقى المجال لاستصحاب بقاء التخيير في الزمان الثاني ( فإنه ) يكفي فيه مجرد عدم استفادة صرف الطبيعي المنطبق على الاختيار في الزمان الأول ( واما توهم ) معارضته مع استصحاب التعيين في طرف المأخوذ ( فمندفع ) بكون الشك في الثاني مسببا شرعيا عن الأول فاستصحابه يكون حاكما على استصحاب التعيين.

هذا تمام الكلام في الجزء الرابع من الكتاب والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله على محمد خير خلقه وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين ( وقد ) وقع الفراغ من تسويده على يد العبد الآثم المحتاج إلى رحمة ربه الغني محمد تقي النجفي البروجردي ابن عبد الكريم عفى الله عنهما في ثلاث بقين من شهر جمادى الثانية سنة ١٣٥٣ ثلاثة وخمسين بعد الألف وثلاثمائة من الهجرة النبوية عليه وعلى أخيه والأئمة من ذريته آلاف الثناء والتحية.

٢١٤

في الاجتهاد والتقليد

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه وأشرف بريته محمد وآله الطاهرين المعصومين الغر الميامين : ولعنة الله على أعدائهم ومخالفيهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

( وبعد ) فهذه وجيزة فيما يتعلق بالاجتهاد والتقليد قد حررناها في سالف الزمان فأجبت الحاقها بالكتاب وهو الموفق للصواب ( اما الاجتهاد ) ففيه مواضع للبحث.

الموضع الأول

في تعريفه ( فنقول ) الاجتهاد لغة من الجهد بالفتح بمعنى تحمل المشقة ومن الجهد بالضم بمعنى صرف الطاقة ، وقيل إنه بالفتح والضم بمعنى المشقة ( واما اصطلاحا ) فقد اختلف عباراتهم في شرح معناه فعن محكى العلامة قده والحاجبي تعريفه باستفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي وعن البهائي قده فيما حكى عنه انه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الفرعي ( وعن ) ثالث انه حالة أو قوة قدسية إلهية إلى غير ذلك مما هو مذكور في المطولات ( ولكن ) الظاهر أن اختلاف عباراتهم في شرح معناه المصطلح ليس لأجل اختلافهم في حقيقته ( بل هو ) عند الجميع عبارة عن استفراغ الوسع في اعمال القواعد لتحصيل المعرفة بالوظيفة الفعلية من الواقعية والظاهرية ( وان ) المقصود من تلك العبارات المختلفة هو مجرد الإشارة إليه بوجه ما ( فمن

٢١٥

جهة ) ان استخراج الاحكام والوظائف الفعلية من أدلتها لا يكون الا عن قوة راسخة في تنقيح القواعد النظرية واعمالها في مواردها ، عرف بالملكة تارة ، وبالقوة القدسية أخرى باعتبار كونها من المواهب الآلهية والنور الذي يقذفه الله في قلب من يشاء ( ومن جهة ) ملازمة اعمال القواعد في مقام الاستنباط لاتعاب النفس وتحمل المشقة ، عرف باستفراغ الوسع في تحصيل المعرفة بالحكم الشرعي ، كما أن اشتماله على المشقة هو الموجب لصحة اطلاق معناه اللغوي عليه لكونه حقيقة من افراده ومصاديقه ، فكان اطلاقه عليه من باب اطلاق الكلي على فرده ، لا من باب العناية والمجاز ( نعم ) لاوجه لما عن العلامة قده والحاجبي من شرحه باستفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي ( إذا لا عبرة ) بصرف الظن بالحكم ما لم ينته إلى الحجية الفعلية ( ومعه ) تكون العبرة بها ( فكان ) الحري هو تبديل الظن بالحكم الشرعي بالحجة عليه عقلية كانت أو شرعية ، ليدخل فيه اعمال مسائل الانسداد حتى على الحكومة ( وأخرى ) من ذلك تبديل الحكم الشرعي أيضا بمطلق الوظيفة الفعلية من الواقعية والظاهرية الشرعية أو العقلية ، ليدخل فيه الاجتهاد المؤدي إلى البراءة وغيرها من الوظائف العقلية كالاحتياط والتخيير ( وبما ذكرنا ) ظهر ان الاجتهاد بمعنى استفراغ الوسع في تحصيل الحجة جهة مشتركة بين العامة والخاصة الأصوليين منهم والأخباريين ( غاية الامر ) انه تختلف انظارهم في حجية بعض القواعد ، كاختلاف العامة والخاصة في حجية القياس والاستحسان ، واختلاف الاخباري والأصولي في حجية ظواهر الكتاب والقطع الحاصل من غير الأدلة السمعية ، وتمامية البراءة العقلية في الشبهات الحكمية البدوية التحريمية ، فتكون منازعة كل طائفة في حجية ما يقول به الطائفة الأخرى لا في اجتهاده ( ومن الواضح ) ان مثل هذا الخلاف غير ضائر بالاتفاق على صحة الاجتهاد بالمعنى المزبور ( إذ هذا النزاع ) كما هو موجود بين العامة والخاصة الأصوليين منهم والأخباريين ( كذلك ) موجود بين أخباري وأخباري وبين أصولي ، وأصولي نظير النزاع بين القائل بالظن المطلق من المجتهدين والقائل بالظنون الخاصة منهم ( فلا وجه ) حينئذ لتأبي الأخباريين واستيحاشهم من اطلاق الاجتهاد على تحصيل

٢١٦

المعرفة بالأحكام من أدلتها باعمال القوة النظرية في تطبيق القواعد الكلية بعد اتقانها على مواردها وإكثارهم التشنيع على المجتهدين في أصل الاجتهاد ، مع كونهم موافقين لمعناه في استخراجهم الاحكام والوظائف الفعلية من أدلتها عصمنا الله من الزلات ( وكيف كان ) فالطاهر ان المراد من الاجتهاد المصطلح هو الاستفراغ الفعلي في تحصيل المعرفة بالأحكام ( لان ) الاجتهاد هو الاستنباط الفعلي من الأدلة ، ولا يكفي فيه مجرد الملكة الموجبة للقدرة على الاستنباط ، كما هو الظاهر المتبادر من المواد المأخوذة في كل هيئة في فعليتها ، كالفتوى والقضاء والكتابة والتجارة ( ولا ينافي ) ذلك صدق المجتهد والقاضي والمفتي في حال عدم الاشتغال الفعلي بالاجتهاد والقضاوة والافتاء لنوم أو شغل ونحوهما ( إذ من الممكن ) دعوى كون ذلك من جهة اقتضاء الهيئة في المشتقات الوصفية نحو توسعة في التلبس بالمبدء الفعلي على وجه لا ينافيه التخللات العدمية ( أو دعوى ) كفاية بقاء المقتضى فيها في صحة اطلاق عنوان المجتهد والقاضي في حال عدم الاشتغال الفعلي بلا اخذها في المادة أصلا كي يلزم اختلاف المادة المحفوظة في ضمن الهيئات المصدرية وغيرها ( فان ) ذلك مما يأبى عنه ارتكاز الذهن ( لا يقال ) على ذلك يلزم عدم صدق المجتهد على من له ملكة الاستنباط ولم يستنبط بعد حكما من الاحكام ( فإنه يقال ) انه لا بعد في الالتزام به كما نلتزم في غيره من الكاتب والتاجر ونحوهما ( وعلى فرض ) صدق عنوان المجتهد عليه ، نقول انه من باب العناية والتنزيل ( فلا شهادة ) حينئذ في صحة اطلاق المجتهد على مثله على إرادة الملكة من المبدء ( مع أنه ) لم يرد عنوان المجتهد في آية ولا رواية في موضوع حكم من الاحكام ( وانما ) الموضوع للآثار عنوان الفقيه والناظر في حلالهم وحرامهم والعارف بأحكامهم كما في المقبولة وغيرها ( ولا ريب ) في عدم صدق هذه العناوين على من له مجرد الملكة على الاستنباط ولم يستنبط حكما من الاحكام.

٢١٧

الموضع الثاني

ينقسم الاجتهاد إلى مطلق وتجزي ( فالأول ) هو ما يقتدر به على استنباط الأحكام الشرعية والوظائف الفعلية من امارة معتبرة ، أو أصل معتبر عقلي أو نقلي في الموارد التي لم يظفر بدليل معتبر ( والثاني ) ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام الشرعية والوظائف الفعلية العملية لا كلها أو جلها ( ولا اشكال ) في امكان الأول وحصوله للاعلام ( ولا ينافيه ) ترددهم في بعض المسائل النظرية ( فان ) ذلك انما هو بالنسبة إلى الحكم الواقعي لأجل عدم الظفر بدليل صالح مساعد لحكم المسألة بعد الفحص التام عنه ، لا ان ذلك لأجل قصور باعهم أو قلة اطلاعهم ( والا ) فلا تردد لهم بالنسبة إلى ما هو الوظيفة الفعلية في المسألة كما هو ظاهر ( كما لا اشكال ) في وجوب العمل بهذا الاجتهاد لمن هو متصف به وعدم جواز رجوعه إلى غيره ، سواء فيه بين كونه ممن انفتح له باب العلم والعلمي بالأحكام ، أو ممن انسد عليه بابهما فيها في غير الضروريات من المسائل النظرية ( فإنه ) على كل تقدير يكون اجتهاده حجة في حق نفسه ( واما ) حجية فتواه لغيره ممن لم يتضف بالاجتهاد سواء كان له نصيب من العلم أم لا ( فان ) كان المجتهد ممن يرى انفتاح باب العلم والعلمي بالأحكام فلا اشكال أيضا في حجية فتواه لغيره وجواز رجوعه إليه خصوصا على القول بتعميم مفاد أدلة الطرق والأصول بالنسبة إلى المقلد.

( واما ) ان كان المجتهد ممن يرى انسداد باب العلم والعلمي بالأحكام ، ففي جواز رجوع الغير إليه اشكال ( والذي ) يظهر من المحقق الخراساني قده هو المنع عن جواز رجوع الغير إليه وحجية فتواه بالنسبة إليه ، لعدم صدق العارف بالأحكام على مثله ، وكون الرجوع إليه من باب رجوع الجاهل إلى مثله لا إلى العالم بناء على الحكومة ( فلا يشمله ) أدلة التقليد ، وقضية مقدمات الانسداد ليست الا حجية ظنه في حقه لا في حق غيره ( فلا بد ) في جواز الرجوع إلى فتواه من التماس دليل

٢١٨

آخر غير دليل التقليد ودليل الانسداد الجاري في حق المجتهد من اجماع أو جريان مقدمات الانسداد في حقه ( والأول ) مفقود ( والثاني ) غير تام بعد وجود المجتهد الانفتاحي وتمكنه من الرجوع إليه والاخذ بفتواه ( وفيه ) أولا النقض برجوع المقلد إلى المجتهد الانفتاحي في مورد الوظائف العقلية أو الشرعية الظاهرية من البراءة والاحتياط والتخيير ونحوها مما كان موضوعه عدم العلم بالواقع أو بالحجة عليه ، بل مطلقا بنا ما على أن نتيجة دليل اعتبار الطرق مجرد جعل الحجية المستتبعة لتنجيز الواقع مع الإصابة والعذر مع عدمها ، بلا جعل الحكم المماثل ظاهرا ، أو تتميم الكشف الموجب للعلم التعبدي بالواقع ، لعدم صدق المعرفة بالأحكام بصرف العلم بالحجة القاطعة للعذر كما هو ظاهر ( وثانيا ) ان الاشكال انما يتوجه إذا كان دليل التقليد هو المقبولة ونحوها مما اعتبر في الموضوع عنوان العارف بأحكامهم ( واما ) لو كان الدليل القاعدة المرتكزة المقتضية لرجوع الجاهل بالوظيفة الفعلية الظاهرية من العقلية والشرعية إلى العالم بها ( وبعبارة ) أخرى رجوع من لم يكن ذا حجة على الوظيفة الفعلية الظاهرية ولو عقلية إلى من كان ذا حجة عليها شرعية أو عقلية ( فلا قصور ) في جواز رجوعه إلى الانسدادي بعد كونه ذا حجة عقلية في فتواه بمناط الحكومة أو شرعية بمناط الكشف ( فإذا ) تعلق ظن المجتهد بالتكليف الذي له مساس بالغير وكان ظنه ذلك حجة ولو من باب ، الحكومة كان له الافتاء على طبق ظنونه ( ولازمه ) بمقتضى القاعدة المرتكزة جوار رجوع الغير إليه وحجية فتواه في حقه بعد رجوعه إليه.

( وبتقريب ) آخر ان المقلد العامي إذا التفت إلى الاحكام ( فاما ) ان يعلم بها اجمالا ( واما ) ان لا يعلم بها بل كان شاكا في جميعها ( وعلى الأول ) اما ان لا يكون له ظنون بان كان محتملا للتكليف في جميع الموارد ( واما ) ان يكون له ظنون أيضا ( اما الصورة الأولى ) وهي علمه بالتكليف اجمالا مع تساوى احتمالاته ، فعليه وان لم يلتفت المقلد إلى وظيفته الفعلية لكونه جاهلا بها ( ولكن ) المجتهد بعد ما يرى عدم تمكنه من الاحتياط التام للعسر والحرج

٢١٩

الشاملين له بعموم دليلهما ( ويرى ) انه في ظرف الانسداد يتعين عليه بمقتضى المقدمة الرابعة الاخذ بالأقرب إلى الواقع ، وان الأقرب إلى الواقع من محتملات المقلد ، هو ما يكون على طبق ظنه لكونه هو الأقرب إلى الواقع بنظره ، والا فنفس شكوك المقلد من جهة كونها قبل الفحص لا يكون مدارا للحكم ، لان المدار على ما حصله المجتهد بعد فحصه من أقرب الطرق ( فلا جرم ) يفتي على طبق ما هو الأقرب بنظره وهو ما أدى إليه ظنونه التي هي مؤدى احتمالات المقلد أيضا ( واما الصورة الثانية ) وهي ما إذ كان للمقلد ظنون أيضا ولو على خلاف ظنون المجتهد ، ففي مثله لا يرجع إلى المجتهد في مؤدى ظنونه ، بل المجتهد يعلمه بان تكليفه هو الاخذ بما هو أقرب الطرق إلى الواقع بنظره أعني الاخذ بظنونه ، لا بما هو أقرب بنظر مجتهده ( لان ) الجاهل يرجع إلى العالم في المقدار الذي كان جاهلا به لا مطلقا حتى في المقدار الذي لم يكن جاهلا ، فيصير المقلد حينئذ هو المجرى لدليل الانسداد ، ويكون ذلك نحو اجتهاد مشوب بالتقليد ، ولازمه هو الاخذ بمؤدى ظنونه وان كان على خلاف ظنون المجتهد ( اللهم ) الا ان يقال ان ظنون المقلد حينئذ لكونه قبل الفحص مما لا عبرة به ، وانما العبرة بما يكون بعد الفحص ، وهو لا يكون الا ظنون المجتهد ( ولازمه ) هو الاقتصار في ظنونه على ما لا يخالف ظنون مجتهده ( الا ) ان يمنع أصل وجوب الفحص في فرض المسألة حتى في فرض القدرة على الفحص بدعوى ان الفحص انما يجب عقلا في فرض احتمال تحصيل الأقرب إلى الواقع ، كما في موارد الشكوك الفعلية المحتمل تبدل بعضها بعد الفحص بالظن بالتكليف ، لا في مثل الفرض المحتمل تبدل ظنه الفعلي بالتكليف بالشك أو الظن بالخلاف ( فان ) لازم وجوبه حينئذ هو جواز التنزل عما يقطع فعلا بأقربيته إلى الواقع إلى ما يقطع فعلا بأبعديته ( وفي مثله ) يمنع حكم العقل بوجوب الفحص ( ومعه ) لا قصور في مرجعية ظنه قبل فحص نفسه أو فحص من ينوبه على الاطلاق ولو على خلاف ظنون مجتهده فتأمل ( وكيف كان ) فلا فرق في هاتين الصورتين في الرجوع إلى الانسدادي في المسألة الأصولية بين وجود القائل بالظنون الخاصة ، وعدمه

٢٢٠