نهاية الأفكار - ج ٤ - ٢

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي

نهاية الأفكار - ج ٤ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي البروجردي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٥٥

تقرير ابحاث آية الله الشيخ آغا ضياء العراقي قدس سره

على القول ) بأصليتها ، كما هو التحقيق فيها ( فان جعلنا ) الصحة فيها عبارة عن نفس ترتب الأثر ، كما هو المشهور ( فلا محيص ) من حكومة الاستصحاب على القاعدة ( بلحاظ ) تسبب الشك في ترتب الأثر عن الشك في بلوغ العاقد ، وباستصحاب عدمه يرتفع الشك المزبور ، فيترتب عليه الحكم بالفساد وعدم ترتب الأثر من النقل والانتقال ( من غير ) فرق في ذلك بين القول باستفادة جعل الأثر من دليل حرمة النقض في استصحاب الموضوع ، وبين القول باستفادة الامر بالمعاملة منه من حيث الجري العملي منه ( وان كانت ) الحكومة على الأول أظهر ( وان جعلنا ) الصحة فيها بمعنى التمامية ، كما هو المختار ( فقد يتوهم ) كونها محكومة أيضا باستصحاب عدم البلوغ ، باعتبار تسبب الشك في تمامية العقد عن الشك في بلوغ العاقد ، فأصالة عدم البلوغ تكون مزيلة للشك في تمامية العقد ( ولكنه ) توهم فاسد ( إذ نقول ) انهما وان كانا متغايرين مفهوما ، ولكنهما متحدين منشئا ، فان تمامية العقد في مرحلة السببية والمؤثرية ، وكذا تمامية المسبب في مرحلة القابلية للمتأثرية ليست الا عين واجدية العقد والمسبب للشرائط المعتبرة فيهما ( وانما الفرق ) بينهما بصرف الاجمال والتفصيل بلا سببية ولا مسببية في البين ( ومعه ) كما تجرى استصحاب عدم البلوغ فيترتب عليه الفساد ، كذلك تجرى أصالة الصحة ، فيتعارضان ولازمه الحكم بسقوطهما معا ( الا ) ان يتشبث لتقديم القاعدة عليه بما ذكرناه من محذور اللغوية في جعل القاعدة ( لأنه ) ما من مورد يشك في صحة عمل وفساده في أبواب العقود وغيرها الا وكان الشك في بعض ما يعتبر فيه وجودا وعدما مما كان في نفسه مجرى الاستصحاب ( فلو قيل ) حينئذ بسقوط القاعدة في تلك الموارد لأجل الأصول الجارية فيها لم يبق لجريانها الا الموارد النادرة ، فيلزم من جعلها محذور اللغوية ويلزمه محذور الاختلال في النظام ( بخلاف ) فرض العكس ، فإنه لا يلزم محذور من تقديم القاعدة على الاستصحاب في موارد جريانها في طرف الاستصحاب ( فالأقوى ) حينئذ تقديم القاعدة على الاستصحاب مطلقا سواء في الاستصحابات الحكمية أو الموضوعية ، وسواء بين

١٠١

الصحة بمعنى التمامية ، وبينها بمعنى ترتب الأثر ( ثم إن ) للشيخ الأعظم قده كلاما في المقام في وجه بيان المعارضة وتقديم أصالة الصحة ، ولأجل تلامذته السيد العلامة الشيرازي قده كلام آخر في وجه المعارضة ، ولا يسعني المجال للتعرض لهما ، خصوصا لما عرض على من ضعف الحال وضيق .. مع تشتت البال واليه شكواي وهو المستعان.

( بقى الكلام ) في أصالة الصحة في الأقوال والاعتقادات ( اما الأقوال ) فالشك في صحتها يتصور على وجوه ( الأول ) من حيث كونه مباحا ، أو حراما موجبا لفسقه ( ولا اشكال ) في الحمل على الصحة من هذه الجهة ( الثاني ) من حيث كونه على طبق القواعد العربية من حيث المادة والهيئة ، كما ( لو شوهد ) صدور عقد أو ايقاع من الغير وشك في كونه على طبق القواعد العربية من حيث المادة والهيئة ( ولا اشكال ) في الحمل على الصحة من هذه الجهة أيضا وانه يترتب عليه آثار الصحة من حيث النقل والانتقال وغيرهما ( الثالث ) من حيث كونه كاشفا عن المعنى المقصود ( والشك ) من هذه الحيثية يكون من وجوه ( الأول ) من جهة ان المتكلم قصد المعنى بقوله بعت أو ملكت أم لم يقصده بل تكلم من غير قصد ( ولا ريب ) في الحمل على الصحة من هذه الجهة وترتيب آثارها ، بحيث لو ادعى عدم قصد المعنى بقوله بعت أو انه تكلم لغوا أو للتعلم ونحو ذلك لم يسمع منه ( الثاني ) من جهة ان المتكلم أراد من اللفظ معناه الحقيقي حتى يترتب عليه الأثر ، أو أراد منه المعنى المجازي في مقام الاستعمال بلا ذكر القرينة ( وفي جريان ) أصالة الصحة في هذه الصورة اشكال ينشأ من عدم تصور الفساد في استعماله ذلك. لعدم كون استعمال اللفظة في المعنى المجازى في نفسه بلا ذكر القرينة استعمالا فاسدا ، مع وضوح اختصاص هذا الأصل بما إذا كان مجريه مما له فرد صحيح وفرد فاسد ( وكذا الكلام ) فيما لو شك في كون المتكلم معتقدا لمؤدي قوله من الاخبار أو الانشاء ( نعم ) في فرض تصور الصحة والفساد في انشائه أو اخباره ، لا اشكال في الحمل على الصحيح ( ولكن ) ذلك مع قطع النظر عن أصالة الحقيقة وأصالة الظهور ونحوها من الأصول اللفظية المرادية ( والا ) فلا مجال لأصالة الصحة في الكلام

١٠٢

الصادر من المتكلم مع وجود هذه الأصول كما هو ظاهر ( الرابع ) من جهة كون اخباره مطابقا للواقع في نفس الامر ، وهذا معنى حجية خبر المسلم ( ولا ينبغي ) الاشكال في عدم جريان قاعدة الحمل على الصحيح في هذه الصورة ( وذلك ) لا من جهة الاجماع على عدم قبول كل خبر صدر من مسلم ( بل من جهة ) عدم دخل حيث المطابقة واللامطابقة للواقع في صحة اخبار المسلم ( لان ) هذه الحيثية من الأمور الاتفاقية غير الملازمة لخبرية الخبر ( مضافا ) إلى أنه لا اثر لحيث مطابقة الخبر للواقع ونفس الأثر ، كي عند الشك في المطابقة وعدمها تجرى فيه أصالة الصحة ( لوضوح ) ان الامر وهو الحجية أو المعذرية انما هو من لوازم احراز الواقع بخبره ، لا من لوازم صدق الخبر ومطابقته للواقع في نفس الامر ( ولذا لو أخبر ) بوجوب شيء وأحرز كونه مطابقا للواقع يترتب عليه الحجية ووجوب العمل على طبقه ، وان كان ما أخبر بوجوبه مباحا في الواقع ( وبالعكس ) لو أخبر بعدم وجوب ما كان واجبا في نفس الامر ، يترتب عليه مع الاحراز المزبور المعذرية ( فإذا كان ) عنوان المطابقة واللا مطابقة للواقع أجنبيا عن موضوع الأثر ، وعن حيث دخله في اتصاف الخبر بالصحة والفساد ، فلا تجري فيه هذا الأصل ( لما عرفت ) من اختصاصه بما إذا كان مجراه مما له فرد صحيح يترتب عليه الأثر ، وفرد فاسد لا يترتب عليه الأثر ( وحينئذ ) فعدم جريان هذا الأصل من هذه الحيثية انما يكون من جهة عدم المقتضى للحمل على الصحة ، لا انه من جهة عدم وفاء الدليل عليه ، كما يظهر من الشيخ قده.

( واما الصحة في الاعتقادات ) فاجمال الكلام فيها ، هو ان الشك في صحة اعتقاد الغير ( ان كان ) من جهة نشوه عن مدرك صحيح من دون تقصير منه في مقدماته ، أو نشوه عن مدرك فاسد لتقصير منه في مقدماته ( فالظاهر ) هو الحمل على الصحيح ، كما في المفتى وغيره ممن يعتبر رأيه واعتقاده بالنسبة إلى مقلديه ، فان الحجة بالنسبة إلى المقلد انما هو رأي المجتهد واعتقاده في المطلب ، وان حجية قوله بأنه يجب كذا ويحرم كذا انما يكون من جهة كونه كاشفا عما هو الحجة وهو رأيه واعتقاده

١٠٣

( فإذا ) شك في صحة اعتقاده من الجهة المزبورة يحمل على الصحة ( وان كان ) الشك في صحته من جهة المطابقة للواقع ، فلا يحمل على الصحة لما تقدم من عدم المقتضى للحمل على الصحة من هذه الجهة.

المقام الثاني

في تعارض الاستصحاب مع القرعة ( والكلام ) فيها يقع تارة في مقدار دلالة دليلها وموارد جريانها ( وأخرى ) في بيان نسبتها مع الاستصحاب وغيره من الأصول ، كاصالة التخيير ، والإباحة ، والاحتياط ( اما الأول ) فمجمل القول فيه هو ان اخبارها العامة في بعضها : كل شيء مجهول فيه القرعة ، كما في التهذيب عن محمد بن حكم قال سألت أبا الحسن موسى (ع) عن القرعة في أي شيء : قال (ع) كل شيء مجهول ففيه القرعة فقلت له ان القرعة تخطئ وتصيب : فقال ما حكم الله به فليس بمخطئ ( وفي بعضها ) القرعة لكل أمر مشتبه ( وفي ثالث ) انها لكل أمر مشكل ( ولكن ) الظاهر رجوع الأولين إلى مفاد واحد ، بلحاظ ان المجهول هو المشتبه والمشتبه هو المجهول ( ولازمها ) الاختصاص بالموارد التي يكون للشيء نحو تعين في الواقع ونفس الامر ، إلا أنه طرء عليه الاشتباه ولم يعلم كونه هذا أو ذاك ، فتكون القرعة بالنسبة إليه من قبيل الواسطة في الاثبات ، حيث يتعين بها ما هو المجهول والمشتبه في البين ( بخلاف الثالث ) وهو المشكل ، فإنه ظاهر في الاختصاص بالمبهمات المحضة التي لا تعين لها في الواقع ونفس الامر ( فتكون ) القرعة بالنسبة إليها من قبيل الواسطة في الثبوت ، حيث يستخرج بها ما هو الحق ( كما ) في باب القسمة ، وباب العتق والطلاق فيما لو أعتق أحد عبيده لا على التعيين ، أو طلق إحدى زوجاته كذلك بناءا على صحة هذا الطلاق ( ولا يخفى ) انه على هذا المعنى لا تعارض القرعة شيئا من الأدلة والأصول الجارية في الشبهات الحكمية والموضوعية ( لأنها ) بنفسها غير

١٠٤

جارية في مواردها ( فلا يكون ) العمل بأدلة الأصول في مواردها تخصيصا لدليل القرعة ، وان أبيت عما ذكرنا من المعنى للمشكل وقلت إنه في العرف عبارة عما يصعب حله وما يتحير المكلف في مقام العمل ، فلا يشمل أيضا موارد الأصول الجارية في الشبهات الحكمية والموضوعية ، لأنه بجريان تلك الأصول في مواردها لا صعوبة على المكلف ولا تحبر له في مقام الوظيفة الفعلية ( نعم ) انما يتصور ذلك في مثل عنوان المجهول والمشتبه ( حيث ) يقع المجال لتوهم المعارضة بين دليل القرعة ، وأدلة الأصول الجارية في مواردها ( من جهة ) دعوى عموم المشتبه للشبهات الحكمية والموضوعية بالشبهة البدوية والمقرونة بالعلم الاجمالي ( وان كان ) دقيق النظر يقتضى خلافه ( لظهور ) عنوان المجهول والمشتبه في قوله (ع) القرعة لكل امر مجهول أو مشتبه في الاختصاص بالشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي وعدم عمومها للشبهات الحكمية مطلقا ولا الشبهات الموضوعية البدوية ( بداهة ) ظهور عنوان المشتبه في قوله القرعة لكل امر مشتبه في كونه وصفا لذات الشيء المعنون من جهة تردده بين الشبئين أو الأشياء ( لا وصفا ) لحكمه ولا لعنوانه ، ليكون من قبيل الوصف بحال المتعلق ( فالشبهات ) الحكمية مطلقا حتى المقرونة بالعلم الاجمالي خارجة عن مورد جريان القرعة ( لان ) الشبهة فيها انما هي في حكم الشيء لا في ذات الشيء ( كما ) ان الشبهات الموضوعية البدوية أيضا خارجة عن مورد القرعة ( لان ) الشبهة فيها انما تكون في انطباق عنوان ما هو موضوع الحكم كالخمر ونحوها على الموجود الخارجي ( لا فيما انطبق ) عليه عنوان الموضوع فارغا عن الانطباق في الخارج ، بكونه هذا أو ذاك ، كالشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي حيث إن فيها يكون كل من الخطاب وعنوان الموضوع وانطباقه في الخارج معلوما بالتفصيل ( ولكن ) الشك في أن المنطبق عليه عنوان المحرم أي الامرين ( ومع خروج ) موارد الأصول الجارية في الشبهات الحكمية مطلقا والشبهات الموضوعية البدوية من مورد جريان القرعة ، بالبيان المتقدم ، يعمل بتلك الأصول في موارد جريانها ( ولا يحتاج ) إلى

١٠٥

ملاحظة النسبة بين القرعة ، وبين تلك الأصول ( إذ لا يلزم ) من العمل بتلك الأصول في موارد جريانها تخصيصا لدليل القرعة كما هو ظاهر ( نعم ) حيث إن مصب الاستصحاب في القرعة وموارد جريانها يعم الشبهات الموضوعية المقرونة بالعلم الاجمالي بين الشخصين في الحقوق والماليات ، يحتاج إلى ملاحظة النسبة بين القرعة ، وبين الاستصحاب وغيره من الأصول كما سنذكره.

( وكيف كان ) فبعد ما عرفت من اختصاص مورد جريان القرعة بموارد العلم الاجمالي في الشبهات الموضوعية نقول : ان الموضوع المشتبه في موارد العلم الاجمالي بين المتبائنين ( اما ) ان يكون متعلقا لحق الله سبحانه ( واما ) ان يكون متعلقا لحق الناس ( فان كان ) مما يتعلق به حق الله سبحانه ، فلا مجال لجريان القرعة فيه وذلك لا من جهة قصور القرعة في نفسها عن الجريان فيه ( بل من جهة ) وجود المانع وهو العلم الاجمالي بالتكليف الملزم واقتضائه بحكم العقل الجزمي بلزوم الفراغ ( فان ) الوظيفة حينئذ هو الاحتياط في جميع المحتملات مع الامكان ( الا إذا كان ) هناك ما يوجب انحلال العلم الاجمالي ، أو بدلية بعض الأطراف على التعيين عن المعلوم بالاجمال ، فلا يجب معه مراعاة الاحتياط في بقية المحتملات ( ومن المعلوم ) ان القرعة في نفسها غير صالحة للانحلال ، ولا لاثبات البدلية عن المعلوم بالاجمال ( اما الأول ) فمن جهة تأخرها عن العلم الاجمالي ( إذ لا تزيد ) القرعة عن العلم التفصيلي المتأخر بثبوت التكليف في بعض الأظراف على التعيين ( فكما ) ان العلم التفصيلي المتأخر لا يوجب الانحلال ( كذلك القرعة ) في المقام ( ولقد ) أشبعنا الكلام في ذلك في الجزء الثالث من الكتاب في مبحث انحلال العلم الاجمالي فراجع ( واما الثاني ) وهو عدم كونها مثبتة لجعل البدل ولو على القول باماريتها ( فلان ) غاية ما يقتضيه دليلها هو التعبد بكون مؤديها هو الواقع ، واما اثبات عدم كون المعلوم بالاجمال في المحتمل الآخر ، فلا الا على فرض اقتضاء دليلها لتتميم كشفها بجميع ما لها من المدلول مطابقة والتزاما ، وهو ممنوع جذا ( ولكن ) الانصاف انه يكتفى في جعل البدل مجرد قيام امارة أو أصل على تعيين المعلوم بالاجمال

١٠٦

في طرف معين ( وهذا ) مما يتحقق بقيام القرعة عليه ، حيث يتعين بها المعلوم بالاجمال فيرتفع اثر العلم الاجمالي ( فالعمدة ) حينئذ في المنع عن جريان القرعة هو الاجماع وعدم القول بجواز تعيين الحكم الشرعي أو موضوعه بالقرعة ، الا في بعض الموارد الخاصة التي ورد النص فيها بالخصوص ، كما في اشتباه الموطوء بغيره في قطيع الغنم.

( وان كان ) مما يتعلق به حق الناس ، كما في الحقوق والأموال ( فان أمكن ) فيه الاحتياط التام ( فلا مجرى ) أيضا للقرعة ، لما ذكرنا من العلم الاجمالي ( وكذلك ) الامر في فرض امكان الاحتياط ولو بالتبعيض ، كما في صورة العلم الاجمالي بكون أحد المالين ملكا للغير ( فان مقتضى ) العلم الاجمالي وان كان وجوب الاحتياط باعطاء كلا المالين إليه ( ولكن ) بعد أن يكون ذلك ضررا على الدافع منفيا بقاعدة نفى الضرر ، ويحرم على الغير أيضا اخذها لعلمه بكون أحد المالين ملكا للغير ، يسقط العلم المزبور عن التأثير بالنسبة إلى الموافقة القطعية ويبقى تأثيره بالنسبة إلى المخالفة القطعية ، فيجب عليه التبعيض في الاحتياط باعطاء أحد المالين إلى الغير ولو بدسه في أمواله كي يلائم مع حرمة اخذه على الغير بمقتضى الحكم الظاهري في حقه فتأمل ( وان لم يمكن ) الاحتياط ولو تبعيضا كالولد المردد بين كونه من حر أو عبد أو مشرك فيما لو ادعى كل واحد منهم الولد ، وكالمال المردد بين الشخصين ففيه ) تجري القرعة ، والظاهر أنهم عملوا أيضا بالقرعة فيما كان من هذا القبيل مما يتعلق بالحقوق والأموال ( وان كانت ) الوظيفة قد تقتضي العمل بمناط النص الوارد في باب الدرهم الودعي من قاعدة العدل والانصاف من التنصيف أو التثليث والتربيع حسب اختلاف الموارد والدعاوى ، هذا ( ولكن ) الانصاف ان تشخيص موارد القرعة عن موارد جريان الاحتياط والتخيير وقاعدة العدل والانصاف في غاية الاشكال ( ولنعم ) ما قيل من أنه لا يجوز العمل بالقرعة الا في مورد عمل الأصحاب بها.

( واما نسبتها ) مع الاستصحاب ( فقد يقال ) انه لا مورد لنا تجري فيه القرعة والاستصحاب حتى يحتاج إلى ملاحظة النسبة بينهما ( لان ) المورد الذي تجري فيه القرعة لا تجري فيه الاستصحاب ( لان ) التعبد بالقرعة انما يكون في

١٠٧

موارد اشتباه موضوع التكليف وتردده بين الأمور المتبائنة ( وفى تلك ) الموارد لا تجري الاستصحاب لسقوطه عن الجريان من جهة العلم الاجمالي ( ولكن ) فيه ان التعبد بالقرعة وان كان مخصوصا بموارد العلم الاجمالي في الشبهات الموضوعية ( الا ) ان غالب موارد جريانها انما يكون في موارد العلم الاجمالي بين الشخصين في باب الحقوق والأموال ، وحيث إن في تلك الموارد تجرى الاستصحاب ( فلا محالة ) يبقى المجال لملاحظة النسبة بينها وبين الاستصحاب ومعارضتها معه ( وعليه ) نقول ان النسبة بينها وبين الاستصحاب وان كانت على نحو العموم من وجه ( الا ) انه لا بد من تقديمها عليه ، نظرا إلى قلة موردها وكثرة موارده ( فإنه ) لو قدم الاستصحاب عليها يلزم محذور اللغوية في جعلها ( لأنه ) قل مورد تجري فيه القرعة ، ولا تجري فيه الاستصحاب ( بخلاف ) ما لو قدم القرعة على الاستصحاب ( فإنه ) يبقى للاستصحاب موارد كثيرة لا تحصى لا تجري فيها القرعة.

المقام الثالث

في نسبة الاستصحاب مع سائر الأصول العملية من البراءة والتخيير والاحتياط عقليها ونقليها ( فنقول ) : اما الأصول العقلية ( فلا شبهة ) في عدم معارضتها مع الاستصحاب لكونه واردا عليها ( فان ) حكم العقل بالبرائة ، وكذا الاشتغال انما يكون في ظرف عدم وجود البيان على التكليف وجودا وعدما وعدم وجود المؤمن من العقوبة المحتملة من قبل الشارع ، والاستصحاب بيان شرعي على وجود التكليف أو عدمه ، فيرتفع موضوع حكمه وجدانا ( كما ) انه مؤمن شرعي من العقوبة ، فيرتفع حكمه بوجوب الاحتياط ( واما الأصول ) النقلية ، كحديث الرفع ودليل الحلية ونحوهما مما مفاده الترخيص في الارتكاب ، أو مفاده وجوب الاحتياط ( فلا اشكال ) أيضا في تقديم الاستصحاب عليها ( نعم ) انما الكلام في وجه تقديمه عليها ، من كونه للورود ، أو الحكومة ، أو التخصيص ( حيث ) ان فيه وجوه وأقوال ( منشئها ) الخلاف المتقدم في مفاد

١٠٨

دليل الاستصحاب من أن قوله (ع) لا تنقض اليقين بالشك ناظر إلى اثبات اليقين بالواقع في ظرف الشك ، أو إلى المتيقن باثبات كونه هو الواقع ولو بتوسيط اليقين بجعله في القضية مرأتا إليه ( فعلى الأول ) كما اخترناه سابقا ، يتعين الوجه في تقديمه عليها بكونه بمناط الحكومة دون غيرها ( لأنه ) بتكفله لاثبات اليقين بالواقع مثبت لما هو الغاية المأخوذة في حديث الرفع والحجب ودليلي الطهارة والحلية ، وهو العلم والمعرفة فيكون بهذا الاعتبار حاكما على الأصول المغياة بالعلم والمعرفة ( وهكذا ) بالنسبة إلى قوله (ع) كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ، حيث يكون الاستصحاب بدليل اعتباره حاكما عليه ورافعا لموضوعه تعبدا ، بناء على كون المراد من الورود فيه هو وصول النهي والعلم به ، لاصرف ورود النهي الواقعي حتى يكون أجنبيا عن أدلة البراءة ( واما على الثاني ) وهو رجوع النقض فيه إلى المتيقن ( فلا مجال ) لحكومة الاستصحاب عليها ( بل لا بد ) وأن يكون تقديمه على تلك الأصول بمناط الورود ، أو التخصيص ( فعلى القول ) بان الغاية فيها عبارة عن العلم بمطلق الحكم أعم من الواقع والظاهر يكون الاستصحاب واردا عليها لا محالة ( إذ باستصحاب ) الوجوب أو الحرمة يحصل العلم الوجداني بالحكم الظاهري فيرتفع موضوع تلك الأصول ( واما على القول ) بان الغاية فيها عبارة عن العلم بخصوص الحكم الواقعي ( فلا محيص ) من أن يكون تقديمه عليها بمناط التخصيص دون الورود ودون الحكومة ( لعدم ) حصول العلم بالحكم الواقعي من قبل الاستصحاب لا وجدانا ولا تعبدا ( لان ) غاية ما يقتضيه دليل الاستصحاب حينئذ انما هو العلم الحقيقي بالحكم الظاهري ، وهذا العلم لم يجعل غاية للحكم الظاهري في هذه الأصول ( ولازمه ) وقوع التعارض بين الاستصحاب ، وبين تلك الأصول ( إذ مفاد ) الاستصحاب هو التعبد ببقاء المتيقن من الوجوب أو الحرمة في ظرف الشك بالواقع ، ومفاد تلك الأدلة هو التعبد بحلية المشكوك فيه ونفى الالزام عليه ( ومعه ) لا محيص في تقديم الاستصحاب عليها من كونه بمناط التخصيص دون الحكومة ( ولا يفيد ) في اثبات حكومة الاستصحاب عليها مجرد كونه من الأصول التنزيلية المحرزة

١٠٩

للواقع ما لم يكن بلسان اثبات العلم بالواقع بلحاظ الآثار المترتبة عليه نفسه وآثار متعلقه ( والا ) لاقتضى جريان ذلك في غيره من الأصول التنزيلية أيضا ، كقاعدة الطهارة ( فإنها ) أيضا من الأصول التنزيلية المحرزة للواقع ، بشهادة صحة الوضوء والغسل بالماء المشكوك طهارته ونجاسته ( والا ) فلو لم تكن القاعدة ناظرة ولو تنزيلا إلى اثبات الطهارة الواقعية ( يلزم ) أحد المحذورين ( لان ) المستفاد من أدلة شرطية طهارة ماء الوضوء ( اما ان يكون ) شرطية الطهارة الواقعية ( أو الأعم ) من الواقعية والظاهرية ( فعلى الأول ) يلزم عدم جواز الوضوء بالماء المزبور ، لعدم احراز الطهارة الواقعية بقاعدة الطهارة ( وعلى الثاني ) يلزم الحكم بعدم إعادة الوضوء مع تبين الخلاف وكشف نجاسة الماء بعد الوضوء ، لكونه واجدا حين وجوده لما هو شرط صحته واقعا وهو مطلق طهارة الماء ولو ظاهرية ( مع أنه ) لا يلتزم بهما أحد ( فلا محيص ) حينئذ من الالتزام بان قاعدة الطهارة من الأصول التنزيلية الناظرة إلى اثبات الطهارة الواقعية ، حتى يمكن الجمع بين صحة الوضوء بالماء الجاري فيه القاعدة ، وبين الحكم بإعادة الوضوء مع انكشاف نجاسته واقعا بعد الوضوء ومعه يشكل تقديم الاستصحاب على القاعدة بمناط الحكومة بصرف كون الاستصحاب من الأصول التنزيلية الناظرة إلى الواقع ، كما هو ظاهر.

( تنبيه ) قد يقع الاشكال في بعض اخبار أصالة البراءة في الشبهة الموضوعية ذكره الشيخ قده ، وهو قوله (ع) في الموثقة كل شيء حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك ( وذلك ) مثل الثوب عليك ولعله سرقة ، والمملوك عندك ولعله حر قد باع نفسه أو قهر فبيع ، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك ، والأشياء كلها على هذا حتى تستبين لك غيره أو تقوم به البينة ( فإنه ) قد استدل بها جماعة كالعلامة في التذكرة وغيره على أصالة الإباحة ، لمكان تطبيق قاعدة الحلية في الموثقة على الا مثلة المذكورة ( وجه الاشكال ) ان أصالة الإباحة في الثوب والعبد ان لوحظت باعتبار اليد عليهما فالحلية مستندة إليها لا إلى أصالة الإباحة وان لوحظت مع قطع النظر عن اليد فهي معارضة باستصحاب حرمة التصرف في الأشياء المذكورة ،

١١٠

كاصالة عدم التملك في الثوب والعبد لأصالة الحرية في كل انسان مشكوك الحرية والرقية ، وأصالة عدم تأثير العقد في الامرئة ( ولو أريد ) من الحلية في الرواية ما يترتب على أصالة الصحة في شراء الثوب والمملوك ، وأصالة عدم تحقق النسب والرضاع في المرأة ، كان خروجا عن الإباحة الثابتة بأصالة الإباحة ، كما هو ظاهر الرواية ( ويمكن ) دفع هذا الاشكال بما ذكرناه في مسألة أصالة البراءة ( وحاصله ) حمل الرواية على كونها اخبارا منه (ع) عن ثبوت الحلية للأمثلة المذكورة لأمور منها اليد ، ومنها القاعدة ، ومنها غيرهما ( لا انشاءا ) منه (ع) للحلية بحيث تكون الأمثلة من تطبيق قاعدة الحلية عليها حتى يتوجه الاشكال المزبور ( ويمكن ) دفع الاشكال بوجه آخر ( وحاصله ) جعل الأمثلة في الرواية تنظيرا منه (ع) للمقام ، لا تفريعا على ما افاده من الكبرى ( فكان ) الإمام (ع) بعد اثبات الحلية الظاهرية للأشياء بقوله كل شيء الخ صار بصدد التنظير للمقام بالأمثلة المذكورة لتقريب ذهن السائل ودفع استيحاشه ، بان الحلية كما هي ثابتة في الأمثلة المذكورة لأمور خاصة من نحو اليد وغيرها ( كذلك ) هي ثابتة للأشياء المشكوكة حليتها بقاعدة الحلية المستفادة من قوله (ع) كل شيء لك حلال ( وعلى ذلك ) يكون قوله (ع) كل شيء الخ باقيا على ظاهره في كونه في مقام اثبات الحلية للأشياء ، لا في مقام الاخبار عن ثبوتها لها لأمور خاصة كما هو مقتضى الوجه الأول

المقام الرابع في تعارض الاستصحابين

( وتفصيل الكلام ) فيه هو ان في تعارض الاستصحابين لا يخلو ( اما ان يكون ) الشك في بقاء أحد المستصحبين مسببا عن الشك في بقاء الآخر ( واما ان يكون ) الشك في كل منهما مسببا عن امر ثالث ، وهو العلم الاجمالي الموجود في البين ، ولا ثالث لهما ( لان ) كون الشك في كل منهما مسببا عن الشك في الآخر غير معقول ( والتمثيل ) له بالعامين من وجه فاسد ( لان ) الشك في أصالة العموم في كل منهما انما يكون مسببا عن العلم بعدم إرادة العموم في أحدهما ( وكيف كان ) فعل الأول اما

١١١

ان يكون ترتب المسبب على السبب شرعيا ، واما ان يكون عقليا ( واما على الثاني ) فله اقسام عديدة ( فان ) الأصلين ، اما ان يكونا نافيين للتكليف المعلوم في البين اما مطابقة أو التزاما بحيث يلزم من العمل بهما طرح تكليف ملزم ( واما ) ان يكونا مثبتين للتكليف بحيث لا يلزم من العمل بهما إلا المخالفة الالتزامية ، كما في العلم الاجمالي بطهارة أحد الاتائين مع كون الحالة السابقة فيهما النجاسة ( واما ) ان يكونا مختلفين ، كما في العلم بوجوب أحد الامرين مع كون الحالة السابقة في أحدهما الوجوب ، وفي الآخر الإباحة أو الاستحباب ( وعلى الأخير ) فاما ان يحتمل مطابقة كلا الاستصحابين للواقع ، كما في المثال المزبور ( واما ) لا يحتمل ذلك ، لما يلزمهما من التفكيك بين المتلازمين واقعا ( وعلى الأخير ) اما ان يقوم دليل خارجي على عدم امكان الجمع بين المستصحبين لعدم التفكيك بين المتلازمين ولو ظاهرا ، كما في الماء النجس المثمم كرا بماء طاهر ، حيث قام الاجماع على اتحاد حكم المائين المجتمعين الممتزجين وعدم امكان بقاء الطاهر على طهارته والنجس على نجاسته ( واما ) ان لا يقوم دليل خارجي على عدم امكان الجمع بينهما ، كما في استصحاب طهارة البدن وبقاء الحدث لمن توضأ غفلة بمايع مردد بين الماء والبول « فهذه » اقسام عديدة لتعارض الاستصحابين « وبعد » ذلك نقول.

( اما القسم الأول ) وهو ما يكون الشك في بقاء أحد المستصحبين مسببا عن الشك في الآخر « فان كان » التسبب عقليا ، كما في الشك في بقاء الكلي لأجل الشك في كون الحادث هو الفرد الباقي ، يجري الاستصحاب في كل من السبب والمسبب بعد تمامية أركانه فيهما ولا يقدم أحد الاستصحابين على الآخر « واما ان كان » التسبب فيها شرعيا بأن يكون أحد طرفي الشك في أحدهما من الآثار الشرعية لاحد طرفي الشك في الآخر ، كالشك في نجاسة الثوب المغسول بماء علم طهارته سابقا مع كونه في حال التطهير به مشكوك الطهارة والنجاسة « حيث » ان الشك في بقاء نجاسة الثوب المغسول به وارتفاعها مسبب شرعا عن الشك في بقاء طهارة الماء وارتفاعها « لان » طهارته من الآثار الشرعية لطهارة الماء « ولا ينبغي »

١١٢

الاشكال في تقديم الاستصحاب في السبب على الاستصحاب في المسبب والحكم لأجله بطهارة الثوب ، من غير ملاحظة معارضته بالاستصحاب في المسبب « بل الظاهر » ان المسألة اتفاقية ، فلا يصغى حينئذ بما يظهر من بعض من القاء المعارضة بينهما « بل ما ذكرناه » يجري في كل أصل سببي وان لم يكن له حالة سابقة « ومن هنا » لا اشكال في الحكم بطهارة الثوب النجس المغسول بالماء الجاري فيه قاعدة الطهارة ، من غير ملاحظة المعارضة بين القاعدة الجارية في السبب والاستصحاب في المسبب « فلا اشكال » حينئذ في تقديم الأصل السببي على الأصل المسببي « وانما الكلام » في وجه تقديمه عليه في كونه للورود ، أو الحكومة ، أو التخصيص بعد الفراغ عن كون كل من السبب والمسبب موردا للاستصحاب ومشمولا لعموم ما دل على عدم نقض اليقين بالشك.

( فنقول ) : الذي يظهر من المحقق الخراساني قده ، هو الأول ، حيث أفاد في تقريب الورود بما حاصله ان الاستصحاب الجاري في السبب في المثال والحكم بطهارته موجب لليقين بطهارة الثوب المغسول به لكمونه من آثاره ، فيوجب خروج المسبب حقيقة من افراد عموم حرمة نقض اليقين بالشك ( إذ ) يكون رفع اليد عن بقاء نجاسة الثوب المغسول به من باب كونه نقضا لليقين باليقين ، لا من نقض اليقين بالشك ( بخلاف ) الاستصحاب في المسبب الذي هو نجاسة الثوب ، فإنه موجب لتخصيص دليل الاستصحاب في طرف السبب وجواز نقض اليقين يه بالشك بعدم ترتيب اثره الشرعي بلا وجه يقتضيه ( لكن ) فيه ما لا يخفى ( فان ) ما افاده من تقريب الورود مبني على شمول اليقين الناقض في لا تنقض اليقين لليقين بالحكم بأي عنوان حتى بعنوان عدم نقض اليقين بالشك ( والا ) فعلى فرض انصرافه إلى اليقين المتعلق بما تعلق به الشك وهو اليقين بحكم الشيء بعنوانه الأولى ، فلا يكاد مجال لهذا الورود ( لوضوح ) ان مفاد الاستصحاب حينئذ وان كان حرمة نقض المتيقن بلحاظ اثره ، الا انه لا يكاد يتحقق من قبل استصحاب طهارة الماء الا العلم بطهارة الثوب المغسول به بعنوان كونه نقض يقين بالشك ، بلحاظ ان عدم الحكم بطهارة

١١٣

الثوب نقض يقين بطهارة الماء بالشك به ( فإذا ) لم يكن اليقين بطهارة الثوب بهذا العنوان مشمولا لليقين الناقض في اخبار الباب ، فلا محالة يكون الشك في بقاء نجاسته الواقعية على حاله ، من غير أن يرفعه الاستصحاب السببي لا حقيقة ولا تنزيلا ، ومع بقاء الشك بحاله يجري فيه استصحاب النجاسة ( إذ يكون ) رفع اليد عن اليقين بنجاسته الواقعية من نقض اليقين بالشك ( نعم ) انما يتجه دعوى الورود لو قلنا ان المأخوذ في كبرى طهارة الثوب واقعا غسله بكل ماء محكوم بالطهارة ولو بعنوان ثانوي ظاهري ( أو قلنا ) ان مفاد التعبد في استصحاب طهارة الماء هو جعل الطهارة الحقيقية في ظرف الشك ، لا مجرد البناء العملي على طهارته بلحاظ اثره ( ولكن ) يلزمهما الحكم في الثوب بالطهارة الواقعية حتى مع انكشاف كون الماء نجسا واقعا لانغساله بالماء الطاهر حين الغسل ( وهو كما ترى ) مما لا يمكن الالتزام به ( فان ) ما يمكن الالتزام به في فرض نجاسة الماء واقعا انما هو الطهارة الظاهرية ، كالطهارة الظاهرية لأصل الماء المغسول به الثوب النجس ( وعليه ) كيف يمكن تقديم الأصل السببي على الأصل المسببي بمناط الورود.

( ومن التأمل ) فيما ذكرنا ظهر عدم تمامية تقريب الحكومة أيضا بناء على توجيه التنزيل في لا تنقض إلي المتيقن ، لا إلى اليقين ( خصوصا ) في قاعدة الطهارة الجارية في الماء المشكوك الذي غسل به الثوب النجس ( لوضوح ) ان غاية ما تقتضيه القاعدة انما هو التعبد بالبناء على طهارة الماء واقعا وبأثره الذي هو طهارة الثوب ، بلا نظر فيه إلى الغاء الشك في بقاء النجاسة السابقة في الثوب ، ولا إلى اثبات اليقين الناقض ، بها ولو على المختار بكونها من الأصول التنزيلية الناظرة إلى الواقع ، فضلا عن القول بعدم كونها من الأصول التنزيلية ( نعم ) لازم التعبد المزبور هو اليقين بطهارته بعنوان ثانوي ( ولكن ) مثل هذا اليقين لا يكون ناقضا ولا بمنزلته ( الا ) بدعوى عموم اليقين بحكم الشيء ولو بعنوان ثانوي ظاهري ( وهذا المعنى ) مع كونه مستلزما للقول بالورود ، كما اختاره العلامة الخراساني قده ، لا الحكومة ، خلاف التحقيق ( فان ) المنصرف من اليقين الناقض في

١١٤

قوله (ع) ولكن انقضه بيقين آخر هو خصوص اليقين المتعلق بما تعلق به الشك ، ولا ريب في أنه لا يكون الا اليقين بالحكم الواقعي الثابت للشيء بعنوانه الأولى ( ومعه ) فلا ورود للقاعدة ولا حكومة ، لبقاء الشك في بقاء النجاسة الواقعية المتيقنة في الثوب على حاله وعدم ارتفاعه لا حقيقة ولا تبعدا وتنزيلا ( وهكذا الكلام ) في الاستصحابين ( فإنه ) على هذا المسلك يكون كل من الأصل السببي والمسببي مثبتا للتعبد ، بالحكم طهارة ونجاسة في ظرف الشك ، من دون ان يكون لأحدهما النظر إلى نفى موضوع الآخر من الشك في الطهارة والنجاسة ولا إلى اثبات ما هو اليقين الناقض ( وتوهم ) ان تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي من جهة سبق رتبة شكه على شكه يقتضي جريانه في المرتبة السابقة بلا معارض ، وبجريانه فيه في المرتبة السابقة واقتضائه طهارة الثوب ، لا يبقى المجال لجريانه في الثوب في المرتبة المتأخرة ( مدفوع ) أولا بان مجرد تقدم رتبة المشكوك لا يقتضى تقدم رتبة شكه مطلقا ، كما بينا نظيره في العلم الاجمالي في مسألة الملاقي والملاقى ( وثانيا ) ان التعبد بالأثر في استصحاب طهارة الماء انما يكون في طول التعبد بطهارة الماء ( ولازمه ) كونه في عرض التعبد بنجاسة الثوب بمقتضى استصحابها فيقع بينهما التعارض لتحقق موضوعهما الذي هو الشك في مرتبة واحدة ( وعليه ) فما افاده بعض الأعاظم قده من تقريب الحكومة للأصل السببي تبعا للشيخ الأعظم قدس‌سره ، مع التزامه بتوجيه التنزيل في لا تنقض إلى المتيقن بلحاظ البناء العملي على كونه هو الواقع ، لا إلى نفس اليقين ( منظور فيه ) لما عرفت من بقاء الشك الوجداني الذي هو موضوع استصحاب نجاسة الثوب على حاله وعدم ارتفاعه باستصحاب طهارة الماء على هذا المبنى لا حقيقة ولا تعبدا وتنزيلا ( واما ) ما افاده من برهان التخصيص والتخصص بالنسبة إلى نجاسة الثوب وطهارتها ( فقد ) عرفت اندفاعه ، حيث إنه مبني على اقتضاء الاستصحاب الجاري في السبب لرفع الشك المأخوذ في استصحاب المسبب ، اما حقيقة أو تعبدا وتنزيلا ( والا ) فعلى فرض عدم اقتضائه لرفعه ولو تعبدا وتنزيلا يكون تقديم كل منهما على الآخر من هذه الجهة من باب التخصيص محضا

١١٥

( نعم ) على المختار من توجيه التنزيل في باب الاستصحاب إلى نفس اليقين ولو من حيث طريقيته ( يمكن ) تقريب الحكومة للأصل السببي ( ببيان ) ان شأن الاستصحاب حينئذ بعد أن كان هو التعبد بالعلم بالواقع بلحاظ المعاملة ، يتعدى منه إلى التعبد بالعلم بأثره واثر اثره ، لملازمة التعبد بالعلم بموضوعية شيء للتعبد بالعلم بأثره بالملازمة العرفية ، حتى في الموارد التي يكون الأثر المزبور خارجا عن ابتلاء المكلف ، وكان الأثر المبتلى به هو اثر الأثر ( فلا محالة ) يكون مثل هذا العلم بمنزلة اليقين الناقض في طرف استصحاب المسبب ، فيكون رفع اليد عن النجاسة المتيقنة سابقا في الثوب ببركة استصحاب طهارة الماء من نقض اليقين بما هو بمنزلة اليقين ( وهذا ) بخلافه على مبنى توجيه التنزيل إلى المتيقن ، فإنه لا يتحقق اليقين الناقض من استصحاب طهارة الماء لا وجدانا ولا تعبدا وتنزيلا ( ولكن الانصاف ) عدم تمامية الحكومة على هذا المبني أيضا ( لما فيه ) أولا منع اقتضاء التعبد بالعلم بالموضوع التعبد بالعلم بأثره ( بل نقول ) ان مرجع التعبد ببقاء اليقين السابق في باب الاستصحاب ، انما هو إلى الامر بمعاملة عمل اليقين بالواقع في ظرف الشك بالبناء العملي على وجوده في ظرف الشك من حيث ترتيب الآثار المترتبة عليه التي منها في استصحاب طهارة الماء المعاملة مع الثوب النجس المغسول به معاملة المغسول بالماء المعلوم طهارته ، بلا تكفله لاثبات العلم التعبدي بطهارته الواقعية ليتحقق به اليقين الناقض ( وثانيا ) على فرض تسليم ذلك نقول : ان التعبد في استصحاب نجاسة الثوب أيضا مثبتة لليقين ببقاء نجاسته الناظر إلى نفي الشك عن طهارته ( ومعه ) يتوجه الاشكال بأنه مع اقتضاء كل من الاستصحابين لاثبات العلم ، لم لا يجري أولا استحصاب نجاسة الثوب الناظر إلى نفي الشك عن طهارته كي لا يبقى مجال النظر لعموم لا تنقض في استصحاب طهارة الماء إلى هذا الأثر ( واما ) توهم تقدم الاستصحاب الجاري في الماء طبعا على هذا الاستصحاب ( فقد عرفت ) الاشكال فيه ، بان التعبد بالأثر انما يكون في طول التعبد بالموضوع ، فيكون في عرض التعبد بالنجاسة.

( وحينئذ فالتحقيق ) في تقريب حكومة الأصل السببي على الأصل المسببي

١١٦

( ان يقال ) ان قوام الحكومة انما هو بكون أحد الدليلين أو الأصلين بمدلوله ناظرا إلى مفاد الآخر ومدلوله ( وهذا ) كما يتحقق برجوع مفاده إلى التصرف في عقد وضع الآخر بتوسعة أو تضييق فيه بادخال ما يكون خارجا عنه أو اخراج ما يكون داخلا فيه بنحو من التصرف ( كذلك ) يتحقق بالتصرف في عقد حمل الآخر ، ، كأدلة ـ نفى الحرج والضرر بالنسبة إلى الاحكام الأولية ، حيث إن حكومتهما على أدلة الاحكام الأولية انما كانت بالتصرف في عقد حملها ببيان ، ما هو المراد منها ( وبعد ) ذلك نقول ان حكومة الأصل السببي في المقام من قبيل الأخير ( حيث ) ان الأصل السببي بتكفله لاثبات الطهارة للماء المشكوك طهارته ناظر إلى اثبات آثار طهارته ، وبذلك يكون ناظرا إلى مؤدى الأصل المسببي من نفى ترتيب آثار طهارة الماء ( ولا نعنى ) من الحكومة الا ما كان ناظرا إلى نفي الآخر اما بدوا ، أو بتوسيط نظره إلى نفى موضوعه ( وعلى ذلك ) نقول : انه يكفي في تقديم الأصل السببي هذا المقدار من النظر ، بلا احتياج في وجه تقديمه إلى كونه ناظرا إلى نفي الشك عن المسبب في الاستصحاب المسببي ( لا يقال ) انه كما أن نظر الأصل السببي إلى نفي التعبد بعدم آثار طهارة الماء المشكوك طهارته ( كذلك ) الأصل المسببي بالتعبد بنجاسة الثوب ناظر إلى نفي التعبد باثر طهارة الماء ( فإنه يقال ) كلا فان غاية ما يقتضيه الأصل المسببي من النظر انما هو إلى نفى ما نظر إليه الأصل السببي الذي هو نقيض مؤداه ، لا إلى أصل نظره ( وبالجملة ) نظر الأصل المسببي انما هو إلى نفى التعبد بنقيض مؤداه الذي هو عين المنظور في الأصل السببي ، لا إلى نفى أصل نظره إلى لوازمه وآثاره التي منها نفى التعبد بعدم ترتيب آثار طهارة الماء المشكوك ، بل بالنسبة إليه يكون من باب تخصيص نظر الأصل السببي إلى غير هذا الأثر ( وحينئذ ) فمن طرف الأصل السببي كان نفى الأصل المسببي من جهة نظره إليه ، ومن طرف الأصل المسببي كان نفى نظر الأصل السببي إلى اثره من باب التخصيص ، لا من باب الحكومة والنظر ( ومن المعلوم ) انه عند الدوران بين الحكومة والتخصيص ،

١١٧

تكون الحكومة مقدمة على التخصيص ( ومن هنا ) ترى بنائهم على تقديم الحاكم بعد ثبوت أصل نظره ، ولو مع كون المحكوم أقوى دلالة من الحاكم ( هذا كله ) في القسم الأول.

( واما القسم الثاني ) وهو ما يكون الشك في كل من المستصحبين مسببا عن امر ثالث وهو العلم الاجمالي ، فقد عرفت انه على اقسام ( الأول ) ان يكون العمل بالاستصحابين مستلزما لمخالفة قطعية عملية للتكليف المعلوم بالاجمال ، كما لو علم بنجاسة أحد الطاهرين ( وقد وقع ) الخلاف بين الاعلام في جريان كلا الاستصحابين وعدم جريانهما ، أو جريان أحدهما تخييرا ( ومنشأ ) الخلاف فيه هو الخلاف في العلم الاجمالي من حيث الاقتضاء والعلية بالنسبة إلى المخالفة والموافقة القطعيتين ( وتفصيل ) الكلام وان تقدم في الجزء الثالث من الكتاب في مبحث الشك في المكلف به ( ولكن ) لا بأس بالإشارة الاجمالية في المقام إلى بيان المسالك في العلم الاجمالي وبيان ما يترتب عليها من اللوازم ( فنقول ) اما على القول بعلية العلم الاجمالي حتى بالنسبة إلى الموافقة القطعية كما هو التحقيق ( فلا اشكال ) في سقوط الأصول عن الجريان ولو في بعض أطراف العلم حتى مع خلوه عن المعارض ( لان ) مرجع علية العلم الاجمالي حتى بالنسبة إلى الموافقة القطعية ، انما هو إلى حكم العقل تنجيزا بثبوت التكليف في العهدة ولزوم التعرض للامتثال بتحصيل الجزم بالفراغ عن عهدة ما تنجز عليه من التكليف ( ومقتضى ) ذلك بعد تردد المعلوم بالاجمال من حيث الانطباق ، ومساوقة احتمال انطباقه على كل طرف لاحتمال وجود التكليف المنجز في مورده المستتبع لاحتمال العقوبة على ارتكابه ، هو استقلال العقل بلزوم الاجتناب عن كل ما يحتمل انطباق المعلوم بالاجمال عليه من الأطراف ، وعدم جواز القناعة بالشك في الفراغ والموافقة الاحتمالية ، لعدم الا من من العقوبة عند مصادفة ما ارتكبه مع الحرام المنجز عليه ، فتجري فيه قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ( ولازمه ) اباء العقل أيضا عن مجيء الترخيص الشرعي على خلاف معلومه ولو في بعض الأطراف ، من جهة كونه من الترخيص في محتمل المعصية الذي هو من

١١٨

الحكيم في الاستحالة كالترخيص في مقطوعها ( وبذلك ) ظهر ان سقوط الأصول المرخصة النافية للتكليف عن الجريان في أطراف العلم ليس من جهة المعارضة ، ولا من جهة قصور أدلة الترخيص عن الشمول لأطراف العلم الاجمالي ، كي يفرق بين المخالفة القطعية وموافقتها ، بعدم انحفاظ مرتبة الحكم الظاهري في الأولى وانحفاظها في الثانية ( وانما ) هو من جهة اباء العقل عن مجيء الترخيص على خلاف معلومه ولو في بعض الأطراف بلا معارض ، لكونه بنظره من الترخيص في محتمل المعصية الذي هو كالترخيص في مقطوعها ( كما يفرض ) ذلك في العلم الاجمالي بنجاسة أحد المايعين مع كون الحالة السابقة في أحدهما الطهارة دون الآخر ( فإنه ) بعد تعارض استصحاب الطهارة في طرف مع قاعدة الطهارة في الآخر ، تبقى قاعدة الطهارة في الطرف الجاري فيه استصحابها بلا معارض ( فإنه ) على القول بعلية العلم الاجمالي لا تجري فيه القاعدة ، أيضا لمكان مانعية العلم الاجمالي ( هذا ) على المختار من علية العلم الاجمالي حتى بالنسبة إلى الموافقة القطعية.

( واما على القول ) باقتضائه بالنسبة إلى الموافقة القطعية المستتبع لتعليقية حكم العقل بوجوب تحصيلها على عدم مجيء ترخيص شرعي على خلافه في بعض المحتملات ( فلا اشكال ) أيضا في عدم جواز اعمال كلا الأصلين المشتملين على الترخيص ، لما يلزمه من الوقوع في محذور المخالفة القطعية العملية للتكليف المعلوم في البين ( وانما الكلام ) في جواز اعمال أحد الأصلين ولو على نحو التخيير ( فان ) الذي يظهر من جماعة منهم الشيخ قده وتبعه بعض الأعاظم هو عدم جوازه ، والقول بتساقط الأصول الجارية في أطراف العلم ، بتقريب ان أدلة اعتبار تلك الأصول تقتضي اعمال كل أصل بعينه ، فإذا لم يمكن ذلك فلا بد من التساقط ( لعدم ) الدليل على التخيير في اعمال أحد الأصلين المتعارضين ( وبهذه ) الجهة جعل الأصل في تعارض الأصول مطلقا التساقط دون التخيير ( ولكن ) لا يخلو من اشكال ( بل نقول ) انه لا مانع على هذا المسلك من الالتزام بالتخيير في اعمال أحد الأصلين المتعارضين ، وذلك لا من جهة بقاء أحدهما المخير تحت عموم دليل الترخيص ، كي يقال ان أحدهما المخير ليس من افراد العام ( بل من جهة ) تقييد اطلاق دليل الترخيص الجاري في كل طرف بحال

١١٩

عدم ارتكاب المحتمل الآخر ( لان ) منجزية العلم الاجمالي وعليته لحرمة المخالفة القطعية على هذا المسلك انما يكون مانعا عن اطلاق الترخيص في كل واحد من طرفي العلم المستتبع لتجويز الجمع بينهما في الارتكاب ، وبالتقييد المذكور يرتفع المحذور المزبور ، ولا نعني من التخيير في اعمال أحد الأصلين الا ذلك ( ولا فرق ) في ذلك بين الأصول التنزيلية ، وغيرها ، فإنه بما ذكرنا من التقييد يرتفع المعارضة من البين لبقاء كل من الطرفين حينئذ تحت عموم دليل الترخيص ، غايته يقيد اطلاق كل منهما بصورة عدم ارتكاب الآخر ، من غير احتياج إلى ارتكاب التخصيص باخراج كلا الفردين عن عموم أدلة الترخيص ولو بضميمة بطلان الترجيح بلا مرجح ( ثم إن ذلك كله ) فيما إذا كان الأثر لكل من الأصلين ( وأما إذا كان ) الأثر لأحدهما المعين دون الآخر ، كما إذا كان أحد المستصحبين خارجا عن ابتلاء المكلف حين العلم الاجمالي بحيث لا يعلم بتوجيه تكليف منجز إلى المكلف من قبل العلم الاجمالي فلا شبهة في أنه يعمل بالأصل الجاري في الآخر على جميع المسالك بل يكون ذلك خارجا في الحقيقة عن تعارض الأصول ( هذا ) على القول باقتضاء العلم الاجمالي بالنسبة إلى الموافقة القطعية مع عليته بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ( واما على القول ) باقتضائه حتى بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ( فلا اشكال ) في أن لازمه جواز اعمال كلا الأصلين في طرفي العلم لان مرجع اقتضاء العلم الاجمالي حينئذ إلى تعليقية حكم العقل في عدم جواز ارتكاب المشتبهين على عدم ورود ترخيص شرعي على الخلاف وبجريان الأصول المرخصة يرتفع حكم العقل ( وأولى ) بذلك هو القول بعدم الاقتضاء في العلم الاجمالي رأسا ( ولكن ) ذلك كله خلاف التحقيق ، حتى القول بالتفصيل في الاقتضاء والعلية بين المخالفة القطعية والموافقة القطعية ( فان ) التحقيق هو علية العلم الاجمالي مطلقا حتى بالنسبة إلى الموافقة القطية ، ولازمه كما عرفت هو المنع عن جريان الأصول المرخصة ولو في بعض المحتملات حتى مع الخلو عن المعارض ( هذا ) إذا كان الأصلان نافيين للتكليف.

( وأما إذا كانا ) مثبتين للتكليف ( كما لو علم ) بطهارة أحد الثوبين النجسين

١٢٠