الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

نفسه مأذونا وسواه ، فقد تشمله (مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي).

أجل ، فكما أن الربوبية الإلهية مختصة في الأصل بربنا ولا تتعدد أبدا ، كذلك هي ليست لتقبل التفويض ، فإنه تفويض لساحة الربوبية ، وتبعيض لها بينه وبين خلقه.

ولئن أمكن أن يخلق الله إلها ثانيا ، لكان بالإمكان أن يأذن في ربوبية ثانية!.

والولاية الطليقة تكوينية وتشريعية هي من ميزات الربوبية الوحيدة غير الوهيدة ، أنها لا تقبل وكالة أو نيابة أو خلافة أو تفويضا.

ذلك ، وكل التنديدات بالمشركين في آياتها هي تأكيدات على عدم إمكانية ـ فضلا عن وقوع ـ لانتقال الربوبية إلى خلق أيا كان وأيان.

وليست الرسالة من شئون الربوبية حتى يتنقض بها هذه الضابطة السلبية ، إذ ليس الله رسولا ، فإنما الرسالة كما العبودية هي من اختصاصات الخلق بما قرر الله أو قدر ، فالعبودية حاصلة دون حدّ ، والرسالة تحصل بما يحدد الله.

فانتقال الربانية في أي حقل من حقولها مستحيل ، كما ولا ينتقل من الله شيء فيما يخلق ، إذ لم يلد ولم يولد.

ولو أن الربانية تنتقل إلى غير الرب فهي ـ إذا ـ حادثة ، إذ كلما في الخلق بحذا فيره هو حادث ليس إلّا ، فترى أن ولاية التكوين والتشريع التي هي من شئون الربوبية الأصلية ، كيف تنتقل بوكالة أم نيابة أم خلافة إلى رسل ، ليسوا إلا حملة أحكام الله ، فليس من تلقاء أنفسهم شيء في حقل الرسالة ولا نقير.

ذلك ، فليس انتقال الربانية مستحيلا ـ فقط ـ في حقل التجافي عنها ، بل وخلق مثلها في الخلق ، إذ كما أن الربانية الإلهية غير مخلوقة ، وإنما المخلوقة هي الخلائق المربوبون ، كذلك الربانية المخلوقة للخلق لا بد وأن تكون غير مخلوقة وذلك تناقض بيّن ، والمخلوقة منها ليست

٤١

ربانية ، بل هي مربوبية لا تعمل عمل الرب ، سبحانه وتعالى عما يشركون.

إذا فالولاية التكوينية والتشريعية ، هما كسائر الربوبيات الإلهية خاصة بالله تعالى لا تعدوه إلى سواه ، إذ لا إله إلا هو ولا رب سواه وليس كمثله شيء.

فلو أن خلقا من خلقه خول إليه شأن من شئون الربوبية خلقا لذلك الشأن لكان لربوبيته مثيل!.

ذلك ، والأفعال بين أطوار ثلاثة : ١ خاصة بالله قضية خاصة ربوبية الله ، كالخلق الأول لا من شيء وسائر الخلق دون أسباب خلقية متعوّدة ، سواء أكان ـ فقط ـ بسبب الإرادة الخالقية ، أم بطي الأسباب طيا ودرجها في سرعة زمانية أو مكانية أماهيه ، ليست في حول الخلق وقوتهم أبدا.

ومن ذلك التشريع حيث يحتاج إلى طليق العلم بكل الكائنات دون إبقاء ، والعلم بصالح المكلفين دون أي خطاء قصورا أو تقصيرا ، فكما العلم الطليق والقدرة الطليقة لا يقبلان التنقل من الله إلى سواه تجافيا أم خلقا لهما في الخلق فكذلك التشريع.

كما وأن الخلق لا من شيء أو خلق شيء من شيء ـ كحق الخلق ـ يحتاج إلى طليقهما ، ولذلك لا يتنقل إلى من سوى الله.

٢ ثم خاصة برسل الله رسالة ربانية من الله ، وحيا يوحى إليهم ، أم آيات تظهر بإذن الله على ألسنتهم أو أيديهم أمّا أشبه من مظاهر أفعالهم قرينة بفعل الله الآية.

٣ ومن ثم عامة مهما اختلفت مراتبها من حيث الذرايع المحتاجة إلى مختلف المساعي والقدرات في الخلائق ، فالمخترعون والمكتشفون لهم حظوة أكثر ممن سواهم ، وهكذا الأمر بينهم أنفسهم وبين من سواهم أنفسهم.

فرسل الله لا يملكون من الله مثيلا من الأول الخاص بالله ، فإنه

٤٢

شركة مع الله تخويلا وتوكيلا وتفويضا ، تجافيا أم خلقا فيهم مماثلا لما عنده ، وهم ليسوا إلا حملة وحي الله بلاغا إلى عباد الله ، كما ولا يملكون وحي الله اجتلابا واجتذابا من الله ، فإن رسالاتهم ليست إلا من الله ، فكذلك مادة الرسالة وهي الوحي ، وآيتها وهي آيات رسالاتهم.

لذلك ترى عشرات من الآيات المستعرضة لرسالاتهم وآياتها ، تفصل بينهم وبين العلم والقدرة في حقل رسالاتهم وحيا بآيات رسالاتهم إثباتا لها.

وعلى أية حال ليس الرسل آلهة آخرين غير الله ، مستقلين أمام الله ، أو مستغلين تفويض الله لكي يفعلوا ما يفعله الله ، إنما هم رسل يحملون أحكام الله إلى عباده دون شطر كلمة أماهيه من تلقاء أنفسهم.

فسواء أكان التلقاء مستقلا ، أو مأذونا مستغلا ، فإنه على أي الحالين تلقاء ، و (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) تعم أي تلقاء ، ما لم يكن بوحي خاص ناصّ من الله في كل جليل أو قليل : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) فاتباعه نفسه في تشريع أم تبديل لحكم وسواه من الوحي خارج عن الحصر.

ثم الرسول الذي لا يسمح له أن يحرك لسانه بتفصيل القرآن بعد معرفة إجماله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (٧٥ : ١٦) (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) (٢٠ : ١١٤) أنّى لهذا الرسول أن يأتي بغير هذا القرآن أو يبدله بصياغته اللفظية والمعنوية ، المتحدى بهما على العالمين؟!.

ذلك ، وكيف يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي وأنتم تشكون مفترين علي فيما يبدله الله من آية : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٦ : ١٠١) ف (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ..) (٢ : ١٠٦).

(قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٦).

٤٣

إجابات أخرى عن شطحاتهم المقترحات (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ..) ف «لو» تحيل إيجابية المشيئة الإلهية في عدم تلاوته عليهم ، تأشيرا عشيرا بواجب هذه التلاوة الرسالية ، فإن طبيعة وحي القرآن هي الجماهيرية الشاملة كل المكلفين ، كيف وهذه التلاوة هي أصل الرسالة وأثافيّها بعد التوحيد : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٢٧ : ٩٢) ـ

ثم (وَلا أَدْراكُمْ) الله «به» أنه منه بآياته الدالة عليه وأنه ما هو رضاه منكم (١) فقد أدراكم به كأصل بما تلوته عليكم ، وكفرع بما علمتكم إياه ، فمشية الله في تلاوته عليكم وأنه أدراكم به هما دليلان باهران على أنه هو الهدى دون سواه ، غيارا به أو تبديلا له ولا كلمة واحدة.

ومن ثم يجتث جذور افترائه إياه على الله بعد شهادة آياته أن (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) أمينا لا أخونكم أفا خون بعد ذلك العمر ربي؟ و (عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) لا أدري منه شيئا ولا تعلمت من أحدا علما فكيف جئت بهذا القرآن العظيم من تلقاء نفسي؟.

فإن كان القرآن من عند الله كما تشهد آياته فكيف آتي بقرآن غير هذا أو أبدله (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي ..) ولو كان من تلقاء نفسي فلي أن آتي بغيره كما أتيت به أو أبدله وان افتريه على ربي (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ).

فقد استأصلت هذه البراهين الباهرة الساطعة كل جذور التشكيكات حول كيان القرآن ، أنه من تلقاء نفسه (صلى الله عليه وآله وسلم) فليغيره أو يبدله ، أم من عند الله فليجبنا في اقتراحنا إن كان أنزله لصالحنا ،

__________________

(١) المفعول الثاني ل «أدراكم» محذوف معروف من سوق الكلام أنه تعالى أدراكم كيان القرآن وأدراكم شرعة الحق فيه ، أدراكم به ، فإن برهان البراهين كما وانه برهان على رسالة من جاء به «يس. وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ».

٤٤

وكلاهما افتراء على الله أن يتلو عليهم قرآنا من تلقاء نفسه ويفتريه على الله ، أم من الله ثم يفترى على الله أنه قد يغيره أو يبدله بهذه التطلبات ، ويكأن الله يشرع شرعته حسب مرضاتهم أولائك الحمقاقى الأنكاد.

وهنا (عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) وهو أربعون سنة ، مما يدل على أنه متوسط العمر وكماله وأن الذي يعيش ذلك العمر على وتيرة خاصة ، ليس ليبدلها إلى ما يضادها ، ولا سيما الأمين الذي لم يخن الناس قبل دعوى الرسالة ، فمحال أن يخون ربه بعد دعواها ، ولو كان ممن يخون الله لكان يدعي الألوهية حيث القرآن آية ألوهية الصادر عنه ، دون أن يتنازل عما يمكنه إلى رسالة لا يملك إلّا بلاغها من الله إلى العالمين!.

أجل (عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) وما أدراك ما ذلك العمر المعمّر من قبل الله ، المدمر من قبل جوّه الذي ولد فيه وعاشه في ظاهر الأمر ، وعين الله ترعاه طيلة طفولته حتى شبابه وحتى آخر عمره ...

محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يتيم مكة الجدباء ، حيث لا ماء فيها ولا كلاء ، الفقيرة ماديا ومعنويا ، اللاهية الرمضاء ، الصعبة المعاش ، المعتمدة على بلاد أخرى في بلغة العيش.

نشأ لا كما ينشأ سائر الطفولة ، فقد فقد أباه وهو جنين ، أرهق الحزن أمه آمنة إثر وفاة زوجها ، فهي ـ إذا ـ غير آمنة على أريحية حياتها وحياة طفلها ، وقد جف ثديها فارتضع من حليمة السعدية ... وماتت آمنة ولما يبلغ محمد الثامنة ، فكفله جده عبد المطلب ، وبعد أن مات كفله عمه أبو طالب ...

وحين يترعرع ببالغ الصباوة وحالق الشباب يرى المجتمع المكي متصدعا يعيش في تناقض وتباغض طبقي ، يرى حفنة من الناس أغنياء أثرياء يسكنون الراقيات ويأكلون بصحاف ذهبية وفضية ، ويملكون الألوف ومشيدة القصور ومكثفة الحور ، ويملكهم كل غرور الغرور.

ويرى بجنبهم «الأذلة» وهم السواد الأعظم من أهل مكة ، الذي مزقهم الاستبداد ، ومحقهم ، فمنهم الصعاليك وذؤبان العرب ولصوص

٤٥

البادية وعصابات سوء ومنهم ... طعامهم الجوع : من ورق الأشجار ولحاءها.

فالصورة مخيفة مثيرة لمعدن الغيرة المحمدية ، فهو ـ إذا ـ مستعد لتصفية الجو ، مستمدا من وحي الرحيم الرحمان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟.

ذلك عمر من قبل الرسالة ، حارسا على هذه الأحوال الأهوال ، غير دارس في المدرسة المكية ولا قارئ ، حيث لا دراسة ولا قرائة ، اللهم إلّا تكلبات وهمجيات ، وتصلبات على جاهليات ، ثم طلع طلوع شمس الرسالة الأخيرة من مشرق أم القرى ، مشرقة على كافة العقول والقلوب ما لم يأت له مثيل.

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ)(١٧).

فالمفتري على الله كذبا أنه أوحي إلي ولم يوح إليه بشيء ـ : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ) (٦ : ٩٣) ـ إنه من رؤوس زوايا الظلم.

وكذلك الذي (كَذَّبَ بِآياتِهِ) رسولا يغير وحي الله ، يغيره أو يبدله من تلقاء نفسه ، أم غيره من هؤلاء الذين يكذبون بآيات الله ، أم يفترون على الله أنه لم يوح بشيء : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) (٦ : ٩١) ـ (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ) وقد أفلحت أنا حيث قمت بأمر هذه الرسالة القمة الشاملة لوحدي وأخذت تنمو وتربو ، فلو كنت مجرما في دعوى هذه الرسالة ، أو كنت أجرمت في رسالتي على الله لكان الله يأخذني باليمين قضية ضرورة الحكمة الربانية ، وصدا عن الإغراء بالجهل : (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ. وَما لا تُبْصِرُونَ. إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ. وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ. تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٦٩ : ٣٨ ـ ٤٧).

٤٦

وترى كيف تعدى «كذب» هنا بالجار «به»؟ ذلك لأن المتعدي إليه هنا محذوف هو الله ، أن كذب الله بآياته ، نكرانا لها واستنكارا بدلالاتها ، رغم أنها آيات تصديقه ، ومن أنحس الكفر أن يتذرع بذريعة التصديق بالتكذيب! : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (٢٣ : ١٠٥) (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ)(٨٢ : ٩).

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١٨).

(لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) سلبان اثنان لأمرين هما لزام العبودية لأقل تقدير أن يعبد معبود مخافة ضره أو مجلبة نفعه نتيجة عبادته ، فهم يعبدون ميتات لا حول لها ولا قوة لأنفسها فضلا عن عابديها : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ) (٣٦ : ٧٥) (وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ) الأصنام (شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٣٩ : ٣).

(قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) حيث يندد على مرّ التاريخ بما يسمونه له شركاء ، فهلّا يعلم ما علموه وعرفوه من شركاء ما لا بد وأن يعلمها فيتخذها لنفسه شركاء (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

ولقد كان المشركون يوجهون عبادتهم لهذه الأصنام انها تمثل المقربين عند الله ، وهم يمثلون الله ، فلأننا أنزل وأنذل من أن نعبد ربنا دون وسيط لعلو ساحته وسمو سماحته فلنوسط بيننا وبينه من يحبه ، ولأن هؤلاء الأكارم بين أموات ومن لا تصل إليهم أيدينا فلنوسّط هذه الأصنام التي هي أمثال لهم ولنعبدها لتشفع لنا عند الله ، (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).

يقال لهم : يا أغبياء ، ليست العبادة بالمواجهة ، ثم الله هو الذي

٤٧

يأمركم بعبادته دون من دونه ، وإن الشفاعة عنده ليست إلّا باذنه ، وكيف يعبد الشفيع الميت ولا يعبد المشفّع عنده وهو رب كل شيء.

فما أسفههم وأسخفهم فيما يقولون ، فجدير بهم ذلك الخطاب الساخر المستنكر (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ ..). أن هذه العبادة المنحرفة الحمقاء تدل على أنهم يعلمون ما لا يعلمه الله.

ولقد تشابهت قلوب هؤلاء الحماقي الأنكاد ، قلوبا من المدعين أنهم أتباع شرعة القرآن ، وهم يشتغلون بكافة الكتب الدراسية في حوزاتهم إلّا القرآن قائلين غائلين : إن كلام الله أرقى وأعلى من أن نفهمه نحن ، و «من فسر القرآن برأيه» يمنعنا عن التفكير في القرآن ، وأن القرآن ظني الدلالة لا يفهم إلّا بدلالة الحديث ، وهل إن ظواهر القرآن حجة ، وما أشبه من هذه الدعايات الزور والغرور ضد القرآن بنقاب الحفاظ على كرامة القرآن.

ومن قولهم : إن هذه الدروس الحوزوية تشفعنا للوصول إلى معاني القرآن ، ولا تمت بصلة للتعرف إلى معارف القرآن! بل هي تبعّدهم عنها ، ثم وأنّى يصلون إلى القرآن بهذه المقدمات المدّعاة وهي تشغل كل أعمارهم حتى الموت!.

أجل ـ أولئك يقولون (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) ـ (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) وهؤلاء يقولون : هذه الدروس تشفعنا لتفهم القرآن ، ونحن لا نليق أن ندخل بلدة القرآن دونها ودون الأحاديث التي تفسره!.

رغم أن القرآن هو أبين تفسير لنفسه وأفضل بيان ، والكاتمون لكون القرآن بيانا وتبيانا هم من الملعونين في القرآن : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (٢ : ١٥٩) فسواء أكانوا يكتمون القرآن عن بكرته ، أم يكتمون كون القرآن بيانا للناس.

(وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ

٤٨

لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١٩).

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢ : ٢١٣) آية البقرة هذه المدنية تفسر آيتنا هذه المكية ، وهذه طبيعة الحال في التفصيل المتأخر بعد إجمال ، ولقد فصلنا القول حول كون الناس أمة واحدة واختلافهم بعد الوحدة على ضوء آية البقرة فلا نعيد هنا إلا إجمالا كما أجمل في نفس الآية.

«كان» قد تعني الكينونة الطبيعية الإنسانية دون نظرة إلى سابق زمان ، فقد كانوا ـ وهم بعد كائنون ـ أمة واحدة في قضايا الفطرة ، فأمة واحدة ـ قبل هدى الوحي ـ ضلّالا عما يأتي به الوحي من تفصيل «فاختلفوا» بعد الوحي إلى مصدقين ومكذبين.

وأخرى تعني الكينونة السابقة الزمنية حتى نزل فيهم الوحي فاختلفوا إلى هذين ، وعلى أية حال فذلك الإختلاف المقصر عن الوحي وفيه ، ولا سيما (بَغْياً بَيْنَهُمْ) كان مما يحق به العذاب : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) وهي كلمة الإمهال ـ دون إهمال ـ إلى أجل مسمى (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) قضاء واقعيا فيه الجزاء الحق فانقضاء أهل الباطل وبقاء أهل الحق ، فلقد قضى الله دون جزاء بين كل هؤلاء المختلفين في كتابات وحيه ، ف (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) تعني قضاء غير ذلك القضاء الذي هو قضية أصيلة للوحي الرسالي.

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (٢٠).

هنا القصد من (آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) بين آيات محسوسة كما كانت لرسل الله من قبل : (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ..) (٦ : ١٢٤) وبين آيات مقترحة ،

٤٩

غضا للنظر عن هذا القرآن الذي هو أفضل وأبقى من كل آية.

والجواب هنا (فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ) لا أملك منه شيئا من الله (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) وفي أخرى (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٢٩ : ٥٠) فآيات الغيب هي ـ فقط ـ لله وعند الله ، فلا فارق بيننا في ذلك الانتظار إذ ليس الآية الغيب مني ولا أملكه من ربي حتى إذا استنزلها ينزّلها علي ، فإن (لَوْ لا أُنْزِلَ) واردة مورد النقد على رسالته ، كأنه قادر على أن ينزل آية من ربه ، و «الغيب» المحصور في الله هنا هو الآية الرسالية وكما في أخرى (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) بكل مراحل العندية ، علمية وقيومية ، وإنزالا في أصلها وكمها وكيفها ، فلا مدخل لي في الآيات الربانية ، وقد فصلنا القول على ضوء آيات أن الآيات الرسالية محصورة بكل أبعادها في الله ، هنا ينفض الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ على محتده العظيم الرسالي القمة ـ ينفض يديه عن كافة اختصاصات الربوبية تخويلا وتوكيلا وخلافة ووزارة أماهيه من ممثلات الربوبية ، مصرحا أنني وإياكم على سواء أمام الآية الربانية علما وقدرة (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ).

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ)(٢١).

«الناس» هم الناس حيث أكثرهم النسناس ، فالنسيان يغمرهم في رحمة الله بعد ما تعمرهم ف (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) تحويلا لها عن ووجهها المتجه إلى الله إلى غير وجهها ، استقلالا لها أم استغلالا إياها ، منقطعة الرباط عن الله سبحانه وتعالى عما يشركون.

وهنا «قل» لهم أولاء الماكرين الحاكرين آيات الله ، الناكرين دلالاتها (اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) استدراجا لهم من حيث لا يعلمون وإملاء لهم بكيد متين ومنه (إِنَّ رُسُلَنا) البشرية والملائكية والكونية والجوارحية «يكتبون» تسجيلا للأفعال والأصوات والنيات كلا على حسبه (ما تَمْكُرُونَ).

٥٠

إن كل واجهة أمام آيات الله ، إلا ما يتجه به إلى الله ، إنها (مَكْرٌ فِي آياتِنا) تكذيبا لها قوليا أو عمليا ، أم غضا للنظر عنها دون تصديق ولا تكذيب أما ذا من غير واجهة الإعتبار والإستبصار.

و «آياتنا» هنا تعم مع سائر آيات الله ، الآيات الرسولية والرسالية وفي قمتها القرآن العظيم ، فبعد ضراء طويل وبيل مستهم من الجاهلية الجهلاء زمن الفترة الرسولية ، إذا أذقناهم رحمة عالية غالية قرآنية هي كل رحمات الله الروحية الخالدة إلى يوم الدين (إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا) خوضا فيها وتكذيبا واستهزاء بها وفرية عليها أنها من أساطير الأولين وما أشبه من افتراءات زور وغرور يدسها إليهم الغرور (قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) حيث يأخذهم من حيث لا يعلمون و (إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ) فلا يفلتون عنا ولا نلفت عنهم ف (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) و (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٩).

ذلك ومن مكرهم (فِي آياتِنا) أن أصابت أهل مكة ضراء القحط سبع سنين ثم أذاقهم رحمة الأمطار النافعة فنسبوها إلى أصنامهم ناسبين الضراء إلى الله ، معاكسة ظالمة ما أظلمها في تلك الفرية القاحلة.

فما ذا يصنع الله بهؤلاء الحماقى البعاد الأنكاد الذين دأبهم الدائب هو المكر (فِي آياتِ اللهِ) وكيف يستجيبهم في تطلب آيات يقترحونها على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!.

وترى ما هو الفارق بين الرحمة المذاقة والضراء الماسة؟ علّه أن الذوق أكثر من المس مسا والمس أقل من الذوق ذوقا ، تلميحا لسبق رحمته غضبه ، فما تذاق من رحمة هو أكثر بكثير مما يمس من ضراء.

ذلك ، وطالما يتطلبون منه آيات رسولية حسية نزلت على رسل الله من قبل ، وقد نزلت على هذا الرسول آية خالدة على مدار الزمن تناسب رسالته الخالدة ، وبضمنها لمحات من آيات حسية كشق القمر وما أشبه.

ولقد فصلنا البحث حول انشقاق القمر في سورته وفي الهامش تأييد

٥١

تاريخية ننقلها عن بعض الأعلام المعاصرين (١).

(هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٢٣).

البرّ هنا يشمل باطنه إلى ظاهره وإلى الجو حيث يقابل البحر ، كما البحر يشمل تحته وعمقه ، والجو أيضا يشمل كل آماده من فضاء الأوكسجين إلى ما فوقه الخالي عنه ، فالله هو الذي يسيرنا فيها كلها بوسيط ودون وسيط ، وسائط كانت زمن النزول أم تكونت وستتكون بعده إلى يوم القيامة ، حيث الوسائل كلها من الله ، سواء أكانت ظاهرة أم مكتشفة مخترعة ، فالمخترع بتفكيره ومحاولاته وأسبابه التي يتذرع بها ، والمخترع ، كلاهما من الله خلقا وتقديرا وتيسيرا وتسييرا.

ف (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) على أية حال (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) سواء أكانت في الملاحة البحرية ، أم الجوية بالطائرات والصواريخ «وجرين» تلك الفلك (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) تسيّرها دون شماس وبكل احتراس (وَفَرِحُوا بِها) مرحين حيث الرخاء الآمن والسرور الشامل فإذا تقع المفاجأة : «جاءتها» الفلك (رِيحٌ عاصِفٌ) عصفها شذر مذر ويا للهول ، (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) وتناوحت الفلك واضطربت عمن فيها

__________________

(١) هو المرجع الديني سماحة الحجة السيد شهاب الدين المرعشي النجفي دام ظله ، قال لي : «رأيت في مجلة مصرية» المقطّم ـ أو ـ الهلال» أنه اكتشف في الصين قبل زهاء ستين سنة سرداب فيه رأس استوانة حجرية عثر عليه تحت تراب الأنقاض ، مكتوبا عليه باللغة الصينية أنه «تمت هذه البناية في السنة التي انشق فيها القمر».

وقد بعث الجامع الأزهر في القاهرة مبعوثين إلى الصين ليأخذوا صورة فوتوغرافية من هذه الأسطوانة ، طبعت في هذه المجلة وقتذاك.

٥٢

ولا طمها الموج وحطها وشالها ودار بها كالريشة الضائعة في الخضم ، وأهلها الهائلين في فزع (ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) بعاصف الريح ومحلق الموج ، عند ذلك وقد انقطعت ظاهرة الأسباب وحارت دونه الألباب برزت فطرهم المحجوبة المغيبة ظاهرة متبلورة متعرية عما ألمّ بها من أوشاب وتنفضّ قلوبهم ما ران عليها من تصورات وتنبذ الفطرة الأصلية السليمة بالتوحيد الخالص عن الإشراك الكالس الفالس ، ف (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) قائلين (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ) الورطة الهالكة الحالكة (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) لأنعم الله ، غير ماكرين بآيات الله.

(فَلَمَّا أَنْجاهُمْ) بخارقة غير مترقبة فهدأت العاصفة وطمأن الموج وهدأت الأنفاس اللاهثة وسكنت القلوب الطائرة الحائرة ، ووصلت الفلك إلى الشاطئ آمنة واستقرت أرجلهم على اليابسة (إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) متناسين العدل والحق ، غافلين (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) فمهما بغيتم على غيركم فهم مظلومون فسيرحمون ، فقد بقي بغيكم على أنفسكم لزاما وحزاما عن رحمة الله عليكم في الدارين ، وليست فاعلية ذلك البغي مهما طال إلّا (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) جذوة من خطوة متخيلة «ثم» بعدها (إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ) إنباء علميا ، وعينيا بمشاهدة أعمالكم ، وواقعيا بتحولها عقوبات (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

وهذه طبيعة الإنسان الجهول الغفول انه ينسى ربه عند الراحة والرحمة ، ثم يذكره عند العاهة والزحمة ، وريثما ينجيه الله عنها فإذا هو يبغي في الأرض بغير الحق و (مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ) (١٠ : ١٢) وهذه الآيات هي من آيات حكم الفطرة المتكشفة إلى الحق المبين ، دليلا صارما على الله (١).

__________________

(١) وفيه عن تفسير القمي قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه الذي كتب إلى شيعته ويذكر فيه خروج عائشة إلى البصرة وعظم خطاء طلحة والزبير فقال : وأي خطيئة أعظم مما أتيا ، أخرجا زوجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بيتها وكشفا عنها حجابا ستره الله عليها وصانا حلائلهما في بيوتهما ، ما أنصفا لله ولا لرسوله من أنفسهما ـ

٥٣

والبغي متعديا بنفسه هو الطلب ، والبغي «على» هو الطلب الظالم ، ف (بِغَيْرِ الْحَقِ) تأكيد بأنه غير الحق كما في (يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) أم وتقييد له بالمتعدي ب «على».

أجل (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) لزاما ، حيث المبغي عليه ينجو منه حين يرجعون إلى الله وفي هذه الدنيا ، ولكنا الباغي باق على نفسه بغيه ، لا يدعه حتى يقتص منه وكما

يروى «ثلاث يرجعن على صاحبهن : النكث والبغي والمكر ..» (١) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ثلاث هن رواجع على أهلها المكر والنكث والبغي ، ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آيات ثلاث تالية (٢).

ذلك وقد يلمح (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) طليقة ولمكان «على» أنه «لا يؤخر الله عقوبة البغي» (٣) ، وانه مشهد شامل كامل آهل بالشهود إذ لم تفتأ منه حركة ولا خالجة ، إنه مشهد نفسية الإنسان مع الحوادث

__________________

ـ ثلاث خصال مرجعها على الناس في كتاب الله : البغي والمكر والنكث قال الله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) وقال : ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ، وقال : ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله ، وقد بغيا علينا ونكثا ومكرا بي.

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٩٨ في تفسير العياشي عن أبي عبد الله (عليه السلام) : ثلاث ...

قال الله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ..).

(٢) الدر المنثور ٣ : ٣٠٣ عن أنس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٣) الدر المنثور ٣ : ٣٠٣ ـ أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يؤخر الله ... فإن الله قال : (إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) وفيه أخرج البيهقي في الشعب عن أبي بكر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما من ذنب أجدر من أن يعجل الله لصاحبه العقوبة من البغي وقطيعة الرحم ، وفيه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): لو بغى جبل على جبل لدكّ الباغي منهما ، وفيه أخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) قال : ما من عبادة أفضل من أن يسأل ، وما يدفع القضاء إلا الدعاء وان أسرع الخير ثوابا البر وأسرع الشر عقوبة البغي وكفى بالمرء عيبا أن يبصر من الناس ما يعمى عليه من نفسه وأن يأمر الناس بما لا يستطيع التحول عنه وأن يؤذي جليسه بما لا يعنيه.

٥٤

الكوارث ، مكرورا على مدار الزمن ، فهل من منتبه؟.

وترى «بغيكم» ـ فقط ـ على غيركم هو (عَلى أَنْفُسِكُمْ)؟ و «بغيكم» كما (يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) طليق ، بل وبأحرى البغي على النفس أن يكون عليها من البغي على غيرها.

فسواء أكان بغيا على النفس خاصة أم على خاصة النفس وعامتها من سائر الأنفس ، بإيرادها موارد التهلكة ، والزجّ بها في ركب الندامة الخاسر بالعصيان والطغيان ، أم كان بغيا على سائر الناس غير المستحقين لبغي حيث الناس نفس واحدة كما انتشأت من نفس واحدة.

وقد يكون البغي في ثالوثه ـ حيث الثالث انعكاس البغي على النفس على سواها من أنفس ـ قد يكون معنيا من «بغيكم» حيث الباغي على نفسه يفسد عضوا من الأنفس وهي واحدة فتنضرب سائر الأنفس بها ، كما ويقتدى بهذه النفس الباغية فتبغي تبعا لها غيرها.

وطالما (بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) تشمل ذلك الثالوث ، إلّا أن أضلاعه دركات ، كما أن كل ضلع منها أيضا دركات ، فهو على أنفسكم دركات حسب الدركات ولا تظلمون فتيلا.

فأين البغي على توحيد الله ورسالاته وشرائعه من البغي على أنفسكم في سائره وعلى عباد الله ، فكلما كان المبغي عليه أعظم محتدا ومكانة ، وأوسع رحمة ، كان البغي عليه أعظم ، فالجزاء ـ إذا ـ أعزم وألزم.

والناس حين يبغون في هذه الدنيا يذوقون من خلفيته هنا قبل أن يجزوا جزاءهم الأوفى.

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(٢٤).

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي

٥٥

الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ)(٥٧ : ٢٠).

(أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها) : لبست زينتها بألوان الأزهار وأصابيغ الرياض ، كما يقال : أخذت المرأة قناعها وسائر زينتها.

هنا «ماء وغيث» مثل لأصل الحياة الإنسانية وما أشبه لعامة المكلفين ، النازلة من سماء المشية الربانية إلى أرض الحياة الدنيا الدنية (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ..) خلطا للروح بالبدن في أرضه فإنه نبات من الأرض : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (٧١ : ١٧) (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ) البدن بحاجياتها «زخرفها» على ضوء الروح الحياة «وازّينت» بها (وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها) غير مغادرين عنها (أَتاها أَمْرُنا) بتدميرها بعد تعميرها (لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً) يحصد (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ) إقامة طائلة في الحياة الأرضية بالأمس القريب «كذلك» البعيد المحتد والمدى ، القريب الهدى (نُفَصِّلُ الْآياتِ) المذكرات (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) في هذه الحياة.

تلك هي الحياة الدنيا الزهيدة الدنية «فازهدوا فيما زهدكم الله عزّ وجلّ فيه من عاجل الدنيا» (١) «فاجعلوا عباد الله اجتهادكم في هذه التزود من يومها القصير ليوم الآخرة الطويل ، فإنها دار عمل والآخرة دار القرار والجزاء فتجافوا عنها ، فإن المغتر من اغتر بها ، لن تعدوا الدنيا إذا تناهت إليه أمنية أهل الرغبة فيها المحبين لها ، المفتونين بها أن تكون كما قال الله : كماء أنزلناه من السماء ..» (٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢٩٨ في روضة الكافي كلام لعلي بن الحسين (عليهما السلام) في الوعظ والزهد في الدنيا يقول فيه : فازهدوا .. فإن الله عزّ وجلّ يقول وقوله الحق : إنما مثل الحياة الدنيا ...

(٢) المصدر خطبة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وفيها : فاجعلوا عباد الله ... كما قال الله عزّ وجلّ : ...

٥٦

فها هو الماء ـ الروح ـ ينزل من سماء الرحمة إلى دار الضيق والظلمة والزحمة ، فنبات البدن يمتصه ويختلط به فيمرع ويزدهر في الظاهر ، وها هي ذي الأرض البدن كأنها عروس مجلوة متزينة لعريس ومتبرجة ، ويظن أهلها أنها ازدهرت وبهرت وبما حاولوا تزينت فلا تتغير فإذا (أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً ..)! فهذه هي الدنيا بحذافيرها خاطفة غير عاطفة إلا جارفة خارفة ، إلا لمن تزود منها للآخرة ، ولذلك نسمع الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول :

«إنما أخشى عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من بركات الأرض» (١) و «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» (٢) و «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره» (٣) و «كن في الدنيا كأنك غريب» (٤) و «إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظلّ تحت شجرة ثم راح»(٥).

«ألا وإن الدنيا قد تصرمت ، وأذنت بالقضاء ، وتنكر معروفها ، وأدبر حذّاء ، فهي تحفز بالغناء سكّانها ، وتحدوا بالموت جيرانها ، وقد أمرّ منها ما كان صلوا ، وكدر منها ما كان صفوا ، فلم يبق منها إلا سملة كسملة الأداوة ، أو جرعة كجرعة المقلة ، لو تمزّزها الصّديان لم ينفع ، فأزمعوا عباد الله الرحيل عن هذه الدار المقدور على أهلها الزوال ، ولا يغلبنكم فيها الأمل ، ولا يطولن عليكم فيها الأمد ، فوالله لو حننتم حنين الولّه العجال ، ودعوتم بهديل الحمام ، وجأرتم جؤار متبتل الرّهبان ، وخرجتم إلى الله من الأموال والأولاد ، التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده ،

__________________

(١) المصدر نقلا عن مس ـ ك ٥٣ ح ١ ، تر ـ ك ٣٤ ب ١٦ ، مج ـ ك ٣٧ ب ٣ قا ، حم ـ ثان ص ١٩٧ و٣٢٣ و٣٨٩ و٤٨٥.

(٢) المصدر ـ تر ـ ك ٣٤ ب ١٨ ـ ٢٠ ، مج ـ ك ٣٧ ب ٢ ،

(٣) مجلة العرفان العدد الثالث المجلد ٦١ ص ٣٩١ عن الإمام الصادق (عليه السلام).

(٤) المصدر نقلا عن بخ ـ ك ٨١ ب ٣ ، تر ـ ك ٣٤ ب ٢٥ ، حم ـ ثان ص ٢٤ و٤١ و١٣٢.

(٥) المصدر نقلا عن تر ـ ك ٣٤ ب ٤٤ ، حم ـ أول ص ٣٠١ و٣٩١ و٤٤١ ، ط ـ ح ٢٧٧.

٥٧

أو غفران سيئة أحصتها كتبه ، وحفظها رسله ، لكان قليلا فيما أرجو لكم من ثوابه ، وأخاف عليكم من عقابه ، والله لو انماثت قلوبكم إيمانا ، وسالت عيونكم ـ من رغبة إليه أو رهبة منه ـ دما ، ثم عمّرتم في الدنيا ما الدنيا باقية ، ما جرت أعمالكم ، ولو لم تبقوا شيئا من جهدكم أنعمه عليكم العظام ، وهداه إياكم للإيمان» (الخطبة ٥٢).

«أما بعد فإني أحذّركم الدنيا ، فإنها حلوة خضرة ، حفّت بالشهوات ، وتحببت بالعاجلة ، وراقت بالقليل ، وتحلّت بالآمال ، وتزينت بالغرور ، لا تدوم حبرتها ، ولا تؤمن فجعتها ، غرّارة ضرّارة. حائلة زائلة ، نافدة بائدة ، أكّالة غوّالة ، لا تعدو إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها ، والرضا بها أن تكون كما قال الله تعالى :

(كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً) ـ

لم يكن امرؤ منها في حبرة إلا أعقبته بعدها غيره ، ولم يلق من سرّائها بطنا إلّا منحته من ضرائها ظهرا ، ولم تطلّه فيها ديمة رخاء إلا هتنت عليه مزنة بلاء ، وحري إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكرة ، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى امرّ منها جانب فأوبى ، لا ينال امرء من غضارتها رغبا إلا أرهقته من ثوابها تعبا ، ولا يمسي منها في جناح أمن إلّا أصبح قوادم خوف ، غرّارة غرور ما فيها ، فانية فان من عليها ، لا خير في شيء من أزوادها إلّا التقوى ، من أقل منها استكثر مما يؤمنه ، ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه وزال عما قليل عنه ، كم من واثق بها قد فجعته ، وذي طمأنينة قد صرعته ، وذي أبّهة قد جعلته حقيرا ، وذي نخوة قد ردته ذليلا ، سلطانها دول ، وعيشها رنق ، وعذبها أجاج ، وحلوها صبر ، وغذاءها سمام ، وأسبابها رمام ، حيّها بعرض موت ، وصحيحها بعرض سقم ، ملكها مسلوب ، وعزيزها مغلوب ، وموفورها منكوب ، وجارها محروب ـ

ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا ، وأبقى آثارا ، وأبعد

٥٨

آمالا ، وأعدّ عديدا ، وأكثف جنودا ، تعبدوا للدنيا أي تعبد ، وآثروها أي إيثار ، ثم ظعنوا عنها بغير زاد مبلّغ ، ولا ظهر قاطع ، فهل بلّغكم أن الدنيا سنحت لهم نفسا بفدية ، أو أعانتهم بمعونة ، أو حسنت لهم صحبة ، بل أرهقتهم بالقوادح ، وأوهنتهم بالقوارع ، وضعضعتهم بالنوائب ، وعفّرتهم للمناخر ، ووطئتهم بالمناسم ، وأعانت عليهم ريب المنون ـ

فقد رأيتم تنكّرها لمن دان لها وآثرها وأخلد إليها حتى ظعنوا عنها لفراق الأبد ، وهل زودتهم إلا السّغب ، أو أحلّتهم إلّا الضنك ، وأو نوّرت لهم إلّا الظلمة ، أو أعقبتهم إلّا الندامة ـ

أفهذه تؤثرون ، أم إليها تطمئنون ، أم عليها تحرصون ، فبئست الدار لمن لم يتهمها ولم يكن فيها على وجل منها ـ

فاعلموا وأنتم تعلمون بأنكم تاركوها وظاعنون عنها ، واتعظوا فيها بالذين قالوا «من أشد منا قوة»؟ حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا ، وأنزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا ، وجعل لهم من الصفيح أجنان ، ومن التراب أكفان ، ومن الرفات جيران ، فهم جيرة لا يجيبون داعيا ، ولا يمنعون ضيما ، ولا يبالون مندبة ، إن جيدوا لم يفرحوا ، وان قحطوا لم يقنطوا ، جميع وهم آحاد ، وجيرة وهم أبعاد ، متدانون لا يتزاورون ، وقريبون لا يتقاربون ، حلماء قد ذهبت أضغانهم ، وجهلاء قد ماتت أحقادهم ، لا يخشى فجعهم ، ولا يرجى دفعهم ، استبدلوا بظهر الأرض بطنا ، وبالسعة ضيقا ، وبالأهل غربة ، وبالنور ظلمة ، فجاءوها كما فارقوها حفاة عراة ، قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة والدار الباقية كما قال سبحانه : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ)(الخطبة ١١٠).

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)(٢٥).

(دارِ السَّلامِ) هي الأولى السلام في الأولى ، ومن ثم الأخرى في الأخرى ، حيث الإسلام السليم يبني من الحياة الدنيا دار السلام.

٥٩

فالحياة الأولى للمؤمن السلام هي طليق السلام ، والأخرى له هي السلام الطليق ، حيث الأولى تعرضها عوارض من غير السلام ، والأخرى طليقة عن كل عارضة وسأم.

وهنا «الدعوة عامة والهداية خاصة» (١) وكما في كل دعوة ربانية.

ف «دار السلام» هي الدار التي في الأصل سلام إلا لمن يجعلها ساما بديل سلام.

و «السلام» هو الله (السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ) (٥٩ : ٢٣) (٢) فهي بعد الأولى السلام بالإسلام داره الخاص لأولياءه بعد كل شغب وسغب في الدنيا ، فهي الجنة و (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٦ : ١٢٧) فدار السلام سلام وهي (عِنْدَ رَبِّهِمْ) سلام على سلام وأين سلام من سلام! ثم هو قالة التحية السلام (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) (١٠ : ١٠) وهو حالة السلام : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ) (١٥ : ٤٦) وهذه الحالة هي سلام من الله : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) (٣٦ : ٥٨) (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (١٣ : ٢٤).

ذلك ومن حصائل الإستجابة للدعوة الربانية إلى دار السلام أن

__________________

(١) مفتاح كنوز السنة نقلا عن بخ ـ ك ٥٦ ب ٣٧ ، ك ٥٨ ب ١ ، ك ٣٤ ب ١٢ و١٧ و٢٧ ، ك ٨١ ب ٧ قا ٥٢ ، مس ك ١٢ ح ١٢١ ـ ١٢٣ ، ك ٤٣ ح ٣٠ و٣١ ، ك ٥٣ ح ٦ قا ٧ ، تر ـ ك ٣٤ ب ٢٦ ، ك ٣٥ ب ٢٨ ، نس ـ ك ٢٣ ب ٨ حم ـ ثان ص ٥٣٩ ثالث ص ٧ قا ١٩ و٢١ و٢٢ قا ٦١ و٨٤ و٩١ و١٦٥ و١٦٧ قا ١٧١ و١٨٢ و٢٢٤ ، رابع ص ١٣٧ و١٤٩ و١٥٣ ـ ١٥٤ و٣٢٧ خامس ص ١٥٢ و١٥٤ و١٧٨ و٣٦٨ ط ـ ح ٢١٨٠.

(٢) نور الثقلين ٢ : ٣٠٠ في معاني الأخبار بإسناده إلى العلا بن عبد الكريم قال سمعت أبا جعفر (عليهما السلام) يقول في قول الله عزّ وجلّ : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) قال : إن السلام هو الله عزّ وجلّ وداره التي خلقها لعباده ولأولياءه الجنة ، وفيه بإسناده إلى عبد الله الفضل الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه : والسلام اسم من أسماء الله.

٦٠