رحلة فريزر

جيمس بيلي فريزر

رحلة فريزر

المؤلف:

جيمس بيلي فريزر


المترجم: جعفر الخياط
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٢

هذا وتستحق بغداد ، من حيث شهرتها القديمة وأهميتها الحالية ، أن يؤتى على وصفها بأكثر مما أنا مستعد لتقديمه إليك من الوصف التفصيلي الدقيق. ولما كنت أعتقد أنك يمكن أن تنزعجي إذا ما أقدمت على ترك القصة وهي مبتورة غير كاملة ، أجد نفسي مدفوعا إلى الاستعانة بشيء من المصادر الأخرى لأجل أن يتسنى لي تقديم فكرة أوضح عما تكون عليه هذه المدينة التي سارت بذكرها الركبان ، أو عما كانت عليه قبل أن تنزل بها الكوارث الأخيرة. ويبدو لي أن الوصف الذي عمد إليه بكنغهام في كتابه «رحلات في بلاد بين النهرين (١)» هو على درجة من الجودة بحيث إنني سوف لا أترك مجالا متيسرا من دون أن أبادر فيه إلى اقتباس شيء منه ، لأنك قد لا يتسع لك المجال لمطالعته.

فيقول المستر بكنغهام «إن ما في داخلية البلدة من الأشياء ذات الأهمية يقل عما يتوقعه المرء من الشهرة الجديرة باسمها كمركز شرقي كبير للثروة والأبهة. فإن قسما كبيرا من الأرض الداخلة في ضمن الأسوار غير مشغول بالأبنية ، وخاصة من الجهة الشمالية الشرقية. وحتى في الأماكن التي توجد فيها الأبنية والعمارات ، وخاصة في محلات المدينة التي يكثر فيها السكان بالقرب من النهر ، تلاحظ وفرة الأشجار. وعلى هذا فحينما كان ينظر إلى كل ذلك من سطح أية دار من الدور الكائنة في داخل الأسوار كانت المدينة تبدو كأنها قائمة في بستان كبير من النخيل ، أو مثل ما كانت بابل عليه من كونها إقليما مسورا وليس بلدة واحدة.

«وقد بنيت الأبنية كلها ، العامة والأهلية ، بالآجر المفخور ذي اللون الأحمر الضارب إلى الصفرة ، والحجم الصغير ، والزوايا المدورة الدالة على أن معظم هذا الآجر كان قد استعمل عدة مرات من قبل لأنه ربما كان قد أخذ من

__________________

(١)J. S. Buckingham, Travels in Mesopotamia) London ٧٢٨١ (والجزء الثاني من الكتاب هذه يختص بالرحلة من الموصل فكركوك فبغداد فبابل. وللمؤلف كتاب رحلة آخر عنوانه :Travels in Assyria, Media, and persia,) London ٠٣٨١ (هذا وقد زار بكنغهام بغداد في أيام داود باشا ، أي قبل أن يفتك بها الطاعون ويهدمها الغرق الذي وقع في ١٨٣١ م كما سيأتي في هذه الرحلة.

٨١

خرائب أبنية قديمة لتشييد أبنية أخرى بها. وفي الحالات القليلة التي يكون الآجر جديدا يكون ذا مظهر نظيف مرتب لا وجود له مطلقا في الآجر القديم. ومع ذلك فحتى هذا يعد أدنى من الحجر. وشوارع بغداد ، مثل شوارع جميع المدن الشرقية الأخرى ، ضيقة غير مبلطة تقوم على جانبيها بوجه عام جدران خالية من أي شيء ، إذ نادرا ما تلاحظ الشبابيك (١) مفتوحة على الأزقة والطرق العامة ، بينما تكون أبواب الدخول المؤدية إلى المساكن صغيرة بسيطة. وتكون هذه الشوارع أكثر تعقيدا وتعرجا من كثير من شوارع المدن التركية الكبيرة. وفيما عدا بعض الأسواق وخطوطها التي تنتظم انتظاما محتملا ، وبعض الفسحات المكشوفة ، فإن داخلية بغداد عبارة عن متاهة من الأزقة والممرات.

«أما الجوامع التي تعد على الدوام أبرز المعالم في المدن الإسلامية فهي مبنية هنا بطراز يختلف عن طراز الجوامع التي شاهدتها في معظم أجزاء

__________________

(١) إن المستر فريزر صاحب الرحلة هذه قد ذكر عكس هذا في بداية هذه الرسالة. والغريب أنه هو نفسه يعمد إلى اقتباس هذا القول من بكنغهام الذي زار بغداد قبل المستر فريزر بمدة لا تتجاوز الخمس عشرة سنة ، وكانت عند مجيئه عامرة من دون أن تكون قد تعرضت لنكبة الطاعون وكارثة الفيضان التي هدمت القسم الأعظم منها (١٨٣١ م).

٨٢

تركيا الأخرى. وأقدمها على ما يعتقد يسمى جامع سوق الغزل ، لكن هذا لم يبق منه سوى منارة سميكة ضخمة وقسم من السور الخارجي».

وللمنارة حوض واحد فقط ، ينشأ بروزه كما يقول المستر بگنغهام من تحت مركز العمود ثم يصعد إلى أعلى بسلسلة من المنحنيات المعقدة والتزيينات المدلاة على شاكلة المقرنصات «الستالاكتايت» التي تنتفخ بالتدريج إلى الخارج وتنتهي بالحوض من حوالي ثلث ارتفاع المحور. وتكون النهاية مدورة غير رشيقة ، فيبين المنظر العام للرائي منظرا سمجا.

ويعد هذا الحوض أعلى نقطة يمكن الارتقاء إليها ومشاهدة منظر المدينة العام منها. وهو في الحقيقة يشرف على معظم السطوح والساحات لمسافة طويلة من حوله. وقد استغربت حقا أن أجد كفارا مثلنا يسمح لهم بالصعود إلى ارتفاع يتفرجون منه على المسلمين. ووجدنا شيئا من الصعوبة في الصعود بسبب الظلام المخيم على السلّم وذروق الخفاش والحمام المتراكم فيها ، ذلك الحمام الذي كان يأوى بالآلاف إلى الأماكن التي تآكلت فيها الحنيات والشقوق المتكونة بتأثير العنف والزمن. ومن المعتقد أن المنارة وجامعها المتهدم يبلغ عمرهما ما يزيد على ستمئة سنة (١). ولما كنت أشك في أن يكون وصف جوامع بغداد مسليا لكم سوف أقتصر في الوقت الحاضر على أن عدد هذه العمارات المقدسة يتجاوز المئة (٢) على ما يعتقد ، أو كان قد تجاوز المئة

__________________

(١) جاء في كتاب (دليل خارطة بغداد قديما وحديثا) للدكتورين مصطفى جواد وأحمد سوسة أن الخليفة المكتفي بالله العباسي أنشأ هذا الجامع خلال المدة (٩٠٢ ـ ٩٠٨) ميلادية وسمي بجامع القصر. ثم «شيد في جامع القصر هذا في سنة ٦٧٨ ه‍ (١٢٧٩ م) مئذنة لا تزال قائمة إلى يومنا هذا وهي تعرف بمنارة سوق الغزل .. وشيد سليمان باشا الكبير والي بغداد (١٧٧٩ ـ ١٨٠٢ م) جامعا في غرب المنارة بقي قائما إلى سنة ١٩٥٧ م ويعرف بجامع سوق الغزل ...».

(٢) لقد أورد الدكتوران في المرجع السابق قائمة تحتوي على (١٦٠) من الجوامع والمعابد والمساجد القائمة اليوم في جانبي بغداد مع التي خربت قبل عدة سنين ، ومعظمها كان قائما حينما زار صاحب الرحلة هذه البلاد على ما نحسب.

٨٣

في يوم من الأيام ، برغم أن حوالي عشرين أو ثلاثين منها فقط تستحق الملاحظة والاهتمام لدرجة ما. أما القباب فلا أظنك تستطيعين أن تجدي ما يزيد على الدزينة منها بحجم يعتد به ، وأنا متأكد أن عدد المنائر يقل عن أربع وعشرين. وهناك عدد من المنائر والقباب المغطاة بالآجر المصقول ، الملون في الغالب باللون الأخضر والأبيض والأصفر والأسود ، الموشى بالفسيفساء (الموزاييك) ليدل على الأوراد والأرقام والكتابة التي يكون لها ، على حد تعبير المستر بگنغهام ، تأثير مبهج بدلا من تأثير الروعة والفخامة. ويمكن أن يقال بوجه عام إن جوامع بغداد ومراقدها تقلّ في طراز عمارتها عن جوامع ومراقد المدن الإسلامية الكبيرة في الهند بقدر ما تمتاز أبنيتها بوجه عام على أبنية المدن في إيران. وقد تحدثت عن الأسواق من قبل ، وإني أؤيد هنا المستر بگنغهام تمام التأييد في كونها بسيطة بساطة نسبية ، أما الخانات والحمامات فلا أستطيع أن أذكر إلا النزر اليسير عنها ، لكن الخانات التي رأيتها كانت تبدو وهي على درجة كافية من الرثاثة.

ويقول المؤرخ المشار إليه عن دور السكنى في بغداد «إنني لم أر منها سوى جدرانها الخارجية وسطوحها. وقد لفت نظري بوجه خاص أنني على طول هذه المدينة الواسعة وعرضها لم أجد ولا عقدا مدببا واحدا في أبواب أي مسكن من المساكن. فقد كانت العقود كلها مدورة ومنبسطة مع شيء من الزينة بالآجر الصغار فوقها. وحتى الأسواق القديمة والجوامع المتهدمة التي كان يلاحظ وجود العقد المدبب فيها يكون شكله أقرب إلى شكل العقد القوطي من العقد الإسلامي ، وهذا ما لا حظته في الموصل أيضا. ولذلك لا يمكن أن تكون بغداد نفسها قد كانت مقرا لفن العمارة الإسلامية الذي ربما يكون قد نشأ في بلد يبعد عنها من جهة الغرب.

«وتتألف البيوت من صفوف من الغرف تنفتح أبوابها إلى باحة داخلية مربعة. وفي الوقت الذي تشغل فيه السراديب ، وهي غرف تبنى تحت سطح الأرض ، أثناء النهار للاحتماء بها من الحرارة الشديدة تستعمل السطوح المكشوفة لتناول العشاء وقت المغرب والنوم فيها خلال الليل. فمن سطح

٨٤

المسكن الذي كان يقيم فيه المستر ريچ الذي كان منقسما إلى عدة أقسام ، يكون لكل منها ممرها الخاص للصعود والنزول ، بحيث يتكون منها في الحقيقة عدد من الغرف غير المسقفة ، كان بوسعنا أن نشرف عند انبلاج الصبح على منظر من مناظر بغداد يشبه منظر مدريد الموصوف في «لاديابل بواتو» حين يرينا أسر البيوت المحيطة بنا جميعها في مخادعها المكشوفة ، وهي في حالات على جانب غير يسير من الطرافة في بعض الأحيان. فقد كانت تنكشف لنا من هذا الموقع المنيف ثمانية أو عشرة مخادع مختلفة تقع في عدة محلات محيطة بنا. ونظرا لأن الأسر جميعها كانت تنام في العراء خلال الصيف بطبيعة الحال كانت تنكشف أمام أنظارنا مناظر بيتية خصوصية كثيرة من دون أن يكتشف أحد ولو مرة واحدة ، أو يشك ، بكوننا كنا نتطلع إليه. فقد كان الزوج في الأسرة الموسرة ينام على سرير مرتفع تفرش فوقه حشية ووسائد من الحرير ، مغطاة بلحاف سميك من القطن من دون أن تحاط بستائر أو كلة تقي النائم من البعوض. كما كانت الزوجة تنام على فرشة مماثلة ولكن على الأرض بصورة دائمة ـ أي من دون سرير ، وعلى مسافة من زوجها ـ بينما كان الأطفال ، الذين يصل عددهم إلى الثلاثة أو الأربعة ، يشغلون فرشة واحدة. أما الخدم أو المماليك فقد كان كل منهم ينام على حصيرة منفردة تفرش على الأرض ، لكن الجميع كانوا ينامون أو ينهضون من الفراش على مرأى من بعضهم بعض. وكان كل فرد ينهض من نومه في ساعة مبكرة بحيث لا يبقى أحد في الفراش بعد طلوع الشمس ، فيطوي فراشه وغطاءه ووساداته لتؤخذ إلى الدار عدا الأطفال الذين كان يتولى هذا العمل عنهم أمهم أو أحد الخدم.

«ولم يكن أي من هؤلاء يخلع ملابسه كما يفعل الأورپيون عامة حينما يذهبون إلى الفراش. فقد كان الرجال يحتفظون بقمصانهم ولبساهم ، وقفاطينهم أحيانا ، عند النوم. وكانت الأطفال والخدم ينامون بالملابس ذاتها التي كانوا يلبسونها أثناء النهار. أما الأمهات والبنات الكبيرات فقد كن يلبسن سراويل الأتراك الحريرية الكاملة مع الرداء المفتوح ولفات الرأس إذا كن من الأسر الغنية. وكانت الفقيرات منهن يلبسن جلبابا (دشداشة) فضفاضا أحمر

٨٥

وغطاء بسيطا للرأس. وفي معظم الحالات التي رأيناها كانت الزوجات يساعدون أزواجهن في ارتداء الملابس أو خلعها ، والقيام بكل واجبات الوصيف.

«وقد كان الزوج عادة يؤدي الصلاة بعد أن يكون قد ارتدى ملابسه ، بينما يكون المملوك منصرفا إلى إعداد القهوة والشطب له. وبجلوسه على سجادته بعد أن تكون هذه قد أحضرت كانت الزوجة تقوم على خدمته بنفسها ، فتتراجع إلى مسافة مناسبة لتنتظر الكوب بعد تقديم الماء ، وتكون واقفة بين يديه على الدوام ، وكانت تتكتف أثناء حضوره في بعض الأحيان ، وحتى أنها كانت تقوم بتقبيل يده عند تسلم الكوب منها كما يفعل أحط خدم الدار ومباشريه. وحينما كان الزوج يتكىء على وسائده أو يجلس على سجادته بارتياح وتراخ لينعم بشطبه أو غليونه الصباحي كانت نساء الأسرة ينصرفن إلى الصلاة بصورة عامة. وغالبا ما كن يصلين على انفراد كما يصلّي الرجال تماما ، ولكننا لا حظنا مرة واحدة أو مرتين أن ربة البيت وبعض النساء الأخريات ، كالأخت مثلا أو إحدى القريبات ، كن يؤدّين الصلاة معا معقبة إحداهن إشارات الأخرى التي تقف بجانبها ، كما يحصل حينما يقوم الرجال بصلاة الجماعة خلف الإمام. ولم تكن أية امرأة ، سواء أكانت الزوجة أم الخادمة أم المملوكة ، تهمل هذه الفريضة الصباحية ، لكنني لم أجد بين الأطفال الذين تقل أعمارهم عن اثنتي عشرة سنة من كان يقوم بتأديتها.

«وعلى الرغم من العزلة الظاهرة التي تعيش فيها المرأة هنا ، وفي جميع أنحاء الأمبراطورية التركية في الحقيقة ، فإنها غير محرومة من الحرية الحقيقية التي يساء استعمالها لدرجة غير يسيرة في بعض الأحيان كما يحصل في أماكن أخرى. ولا يمكن أن ينكر بأن التسهيلات للاجتماعات السرية المريبة هي أكثر في المدن التركية منها في أية مدينة أورپية كبيرة. فإنّ تنكّر المرأة التركية أو العربية في زيّها ولباسها هو على درجة من الكمال بحيث إن زوجها لا يستطيع التعرف عليها. وهذا يؤدي بناء على ذلك إلى أن تذهب السيدة أينما تريد عند الحاجة.

٨٦

«وتعد الگرجيات والچركسيات من بين نساء بغداد أجملهن على وجه التأكيد ، وأقلهنّ تشويها بالمساحيق. أما نساء الطبقة العليا من سكان البلاد الأصليين فتكون سحنهن أقل طراوة وصفاء ، بينما تكون نساء الطبقتين الوسطى والدنيا ، ببشرتهن السمراء وقلة جمال محياهن إلا من حيث العيون السود المعبرة ، قد وشمن أنفسهن وشما وحشيا يكسبهن مظهرا منفرا في بعض الأحيان. وتقوم نساء جميع الطبقات والمراتب بصبغ شعرهن بالحناء ، كما تصبغ راحات أيديهن صبغا قويا بها بحيث تبدو وكأنها أيدي البحارة المكسوة بالقطران».

وإلى هذا الحد أكتفي بهذا المقدار مما ذكره المستر بگنغهام. ومن المؤكد أن نساء الگرج والچركس هن أجمل النساء وأكثرهن تقديرا هنا ، لكنهن أصبحن أكثر ندرة من ذي قبل. فإن تركيا لا يسعها بعد هذا أن تشجع تجارة الرقيق مع هذه البلاد التعيسة المضطهدة (القفقاس) ، حيث إن أهاليها يرزحون الآن تحت وطأة الحكم الذي يمارسه طاغية أشد قسوة من الحكام السابقين وهو عاهل الروس المطلق المستبد. ويسير القضاء على السكان هناك سيرا حثيثا ، ولكن ليس بالسرعة التي يريدها المغتصب. فحينما كنت في تبريز تناهى إلينا أن حملة كانت على وشك أن تجرد من تفليس ضد الأباظة بنية استئصالهم.

وليس من المحتمل كذلك أن يتكاثر العنصر الگرجي هنا ، لأن المعروف اليوم معرفة قاطعة أن قليلا من نساء تلك البلاد من يمكنهن تربية الأطفال وتنشئتهم في هذه الجهات. فهم يموتون عادة قبل إكمال الثالثة من أعمارهم ، ويعزو البعض القسم الأعظم من هذه الوفيات إلى ولع الأمهات الخالي من التبصر بتحشية أطفالهن الصغار بالحلويات وسائر الأنواع غير المناسبة من الغذاء.

ولقد قدر بگنغهام نفوس بغداد حينما كان موجودا فيها بما يتراوح بين الخمسين والمئة ألف نسمة. وهو يعتبر عدد نفوسها أقل من عدد نفوس حلب وأكثر من نفوس دمشق ، بحيث إنه يجعل الحد المقارب للحقيقة ثمانين ألفا.

٨٧

على أنه من المؤكد أن عدد النفوس قد ازداد ازديادا كبيرا في أيام داود باشا ، ولذلك فإنه على ما أعتقد لم يكن يقل قبل طاعون ١٨٣١ م عن مئة وخمسين ألف نسمة. وكان القسم الأعظم من هؤلاء أتراكا وعربا ، لكنه كان هناك أيضا عدد كبير من البغداديين الأصليين وهم يكادون أن يكونوا عنصرا خاصا يختلط فيه الدم الإيراني والهندي بالأرومات الرئيسة. ومعظم التجار الآن هم من أصل عربي ، وهناك عدد من اليهود والأرمن والنصارى التابعين للكنيستين الكاثوليكية والسريانية. ويلاحظ وجود الأكراد والإيرانيين والبدو بكثرة في الأسواق ، لكن البدو لا يودون قضاء ليلتهم ما بين الأسوار. أما القسم الأعظم من الإيرانيين ، الذين هم في الغالب من زوار العتبات في كربلاء ومشهد علي ، فيرجعون في آخر النهار إلى الكاظمية وهي قرية وعتبة مقدسة تقع على بعد أربعة أميال في الجانب الغربي من النهر ، أو يخيمون خارج أسوار المدينة ، في الجهة الشمالية منها.

ويصف المستر بكنغهام أزياء بغداد وألبستها بكونها أقل رونقا وبهاء بكثير مما هي في مصر أو القسطنطينية في ذلك الوقت. على أنني لا أستطيع الحكم على ذلك بشيء ، لكن منظر الأزياء في الوقت الحاضر أبعد من أن يكون شيئا باهرا على وجه التأكيد. وقد أكد لي الكثيرون أن هذا المظهر يختلف اختلافا غير يسير عما كان عليه في أيام داود باشا. فقد كان الباشا يحتفظ ببلاط زاهر وتأسيسات فاخرة ، كما كانت الحلل والبزات العسكرية على عهده شيئا زاهيا ومتألقا تمام التألّق. فإن الثمانمئة گرجي من أتباعه ، المتزيين بالألبسة الزاهية والمسلحين بالسلاح الفاخر ، الراكبين على الجياد العربية الأصلية ، المطهمة بالجهاز المزركش ، لا بد أن تكون قد كوّنت منظرا باهرا في عهده. وكان ضباطه ، وهم يقتدون بسيّدهم ، يتنافسون فيما بينهم من حيث فخامة العدد وكثرة الأتباع. أما الآن فلا يوجد شيء من ذلك مطلقا ، إذ تقتصر القوة العسكرية البسيطة اليوم على عدد قليل من الهايتة ، أو الخيالة الألبانيين ، المختلطين بخيالة آخرين من أهل البلاد ، التي تتزيا بالألبسة الرثة والأسلحة البسيطة. وتحتوي كذلك على مفرزة من «النظام» أو الجند النظامي الجديد ، وهذه قطعة عسكرية على آخر ما تتصوره المخيلة من عدم الانتظام ، فقد أفقدها

٨٨

لباسها نصف الأوربي منظر الأتراك المهيب من دون أن يسبغ على أفرادها أناقة الجند الأوربيين ومظهرهم المهني. وليس هناك سوى مئات قليلة من هؤلاء الأبطال الشواذ ، الذين ذكرني زيهم غير المهندم ، و «الفيس» الأحمر الذي يضعونه فوق رؤوسهم ، بالمساجين الفرنسيين القدماء الذين كانوا يلبسون قبعاتهم الليلية الحمراء وسترهم المتعفنة. أما السراي ، أو قصر الباشا ، فلا ضجة فيه ولا مظهر يعتد به ، وأما الموظفون الفاسدون ذوو المستوى المنحط التابعون للرجل التعيس الذي كان يضطلع بمنصب الباشا فيقتدون بسيدهم في الرثاثة وقلة الحاشية وفي جميع الوجوه الأخرى.

غير أن الأسواق ما يزال فيها الآن شيء من الحركة واللون. لأن الأتراك والعرب معا مغرمون بالأحمر بمختلف أطيافه ودرجاته ، وبالألوان الزاهية الأخرى. يضاف إلى ذلك أن الأصباغ والزينات التطريزية ، وعمائم الشال ، والألبسة الفضفاضة ، مع الخناجر المطعمة بالفضة والمسدسات المدلاة من المحزم ، تعمل كلها على رسم صورة حية مبهجة.

على أن الركوب عبر الأسواق يعتبر عملا فيه شيء من الخطر. فهي ، على كونها تؤلف الممرات والطرق العامة في البلد ، ضيقة بحيث إنك تضطر على الدوام على التوقف فيها بسبب الخطوط الطويلة من الجمال والبغال المحملة التي يحتمل جدا أن تؤدي الأحمال الموجودة فوق ظهورها إلى كسر رأسك أو ركبتيك حسب ارتفاع الحيوان الذي تصادفه ، بينما تكون منشغلا بشق طريقك بينها وبين الأعراب الحفاة الذين يمتلىء بهم كل شارع أو زقاق. وقد ذكرتني مجموعات الحمير ، المحملة بالحطب ، بسيدة مآدب «ألف ليلة وليلة» التي عزت الجرح الموجود في خدها إلى صدمة أصابتها من إحدى القوصرات التي كان يحملها حيوان من هذه الحيوانات. فعرّضت بذلك حيوية مجتمع الحطابين كلهم إلى الخطر. وتبرهن الخروق المختلفة في سراويلي الآن أكثر من مرة على إمكانية وقوع ما جاء في تلك القصة. وكم أتمنى أن يكون بوسعي أن أقول إن دكاكين الطباخين تذكرني على الشاكلة نفسها بدكان سي مصطفى وحلوياته اللذيذة. لكن الحقيقة ان رائحة السمن الزنخ كانت منفرة جدا ، ولم تكن

٨٩

دكاكين الحلواتية كذلك مغرية مثل دكاكين الحلواتية في استانبول.

ومن بين الأشياء التي تلفت نظر الغريب في بغداد الهدوء الرزين ، والجمود الذي يبدو على التاجر التركي (١) وهو يجلس فوق المنصة العالية المنصوبة بالقرب من بابه ، مدخنا شطبه في وسط الضجيج المحيط به ، كأنه لا يسمع شيئا منه ولا يملك الاهتمام الذي يجب أن يكون عند التاجر بيع ما عنده من سلع. وحينما يراجعه أحد الزبائن يعرض عليه السلعة المطلوبة ببطء وسكون وينهي المعاملة إذا تم الاتفاق على السعر ـ وإلا فيتابع تدخينه للشطب. ولو كان في مكانه تاجر إيراني لسألك دزينة من الأسئلة عما تريد ، ولعرض عليك بالتعاقب خمسين شيئا من الأشياء التي لا تحتاجها ، ولقفز من مكانه وعاد إليه عدة مرات ، خلال المدة التي يستغرقها التركي المتزمت في سحب «الچبوق» (٢) من فمه بقصد التحدث إليك. على أنه لا بد من الاعتراف هنا بأن الباعة اليهود والأرمن يعوضون بسرعتهم وطلاقة لسانهم عن تثاقل الأتراك وتكاسلهم. فإنهم مدركون نشطون في التأكد من طلبات الزبائن وتزويدهم بها.

والمزية الأخرى التي تلفت نظر الغريب في شوارع بغداد وأسواقها كثرة العرب ، من البدو وسكان المدينة ، التي ألمحت إليها من قبل. ويتألف لباسهم من قميص خشن يلبس فوقه الناس المتمكنون قفطانا (زبونا) مصنوعا من نوع من أنواع القماش الحرير أو القطن ، المخطط في الغالب. وكلهم يضع على كتفيه عباءة من شكل خاص ، فتكون عريضة من دون أردان لكنها مزودة بفتحتين تمد منهما اليدان عند الحاجة ، وتصنع من الصوف المحبوك في حياكته ، المخطط بخطوط عريضة متعامدة بيضاء اللون وبنيته ، لكنها تكون

__________________

(١) يلاحظ مما يكتبه صاحب هذه الرحلة أنه يعتبر الكثيرين من سكان المدن في العراق أتراكا ويقتصر في الغالب على تسمية أهل الريف والبدو (الأعراب) بالعرب. وأعتقد أن القارئ المدرك يمكن أن يكتشف ذلك بسهولة.

(٢) الجبوق كلمة تركية بمعنى الشطب وجمعه شطوب وهو عود يحفر بسفود محمى ليدخن به.

٩٠

بيضاء أو سوداء اللون في بعض الأحيان. وهي اللباس القومي الخاص ـ أي العباءة العربية المعتادة. ولا يقل لباس الرأس انفرادا وتخصصا عن العباءة. فليس هو عمامة على ما يعتقد البعض ، ولا شيئا يشبهها. وإنما هو يتألف من كفية (١) حرير مربعة الشكل محبوكة الحياكة ، تخطط بخطوط متسعة صفراء وحمراء ، وتبرم لحمتها من الحاشية إلى خيوط متينة قصيرة. وتطوى هذه الكفية بشكل مثلث ثم توضع فوق الرأس فيتدلى طرفاها على الكتفين أو أمامهما ، بينما يتدلى الطرف الثالث إلى الوراء. وفيما حول قمة الرأس المغطى بهذه الطريقة تلف حزمة من وبر الإبل البني (٢) اللون ، المبروم برما جزئيا مرتين أو ثلاث مرات ، بحيث يبدو الرجال لأول وهلة وهم يرتدون العباءة الفضفاضة معه أشبه ما يكون بالنساء الساحرات من الرجال. وليس من الممكن من دون الاستعانة بالرسم أن أنقل إليكم ما يكوّن عندكم فكرة تامة عن التأثير الفريد الذي يحدثه لباس الرأس هذا ، حينما يساعده في التأثير زوجان من العيون السود النفاذة التي تحدّق من بين خصل شعرهم الأسود. لأن العرب ، مثل سائر المسلمين لا يحلقون الرأس ، وإنما يضفرون شعرهم الطويل الخشن الأسود بسواد الفحم (الذي يتدلّى على أكتافهم وظهورهم) ويخفونه تحت الغترة (٣). على أنه لباس رأس مفيد للبادية ، يخفف من تأثير الحرارة والبرودة وخاصة حينما يلبسون تحته طاقية مصنوعة من الوبر. لأنهم يتلثمون بطرفي الكفية في الطقس البارد ، ويتلفعون بها إلى ما فوق الوجه والعيون حينما يشتد تأثير الشمس وإزعاجها ، وبذلك ينتفع بها للحماية في كلتا

__________________

(١) يظهر من هذا ان «اليشماغ» الحالي الذي يلبس تحت العقال في الغالب لم يكن قد ظهر يومذاك.

(٢) من الغريب أن لا يذكر بين هذا الوصف لون العقال الأسود الشائع الآن ، ولعله لم يكن شائعا في تلك الأيام.

(٣) أعتقد أن صاحب الرحلة ربما يكون مخطئا في هذا التعميم المطلق الذي قد ينطبق على البعض من رجال القبائل في البادية وغيرها. ولا يخفى أنه يقصد بالعرب هنا أبناء العشائر.

٩١

الحالتين. ومع ذلك فإن هؤلاء البدو قد تحمصت بشرتهم إلى حد السواد التام. وأؤكد لكم أنهم يكونون بهذا أشكالا فريدة في وحشيتها حينما يطوفون فوق جيادهم النحيفة ، فتتطاير ملابسهم الفضفاضة في الهواء وتهتز رماحهم فوق أكتافهم. وإن المرء قد يعتبرهم حتى في داخل المدن أشخاصا تخطر ملاقاتهم ، لأنهم يندفعون في سيرهم بهيئة الاستقلال الفظ. فإن العربي يعتبر نفسه في كل مكان سيد الأرض التي يحل فيها ، وهو في الحقيقة يكاد يكون كذلك هنا أيضا. ثم إن صراخهم وهديرهم حينما يمرّون قد يؤديان بالمرء إلى الاعتقاد بأنهم يهمون بسلب كل من يصادفونه في الطريق. لأن العربي لا يتكلم إلا بأعلى (١) صوته ، ولذلك يرتفع صوتهم أثناء الكلام بحيث يخيّل للغريب أنهم يتشاجرون فيما بينهم. وقد أدّت هذه الخصلة في بعض الأحيان إلى حصول أغلاط مضحكة. فقد كان أحد النوابين المقيمين في بغداد متشبعا بالخوف من الهيضة (الكوليرا) بحيث لا يخرج من البيت إلا وهو يحمل معه الأدوية الواقية. وقد حدث ذات يوم بعيد وصوله إلى هنا أنه بينما كان جالسا في إحدى المقاهي أو الأماكن العامة الأخرى ، طلب إلى مغنّ كان موجودا فيه أن يسلي الناس بالغناء. لكن المسكين وجد صعوبة في ذلك وأخذ يخرج أصواتا مبحوحة وأنغاما غريبة ربما كانت تبعث الفزع في نفوس البعض منهم. غير أن النوّاب الذي كان يجهل لغة البلاد تصور أن الرجل قد أصيب بالهيضة الوبيلة التي كان يقال إنها قد بدأت تصيب بعض الناس في بغداد بشرها. فهجم النواب عليه والأدوية بيده ، وأخذ يقنعه بتناول الحبوب والشرب مما كان في القنينة التي كانت معه فرفض المغني المتعجب ذلك وهو يستغيث بقوله : «لا لا لا» لكن النواب ظل يلح عليه بتناول الدواء حتى أفهم بحقيقة الأمر.

غير أن العرب ليسوا وحدهم هم الذين يصخبون بمثل هذا الصخب ، وإنما هو شيء عام في بغداد التي تعد من بين جميع الأماكن الأخرى التي

__________________

(١) لا شك أن صاحب الرحلة قد تسرع في تعميمه هذا أيضا فليس من المعقول أن يقيس المرء قوما كلهم ببعض الأشخاص الذين يرتفع صوتهم في السوق في بعض الحالات.

٩٢

ذهبت إليها غريبة جدا من حيث وجود كل نوع من أنواع الأصوات التي يمكن تصوره فيها ، ويعد سكانها بوجه عام أشد الناس صخبا. فالغرفة التي أسكنها الآن لها شرفة تطل على الشارع وشباكان ، بحيث إن كل شيء يمر من تحتها يسمع بحذافيره كما لو كان يحصل في داخل الغرفة نفسها. ولذلك يعزف عندي قبيل طلوع النهار جوق من الديكة والدجاج الموجود في ساحة مجاورة ، وترتفع أصواته. ويعقب هذا بوق النهوض الذي يدق في جناح الحرس السپاهيين التابعين للمقيمية ، فيثير بدوره نباح عدد من الكلاب. ويظل النباح مستمرا حتى تبدأ الحمير بالنهيق. وما يحل ذلك الوقت حتى يكون الأعراب المجاورون الذين التجأوا إلى المدينة بسبب اضطراب الحالة في خارجها قد شمروا عن سواعدهم وأخذوا يسوقون إلى المرعى قطعان الأغنام والماشية والجمال التي جاءوا بها معهم طلبا للأمان. ولا بد أن تكون هذه الحيوانات أكثر حيوانات العالم صمما تجاه الرعاة ، أو أن الرعاة يسيئون معاملتها إساءة غير يسيرة. لأنها تنادى بمختلف الأصوات العالية بقصد إقناعها بالحركة والخروج إلى الخارج ، فيؤدي ذلك كله إلى تكوّن هدير وثغاء لا مثيل له في أي مكان آخر. وعلى هذه الشاكلة يتجمع قطيع بعد آخر فيزداد الهرج والمرج وتعلو الضجة فتشتبك الأصوات. وما تبدأ بالحركة ويقل الضجيج حتى تعقبه أصوات أخرى ويتعالى ضجيج من نوع آخر ، فهناك أصوات المارة والمستطرقين والشحاذين ، والأصوات المتعالية من بعيد وغير ذلك ، ولا أظن أن هذه الأصوات يمكن أن تضاهيها أصوات پيكاديللي بكل عرباته ، ولا شارع كوكسبر أو تشرينغ كروس ، ولا سميث فيلد في يوم السوق الخاص. ولا غرو فهذه بغداد الوريثة الحقة لبابل القديمة.

٩٣
٩٤

(٥)

أسباب الخراب في بغداد ـ ظهور الطاعون في المدينة ـ انتشاره ـ المقيم البريطاني يغادر بغداد ـ اعتذار المستر غروفز عن موافقته ـ تفاقم الوباء ـ دخول الماء من الأسوار وغرق المدينة ـ سقوط سبعة آلاف دار مرة واحدة ـ دفن خمسة عشر ألف ـ ذعر الباشا ـ إحاطة الماء بالقوافل ـ توقف الفيضان والطاعون ـ دخول الطاعون إلى بيت المستر غروفز ـ موت زوجته وطفله ـ حوادث الموت الكاسح وأسبابها ـ تأثير الطاعون في الأماكن الأخرى ـ بغداد بعد الطاعون والغرق ـ طاعونان آخران في سنتين أخريين ـ الوفيات في البصرة.

عزيزتي

كنت حينما اقتطفت مما كتبه بكنغهام (١) قد وصفت بغداد كما كانت عليه في أيام أسعد (٢) باشا. وقد أشرت أيضا إلى ازدياد النفوس وحلول عهد زاهر تحت حكم داود من بعده. ولو كنت أقف عند هذا الحد فقد يؤدي ذلك الانطباع بكم إلى الاعتقاد بأن بغداد قد بقيت على حالتها تلك. فوا أسفاه! كم تكونون مخطئين بذلك! ـ آه كيف يتجندل الأبطال! ـ فإن بغداد الآن خراب قفر ، نسيبا! وقد تم هذا التبدل بتعاقب الكوارث عليها تعاقبا مخفيا كان يمكن أن يحصل في أية مدينة من المدن الحديثة. فقد قضى الطاعون والغرق والمجاعة ، بأبشع أشكالها على السكان وقوّض أسوار هذه المدينة العظيمة

__________________

(١) يقصد ما جاء عن بغداد ووصفها في الفصل السابق.

(٢) الصحيح هو سعيد باشا ، وسعيد هذا هو ابن سليمان باشا الكبير من ولاة العراق المماليك المشهورين. وقد حكم بين أيار ١٨١٣ م وكانون الثاني ١٨١٨ م ، ثم أعقبه في الحكم داود باشا آخر الباشوات المماليك في العراق كما لا يخفى بعد أن قتله. وربما سمي أسعد على سبيل التحبب.

٩٥

وعماراتها. وجور الانسان ، وهو أشد نكالا من نقمة القدرة الإلهية ، كان ولا يزال يكتسح ما تخلف عن كل ذلك بسرعة.

ففي أواخر عهد داود باشا ، أي في خلال سنة ١٨٣٠ م ، تكاثر أعداؤه في مجالس الباب العالي وأواسطه ، فتقرر إسقاطه على كل حال. ولكنه كان قد ثبت أقدامه في مكانه بحيث إن جميع القوى الموجودة في استانبول ما كان في مقدورها أن تفعل ذلك لو لم تتدخل في الأمر يد جبارة فتنزله من عليائه. فكان داود قد عمد منذ مدة طويلة إلى تشكيل جيش كفء ونجح نجاحا كان يمكنه أن يهزأ فيه إلى حد الازدراء بجميع الاستعدادات العسكرية التي كان بوسع السلطان أن يجردها ضده. وهكذا بقيت الحال إلى أن ظهر في بغداد ، في أوائل ١٨٣١ م ، الطاعون الذي كان يفتك فتكا ذريعا في إيران. فقد كانت بعض الإصابات الفردية قد وقعت على ما يقال منذ تشرين الثاني المتقدم ، ولكنها أخفيت أو أهملت. ولم تصبح حقيقة الطاعون المميتة ، التي كان يتزايد ظلها في بغداد ، شيئا مخفيا حتى حل شهر آذار من سنة ١٨٣١ م.

ففي اليوم الأخير من آذار أغلق الكولونيل تايلور (١) بيته تبعا للعادة الأليمة ، الضرورية ، التي يتبعها الأوربيون الذين يجدون بالتجربة أن هذه الحيطة إذا تم اتخاذها في الوقت المناسب فإنهم يفلتون في الغالب من المرض الذي لا ينتقل على ما يبدو إلا بالملامسة (٢) أو الاتصال الوثيق بالشخص المصاب. وفي مثل هذه الحالات يتم تسلم الأشياء كلها عن طريق خوخات تفتح في الجدار ، ولا تمس مطلقا قبل أن تغسل غسلا جيدا بالماء. فاللحم والخضروات والدراهم كلها تمر بهذه العملية التطهيرية ، والرسائل والأوراق يتم تسلمها بملقط طويل من الحديد وتبخر قبل أن تلمس باليد. ولو كان من الممكن لسكان هذه البلاد أن يضبطوا بحيث يمكن أن يخضعوا لمثل هذه

__________________

(١) المقيم البريطاني يومذاك.

(٢) لم يتوصل العلم الحديث إلى معرفة «باسيل» الطاعون وطرق عدواه الأكيدة إلا في ١٨٩٤ م ، أي بعد وقوع هذه الرحلة بسنين عديدة.

٩٦

الإجراءات الوقائية لكان من الممكن أن يجرد هذا المرض من تأثيراته ، ولقل عدد ضحاياه إلى حد كبير. لكن التراخي وعدم المبالاة الممتزج بعقيدة واهية بالقضاء والقدر يمنعانهم من إجهاد أنفسهم في هذا الشأن ، مع أن هرب الآلاف من المدينة بأمل التخلص من الوباء الذي تسرب إلى مساكنهم يبرهن بطريقة لا تقبل الجدل بأن اعتقادهم بالقضاء والقدر غير راسخ أو تام بأي حال من الأحوال.

وقد تم هذا الفرار في الوقت المناسب ، وهرب اللاجئون ولكنهم هلكوا في مكان آخر وفرصة أخرى. وفي غيرها نقل الهاربون المرض معهم ونشروا سمومه هنا وهناك حتى ماتوا ميتة تعيسة في البر أو البادية. ومع كل ما كان يبذله الأورپيون من عناية أو حيطة لم تكن هذه في بعض الأحيان كافية لدرء العدوى وإبعادهم عنهم. فالقايروس (١) على درجة من الدقة بحيث إن أقل اتصال يحصل يكون كافيا لإيصاله من شخص إلى آخر ، ويستطيع أصغر حيوان نقله من محل لآخر. ولذلك تكون القطط والجرذان والفئران حيوانات خطرة في هذا الشأن ، وتصبح القطط على الأخص وهي تألف الإنسان أشد خطرا عليه ، ومن أجل هذا يقوم الذين لهم عقيدة بأهمية الحجر والعزل بإتلافها حيثما توجد. ومن الحوادث المميتة المسببة عن الاتصال بمثل هذه الحيوانات الحادثة التي وقعت في بيت أحد نصارى بغداد المتصلين بالمقيمية البريطانية. فقد كان هذا ممن يقتدون بالمقيم في غلق داره ، وعدم فتحه لأحد. غير أن ابنته في هذه المرة لمست قطة كانت تتردد على البيت ، وكانت هذه القطة قد خرجت إلى الخارج أو اتصلت بقطة أخرى فأدى ذلك إلى نقل المرض إلى البيت وإصابة البنت به فقضت نحبها. وقد كانت الطفلة المسكينة منذ اللحظة الأولى على علم بمصيرها ، حيث كانت تقول «أصبت بالطاعون ، وسوف أموت» فأيدت الأعراض التي ظهرت عليها ما تنبأت به وأسلمت الروح بعد أيام أربعة.

__________________

(١) لقد أثبت العلم الحديث في نهاية القرن التاسع عشر أن الطاعون مرض يسببه ميكروب خاص من نوع الباكتيريات العضوية (باسيلس) ، وهو ليس من نوع الفايروس ، كما أثبت أن عداوه تنتقل بطريق الجرذان والبراغيث وما أشبه في الغالب.

٩٧

ومن المحتمل أن يكون المرض قد جيء به إلى بيت الكولونيل تايلور بطريقة عرضية مثل هذه ، مع أنه هو وجميع من كان يسكن معه كانوا على علم بأن البيت ومداخله كلها كان مغلقا غلقا محكما. ففي اليوم العاشر من نيسان مات أحد الحرس السپاهيين به ، وأصيب أربعة من خدامه. وكان المرض قد انتشر في هذه المرحلة انتشارا أدى إلى موت سبعة آلاف شخص في القسم الشرقي من المدينة ، وهو القسم الذي كان يقع فيه مسكن الباشا والبعثة البريطانية وجميع الناس المعروفين. وكان أخبار الجانب الثاني على جانب أقل من الفظاعة ، لكن هلع السكان اشتدت وطأته بارتفاع مستوى المياه في دجلة ، التي انبثقت من السدود المقامة على جانبيها فغمرت الأماكن المنخفضة من الناحية الغربية ، ودخلت المدينة حيث كانت ألفان (١) من البيوت قد تهدمت من قبل على ما يعتقد. وقد حيل دون الكثير ممن كان يمكن لهم أن ينجوا بأنفسهم لا بانتشار هذه المياه فقط بل بوجود الأعراب أيضا ، الذين أخذوا يتجمعون الآن حول المدينة فيسلبون الخارجين منها جميعهم إلى حد العري.

فبالحصار الذي تم على هذه الشاكلة تسنى للوباء أن يفعل ما يفعل بكل حرية ، ووقع الناس فريسة له بسرعة لا تصدق. ولما وجد الكولونيل تايلور أن داره قد تسللت إليها العدوى لم يبق لديه سوى أن يستخدم الوسائل المتيسرة عنده للفرار في الوقت الذي كانت لا تزال هناك إمكانية يستغلها لذلك. وكانت زوارقه ، التي كان قد جاء بها من البصرة هو وأسرته ، لا تزال مشدودة بجدران المقيمية من جهة النهر بحالة استعداد للخدمة الآنية. فقرّر أن يستقلها في الحال ، وكان من حسنات هذا الوضع والموقع أن تلك الزوارق قد ارتفعت بارتفاع المياه في النهر حتى صارت في مستوى الباب الخلفي للدار ، وأن سكان الدار كان بوسعهم أن يتخذوا الاستعدادات المطلوبة وينتقلوا إلى

__________________

(١) جاء في «أربعة قرون من تاريخ العراق الحديث» في هذا الشأن «.. وفي ليلة السادس والعشرين (نيسان) انهار قسم من المسناة الواقعة في الجهة الشمالية من المدينة وقسم من القلعة. ففاض الماء وتساقط على أثر ذلك من الدور ألفان في بضع ساعات ..»

٩٨

الزوارق من دون أن يتعرّضوا إلى أي تدخل من الخارج. وحينما تم كل شيء على الوجه المطلوب دعا الكولونيل تايلور المستر غروفز ، المبشر المعروف ، إلى أن يصطحبه وأسرته إلى البصرة حيث يمكن بالالتجاء إلى بيت في الريف تحاشي العدوى.

على أن المستر غروفز (١) رفض استغلال الفرصة المتاحة له عن تقصد بالغ ، ولم ينزل عند رغبة الكولونيل تايلور في ذلك. وكان الرجل الجليل هذا قد تعهد بالعناية بعدد معين من الأحداث ، وهم أطفال بعض الأسر المسيحية في بغداد ، فمنعته دوافع القيام بالواجب من اتخاذ خطوة كانت تعد في نظره تخليا عن الواجب. فقرر البقاء في مكانه ، وبعد أن وضع ثقته بالعليّ القدير الذي أنزل البلوى وهو قادر على إنقاذه أو القضاء عليه ، أغلق داره التي كانت تحتوي على اثني عشر شخصا ، من بينهم معلم أرمني وأسرته ، وظل ينتظر النتيجة. ويمكن الحصول على أحسن أخبار هذه الفترة المرعبة من يوميات هذا الرجل الكريم. وعلى هذا فإنني سأعمد إلى أن أقتبس منها ما يختص بالطاعون والغرق من الأخبار خلال ما يأتي من سرد القصة الموجزة عن الحالة في بغداد.

فقد غادر الكولونيل تايلور بغداد في الثاني عشر من نيسان. وفي اليوم السابق لذلك علم بأن عدد الموتى قد بلغ حد ألف ومئتين ، وفي يوم السفر بالذات تأكد لدى العارفين بأن ألفا وأربعين حادثة موت قد حصلت في الجانب الشرقي من المدينة وحده. وفي اليوم التالي لذلك علم المستر غروفز بكل ألم ومرارة بأن المرض قد تسرّب إلى الدار المجاورة لداره ، التي كان قد تجمع فيها ثلاثون شخصا ، وكأنهم قد فعلوا ذلك لغرض تزويده بالضحايا المهيأة لا غير. وفي ذلك اليوم بالذات كانت الوفيات تتراوح بين الألف والألف

__________________

(١) Rev.A.N.Groves ، مبشر انكليزي أقام في بغداد عدة سنين وفتح مدرسة فيها لأيتام النصارى من أرمن وغيرهم ، وله كتيب يصف فيه أيام الطاعون الكبير هذا في بغداد الذي وقع في ١٨٣١ م. والكتاب اسمه :

Journal of a Residence in Baghdad) London ٢٣٨١ (

٩٩

وخمسمئة ، وكان معظم من مات في هذا اليوم في هذا اليوم في خارج أسوار المدينة. ثم ازداد عدد الموتى إلى ألف وثمانمئة. وقد أخذ الهلع والخوف من الأحياء الباقين مأخذه بحيث كان يندر إقناعهم بالبقاء لدفن موتاهم. واتخذ الكثيرون الاستعدادات اللازمة للمصير الذي كانوا ينتظرونه بتهيئة الأكفان لهم ولأسرهم ، قبل أن يؤدي الطلب المتزايد عليها إلى استهلاك المتيسر منها كله. وأصبح الماء شحيحا أيضا ، لأن كل سقاء كنت تطالبه بالوقوف كان يرد عليك بأنه كان يأخذ حمله من الماء لغسل جثة أحد الموتى. وقد روت بنت أرمنية للمستر غروفز خبرا قالت فيه إنها كانت قد عدت خمسين جثة وهي تنقل للدفن في فسحة لا تزيد مساحتها على ستمئة ياردة. ولم يكن السكان قادرين على بذل أي نوع من الجهد ، لأن الحيرة على ما يبدو قد شلّت أيديهم وأذهلتهم فأفقدتهم رشدهم. فجلسوا في بيوتهم ينتظرون الموت الذي كان آتيا لا محالة ، وكأنهم قد صعقوا مما كان يمر أمامهم ، ونادرا ما كان يتخايل أحد في الشوارع في هذا الوقت عدا حملة الموتى والأشخاص الذين كانوا يأخذون الأكفان لهم ، وعدا السقائين الذين كانوا يأخذون الماء لغسل الجثث.

وبقي عدد الوفيات ثابتا لا يتغير ما بين السادس عشر والحادي والعشرين من نيسان ، على قدر ما يمكن التأكد منه ، وظل محافظا على مستواه المقارب لألفي وفاة في اليوم والواحد. لكن حوادث كثيرة تنفرد بنوع النكبة التي تؤدي إليها كانت تحدث هنا وهناك. فإن أسرة ينتمي إليها أحد طلاب المستر غروفز الصغار قد أصيب أربعة أشخاص من مجموع الستة الذين كانت تتألف منهم ـ إذ أصيب الوالد والأم مع أحد الأولاد وإحدى البنات ، ولم يبق منهم سوى بنت وابن فقط. أما كتائب الباشا المعروفة التي كانت تتألف واحدتها من سبعمئة رجل ، فإن بعضها قد بلغ عدد الذين أتى عليهم الطاعون حد الخمسمئة. وكانت أخبار المناطق المجاورة للمدينة على أسوأ مما كانت عليه في داخلها. كما كانت المياه الطاغية في النهر يعلو مستواها علوا سريعا كذلك ، حتى أصبح خطر الغرق العام وشيكا كل يوم.

ففي اليوم الحادي والعشرين من الشهر انبثق الماء من سراديب

١٠٠