رحلة فريزر

جيمس بيلي فريزر

رحلة فريزر

المؤلف:

جيمس بيلي فريزر


المترجم: جعفر الخياط
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: الدار العربيّة للموسوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٣٢

والدراويش الذين يدعون بعدم تأثير النار فيهم ممن ألمعت إليهم آنفا.

أما الصنف الثاني من الدراويش الذين أطلق عليهم اسم المتوطنين ـ أي المنتشرين بين الناس بكثرة فهم موجودون في معظم المدن الشرقية. وهؤلاء يظهرون بمختلف المظاهر والألبسة التي تناسب زيهم ، وأحوالهم ، وطلاقتهم في الكلام ، وحركاتهم التي تتطلبها الأغراض المختلفة التي يحصلون على الصدقة والإحسان بواسطتها. ولذلك يختلف مظهرهم ، والهيئة التي يظهرون بها ، اختلافا كبيرا على قدر الإمكان. فقد يكون أحدهم مثلا رجلا أنيقا نحيل الجسم ، ذا بشرة سمراء داكنة ، ولحية سوداء ، وشاربين مشذبين بترتيب ولطف ، يلبس في رأسه عمة قطنية بيضاء ، وسترة من الوبر البني اللون ، حافي القدمين ، يتوكأ على عكاز في يده ، وله عينان لا تريان النور لكنهما غائرتان في وجه لا يزال معبرا ، يتقدّم بطلعة منتصبة ومشية حذرة ، وبصوت عذب يرتل قائلا «أنتم أيها المدينون لله! أعطوني من نعمته يفك لكم ديونكم! أنتم أيها المثقلون بالغم والكدر أدخلوا السرور على عبده يخفف الله من أحزانكم». فيخلط مستمعوه صدقاتهم بالهزء والسخرية ، ويتسلمها الدرويش بصبر وتحمل ويعود بها إلى زاويته الخاصة في المسجد التي تعد مكانه ومأواه الذي يجري فيه تأملاته ويؤدي صلواته ، ويستعيد استعمال عينيه حتى تستدعي الضرورة من جديد أن يستدر عطف المسلمين عليه.

وقد يكون الثاني رجلا بدينا قصير القامة مرتب الهندام ، له لحية كثة قصيرة قد تطرق الشيب إليها ، ووجه ممتلىء ، وعينان صغيرتان رماديتان زائغتان يحجبهما حاجبان كثان ، وفم بشفيتن ضخمتين ، وأنياب كبيرة عارية تصلح لأكل الأشياء جميعها. ويرتدي ملابس قطنية بيضاء تغطيها عباءة عربية من الصوف الأبيض ، فيقف على دار يبدو عليها أثر النعمة والثراء فينفخ من رئتيه العميقتين أقوالا في مدح النبي تختلط بوصايا تأمر بالبر والإحسان والتصدّق على العاري والجائع والمحتاج. فلا يخطىء المرمى ، إذ يخف إلى الباب اثنان من العبيد السود ، ذكر وأنثى ، لغرضين مختلفين ـ أولهما لطرد المتطفل وإبعاده عن الباب وثانيهما لتقديم المساعدة اللازمة إليه ، فيختلط

١٦١

صخب العبدين المتنازعين بولولة المتسوّل ، لكن الأنثى سرعان ما تتغلب فتنهال على الشحاذ القوي صدقات أهل البيت.

وقد يكون الثالث شخصا نحيلا غامضا ، ذا أطراف مرتخية قليلة العضلات ـ أي عبارة عن هيكل كامل يدل على مقدار تقرب الأحياء من الموتى. وبهذه الدرجة من الهزال ربما يكون عديم الأسنان والشعر ، كليل العينين ، يكتسي مجموعة من الأسمال البالية ، ولا يحمل عكازا تتوكأ عليه أطرافه المرتجفة فيسحب هيكله نصف الحي من باب إلى أخرى. وحينما يتمدد على الأرض يعرض مناظر من جسمه تستدر الرحمة والعطف عليه. وبعد أن يرق له الناس فيتصدقون عليه يحمل في زنبيل ويبعث إلى مخبئه ليعود في اليوم الثاني إلى وضعه السابق ، فيستدر عطف الناس من جديد.

ويتألف الصنف الثالث ، أي صنف القلندرية ، بوجه عام من خيار الدراويش وأنشطهم ، وأصغرهم سنا. وهؤلاء هم المشتغلون بالكيمياء القديمة والمنجمون والعرافون والمنشقون في عالم الصعاليك. ويكون توفيق هؤلاء وجدهم في تبدل مستمر ، لكن حضور ذهنهم يكون مساويا على الدوام للحالات المفاجئة التي يجدون أنفسهم قد تورطت فيها. وهم بوجه عام صوفيون في ديانتهم ، أصحاب مرونة في سلوكهم وتصرفهم ، سريعو الإدراك ، حاضرو البديهة ، شديد والعزم ، أقوياء البنية. وقد تعودوا أن يلقوا على أكتافهم بجلود الأسود أو الفهود أو الوعول غير المدبوغة. ويسمحون لخصل شعرهم بأن تنمو حسب الإرادة ، أو يضفرونها بأشكال مختلفة غريبة. وقلما يوجدون وهم من دون سلاح ، وإذ يكونون معتمدين دائما على استعداد المسلمين المتعصبين للاعتقاد بالأشياء الخارقة ، فهم دوما مزودون تزويدا حسنا بالوسائل التي يستخدمونها في صنع بعض الظاهرات الكيميائية التي تلفت النظر ، وبمعاجين العشق وأشربة المحبة والرقى والتعاويذ ومختلف وسائل فتح البخت وعلم الغيب لتساعد انتحالهم للمهارة في شؤون الكهانة والعرافة.

ويقدم لنا تأريخ السيد مأمون المصطفى ، وهو رجل شاب ولد في واد من أودية آشور ، نموذجا حسنا لروحية هذه الطبقة من الدراويش. فهو حينما

١٦٢

كان يمر في دور الدراسة والتعلم ليتبوأ مكانا مناسبا في عالم الملالي استولت عليه الرغبة في السفر والتطويح في أرض الله الواسعة ، فترك بيته وأهله برغم توسلاتهم في العدول عن ذلك. وقد كان شابا طويل القامة قوي البنية جميل المحيا ، ذا بشرة بيضاء وعينين سوداوين ، فشرع في رحلاته مؤملا نفسه بالآمال المعسولة والمستقبل المملوء بالمسرات والعجائب. وبعد تجوالات طويلة أجراها بين المغاربة ، سحرة العالم الإسلامي المعروفين ، وبينما كان في طريقه إلى بلاد الجوغي والبراهميين في الهند ، دخل بغداد فنزل في المستنصرية ، وهناك حضر المحاضرات الدينية التي كانت تلقى بوجه خاص على طلاب المذاهب المختلفة ، على أن عقله ظل غير مكتف وذهنه غير مقتنع. وقد شعر في قرارة نفسه بأنه متفوق على من كان يحيط به من الناس ، وأخيرا تراجع وهو قلق لا هدف له إلا الاعتكاف في مسجد مجاور كان يقضي فيه أياما عديدة متوالية من دون أن يتذوق طعم الأكل أو يتناول شيئا منه.

فحاول إمام المسجد ، وهو متأثر بهذا التدين الفريد ، أن يحثه على الخروج والسعي وراء القوت الذي يقوم به أوده. لكن نتيجة المقابلة أدت به إلى الاعتقاد بأنه أمام ولي من أولياء الله ، وأعلن نفسه من أتباع هذا الناسك المتعبد الذي عمل على تزويده بالقوت والطعام ، واجتذاب الناس إليه.

وقد دبر مأمون أمر الحفاظ على خداع الناس بطبيعة وجوده المحاط بالمعجزات ، بتناول شيء قليل جدا من الذخائر الوفيرة التي صارت تتيسر له ، فكانت شهرته تزداد يوما بعد يوم. وأخذ النساء العقيمات يتوسلن ببركاته وتعاويذه ، وصار العميان يقصدونه ليرد لهم بصرهم ، والعرج ليعيد إليهم قابلية استعمالهم أطرافهم. كما أخذ الكيميائي الفاشل يستجدي عونه في الحصول على أكسير فعال مفيد ، وراحت النساء المهجورات يقبلن أقدامه ليزودهن بأشربة الحب الجذابة ، وصار الراكضون وراء الخوارق العجيبة ينتظرون منه المعجزات التي تعزى إلى السحر عادة ، كالركوب في الهواء ، والقدرة على كشف الأشياء غير المرئية ، وتنفس النار ، وقلب الإنسان إلى طير أو حيوان من ذوات الأربع ، والتراب إلى رمل من الذهب ، والحصى إلى نقود. لكن أغرب

١٦٣

جزء من عملية الخداع كلها كان الاعتقاد الذي يساور كل واحد من أصحاب المطالب هذه بأن ما كان يريد هو نفسه قد حصل بالفعل ، فضاعت شكوك القلة المرتابة في لجج الكثرة الكاثرة من المصدقين.

وبينما كانت الأمور تسير على هذه الحالة جاء أحد التجار يطلب مساعدة مأمون في الكشف عن سرقة أموال تعود له ومعرفة اللص الفاعل. فكان شيء من الخشية المتواضعة التي أبداها مأمون كافيا لإقناع التاجر بقدرة الرجل القديس على ذلك ، وبالتعهد بتقديم هدايا كبيرة لمساعدته في توسلاته الأصلية. لكن القديس ظل حييا متمنعا ، فازدادت معروضات التاجر حتى انتهت بتسليم الدار والمؤسسة والطفل إلى الرجل الذي يملك مثل هذه القدسية والحكمة الأصلية. وبعد أن أقام مأمون في مسكن التاجر واستحكم فيه ، شرع بإجراء تحقيقات دقيقة في ظروف الأشخاص الذين يمكن أن تكون لهم علاقة بالسرقة ، وأشار على التاجر بأن يجمع في يوم معين جميع خدمه ليختبر فيهم تأثير بعض الرقى والتعزيمات التي خرج بعد ذلك لاستحضارها.

وبعد أن عزل نفسه عن الأسرة بأجمعها خلال الفترة التي أعقبت ذلك ظهر في الوقت المعين أمام الخدم الذين قرر اجراء تعزيماته عليهم ، وهو يرتدي ملابس من الحرير الأسود وينثر خصل شعره الفاحم الأشعث بحيث ينحجب وجهه وراءها ، ويحمل في إحدى يديه مبخرة ممتلئة بالنار وفي الأخرى كيسا صغيرا أسود يحتوي على التمائم والعقاقير. ثم أخذ شيئا قليلا من العقاقير ورماه بصمت وهدوء فوق النار في المبخرة التي كان يتصاعد منها دخان كثيف ورائحة نفاذة للغاية ، وبتأثير هذه الرائحة القوية والتهيج الذي كان يوحيه المنظر العام في نفس الحضّار ، الذين كانوا جالسين في ذلك الوقت ، نهضوا كلهم مرة واحدة وهم يرددون «الله ، الله». وقد انحنى إلى الأمام حتى التاجر المسروق ، الذي تصور المصير الرهيب الذي كان من المنتظر ان يصيب اللص المجهول ، وكأنه يريد أن يوقف إن أمكن سير التعزيمة وتقدمها. ولكن الرهبة أخرسته وتمادى الساحر في عمله.

ثم أخذ من الكيس عدة حبيبات داكنة اللون وصار يعرضها للرائحة التي

١٦٤

كانت تتصاعد من المبخرة ، وقد قرأ بلهجة غائرة الابتهال والدعاء التالي : «إلهي يا رب العالمين أجمع ، يا مدبر الطبيعة والأكوان الذي يخترق عبيره المادة كلها امنحني الآن شيئا من طاقتك وقدرتك». وبهذه الكلمات تقدم نحو الأشخاص المشتبه بهم الذين أصبحوا في هذه المرحلة فريسة لعاطفة جامحة. وقد كانت الاعراض البادية على كل منهم تختلف اختلافا بينا ، لكنها كانت تلفت النظر. فقد ظل أحدهم واقفا بانتصاب تام ، لكن ذراعيه المتيبستين الملتصقتين بتشنج إلى جنبيه ، وفمه المغلق المزموم بشدة ، وعينيه الجامدتين ، وجلده الناشف ، والدائرة الزرقاء المحيطة بشفتيه المضغوطتين اللتين لا لون لهما ، كانت كلها تدل على نزعه العقلي المرير. وكان الآخر يتلوى كالحية ، وتتحرك كل عضلة فيه بتشنج غير يسير ، بينما كانت تتساقط قطرات العرق من جسمه. وكان كل طرف ونهاية في جسم الثالث يتحرك حركة غير مسيطر عليها ، فكانت شفتاه تتحركان بحركة لا إرادية وعضلات جلدة رأسه تتلوى كأنها كانت تسحب بعنف. أما الرابع فقد خر ساقطا على الأرض والزبد يملأ فمه ، وراح يتمرغ بحركات مخفية ، ويبذل جهودا غير مثمرة على ما كان يبدو للتكلم بوضوح.

وقد كان من شأن النزع الذي أصيب به الفاعلون ، والشعور المسيطر على المشاهدين الآخرين ، أن ينذر مأمونا بأن ينهي المشهد ويختمه. ولذلك أخذ التاجر جانبا وقال له : «الق حجابا محسنا على الجريمة التي ثبت وقوعها بمثل هذا الوضوح وعوقب مقترفوها بهذه الشدة. ودع كل رجل يرمي في منتصف الليل ملء حجر واحد من التراب في زاوية باحة الدار تحت النجم القطبي ، وعند طلوع الشمس ابحث هناك عن المال المسروق منك».

ومن المحتمل أن يكون ذلك البحث عن المال قد اقترن بالنجاح ، لأن شهرة الولي القديس ، والاعتقاد بقدرة تعزيماته وتعاويذه ، قد ازدادت ازديادا عظيما بحيث إن الرجال المرموقين في حكومة الولاية كانوا في عداد أتباعه المخلصين. وصارت أسرار السمياء ، والتعاويذ ضد الجروح أو التعرض للكوارث والنكبات ، أو خسارة العطف الملكي أو وظيفة من الوظائف ، تطلب منه بشوق وحماسة مع الثقة التامة بتأثيرها وشدة مفعولها ، وكانت تقدم له

١٦٥

مكافآت سخية من أناس آخرين للاشتراك في مثل هذا النوع من القدرة والسيطرة. ولكن ذلك لم يكن من شأن هذا الولي المكار ، فقد كان يصرح أن قدرته هذه ليست من النوع الذي يمكن البوح بأسرارها ولا يمكن أن ينالها كل أحد إلا الذين تشملهم العناية الإلهية بعطفها وتوفيقها. على أن مثل هذا الاعتذار والتملص لم يكن مقنعا للجميع ، ولذلك صار بعض الناس بدافع من حسدهم وخيبة أملهم يراقبون أعماله عن كثب ويتسقطون حركاته وسكناته. ومن سوء حظه أن يجعله نجاحه المطرد على جانب أكبر من الجرأة والتجاسر ، فأدى به ذلك إلى أن يمارس خدعه وأحابيله بأقل ما يمكن من الحذر. وسرعان ما ازداد الشك وكثرت الريبة ، وانكشفت ظروف كانت نتيجتها شؤما على نفسه وشخصيته. وأدى به تعطشه إلى الربح والمحصول إلى أن يقترف أعمالا تنطوي على النصب والاحتيال لابتزاز الأموال بمقياس واسع ، يساعده في ذلك المجال المتسع الذي هيأته له الثقة المتناهية التي كان يضعها فيه مريدوه والمخدوعون به. لكن سحره قد بطل وقل تأثيره ، وانكشفت أعماله في النهاية ، فأعقب ذلك بسرعة فائقة الخزي والعار والعقوبة والدمار.

وهنا أكتفي بهذا المقدار مما كتبه صديقي في مذكراته وأعود إلى ملاحظاتي. فقد أشرت في السابق إلى الزيارة التي قمت بها مع بعض الأصدقاء في المقيمية إلى مرقد يغشاه الدراويش الذين يدعون بالمناعة الخاصة ضد الأذى من أي نوع كان.

فبعد أن اجتمع عدد من الدراويش ، وعدد لا بأس به من الحضار والمشاهدين جلس الدراويش بشكل دائري وظلوا هادئين ردحا من الزمن كأنهم يغطون في تأمل عميق. وإذ ذاك قام أحدهم فتعرّى من ملابسه إلى حد المحزم ، ثم ذهب إلى ما يقرب من القبر حيث كانت تحفظ السيوف والخناجر والحراب ، وأخذ خنجرين منها فراح يعرض نفسه ذهابا وإيابا في داخل الفسحة الصغيرة المحاطة بإخوانه وجمهور المتفرجين. وقد كانت حركاته بادىء ذي بدء حركات بطيئة تكاد تدل على أنه كان منغمسا في التأمل ، لكنه أخذ يسرع الخطى والحركات بعد قليل من الوقت ويلوّح بأسلحته حتى

١٦٦

استحالت بالتدريج إلى قفزات ونطات ، وظل الخنجران يلوح بهما بسرعة فائقة تكاد تضلل النظر. على أن المتفرج كان بوسعه حينما ينظر إليهما أن يلاحظ بأنهما كانا في كل حركة من الحركات يرفعان وينزلان في جسمه هو كما لو كان يقصد بها أن تجرح رأسه وكتفيه وبطنه. لكن الخنجرين كانا معقوفين بحيث إن رأسيهما لم يكونا يضربان الجسم مباشرة ، وكان هو يحرك الخنجرين بخفة ومهارة بحيث يضرب جوانبه بهما من دون أن ينزلهما على المكان الذي يوجهان إليه مباشرة. يضاف إلى ذلك أن الخنجرين لم يفحصهما أحد ، وهما لا بد أن يكونا غير حادين على الوجه المطلوب اعتياديا. على أن الجسم مع جميع هذه الاحتياطات لا بد أن يصاب ببعض الجروح عرضا أو بالتقصد ، وحينما أمعنت النظر وجدت أحد هؤلاء الدراويش ينزف دما من ظاهر بطنه.

ثم أخذ سيفا ، أو سيفين بعد ذلك فأعاد نفس الحركات الجنونية وهو يتصنع ضرب نفسه بهما في مختلف الأماكن من جسمه. وعمد علاوة على ذلك إلى وضع حد السيف على بطنه ثم سمح لدرويش آخر أن يتقدم من خلفه فيمسك السيف من القبضة والرأس بكلتا يديه اللتين كانتا تلتفان حول محزمه ، وبعد أن ضغط على السيف وهو بهذه الوضعية وشد عليه بقوة رفعه قليلا إلى أعلى وأخذ يدور به مرات عديدة بحيث كانت قوته المركزية كلها تضغط ببطنه على مشفر السيف نفسه. ويزعم كذلك أن الدرويش في بعض الأحيان يستلقي على الأرض فيوضع حد السيف على بطنه وهو في تلك الحالة ، ثم يأتي أحد إخوانه فيدوس على ظهر السيف بكل قوته ، ومع ذلك لا يؤدي كل هذا إلى حصول أي جرح في جسمه. لكنني لم أر هذا بنفسي. ولم أرهم كذلك يغرزون حربات الحديد ، الساخنة أو الباردة ، في عيونهم وسائر المواضع الرقيقة في أجسامهم من دون أن يصابوا بأي نوع من الأذى على ما يظهر ، ولذلك لا يسعني أن أقول كيف يجري تدبير هذا العمل. كما أنني لم أر مطلقا معجزات المناعة ضد النار ، مثل مسك الحراب حينما تكون ساخنة إلى حد الاحمرار وحكها بوجوههم وأجسامهم. لكنني شاهدت ما يكفي ليحملني على الاعتقاد بأن القضية كلها لم تكن سوى مهزلة سليطة تعد لتؤثر في جمهور من المشاهدين حسن النية سهل الانخداع. وأن العار الذي يصيب من يظهر بمظهر

١٦٧

غير المعتقد لا بد أن يعمل على حماية هؤلاء الغشاشين المتطفلين على القدسية من أخطار الشك بهم والتدقيق الجريء الذي قد يتعرضون له.

وقد زرنا في فرصة أخرى مرقد ولي مشهور من أولياء السنة ، يسمى مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني ، الذي شيد تخليدا له هنا ضريح وجامع من أفخم الأضرحة والجوامع الموجودة في هذه الجهات. ويتقاطر الزوار على تربته هذه من الهند وأفغانستان وبخارى وبلاد التركستان. ولم يكن حصولنا على الرخصة اللازمة لذلك يخلو من صعوبة ، أو استجواب على الأقل ، وخاصة حينما طلبنا مشاهدة داخلية هذا الصرح المقدس الذي يشرف عليه موظف ديني يسمى «النقيب» ، ويعتقد بأنه سليل مباشر من سلالة القديس الأصلي نفسه. لأن الوضع هنا كان على جانب أكبر من الأهمية قبل أن يحدث الغرق الكبير ويتبوأ علي باشا منصب الباشوية. فقد كانت هذه المحلة قبل وقوع الحوادث المشار إليها يسكنها جميع السفلة والمتشردين الموجودين في البلد. إذ كان الناس الذين يشعرون بخطر الوقوع حتى في قبضة العدالة المرتخية في بغداد ، يحتمون في ظل هذا الولي الكبير. ولذلك كان يمكن العثور هنا على جميع الصوص والمحتالين ، وجميع القتلة و «البلطچية». فكانت «ألزاشية (١)» بغداد هذه ، وسكانها المختلطون ، يمارس فيها صديقنا النقيب بوجه عام شيئا لا بأس به من النفوذ والسيطرة ، كما كان السكان يكافئونه على حمايته لهم بمقدار بسيط من الطاعة ، وبحماية تخوم ممتلكاته ضد الفضوليين والمتطفلين. وكان قليل من الباشوات في الحقيقة من يجرأ على التدخل في ترتيبات عش الزعانف والأوباش هذا وحاميهم الديني ، أو يقدم على سوق الضباط أو الجنود ضدهم. وحتى داود باشا نفسه لم يستطع فرض إرادته على المحلة مع أنه برهن في مرات عديدة على كونه رجلا لا يستهان به فعزل النقيب وضربها بالمدافع أحيانا للقضاء على روحية الشغب المسيطرة فيها. كما لم يجد من المناسب أن يثير روحية التعصب الديني إلى حد بعيد باتخاذ إجراءات ذات طابع متطرف في الشدة. والخلاصة ، أنه لم

__________________

(١) Alsatia ، الظاهر انها منطقة كان يلجأ إليها الأشرار في لندن على ذلك العهد.

١٦٨

يكن هناك من يجرأ على الدخول إلى المحلة إلا أولئك الذين يستطيعون جعل «الأشقياء» المقيمين فيها يرحبون به. أما بالنسبة لنا نحن الذين كنا عبارة عن لفيف من الكفار فقد كان لا بد لنا أن نتقدم ضد قطيع من الثيران الهائجة لو أردنا أن نقوم بزيارتها هذه في ذلك العهد والزمن.

اما المستر ريچ (١) فالحقيقة أنه لم يقم بزيارة النقيب فقط بل سمح له أيضا بأن يدخل المقام ويزوره. لكن طريقه إلى ذلك كانت قد ذللت صعوباته بالهدايا الثمينة التي كان يقدمها إلى ذلك الرجل المرموق ، ولقد طمنا نحن بأنه لم يدخل إليه منذ ذلك الوقت سوى جماعة واحدة من الافرنج. لكن ذلك المشهد قد تبدل اليوم إلى حد كبير ـ فقد أتى الطاعون على جميع السكان الأوباش في هذه المحلة ، وأثر الغرق في كل بيت من بيوتها تقريبا عدا المرقد ، وملحقاتها المباشرة ، الذي ازدادت شهرته وقدسيته بمناعته هذه التي تعزى بلا شك إلى عمق الأسس التي يستند عليها ومتنانتها ـ إذ لم يبق من المحلة سوى جدران متهدمة وبضعة بيوت جديدة شيدت بعد النكبة. ولم يعد أحد من المدافعين الأشقياء الذين كانوا يدافعون عنها ، ولذلك تجدها اليوم مفتوحة لكل من يرغب في زيارتها.

وقد كنا الجماعة الثالثة التي أبدت رغبتها في مشاهدة المكان ، فطالب النقيب في بادىء الأمر بالهدايا التي أثبت لنا أنه قد تسلمها من المستر ريچ. على أنني حينما أخبرته بأننا لم نكن سوى سياح بسيطين لم نكن نعلم بأننا يجب أن ندفع مثل هذه الأجور الباهظة عن الزيارة ، برغم رغبتنا في إشباع حب الاستطلاع الذي يساورنا ، أجابنا بجواب لطيف ، فذهبنا إليه. وقد استقبلنا برقة المتفضل علينا في غرفة صغيرة حقيرة كانت جدرانها مبنية من الطابوق غير

__________________

(١) Claudius Rich المقيم البريطاني المشهور الذي شغل مقيمية بغداد في ١٨٠٨ ـ ١٨٢١ م وتجول في شمال العراق خلال مدة وجوده وزار بابل فكتب عن ذلك رحلته المشهورة. وقد انتهت أيامه ببغداد بالنزاع الذي نشب بينه وبين داود باشا في ١٨٢٠ ـ ١٨٢١ م.

١٦٩

المبيض. وإذا كان هذا يعزى إلى الظهور بمظهر متواضع فإن ملابسه الشخصية لم تكن تؤيد ذلك. لأنه كان يرتدي ألبسة حريرية فاخرة وفروا ثمينا ، وكان يضع فوق رأسه عمامة بديعة من الشال الكشميري ـ التي تكاد لا تتفق مع المظهر الذي يظهر به الدراويش. غير أن الأولياء والقديسين في هذه الأيام يتمتعون بامتيازات غير يسيرة ، ويقال إن هذا الرجل بالذات يتمتع بثراء فاحش. وقد كان حديثه متحفظا نوعا ما ، فأظهر لنا ما يعبر عن نكران للذات من العواطف التي لم تكن بالتأكيد خارجة من القلب لأنه في قرارة نفسه كان من الخارجين المشهورين على القانون ، وخاصة للمشروبات القوية التي كان يضمر إعجابا شديدا بها. فإنني أعتقد في الحقيقة أن هذه المحلة كانت في أيام عزها تستهلك مقدارا من الخمر والعرق يزيد على ما كان يستهلك منهما في المدينة كلها. وكان النقيب شخصيا رجلا جسيما ، طويل القامة ، أبيض البشرة ، له أنف أقنى وعينان زرقاوان كبيرتان ، وشكل رقيق الشمائل.

وبعد تقديم الشطب للتدخين وتناول القهوة ، التي لا بد أن تقدم في كل زيارة تركية ، توجهنا إلى المرقد والجامع اللذين كانا يستحقان تحمل الإزعاج والمشقة من أجلهما. إذ يوجد القبر في الداخل تحت قبة في جناح مثمن الجوانب (أو مربع) ، مزين كالمعتاد بالآجر القاشاني ، الذي كتبت عليه آيات من القرآن الكريم ، ومفروش فرشا لا بأس به بالسجاد. ويقوم من فوقه سرادق من الحرير الأخضر ، كما تحيط به شبابيك عالية من الفضة الصلبة. والغريب في الأمر أن هذه الشبابيك كانت هدية من أحد اليهود لهذا المرقد. وقد كان هذا الشخص (١) صرافا لأحد الباشوات ، وفي أحد الأيام اصطحبه سيده في زيارة تعبدية لهذا المرقد فأخبر هناك بأن من عادة الغرباء أن يقدموا هدية من

__________________

(١) ربما كان هذا الصراف اليهودي إسحاق الذي كان مقربا عند داود باشا ومن مشاوريه الخاصين على ما تقول بعض الروايات ، حتى أنه استشاره في قضية مقتل صادق أفندي القبوجي المار ذكره في هذه الرحلة. أو قد يكون الخوجة يعقوب الصراف اليهودي الذي كان مقربا عند سليمان باشا الكبير الذي حكم قبل داود بمدة طويلة ، أي في أواخر القرن الثامن عشر ، وعلى كل فنحن لا نعلم مقدار الصحة في هذا الخبر.

١٧٠

الهدايا في أثناء الزيارة ، وسئل عن الشيء الذي كان مستعدا لتقديمه. فأجاب يقول «ان العادة إذا كانت كذلك فلا بد لي أن أتقيد بها بطبيعة الحال. دعوني أفكر قليلا ، إن هذه الشبابيك مصنوعة من النحاس في الوقت الحاضر ، نعم إنني مستعد للصرف على استبدالها بالفضة .. فقوبل سخاء اليهودي بالترحيب الكثير ، وربما لم يخسر كثيرا في النهاية على كل حال.

أما الجامع فهو بناية كبيرة جدا تشغل قسما غير يسير منها شرفات ومصليات جانبية ، على أنه يوجد في وسطه تحت القبة مباشرة فسحة يشغلها جناح واسع عال جدا. وهذه الغرفة ، المربعة التي يتراوح طول الضلع الواحد منها بين السبعين والثمانين قدما ، تضاء إضاءة حسنة بشبابيك موجودة في أعلاه ، ومجهزة من أجل الليل بعدد من المصابيح المدلاة من السقف. وقد زين القسم الأسفل من الجدران الجانبية والمكتب ، أو مكان القراءة ، بالآجر القاشاني وفرش فرشا بديعا بالسجاد بحيث يبدو الوضع العام فيه وكأنه غرفة استقبال مريحة وليس محل عبادة عار عن كل شيء كما هي العادة في كثير من الأحيان. والمقول ان هذا الجامع يمكن أن يتسع لثلاثة آلاف شخص في وقت واحد في أثناء الصلاة. ويحاط الجامع بمربع من الأجنحة التي تحتوي على حجر تشبه حجر الخانات ، وهذه يمكن أن يسكن فيها الزوار القادمون من مختلف البلاد ويطعمون من واردات المؤسسة التي يقال إنها كثيرة جدا. وقد فتشت بين الهنود الذين كانوا هنا على أناس من جهات الهند التي أعرفها ، وخاصة من دلهي ، لكنني لم أجد غير رجل واحد فقط كان قد ترك البلاد منذ أيام أو كترلوني.

وقد قادتنا جولة أخرى من جولاتنا في المدينة إلى ارتقاء المنارة القديمة التي ألمع إليها بكنغهام في رحلته ، فشاهدنا من قمتها منظرا عاما لسطوح البيوت في بغداد وبعض الأسواق القريبة منا ، التي كانت مكتظة بالناس. غير أنه لما كان مثل هذا المنظر العام في بلدة شرقية لا يمكن أن يكون طريفا جدا ، عدا في الصباح الباكر أحيانا ، فإننا لم نبق كثيرا فوق القمة. فذهبنا من هناك إلى دار رجل من رجال الدين الفرنسيين ، وهو القسيس العام لجميع الكاثوليك

١٧١

الموجودين في هذا الجزء من العالم. والحقيقة أن طائفته هنا صغيرة ، لا تتجاوز في عددها الألف نسمة في بغداد من جميع الأنواع والأعمار. وليس من المحتمل على ما يظهر أن يحصل تحسن في ظروف وأحوال كنيسة روما في الشرق ، حيث إنه يقول إنه ليس هناك من بين الأديرة الخمسة الموجودة في أصفهان سوى دير واحد لم يتهدم ، وهذا على ما أعتقد يشغله خادمان فقط. وقد كان في الكنيسة هنا ، وهي بناية واهية جدّا ، شيء واحد فقط يستحق المشاهدة وهو صورة كان قد جيء بها قبل مدة طويلة من البصرة ، وهي جميلة جدا على ما أرى. فهي تمثل العذراء وطفلا واقفا وفي يده بعض الأزهار أو طير من الطيور كما أظن. وقد علمت أن الهولانديين جاءوا بها إلى البصرة قبل مئة سنة تقريبا.

وكان صديقنا القس على درجة كافية من اللطف ، لكنه كان كثير الكلام والتحسر على نفسه لأنه بقي مدة طويلة في هذه البلاد المتوحشة ، التي لا يعمل فيها رئيسا لكنيسة روما فحسب ، وإنما يتولى أيضا وكالة البابا والحكومة الفرنسية كذلك. لكن هذه الجهات كلها لا تدفع له شيئا كافيا من المال لأنه يضطر لإعاشة نفسه بوسائل أخرى. ومن أجل هذا تراه يتشدد مع أفراد طائفته ، ولا يخرج أحد من الاعتراف دون أن يدفع شيئا غير يسير من المال لهذا الوكيل الأرضي. وهناك أسرة من الأسر جعل مكانها حرجا في هذا العالم لكونه يأبى السماح لرئيسها الذي مات مؤخرا بالخروج من سجن المطهر ما لم يدفعوا له مبلغا محترما من المال ـ إنه يقول إن الرجل كان كثير الذنوب ، وإن ضميره لا يطاوعه في إطلاق سراح روحه المسكينة من دون تعويض أو ترضية فريدة في بابها.

١٧٢

(٩)

محاصرة عنزة للمدينة ـ الحالة في العتبات ـ أسبابها ـ تجاوزات اليرماز ـ وفاة شاه إيران ـ النزاع مع عقيل ـ تاريخ القبيلة ـ توطنهم في بغداد ـ طلب الباشا إليهم مغادرة بغداد ـ رفضهم لذلك ـ عصيان القبيلة وتجمعها ـ قطع الجسر وبداية المعركة ـ رفضهم لذلك ـ عصيان القبيلة وتجمعها ـ قطع الجسر وبداية المعركة ـ أخبار مختلفة ـ استخدام زورق المقيمية ـ عبوره ـ إنزال الجند ـ هجوم على الجسر ـ النهب والهرج ـ شائعات وأخبار ـ السلب ـ عقيل تغادر بغداد ـ خسائر الجيش ـ فظاعات الجند.

١ الأربعاء : ٢٨ تشرين الثاني ١٨٣٤ م

إن الدور الذي لعبه الشيخ صفوگ وقبيلته الجربا من قبل تقوم بدور مثله الآن قبيلة عنزة. فقد كانت بغداد منذ أن وصلنا إليها في حالة حصار فعلي. إذ لم يكن بوسع أحد أن يخرج إلى مسافة مهما كانت قريبة من الأسوار من دون أن يتعرض إلى السلب على أغلب الاحتمال ، ولا سيما في الجانب الغربي من النهر. وقد كنت أتوق للذهاب إلى عقرقوف (١) ، موقع الخرائب الأثرية

__________________

(١) جاء في الصفحة ٣ من نشرة مديرية الآثار العامة عن عقرقوف أن هذا الموقع عرف «.. باسم عقرقوف منذ أزمان بعيدة. وقد زاره منذ منتصف القرن السادس عشر سياح كثيرون من مختلف الأمم ، وقد ظن بعضهم خطأ أن «البرج المدرج» هو برج بابل المذكور في التوراة. ثم عين بوجه صحيح منذ منتصف القرن الماضي بأنه موضع المدينة الكشية (القصية) المهمة المعروفة باسم «دور كوريكالزو». هذا وقد أيدت التقنيات التي قامت بها مديرية الآثار العامة حديثا هذا التعيين ، وإن زمن تأسيس المدينة يعود إلى عهد الملك كوريكالزو الأول في بداية القرن الخامس عشر قبل الميلاد وأنه ظل مأهولا إلى العصور المتأخرة مثل العهد البابلي المتأخر ـ

١٧٣

المعروف ، المعاصر لخرائب بابل والذي يعتقد الكولونيل تايلور أنه موقع أكد الوارد ذكرها في الكتاب المقدس. لكن أصدقاءنا رجال عنزة قد جعلوه مركزا لتجمعهم ، فلم نجرأ على الخروج إلى هناك. وقد مدّوا رواق سيطرتهم الآن عبر الجزيرة الواقعة ما بين دجلة والفرات ، واستولوا على طريق الحلة بحيث لا يمكن لأي أحد أن يذهب في ذلك الاتجاه ـ والحقيقة ان كل شيء غير آمن هنا ، لأنهم ليسوا وحدهم ، بل كل وغد من الناس وكل لص في بغداد أو فيما حولها قد خرج للسلب باسمهم أيضا. فعاد الكثيرون من المساكين وقد سلبت حتى ملابسهم ، ولم يعد بوسع أية قافلة ليست معها قوة كبيرة أن تسير في ذلك الاتجاه. ويقال إن الپاشا يقوم بمفاوضة قبيلة عنزة ، ويحاول جريا على خطته السابقة أن يزرع بذور الخلاف بين عدد من أجزاء العشيرة. وقد دعي كالمعتاد عشيرة أخرى لمساعدته كذلك ، وهي عشيرة زبيد. ولا شك أن هذا يعود بالوبال عليه وعلى البلاد بوجه عام ، ولكن هذه هي سياسته السقيمة. على أن رجال عنزة ، أو الذين ينتحلون اسمهم ، لا يعبأون إلا قليلا على ما يبدو بهذه المفاوضات. فقد سلب عدد من رجال الپاشا نفسه في أماكن قريبة من أبواب المدينة ، وكان من بينهم يوسف بك الذي يحمل لقب «باب العرب (١)» أي الموظف الرسمي الذي يتوسط بين الپاشا وبينهم ، بعد أن كان من مصاحبي الپاشا نفسه. فأغاظ هذا سموه بحيث صار يقول الآن إنه سوف لا يتعامل معهم مطلقا. وقبل يومين فقط سمع كذلك صوت إطلاق النار في الجانب الغربي من النهر ، بالقرب من تربة زبيدة ، فتبين أن فريقا سلابا من عنزة هاجم المنطقة إلى حد الأسوار نفسها فاستولى على جميع ما فيها من إبل وأغنام وما أشبه.

__________________

ـ (١١٠٠ ـ ٥٣٨ ق م) والعهد الفارسي الإخميني (٥٣٨ ـ ٣٣١ ق م). ووجدت آثار سكنى مهمة من العهود العربية الإسلامية. والمعروف من الكتابة الموجودة في باب خان مرجان ان عقرقوف كان من جملة الأوقاف التي أوقفت على جامع مرجان وخان مرجان.

(١) هو الموظف العربي في ديوان الباشا الذي تراجعه القبائل العربية في شؤونها مع الحاكم. وقد شغل هذه الوظيفة البعض من أبناء أسرة الشاوي المعروفة.

١٧٤

ويصعب هذا كله على السياح من مثلي الذين يعد التأخير بالنسبة لهم شيئا متعبا وخطرا. هو خطر على الأخص بالنسبة للعدد الكبير من الزوار الإيرانيين كذلك ، الذين يأتون من بلاد بعيدة لزيارة العتبات المقدسة في كربلاء والنجف الأشرف ، فقد عاد أولئك الذين دفعتهم حماستهم منهم إلى التجاسر على سلطة الأعراب وقد سلبوا إلى حد العري ، ومن دون أن يروا العتبات بأعينهم. ومن الحقائق التي تدل على ضعف الحكومة التركية التام في هذه الولاية أن جميع العتبات التي لها قدسية خاصة تقريبا قد جعلت ملاذا لشر الناس في المجتمع وأكثرهم تفاهة ، ولا تزال في وضعها هذا حتى الآن. ومن المحتمل أن يكون هذا قد نشأ عن طبيعة الحماية التي تقدمها هذه الأماكن للناس من دون تفريق بينهم ، ولأن هذه الحماية يستغلها في الدرجة الأولى أسوأ الخارجين على القانون من الناس بطبيعة الحال. لكنه على كل امتياز لا يسمح «المتولي» ، ورجال الدين أو خدام الحضرة ، للسلطات الزمنية أن تتعرض له. وهكذا يتجمع أصحاب السوء ـ وقد يدفعون الكثير من المال من أجل الحصول على الحماية ـ حتى يكون في مقدورهم الهيمنة عليها كما هي الحال في محلة (١) الشيخ عبد القادر ببغداد نفسها. وقد حصل مثل هذا الوضع كذلك في النجف وكربلاء معا ، ولكن بمقياس أوسع وحالة أسوأ بكثير. إذ ازداد عدد المتمردين المتجمعين هناك بحيث لم يعد من الممكن لحاكم المنطقة ولا لسلطة الپاشا أن تسيطر عليهم. وهؤلاء لا يفعلون ما يريدون فحسب ، بل كانوا أيضا يطلبون من الزوار الذين يأتون لزيارة العتبات المقدسة الإذعان لأوحش الطلبات وأبعدها عن المألوف والمعقول ، وفي حالة عدم الانصياع كانوا ينهبون أمتعتهم ويجردونهم حتى من ألبستهم ، كما يسلبونهم زوجاتهم وبناتهم في بعض الأحايين. وقد استفحل هذا الشر لدرجة اضطر فيها داود پاشا نفسه إلى تجريد قوة ضد هؤلاء في النجف ، فنجح في إخضاعهم للطاعة.

__________________

(١) باب الشيخ

١٧٥

ولا تزال كربلاء في حالة ثورة (١). فلم يستطع اليرماز والقتلة والسفهاء الذين يكوّنون عددا كبيرا فيها ، من صد الجيش الذي جرده الپاشا عليهم فقط بل أصبحوا أيضا يهيمنون هيمنة تامة على البلدة كلها بحيث لم يكن بوسع أحد أن يعصي لهم أمرا أو يتحداهم من دون أن ينال جزاءه. فقد ابتدعوا طريقة سرية للاتصال والتفاهم فيما بينهم لا يحيط بها غير الداخلين في زمرتهم ، وبواسطتها يستطيعون أن يجمعوا في أي مكان كان قوة غير يسيرة بأسرع ما يمكن. ولذلك كان الناس المحترمون يخشونهم بحيث لا يجرأون على بذل أي مجهود أو اتخاذ أي إجراء من الإجراءات لمعارضتهم وحتى لحماية أنفسهم منهم. فقد حدث قبل مدة غير طويلة أن غضب هؤلاء على نواب (٢) هندي كان

__________________

(١) جاء في إحدى المخطوطات التاريخية (مجهولة المؤلف) التي ينقل نصها كتاب (تاريخ العراق بين احتلالين ج ٧) ذكر مفصل لحالة كربلاء في هذا الدور ، وللثورة المشار إليها. فيقول صاحب المخطوطة : «بلدة كربلاء كانت عاصية على وزراء بغداد ، فسير نجيب باشا إليها ، وحاصرها وكان بها السيد الزعفراني .. ترأس على أو باشها وسفهائها ، وأطاعه أراذل البلد وعامتها من أيام داود كانوا عاصين ، إلا أنهم يؤدون شيئا قليلا عوض خراجها ، وكل من يعمل مفسدة من العراق ، أو يأكل أموال الناس ، يذهب إلى كربلاء ويجار بهؤلاء الأراذل حتى اجتمع عندهم مقدار عشرة آلاف مقاتل من اجلاف الناس وعصمت أيام داود باشا ، وزمان علي باشا أيضا ..

في كربلاء حتى أنهم أمسكوا مرة أحد مجتهديهم السيد إبراهيم القزويني ليلاع ولم يطلقوه حتى أدى لهم أربعة آلاف قران من سكة محمد شاه ... وكانوا مفسدين ذوي جرأة على أعراض الناس ، وأهل البلد يهابونهم ، ويخافون على أنفسهم ، لأنهم متى أرادوا هجموا على بيت أحدهم ونهبوه. والحاكم هو من أهل البلد طوع أيديهم .. وفي أيام علي باشا حاصرها وخرج إليه سادات البلد ، وعلماؤهم ، وتكفلوا له بزيادة الإيراد ، فارتحل عنهم. وكان لا يبالي بعصيانهم ومرامه الدراهم فقط ، وقد أدوا له سبعين ألف قران المثل اثنين عما يؤدونه إلى داود باشا ، فرضي وتركهم.»

(٢) لا تزال أسر النوابين التي استوطنت كربلاء وبغداد بعد هجرتها من الهند موجودة في المدينتين حتى الآن.

١٧٦

قد أقام في كربلاء منذ عدة سنوات ، فهاجموا بيته ونهبوه ثم أخذوا البيت منه ودمروا ممتلكاته من دون أن يكون بوسع أي أحد منعهم أو التصدي لهم بشيء ، فاضطر النواب المسكين إلى الهزيمة والنجاة بنفسه إلى بغداد التي لم يزل يقيم فيها على ما أعلم. وهم يذهبون في فسادهم وخلاعتهم حتى إلى حد أنهم ، حينما يعلمن أن أحد الزوار يصطحب معه زوجة جميلة أو أختا حسناء ، يبعثون ليأتون بها إليهم. وحينما يرفض ذلك يعمدون إلى سرقتها منه بحيلة من الحيل أو إلى اغتصابها بالقوة. وكثيرا ما كان يحدث هناك أن تفقد زوجات بعض الناس على هذه الشاكلة لمدة أسبوع أو أكثر ، فيعدن إلى أهلهن بعد ذلك بحالة يرثى لها ، فقد سمعت أحد الإيرانيين أنا بنفسي يتذمر من معاملة زوجته بهذه الطريقة. وبعد ، أليست هذه حالة وتدعو بصراحة إلى الاقتصاص والإصلاح؟ إنها واحدة من ألف حالة من حالات سوء الحكم والفوضوية التي تلفت نظر أولئك الذين يمرون بالبلاد ، وتدل على تعاسة سكانها وشقائهم.

٢ أول كانون الثاني

لا يزال الأعراب مرابطين في عقرقوف وعلى الطريق الموصل إلى الحلة بحيث تستحيل السفرات إلى تلك الجهات الآن. غير أنه قد تأكد لدى الناس أنهم أخذوا يتنازعون فيهم بينهم ، ولا أدري إذا كان ذلك يعزى إلى تأثيرات سياسة الپاشا فيهم أو إلى قلة ما يتيسر من العنف والسلب. ومع كل هذا فإنهم ما زالوا يسيطرون على الريف من دون معارضة إلى حد أبواب المدينة نفسها.

لقد وردت رسائل من ششتر تدل على أن إيران تعاني أشد حالات الفوضى والاضطراب في الوقت الحاضر ، وأن عدة قوافل قد نهبت حتى استحال خروج أحد في الطريق. وتتفق الروايات الواردة من همذان وكرمنشاه مع هذه الأخبار أيضا ، ولم يتأيد غير ذلك سوى وفاة الشاه (١) في أصفهان.

__________________

(١) المعروف في التاريخ الإيراني أن فتح علي شاه القاجاري توفي سنة ١٨٣٤ م في الثامنة والستين من عمره بعد أن ظل متربعا على دست الحكم في إيران سبعا وثلاثين سنة. فأعقب ذلك نزاع عائلي على الحكم بين الأبناء. بدأه فرمان فرما حاكم فارس ـ

١٧٧

٣ كانون الأول

يبدو من أخبار إيران الواردة إلى هنا كلها أنها تؤيد خبر توجه حسين علي ميرزا على طهران وإعلان نفسه ملكا فيها ، وتشير إلى أن أخاه حسن مرزا قد انضم إليه وسل سيفه بعد ذلك فقطع رؤوس عدد من الأمراء الذين كانوا قد رفضوا الاعتراف بأخيه أو كان يشك بأن لهم آراء خاصة به ، وأن أمين الدولة قد انضم إليه أيضا مع بعض النبلاء الأقوياء ، واستولى على القصر في طهران مع الخزينة ، وأنه لم يسمع شيئا عن ولي العهد محمد علي مرزا ، وأن الحالة

__________________

ـ وظل السلطان حاكم طهران ، اللذان أعلنا مطالبتهما بالعرش. غير أن تدخل الإنكليز والروس في الأمر أدى في النهاية إلى أن يسير ولي العهد على رأس قوة غير يسيرة ، بقيادة السر هنري لندزي بيثون ، فيحتل طهران وينصب ملكا فيها باسم محمد شاه. وقد كان يصحب الحملة أيضا الوزير المفوض الروسي في إيران. (عن تاريخ إيران ج ٢ للسر بيرسي سايكس).

١٧٨

في كرمنشاه لا تزال هادئة ، لكن القبائل قد خرجت عن الطوق وأخذت تنهب يمينا وشمالا بحيث لم يعد المسافرون يأمنون على أنفسهم. وكان أحد الرسل الذين جاءوا بهذا الخبر قد التقى بالقرب من بغداد بقافلة كانت فيها بنت من بنات الشاه السابق ، وهي عائدة من الزيارة في كربلاء. فأمرت بجدع أنفه وقطع أصبع من أصابعه للأخبار السيئة التي كان يحملها ، فوصل إلى بغداد بهذه الحالة.

٤ كانون الأول

لقد انقطعت وتيرة السأم والاطراد في هذا اليوم بحدوث حادث لم يكن من المنتظر أن يحدث ـ وهو حصول قتال بين الأعراب في داخل أسوار بغداد. ولكن قبل أن آتي على وصف المعركة يجب أن أشرح الأسباب التي أدت إلى وقوعها.

١٧٩

فقد كانت الأحوال بين الپاشا وقبيلة عنزة تزداد سوءا على سوء في كل ساعة منذ مدة غير يسيرة ، وظل إقلاق البلاد والعبث بها يزداد شدة واتساعا بحيث إن أشخاصا محترمين قد سلبوا في أبواب المدينة نفسها. وانقسمت العشيرة على نفسها إلى عدة جماعات ، حتى صار من الممكن أن تشترك القبائل العربية الأخرى في النزاع أيضا فتشتعل عند ذلك بلاد ما بين النهرين كلها. وقد حدث في الأخير أن سلب عدد من ضباط الپاشا نفسه بالقرب من المدينة ، ودلت التحريات على أن هذا الانتهاك قد أقدمت عليه جماعة من قبيلة عقيل ، التي كانت تعيش في القسم الغربي (١) من المدينة ، فقرر الپاشا وقد ثارت ثائرته لهذه الإهانة الصادرة منهم أن ينتقم انتقاما عاجلا من الفاعلين.

وهؤلاء الأعراب هم جزء من عشيرة كبيرة قوية تقيم في نجد ، وبنتيجة اتفاق عقد قبل ستين سنة مع سليمان پاشا احتكروا حراسة القوافل ودلالتها ما بين هذا المكان وحلب ودمشق. ولأجل أن يتسنى لهذه العشيرة أن تزود القوافل بالعدد الكافي من الأدلاء المطلوبين اعتادت أن تبقي على الدوام عددا معينا من أفرادها في بغداد برعاية شيخ منهم ، لكنهم لم يسمح لهم إلا مؤخرا بالإقامة في داخل الأسوار. على أن نزاعا قد نشب في هاتين السنتين أو الثلاث ، بسبب خصومة قديمة كانت موجودة بينهم وبين جماعة أخرى. وإذ كان العقيل غير مكتفين بطرد خصومهم تصدوا لقافلة غنية كان خصومهم هؤلاء يشرفون على حراستها من حلب إلى ما يقرب من بغداد ، وأعلنوا أنهم ما لم تلب مطاليبهم جميعا فإنهم سينهبون القافلة ويتركون البلاد. ولما كان الپاشا أضعف من أن يستطيع حماية القافلة ، التي كان ينتظر وصولها إلى بغداد بصبر نافذ لأنه كان يعلم بأن الرسوم التي سوف تجبى منها فتذهب إلى جيبه تؤلف مبلغا لا يستهان به ، فقد أذعن لطلباتهم جميعا. وقد كان من بين الأشياء الكثيرة التي تساهل بها معهم السماح لفريق من القبيلة بالإقامة في بغداد بشرط أن يظلوا بالكلية مقيمين في الجانب الغربي من النهر.

__________________

(١) أي في جانب الكرخ بطبيعة الحال.

١٨٠