آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٨٤
للشيء كمال له ، والشيء الذي يقصد بالحركة حالا من الأحوال ، كالجسم مثلا ، يقصد مكانا ليتمكن فيه فيسلك إليه ، كان كل من السلوك والتمكن في المكان الذي يسلك إليه ، كمالا لذلك الجسم ، غير أن السلوك كمال أول لتقدمه والتمكن كمال ثان ، فإذا شرع في السلوك فقد تحقق له كمال لكن لا مطلقا ، بل من حيث إنه بعد بالقوة ، بالنسبة إلى كماله الثاني ، وهو التمكن في المكان الذي يريده ، فالحركة كمال أول لما هو بالقوة ، بالنسبة إلى الكمالين ، من حيث إنه بالقوة بالنسبة إلى الكمال الثاني.
وقد تبين بذلك ، أن الحركة تتوقف في تحققها على أمور ستة ، المبدأ الذي منه الحركة ، والمنتهى الذي إليه الحركة ، والموضوع الذي له الحركة وهو المتحرك ، والفاعل الذي يوجد الحركة وهو المحرك ، والمسافة التي فيها الحركة ، والزمان الذي ينطبق عليه الحركة نوعا من الانطباق ، وسيجيء توضيح ذلك.
الفصل الرابع
في انقسام الحركة إلى توسطية وقطعية
تعتبر الحركة بمعنيين أحدهما ، كون الجسم بين المبدإ والمنتهى ، بحيث كل حد فرض في الوسط ، فهو ليس قبله ولا بعده فيه ، وهو حالة بسيطة ثابتة لا انقسام فيها ، وتسمى الحركة التوسطية.
وثانيهما الحالة المذكورة ، من حيث لها نسبة إلى حدود المسافة ، من حد تركها ومن حد لم يبلغها ، أي إلى قوة تبدلت فعلا ، وإلى قوة باقية على حالها بعد ، يريد المتحرك أن يبدلها فعلا ، ولازمه الانقسام إلى الأجزاء ، والانصرام والتقضي تدريجا ، كما أنه خروج من القوة إلى الفعل تدريجا ، وتسمى الحركة
القطعية ، والمعنيان جميعا موجودان في الخارج ، لانطباقهما عليه بجميع خصوصياتهما.
وأما الصورة التي يأخذها الخيال من الحركة ، بأخذ الحد بعد الحد من الحركة وجمعها فيه ، صورة متصلة مجتمعة منقسمة إلى الأجزاء ، فهي ذهنية لا وجود لها في الخارج ، لعدم جواز اجتماع الأجزاء في الحركة ، وإلا كان ثباتا لا تغيرا.
وقد تبين بذلك ، أن الحركة ونعني بها القطعية ، نحو وجود سيال منقسم إلى أجزاء ، تمتزج فيه القوة والفعل ، بحيث يكون كل جزء مفروض فيه ، فعلا لما قبله من الأجزاء وقوة لما بعده ، وينتهي من الجانبين إلى قوة لا فعل معها ، وإلى فعل لا قوة معه.
الفصل الخامس
في مبدإ الحركة ومنتهاها
قد عرفت (١) أن في الحركة انقساما لذاتها ، فاعلم أن هذا الانقسام لا يقف على حد ، نظير الانقسام الذي في الكميات المتصلة القارة ، من الخط والسطح والجسم ، إذ لو وقف على حد كان جزءا لا يتجزأ ، وقد تقدم بطلانه (٢).
وأيضا هو انقسام بالقوة لا بالفعل ، إذ لو كان بالفعل بطلت الحركة ، لانتهاء القسمة إلى أجزاء دفعية الوقوع.
وبذلك يتبين ، أنه لا مبدأ للحركة ولا منتهى لها ، بمعنى الجزء الأول
__________________
(١) في الفصل السابق.
(٢) في الفصل الثالث من المرحلة السادسة.
الذي لا ينقسم ، من جهة الحركة والجزء الآخر الذي كذلك ، لما عرفت آنفا أن الجزء بهذا المعنى ، دفعي الوقوع غير تدريجية ، فلا ينطبق عليه حد الحركة ، لأنها تدريجية الذات.
وأما ما تقدم (١) ، أن الحركة تنتهي من الجانبين ، إلى قوة لا فعل معها وفعل لا قوة معه ، فهو تحديد لها بالخارج من ذاتها.
الفصل السادس
في موضوع الحركة وهو المتحرك الذي يتلبس بها
قد عرفت (٢) أن الحركة ، خروج الشيء من القوة إلى الفعل تدريجا ، وأن هذه القوة يجب أن تكون محمولة ، في أمر جوهري قائمة به ، وهذا الذي بالقوة كمال بالقوة للمادة متحد معها ، فإذا تبدلت القوة فعلا ، كان الفعل متحدا مع المادة مكان القوة ، فمادة الماء مثلا هواء بالقوة ، وكذا الجسم الحامض حلو بالقوة ، فإذا تبدلت الماء هواءا والحموضة حلاوة ، كانت المادة التي في الماء هي المتلبسة بالهوائية ، والجسم الحامض هو المتلبس بالحلاوة ، ففي كل حركة موضوع ، تنعته الحركة وتجري عليه.
ويجب أن يكون موضوع الحركة أمرا ثابتا ، تجري وتتجدد عليه الحركة ، وإلا كان ما بالقوة غير ما يخرج إلى الفعل ، فلم تتحقق الحركة التي هي ، خروج الشيء من القوة إلى الفعل تدريجا.
ويجب أن لا يكون موضوع الحركة ، أمرا بالفعل من كل جهة ، كالعقل
__________________
(١) في الفصل السابق.
(٢) مرّ الأول في الفصل الثالث ، والثاني في الفصل الأول.
المجرد إذ لا حركة إلا مع قوة ما ، فما لا قوة فيه فلا حركة له ، ولا أن يكون بالقوة من جميع الجهات ، إذ لا وجود لما هو كذلك ، بل أمرا بالقوة من جهة وبالفعل من جهة ، كالمادة الأولى التي لها قوة الأشياء ، وفعلية أنها بالقوة ، وكالجسم الذي هو مادة ثانية ، لها قوة الصور النوعية والأعراض المختلفة ، وفعلية الجسمية وبعض الصور النوعية.
الفصل السابع
في فاعل الحركة وهو المحرك
يجب أن يكون المحرك غير المتحرك ، إذ لو كان المتحرك ، هو الذي يوجد الحركة في نفسه ، لزم أن يكون شيء واحد ، فاعلا وقابلا من جهة واحدة وهو محال ، فإن حيثية الفعل هي حيثية الوجدان ، وحيثية القبول هي حيثية الفقدان ، ولا معنى لكون شيء واحد ، واجدا وفاقدا من جهة واحدة.
وأيضا المتحرك هو بالقوة بالنسبة إلى الفعل ، الذي يحصل له بالحركة وفاقد له ، وما هو بالقوة لا يفيد فعلا.
ويجب أن يكون الفاعل القريب للحركة ، أمرا متغيرا متجدد الذات ، إذ لو كان أمرا ثابت الذات من غير تغير وسيلان ، كان الصادر منه أمرا ثابتا في نفسه ، فلم يتغير جزء من الحركة إلى غيره من الأجزاء ، لثبات علته من غير تغير في حالها ، فلم تكن الحركة حركة هذا خلف.
الفصل الثامن
في ارتباط المتغير بالثابت
ربما قيل إن وجوب استناد المتغير المتجدد ، إلى علة متغيرة متجددة مثله ، يوجب استناد علته المتغيرة المتجددة أيضا ، إلى مثلها في التغير والتجدد وهلم جرا ، ويستلزم ذلك أما التسلسل أو الدور ، أو التغير في المبدإ الأول تعالى عن ذلك.
وأجيب بأن التجدد والتغير ، ينتهي إلى جوهر متحرك بجوهره ، فيكون التجدد ذاتيا له ، فيصح استناده إلى علة ثابتة توجد ذاته ، لأن إيجاد ذاته عين إيجاد تجدده
الفصل التاسع
في المسافة التي يقطعها المتحرك بالحركة
مسافة الحركة هي ، الوجود المتصل السيال ، الذي يجري على الموضوع المتحرك ، وينتزع منه لا محالة مقولة من المقولات ، لكن لا من حيث إنه متصل واحد متغير ، فإن لازمه وقوع التشكيك في الماهية وهو محال ، بل من حيث إنه منقسم إلى أقسام آنية الوجود ، كل قسم منه نوع من أنواع المقولة مبائن لغيره ، كنمو الجسم مثلا فإنه حركة منه في الكم ، يرد عليه في كل آن من آنات الحركة ، نوع من أنواع الكم المتصل ، مبائن للنوع الذي ورد عليه في الآن السابق ، والنوع الذي سيرد عليه في اللاحق.
فمعنى حركة الشيء في المقولة ، أن يرد على الموضوع في كل آن ، نوع من أنواع المقولة ، مبائن للنوع الذي يرد عليه في آن غيره.
الفصل العاشر
في المقولات التي تقع فيها الحركة
المشهور بين قدماء الفلاسفة ، أن المقولات التي تقع فيها الحركة أربع مقولات ، الأين والكيف والكم والوضع.
أما الأين فوقوع الحركة فيه ظاهر ، كالحركات المكانية التي في الأجسام ، لكن في كون الأين مقولة برأسها كلام ، وإن كان مشهورا بينهم ، بل الأين ضرب من الوضع ، وعليه فالحركة الأينية ضرب من الحركة الوضعية.
وأما الكيف فوقوع الحركة فيه ، وخاصة في الكيفيات غير الفعلية ، كالكيفيات المختصة بالكميات ، كالاستواء والاعوجاج ونحوهما ظاهر ، فإن الجسم المتحرك في كمه ، يتحرك في الكيفيات القائمة بكمه.
وأما الكم فالحركة فيه ، تغير الجسم في كمه ، تغيرا متصلا بنسبة منتظمة تدريجا ، كالنمو الذي هو زيادة الجسم في حجمه ، زيادة متصلة منتظمة تدريجا.
وقد أورد عليه ، أن النمو إنما يتحقق بانضمام ، أجزاء من خارج إلى أجزاء الجسم ، فالكم الكبير اللاحق هو الكم العارض ، لمجموع الأجزاء الأصلية والمنضمة ، والكم الصغير السابق ، هو الكم العارض لنفس الأجزاء الأصلية ، والكمان متباينان غير متصلين لتباين موضوعيهما ، فلا حركة في كم بل هو زوال كم وحدوث آخر.
وأجيب عنه أن انضمام الضمائم لا ريب فيه ، لكن الطبيعة تبدل الأجزاء المنضمة بعد الضم ، إلى صورة الأجزاء الأصلية ، ولا تزال تبدل وتزيد كمية الأجزاء الأصلية تدريجا ، بانضمام الأجزاء وتغيرها إلى الأجزاء الأصلية ، فيزداد الكم العارض للأجزاء الأصلية ، زيادة متصلة تدريجية وهي الحركة.
وأما الوضع فالحركة فيه أيضا ظاهر ، كحركة الكرة على محورها ، فإنه تتبدل بها نسبة النقاط ، المفروضة عليها إلى الخارج عنها ، وهو تغير تدريجي في وضعها.
قالوا ولا تقع حركة في باقي المقولات ، وهي الفعل والانفعال ، ومتى والإضافة والجدة والجوهر.
أما الفعل والانفعال ، فإنه قد أخذ في مفهوميهما التدريج ، فلا فرد آني الوجود لهما ، ووقوع الحركة فيهما يقتضي الانقسام ، إلى أقسام آنية الوجود وليس لهما ذلك.
وكذا الكلام في متى فإنه ، الهيأة الحاصلة من نسبة الشيء إلى الزمان ، فهي تدريجية تنافي وقوع الحركة فيها ، المقتضية للانقسام إلى أقسام آنية الوجود.
وأما الإضافة فإنها انتزاعية تابعة لطرفيها ، فلا تستقل بشيء كالحركة ، وكذا الجدة فإن التغير فيها تابع لتغير موضوعها ، كتغير النعل أو القدم عما كانتا عليه.
وأما الجوهر فوقوع الحركة فيه ، يستلزم تحقق الحركة من غير موضوع ثابت ، وقد تقدم (١) أن تحقق الحركة موقوف ، على موضوع ثابت باق ما دامت الحركة.
__________________
(١) في الفصل السادس.
الفصل الحادي عشر
في تعقيب ما مر في الفصل السابق
ذهب صدر المتألهين ، ره إلى وقوع الحركة في مقولة الجوهر ، واستدل عليه بأمور أوضحها ، أن وقوع الحركة في المقولات الأربع العرضية ، يقضي بوقوعها في مقولة الجوهر ، لأن الأعراض تابعة للجواهر ، مستندة إليها استناد الفعل إلى فاعله ، فالأفعال الجسمانية مستندة إلى الطبائع والصور النوعية ، وهي الأسباب القريبة لها ، وقد تقدم (١) أن السبب القريب للحركة ، أمر تدريجي كمثلها ، فالطبائع والصور النوعية في الأجسام المتحركة ، في الكم والكيف والأين والوضع متغيرة ، سيالة الوجود كأعراضها ، ولو لا ذلك لم يتحقق سبب لشيء من هذه الحركات.
وأورد عليه أنا ننقل الكلام إلى الطبيعة المتجددة ، كيف صدرت عن المبدإ الثابت وهي متجددة.
وأجيب عنه بأن الحركة لما كانت في جوهرها ، فالتغير والتجدد ذاتي لها والذاتي لا يعلل ، فالجاعل إنما جعل المتجدد لا أنه جعل المتجدد متجددا.
وأورد عليه أنا نوجه استناد ، الأعراض المتجددة إلى الطبيعة بهذا الوجه بعينه ، من غير حاجة إلى جعل الطبيعة متجددة ، فالتجدد ذاتي للعرض المتجدد ، والطبيعة جعلت العرض المتجدد ، ولم تجعل المتجدد متجددا.
وأجيب عنه بأن الأعراض ، مستندة في وجودها إلى الجوهر وتابعة له ،
__________________
(١) في الفصل السابع.
فالذاتية لا بد أن تتم في الجواهر.
وأورد عليه أيضا ، أن القوم صححوا ارتباط ، هذه الأعراض المتجددة إلى المبدإ الثابت ، من طبيعة وغيرها بنحو آخر ، وهو أن التغير لاحق لها من خارج ، كتجدد مراتب قرب وبعد ، من الغاية المطلوبة في الحركات الطبيعية ، وكتجدد أحوال أخرى في الحركات القسرية ، التي على خلاف الطبيعة ، وكتجدد إرادات جزئية منبعثة من النفس ، في كل حد من حدود الحركات النفسانية ، التي مبدؤها النفس.
وأجيب عنه بأنا ننقل الكلام ، إلى هذه الأحوال والإرادات المتجددة ، من أين تجددت ، فإنها لا محالة تنتهي ، في الحركات الطبيعية إلى الطبيعة ، وكذا في القسرية ، فإن القسر ينتهي إلى الطبيعة ، وكذا في النفسانية فإن الفاعل المباشر ، للتحريك فيها أيضا الطبيعة كما سيجيء (١).
ويمكن أن يستدل على الحركة في الجوهر بما تقدم (٢) : أن وجود العرض من مراتب وجود الجوهر ، من حيث كون وجوده في نفسه عين وجوده للجوهر ، فتغيره وتجدده تغير للجوهر وتجدد له.
ويتفرع على ما تقدم أولا ، أن الصور الطبيعية المتبدلة ، صورة بعد صورة على المادة بالحقيقة ، صورة جوهرية واحدة سيالة ، تجري على المادة ، وينتزع من كل حد من حدودها ، مفهوم مغاير لما ينتزع من غيره.
هذا في تبدل الصور الطبيعية بعضها من بعض ، وهناك حركة اشتدادية جوهرية أخرى ، هي حركة المادة الأولى إلى الطبيعية ، ثم النباتية ثم الحيوانية ثم الإنسانية.
وثانيا أن الجوهر المتحرك في جوهره ، متحرك بجميع أعراضه ، لما سمعت
__________________
(١) في الفصل السادس عشر.
(٢) في الفصل الثالث من المرحلة الثالثة.
من حديث كون وجود الأعراض ، من مراتب وجود الجوهر الموضوع لها.
ولازم ذلك كون حركة الجوهر ، في المقولات الأربع أو الثلاث (١) من قبيل الحركة في الحركة ، وعلى هذا ينبغي أن تسمى هذه الحركات الأربع ، أو الثلاث حركات ثانية ، وما لمطلق الأعراض من الحركة ، بتبع الجوهر لا بعرضه حركات أولى.
وثالثا أن العالم الجسماني بمادته الواحدة ، حقيقة واحدة سيالة ، متحركة بجميع جواهرها وأعراضها قافلة واحدة ، إلى غاية ثابتة لها الفعلية المحضة.
الفصل الثاني عشر
في موضوع الحركة الجوهرية وفاعلها
قالوا إن موضوع هذه الحركة ، هو المادة المتحصلة بصورة ما من الصور ، المتعاقبة المتحدة بالاتصال والسيلان ، فوحدة المادة وشخصيتها محفوظة ، بصورة ما من الصور المتبدلة ، وصورة ما وإن كانت مبهمة ، لكن وحدتها محفوظة بجوهر مفارق ، هو الفاعل للمادة ، الحافظ لها ولوحدتها وشخصيتها بصورة ما ، فصورة ما شريكة العلة للمادة ، والمادة المتحصلة بها هي موضوع الحركة.
وهذا كما أن القائلين بالكون والفساد ، النافين للحركة الجوهرية قالوا ، أن فاعل المادة هو صورة ما ، محفوظة وحدتها بجوهر مفارق ، يفعلها ويفعل المادة بواسطتها ، فصورة ما شريكة العلة بالنسبة إلى المادة ، حافظة لتحصلها ووحدتها.
والتحقيق أن حاجة الحركة ، إلى موضوع ثابت باق ما دامت الحركة ، إن كانت لأجل أن تنحفظ به وحدة الحركة ، ولا تنثلم بطرو الانقسام عليها ،
__________________
(١) والتثليث باعتبار رجوع الأين إلى الوضع.
وعدم اجتماع أجزائها في الوجود ، فاتصال الحركة في نفسها ، وكون الانقسام وهميا غير فكي كاف في ذلك ، وإن كانت لأجل أنها معنى ناعتي ، يحتاج إلى أمر موجود لنفسه ، حتى يوجد له وينعته ، كما أن الأعراض والصور الجوهرية المنطبعة ، في المادة تحتاج إلى موضوع كذلك ، توجد له وتنعته ، فموضوع الحركات العرضية أمر جوهري غيرها ، وموضوع الحركة الجوهرية نفس الحركة ، إذ لا نعني بموضوع الحركة ، إلا ذاتا تقوم به الحركة وتوجد له ، والحركة الجوهرية لما كانت ذاتا جوهرية سيالة ، كانت قائمة بذاتها موجودة لنفسها ، فهي حركة ومتحركة في نفسها.
وإسناد الموضوعية إلى المادة التي ، تجري عليها الصور الجوهرية على نحو الاتصال والسيلان ، لمكان اتحادها معها ، وإلا فهي في نفسها عارية عن كل فعلية.
الفصل الثالث عشر
في الزمان
إنا نجد الحوادث الواقعة ، تحت الحركة منقسمة إلى قطعات ، لا تجامع قطعة منها القطعة الأخرى في فعلية الوجود ، لما أن فعلية وجود القطعة المفروضة ثانيا ، متوفقة على زوال الوجود الفعلي للقطعة الأولى ، ثم نجد القطعة الأولى المتوقف عليها ، منقسمة في نفسها إلى قطعتين كذلك ، لا تجامع إحداهما الأخرى ، وهكذا كلما حصلنا قطعة ، قبلت القسمة إلى قطعتين كذلك ، من دون أن تقف القسمة على حد.
ولا يتأتى هذا إلا بعروض امتداد كمي على الحركة ، تتقدر به وتقبل الانقسام ، وليس هذا الامتداد نفس حقيقة الحركة ، لأنه امتداد متعين ، وما
في الحركة في نفسها امتداد مبهم ، نظير الامتداد المبهم الذي في الجسم الطبيعي ، وتعينه الذي هو الجسم التعليمي.
فهذا الامتداد الذي به تعين امتداد الحركة ، كم متصل عارض للحركة نظير الجسم التعليمي الذي به تعين امتداد الجسم الطبيعي ، للجسم الطبيعي ، إلا أن هذا الكم العارض للحركة ، غير قار ولا يجامع بعض أجزائه المفروضة بعضا ، بخلاف كمية الجسم التعليمي ، فإنها قارة مجتمعة الأجزاء.
وهذا هو الزمان العارض للحركة ومقدارها ، وكل جزء منه من حيث أنه ، متوقف عليه الآخر متقدم بالنسبة إليه ، ومن حيث إنه متوقف متأخر بالنسبة إلى ما توقف عليه ، والطرف منه الحاصل بالقسمة هو الآن.
وقد تبين بما تقدم أولا ، أن لكل حركة زمانا خاصا بها ، هو مقدار تلك الحركة ، وقد أطبق الناس على تقدير عامة الحركات ، وتعيين النسب بينها بالزمان العام ، الذي هو مقدار الحركة اليومية ، لكونه معروفا عندهم مشهودا لهم كافة ، وقد قسموه إلى القرون والسنين والشهور والأسابيع ، والأيام والساعات والدقائق والثواني وغيرها ، لتقدير الحركات بالتطبيق عليها.
والزمان الذي له دخل في الحوادث الزمانية ، عند المثبتين للحركة الجوهرية ، هو زمان الحركة الجوهرية.
وثانيا أن التقدم والتأخر ، ذاتيان بين أجزاء الزمان ، بمعنى أن كون وجود الزمان سيالا غير قار ، يقتضي أن ينقسم لو انقسم ، إلى جزء يتوقف على زواله وجود جزء آخر بالفعل ، والمتوقف عليه هو المتقدم والمتوقف هو المتأخر ، وثالثا أن الآن ، وهو طرف الزمان والحد الفاصل ، بين الجزءين لو انقسم هو أمر عدمي ، لكون الانقسام وهميا غير فكي.
ورابعا أن تتالي الآنات ، وهو اجتماع حدين عدميين أو أكثر ، من غير تخلل جزء من الزمان ، فاصل بينهما محال وهو ظاهر ، ومثله الكلام في تتالي الآنيات ، المنطبقة على طرف الزمان كالوصول والافتراق.
وخامسا أن الزمان لا أول له ولا آخر له ، بمعنى الجزء الذي لا ينقسم من مبتدئه أو منتهاه ، لأن قبول القسمة ذاتي له.
الفصل الرابع عشر
في السرعة والبطؤ
إذا فرضنا حركتين واعتبرنا النسبة بينهما ، فإن تساوتا زمانا ، فأكثرهما قطعا للمسافة أسرعهما ، وإن تساوتا مسافة فأقلهما زمانا أسرعهما ، فالسرعة قطع مسافة كثيرة في زمان قليل ، والبطؤ خلافه.
قالوا إن البطؤ ليس بتخلل السكون ، بأن تكون الحركة ، كلما كان تخلل السكون فيها أكثر كانت أبطأ ، وكلما كان أقل كانت أسرع ، وذلك لاتصال الحركة بامتزاج القوة والفعل فيها ، فلا سبيل إلى تخلل السكون فيها.
وقالوا إن السرعة والبطؤ ، متقابلان تقابل التضاد ، وذلك لأنهما وجوديان ، فليس تقابلهما تقابل التناقض ، أو العدم والملكة وليسا بالمتضائفين ، وإلا كانا كلما ثبت أحدهما ، ثبت الآخر وليس كذلك ، فلم يبق إلا أن يكونا متضادين ، وهو المطلوب.
وفيه أن من شرط المتضادين ، أن يكون بينهما غاية الخلاف ، وليست بمتحققة بين السرعة والبطؤ ، إذ ما من سريع ، إلا ويمكن أن يفرض ما هو أسرع منه ، وكذا ما من بطيء ، إلا ويمكن أن يفرض ما هو أبطأ منه.
والحق أن السرعة والبطؤ وصفان إضافيان ، فسرعة حركة بالنسبة إلى أخرى ، بطؤ بعينها بالنسبة إلى ثالثة ، وكذلك الأمر في البطؤ ، والسرعة بمعنى الجريان والسيلان خاصة لمطلق الحركة ، ثم تشتد وتضعف ، فيحدث بإضافة بعضها إلى بعض السرعة والبطؤ الإضافيان.
الفصل الخامس عشر
في السكون
يطلق السكون على ، خلو الجسم من الحركة قبلها أو بعدها ، وعلى ثبات الجسم على حاله التي هو عليها ، والذي يقابل الحركة هو المعنى الأول ، والثاني لازمه وهو معنى عدمي ، بمعنى انعدام الصفة عن موضوع قابل هو الجسم ، فيكون هو عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك ، فالتقابل بينه وبين الحركة تقابل العدم والملكة ، ولا يكاد يخلو عن الحركة جسم أو أمر جسماني ، إلا ما كان آني الوجود ، كالوصول إلى حد المسافة ، وانفصال شيء من شيء ، وحدوث الأشكال الهندسية ونحو ذلك.
الفصل السادس عشر
في انقسامات الحركة
تنقسم الحركة ، بانقسام الأمور الستة التي تتعلق بها ذاتها.
فانقسامها بانقسام المبدإ والمنتهى ، كالحركة من مكان كذا إلى مكان كذا ، والحركة من لون كذا إلى لون كذا ، وحركة النبات من قدر كذا إلى قدر كذا.
وانقسامها بانقسام الموضوع ، كحركة النبات وحركة الحيوان وحركة الإنسان.
وانقسامها بانقسام المقولة كالحركة في الكيف ، والحركة في الكم
والحركة في الوضع.
وانقسامها بانقسام الزمان ، كالحركة الليلية والحركة النهارية ، والحركة الصيفية والحركة الشتوية.
وانقسامها بانقسام الفاعل ، كالحركة الطبيعية والحركة القسرية ، والحركة الإرادية ويلحق بها بوجه الحركة بالعرض ، فإن الفاعل إما أن يكون ذا شعور وإرادة ، بالنسبة إلى فعله أم لا ، والأول هو الفاعل النفساني والحركة نفسانية ، كالحركات الإرادية التي للإنسان والحيوان ، والثاني إما أن تكون الحركة ، منبعثة عن نفسه لو خلي ونفسه ، وإما أن تكون منبعثة عنه ، لقهر فاعل آخر إياه على الحركة ، والأول هو الفاعل الطبيعي والحركة طبيعية ، والثاني هو الفاعل القاسر والحركة قسرية ، كالحجر المرمي إلى فوق.
قالوا إن الفاعل القريب للحركة ، في جميع هذه الحركات هو طبيعة المتحرك ، عن تسخير نفساني أو اقتضاء طبيعي ، أو قهر الطبيعة القاسرة ، لطبيعة المقسور على الحركة ، والمبدإ المباشر المتوسط ، بين الفاعل وبين الحركة هو مبدأ الميل ، الذي يوجده الفاعل في طبيعة المتحرك ، وتفصيل الكلام فيه في الطبيعيات.
خاتمة
، ليعلم أن القوة أو ما بالقوة ، كما تطلق على حيثية القبول ، كذلك تطلق على حيثية الفعل إذا كانت شديدة ، وكما تطلق على مبدإ القبول القائم به ذلك ، كذلك تطلق على مبدإ الفعل ، كما تطلق القوى النفسانية ويراد بها ، مبادي الآثار النفسانية ، من إبصار وسمع وتخيل وغير ذلك ، وكذلك القوى الطبيعية لمبادي الآثار الطبيعية.
وهذه القوة الفاعلة إذا قارنت العلم والمشية ، سميت قدرة الحيوان ،
وهي علة فاعلة ، تحتاج في تمام عليتها ، ووجوب الفعل بها إلى أمور خارجة ، كحضور المادة القابلة ، وصلاحية أدوات الفعل وغيرها ، تصير باجتماعها علة تامة ، يجب معها الفعل.
ومن هنا يظهر أولا ، عدم استقامة تحديد بعضهم للقدرة بأنها ، ما يصح معه الفعل والترك ، فإن نسبة الفعل والترك إلى الفاعل ، إنما تكون بالصحة والإمكان ، إذا كان جزءا من العلة التامة ، لا يجب الفعل به وحده ، بل به وببقية الأجزاء التي تتم بها العلة التامة ، وأما الفاعل التام الفاعلية ، الذي هو وحدة علة تامة كالواجب تعالى ، فلا معنى لكون نسبة الفعل والترك إليه بالإمكان.
ولا يوجب كون فعله واجبا أن يكون موجبا ، مجبرا على الفعل غير قادر عليه ، إذ هذا الوجوب لاحق بالفعل من قبله ، وهو أثره فلا يضطره إلى الفعل ، ولا أن هناك فاعلا آخر يؤثر فيه ، بجعله مضطرا إلى الفعل.
وثانيا بطلان ما قال به قوم ، إن صحة الفعل ، متوقفة على كونه مسبوقا بالعدم الزماني ، فالفعل الذي لا يسبقه عدم زماني ممتنع ، وهو مبني على القول بأن علة الاحتياج إلى العلة ، هي الحدوث دون الإمكان ، وقد تقدم (١) إبطاله وإثبات أن علة الحاجة إلى العلة ، هو الإمكان دون الحدوث ، على أنه منقوض بنفس الزمان.
وثالثا بطلان قول من قال ، إن القدرة إنما تحدث مع الفعل ، ولا قدرة على فعل قبله ، وفيه أنهم يرون أن القدرة ، هي كون الشيء بحيث يصح منه الفعل والترك ، فلو ترك الفعل زمانا ثم فعل ، صدق عليه قبل الفعل ، أنه يصح منه الفعل والترك وهي القدرة.
__________________
(١) في الفصل الثامن من المرحلة الرابعة.
المرحلة الحادية عشر
في العلم والعالم والمعلوم
وفيها اثنا عشر فصلا
المرحلة الحادية عشر
في العلم والعالم والمعلوم
قد تحصل مما تقدم ، أن الموجود ينقسم إلى ما بالقوة وما بالفعل ، والأول هو المادة والماديات ، والثاني غيرهما وهو المجرد ، ومما يعرض المجرد عروضا أوليا ، أن يكون علما وعالما ومعلوما ، لأن العلم كما سيجيء بيانه ، حضور وجود مجرد لوجود مجرد ، فمن الحري أن نبحث عن ذلك في الفلسفة الأولى ، وفيها اثنا عشر فصلا.
الفصل الأول
في تعريف العلم وانقسامه الأولى
حصول العلم لنا ضروري ، وكذلك مفهومه عندنا ، وإنما نريد في هذا الفصل ، معرفة ما هو أظهر خواصه ، لنميز بها مصاديقه وخصوصياتها.
فنقول قد تقدم في بحث الوجود الذهني ، أن لنا علما بالأمور الخارجة عنا في الجملة ، بمعنى أنها تحصل لنا وتحضر عندنا بماهياتها ، لا بوجوداتها الخارجية التي تترتب عليها الآثار ، فهذا قسم من العلم ، ويسمى علما حصوليا.
ومن العلم علم الواحد منا بذاته ، التي يشير إليها بأنا ، فإنه لا يغفل عن نفسه في حال من الأحوال ، سواء في ذلك الخلاء والملاء ، والنوم واليقظة وأية حال أخرى.
وليس ذلك بحضور ماهية ذاتنا ، عندنا حضورا مفهوميا وعلما حصوليا ، لأن المفهوم الحاضر في الذهن ، كيفما فرض لا يأبى الصدق على كثيرين ، وإنما يتشخص بالوجود الخارجي ، وهذا الذي نشاهده من أنفسنا ونعبر عنه بأنا ، أمر شخصي لذاته لا يقبل الشركة ، والتشخص شأن الوجود ، فعلمنا بذواتنا إنما هو بحضورها لنا بوجودها الخارجي ، الذي هو ، ملاك الشخصية وترتب الآثار ، وهذا قسم آخر من العلم ، ويسمى العلم الحضوري.
وهذان قسمان ينقسم إليهما العلم قسمة حاصرة ، فإن حصول المعلوم للعالم ، إما بماهيته أو بوجوده ، والأول هو العلم الحصولي ، والثاني هو العلم الحضوري.
ثم إن كون العلم حاصلا لنا ، معناه حصول المعلوم لنا ، لأن العلم عين المعلوم بالذات ، إذ لا نعني بالعلم إلا حصول المعلوم لنا ، وحصول الشيء وحضوره ليس إلا وجوده ، ووجوده نفسه.
ولا معنى لحصول المعلوم للعالم ، إلا اتحاد العالم معه ، سواء كان معلوما حضوريا أو حصوليا ، فإن المعلوم الحضوري ، إن كان جوهرا قائما بنفسه كان وجوده لنفسه ، وهو مع ذلك للعالم ، فقد اتحد العالم مع نفسه ، وإن كان أمرا وجوده لموضوعه ، والمفروض أن وجوده للعالم ، فقد اتحد العالم مع موضوعه ، والعرض أيضا ، من مراتب وجود موضوعه غير خارج منه ، فكذلك مع ما اتحد مع موضوعه ، وكذا المعلوم الحصولي موجود للعالم ، سواء كان جوهرا موجودا لنفسه ، أو أمرا موجودا لغيره ، ولازم كونه موجودا للعالم اتحاد العالم معه.
على أنه سيجيء ، أن العلم الحصولي علم حضوري في الحقيقة.
فحصول العلم للعالم من خواص العلم ، لكن لا كل حصول كيف كان ، بل حصول أمر بالفعل فعلية محضة ، لا قوة فيه لشيء مطلقا ، فإنا نشاهد بالوجدان ، أن المعلوم من حيث هو معلوم ، لا يقوى على شيء آخر ، ولا يقبل التغير عما هو عليه ، فهو حصول أمر مجرد عن المادة خال من غواشي القوة ، ونسمي ذلك حضورا.
فحضور المعلوم يستدعي كونه أمرا تاما في فعليته ، من غير تعلق بالمادة والقوة ، يوجب نقصه وعدم تمامه ، من حيث كمالاته التي بالقوة.
ومقتضى حضور المعلوم ، أن يكون العالم الذي يحصل له العلم ، أمرا فعليا تام الفعلية ، غير ناقص من جهة التعلق بالقوة ، وهو كون العالم مجردا عن المادة خاليا عن القوة.
فقد بان أن العلم حضور موجود ، مجرد لموجود مجرد ، سواء كان الحاصل عين ما حصل له ، كما في علم الشيء بنفسه أو غيره بوجه ، كما في علم الشيء بالماهيات الخارجة عنه.
وتبين أيضا أولا أن المعلوم ، الذي هو متعلق العلم ، يجب أن يكون أمرا مجردا عن المادة ، وسيجيء (١) معنى تعلق العلم بالأمور المادية.
وثانيا أن العالم الذي يقوم به العلم ، يجب أن يكون مجردا عن المادة أيضا.
الفصل الثاني
ينقسم العلم الحصولي إلى كلي وجزئي
والكلي ما لا يمتنع فرض صدقه على كثيرين ، كالعلم بماهية الإنسان
__________________
(١) في الفصل الثاني.