لنا على الأوّل : قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ) (١) الآية. وعلى الثاني : قوله عليهالسلام : أمران متقاربان أيّهما سبق كان الحكم له (٢) ) (٣) ، انتهى.
وقد قال المحقّق : في ( نكت النهاية ) بعد إيراد هذه العبارة ـ : ( إذا صار ذلك عادة لم ترجع إلى العادة الاولى وهي قادرة على الاعتداد بالأقراء ، ثمّ لا تكون معتدّة بالأقراء ؛ لأنها لم ترَ ثلاث حِيَضٍ ولا ثلاثة أطهار. ولِمَ قال : ( تعتدّ بالأقراء؟ ) (٤) وإنما تعتدّ بمثل أوقات الأقراء في حال الاستقامة.
قلت : هذه رواية محمّد بن الفضيل : عن أبي الصباح : عن أبي عبد الله عليهالسلام : قال : سألته عن التي تحيض في ثلاثة أشهر مرّة ، كيف تعتدّ؟ قال تنتظر مثل قرئها الذي كانت تحيض فيه في زمان الاستقامة ، فلتعتدّ ثلاثة قروء ، ثمّ تزوّج إن شاءت (٥).
ومحمّد بن الفضيل [ : واقفي (٦) ] وروايته هذه شاذّة ؛ فليست حجّة.
ويمكن حملها على امرأة كانت لها عادة مستقرّة ، ثمّ اختلف حيضها ولم تستقرّ لها عادة مستأنفة ، ثمّ رأت الدم مستمرّاً ، فإنها تعتدّ بما عرفته أوّلاً ؛ لأن ذلك لم ينسخ بعادة ثانية. فاعتدادها إذن بالأقراء على هذا التقدير ، لا بمثل أوقات الأقراء ) (٧) ، انتهى.
أقول : هذا تأويل بعيد جدّاً كما هو ظاهر ، وأقرب منه وأوضح ما قدّمناه في تأويل عبارة الشيخ : ، من أن هذه تعتدّ بالأقراء المتجدّدة ؛ كما كانت تعتدّ بالأقراء
__________________
(١) البقرة : ٢٢٨.
(٢) الكافي ٦ : ٩٨ / ١ ، تهذيب الأحكام ٨ : ١١٨ / ٤٠٩ ، الإستبصار ٣ : ٣٢٤ / ١١٥٤ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٨٥ ، أبواب العدد ، ب ٤ ، ح ٥ نقله بالمعنى.
(٣) مختلف الشيعة ٧ : ٤٨٦ / المسألة : ١٢٧ ، باختلافٍ يسير.
(٤) النهاية ( الطوسي ) : ٥٣٣.
(٥) الكافي ٦ : ٩٩ / ٤ ، تهذيب الأحكام ٨ : ١٢٠ ـ ١٢١ / ٤١٥ ، الإستبصار ٣ : ٣٢٥ / ١١٥٥ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٨٧ ، أبواب العدد ، ب ٤ ، ح ١٠.
(٦) من المصدر ، وفي المخطوط : ( ضعيف ).
(٧) النهاية ونكتها ٢ : ٤٨٢ ـ ٤٨٣.
الأُول ، فإن هذه عادة لها ثانية مستقرّة ، فكما أنها تعتدّ في العادة الاولى بأقرائها تعتدّ في حال العادة الثانية بأقرائها وإن طال زمانها على زمان الاولى. وهذا أقرب إلى لفظها ، وأوفق بالقواعد.
وأنت خبير أن ما أورده على عبارة الشيخ : غير وارد بعد تأمّل ما قرّرناه في تأويلها. أمّا كلام ابن إدريس : فالإشكال فيه من جهة عدم مناسبة شيء من المعنيين لعبارة الشيخ : بوجه أصلاً.
فإن قلت : قول ابن إدريس : ( وأمّا ما زاد على الثلاثة الأشهر ، وصارت لا ترى الدم إلّا بعد ثلاثة أشهر فإن هذه تعتدّ بالثلاثة الأشهر بغير خلاف ) (١) ، ظاهره قريب من كلام ( المسالك ) (٢) و ( كشف اللثام ) (٣) من اشتراط مرور ثلاثة أشهر بيض بها ، حتّى تخرج من العدّة.
قلت : إنما مراده أنها تعتدّ بالشهور ؛ لصدق سبق الثلاثة البيض على ثلاث حيض ، أي أن هذه من شأنها بمقتضى عادتها سبق ثلاثة بيض على ثلاثة حيض ، فتقييد ابن إدريس : بالبيض لعلّه أشار به إلى ذلك ، وقد عرفت تصريح ( كشف اللثام ) بهذا المعنى.
وممّا يدلّك على أن ابن إدريس : أراد ذلك استدلاله بالحديث الذي أورده : (أمران أيهما سبق بانت به (٤) ، وكان ذلك عدّة لها ) (٥) ، فإن ظاهره أنه متى كانت عادتها ومن شأنها أن تسبق لها ثلاثة بيض على ثلاث حيض ، كان حكمها الاعتداد بالشهور على كلّ حال ما دامت على تلك الحال. وإن سبقت ثلاث حِيَضٍ كانت عدّتها بالأقراء.
وقول ابن إدريس : بعد إيراد الخبر بلا فصل : ( وقد سبقت الثلاثة الأشهر
__________________
(١) السرائر ٢ : ٧٤٢.
(٢) مسالك الأفهام ٩ : ٢٥٠ ـ ٢٥١.
(٣) كشف اللثام ٢ : ١٣٦ ( حجريّ ).
(٤) الكافي ٦ : ٩٨ / ١ ، تهذيب الأحكام ٨ : ١١٨ / ٤٠٩ ، الإستبصار ٣ : ٣٢٤ / ١١٥٤ ، وسائل الشيعة ٢٢ : ١٨٥ ، أبواب العدد ، ب ٤ ، ح ٥.
(٥) السرائر ٢ : ٧٤٢.
البيض ) (١) كالصريح في إرادته هذا المعنى. ومراد العلّامة : أيضاً ذلك ؛ لما صرّح به في جملة من كتبه (٢) ، ولاستدلاله بالخبر الذي رواه : أمران متقاربان ، أيّهما سبق كان الحكم له فإن ظاهره كالصريح في أنها متى كانت عادتها في أكثر من ثلاثة أشهر كان الحكم في عدّتها للشهور. وإن كانت عادتها في الأقلّ من ثلاثة أشهر كان الحكم للأقراء في عدّتها.
ولابن سعيد : في ( النزهة ) عبارة لا تخلو من تشابه أو إشكال قال رحمهالله : ( وأمّا الثلاثة الأشهر فعدّة اثنتي عشرة ).
وعدّهن إلى أن قال : ( وعدّة المرأة التي لا تحيض إلّا في ثلاث سنين أو أربع سنين حيضة واحدة ، وكان ذلك عادة لها مستمرّة ، فإن كانت عادتها غير ذلك وهي ناسية لها فكذلك ثلاثة أشهر ، وإذا كانت ذاكرة لها اعتدّت بمثل زمان قرئها حال استقامتها ) (٣) ، انتهى.
ولا يبعد أنه أراد بمَنْ ( عادتها غير ذلك ) مَنْ كانت لها عادة مستقيمة ثمّ استمرّ بها الدم ، فإنها إن عرفت عادتها اعتدّت بمثل قرئها المعتاد ، وإلّا فبالثلاثة الأشهر. وظاهره أن من كانت أكثر من شهر تعتدّ حينئذٍ بمثله ولو بلغ سنتين. وله ظاهر بعض الأخبار ، لكنّه فيما زاد متروك ، فيما زاد على الشهر.
وأغرب ما وقفت عليه في هذه المسألة ، عبارة ابن حمزة : في ( الوسيلة ) ، وقفت على نسختين متطابقتين على لفظ واحد ، ولا ثالثة لديّ حتّى اراجعها قال رحمهالله : ( الحائل المستقيمة الحيض إن كانت لا تحيض في كلّ ثلاث سنين إلّا مرّة اعتدّت بالشهور ، وإن حاضت لأقلّ من ذلك اعتدّت بالأقراء ) (٤) ، انتهى.
وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن المعتدّة بالأقراء قد تكون عدّتها قريباً من تسع
__________________
(١) السرائر ٢ : ٧٤٢.
(٢) انظر مثلاً مختلف الشيعة ٧ : ٤٨٦ / المسألة : ١٢٧.
(٣) نزهة الناظر ( ضمن سلسلة الينابيع الفقهيّة ) ٣٩ : ٤٦٤ ، باختلافٍ يسير.
(٤) الوسيلة إلى نيل الفضيلة : ٣٢٥ ، باختلافٍ يسير.
سنين ، وهذا لم يقل به أحد من الأُمّة إلى يومنا هذا ، ولم يدلّ عليه دليل من عقل أو إجماع أو كتاب أو سنّة ، ولعلّ فيها غلط من قلم الناسخ ، ولعل لفظها : إن كانت لا تحيض إلّا في ثلاثة أشهر .. إلى آخره ، فغلط الناسخ فأبدل لفظ ( الأشهر ) بلفظ ( السنين ) ، فإنها بهذا توافق النصّ والفتوى.
وممّا يدلّ على هذا أن ذلك لو كان مذهباً له مع شدّة غرابته لنُقل عنه ، ولم نظفر به منقولاً عنه من كتاب أو لسان عالم.
عدّة الأمة التي تحيض في أكثر من خمسة وأربعين يوماً
بقيت في المقام مسألة لم أقف على مَنْ ذكرها ، هي أن الأمَة لو كانت إنما تحيض في أكثر من خمسة وأربعين يوماً ، فهل حكمها الاعتداد بخمسة وأربعين يوماً مطلقاً ، أو بها وبما بقي من طهرها وحيضها ، على قياس ما قاله في ( كشف اللثام ) (١) في الحرّة ، أو بخمسة وأربعين يوماً إن سلمت لها بعد طلاقها ، وإلّا فبقرأين على قياس ما قاله الشهيد الثاني (٢) : في الحرّة.
وكذا فيما لو كانت تحيض في كلّ خمسة وأربعين يوماً ، أو لم تحض فطُلّقت ، فحاضت حيضة وارتفع حيضها ، وتربّص بها أقصى الحمل ، فهل هي كالحرّة مطلقاً ، أو على التنصيف؟
في كلّ ذلك وجهان : من إطلاقات الأخبار التي مرّ ذكرها ، وإطلاق الفتاوى أن مَنْ كانت تحيض لأكثر من ثلاثة أشهر تعتدّ بثلاثة أشهر ، فهي كالحرّة هنا. ومن الأخبار (٣) الدالّة كأكثر الفتاوى (٤) أنها على التنصيف من الحرّة مطلقاً. وهذا أظهر الوجهين.
__________________
(١) كشف اللثام ٢ : ١٣٦.
(٢) مسالك الأفهام ٩ : ٢٣٧ ـ ٢٣٨.
(٣) انظر وسائل الشيعة ٢٢ : ٢٥٦ ـ ٢٥٨ ، أبواب العدد ، ب ٤٠.
(٤) انظر : الخلاف ٥ : ٦٣ ـ ٦٤ / المسألة : ١٢ ـ ١٣ ، شرائع الإسلام ٣ : ٢٩ ـ ٣٠ ، مختلف الشيعة ٧ : ٥٠٢ / المسألة : ١٤١ ، مسالك الأفهام ٩ : ٢٩٨.
وعليه فالخمسة والأربعون اليوم بالنسبة لها كالثلاثة الأشهر بالنسبة للحرّة في جميع ما فصّل من الأحكام ؛ لأن الدليل دلّ على أن عدّتها نصف عدّة الحرّة على الإطلاق.
والظاهر من الأخبار المذكورة أنها واردة في الحرّة ، فالقرآن في شأنها كالثلاثة في شأن الحرّة. وكذا الخمسة والأربعون اليوم كالثلاثة الأشهر.
ويحتمل أنها إن اعتادت الحيض لأكثر من خمسة وأربعين يوماً وأقلّ من ثلاثة أشهر أنها تعتدّ حينئذٍ الأقراء ، وإن اعتادته لأكثر من ثلاثة أشهر فبخمسة وأربعين يوماً مطلقاً ؛ لإطلاق الأخبار والفتاوى في الفرضين ، وهو قويّ. والله العالم بحقيقة أحكامه.
تحرير هذه المسألة بقلم الأقلّ الأحقر أحمد بن صالح بن سالم بن طوق : ، ضحى يوم الثالث من ذي القعدة الحرام (١٢٣٩) ، وقد جعلتها وفادة على باب جود الله عجّل الله فرجه وسهل مخرجه فإنْ قبلها فأهل ذلك هو ، وإن ردّها فأهل ذلك أنا ، وهو أرحم بي من نفسي ومن أُمّي وأبي ، وصلّى الله على محمّدٍ : وآله وسلم كما هم أهله. والحمد لله ربّ العالمين.
تمّت بقلم المذنب المخطئ العاصي الأحقر : زرع بن محمّد علي بن حسين بن زرع : ، عفا الله عنهم بمحمّدٍ : وآله ، صلوات الله عليهم أجمعين.
الرسالة الرابعة عشرة
مسألة في الحبوة
بسم الله الرحمن الرحيم
ولا حول ولا قوَّة إلّا بالله العليِّ العظيم ، والحمد لله ربِّ العالمين وصلّى الله على محمَّد وآله الطيِّبين.
وبعد :
ورد سؤال من بعض علماء البحرين صورته :
نصّ المسألة
( بسم الله الرحمن الرحيم : ما يقول الفقيه أيّده الله تعالى فيما لو قال قائل بتمشية الحبوة إلى ولد الولد بالنسبة إلى جدّه ، وذلك بعد أن يكون على الشرائط المعتبرة في استحقاق الولد للصّلب لها ، وجوباً أو استحباباً ، ومجّاناً أو محتسبة ، محتجّاً بالإجماع على إرادته من إطلاق الولد والابن في جملة من الآيات ، مؤيّداً بما جاء في تفسيرها (١) عن أهل العصمة عليهمالسلام ؛ كقوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) (٢) ، ( وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ ) (٣) ، ( أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ ) (٤) ، ( فَإِنْ
__________________
(١) تفسير العيّاشي ١ : ٢٥٦ / ٦٩.
(٢) النساء : ٢٢.
(٣) النساء : ٢٣.
(٤) النور : ٣١.
كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ ) (١) ، ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ) (٢) ، وَ ( إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ) .. ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ) (٣).
وفي جملة من الروايات أيضاً مثل ما رواه ثقة الإسلام في ( روضة الكافي ) (٤) عن أبي الجارود : ، وما رواه أيضاً في ( الكافي ) (٥) في الصحيح عن محمّد بن مسلم : عن أحدهما عليهماالسلام ، وما رواه الطبرسي : في كتاب ( الاحتجاج ) (٦) في حديث طويل عن الكاظم عليهالسلام ، وما رواه في ( الكافي ) (٧) ، والصدوق : في ( الفقيه ) (٨) عن الأحمسي. وهذا الخبر مرويّ بطرق متعدّدة ، ومتون متقاربة ، وفي بعضها أنه عليهالسلام كرّر قوله إي والله ، إنا لولده (٩) إلى آخره ، ثلاثاً. على أن الولد حقيقة فيهما معاً ، مقول بالتشكيك عليهما ، فإرادة ولد الصلب خاصّة من الولد في روايات الحبوة يحتاج إلى مخصّص.
ولو قال قائل : المخصّص هو العرف العام ، [ فالأولى (١٠) ] أن يقول بناءً على أن الخطابات الشرعيّة من قبيل الخطابات الشفاهيّة ـ : إنها قد صرّحت بما قلناه ، فوجب القبول.
على أنا نقول : إن كان العرف مخصّصاً في جميع موارد إطلاق الولد والابن ، ففيه أن الاختلاف في بعضها والاتّفاق في البعض الآخر يدفعه.
وإن أراد في خصوص مسألتنا فهو مصادرة ، على أن العرف العام لا يعتمد عليه
__________________
(١) النساء : ١٢.
(٢) النساء : ١٢.
(٣) النساء : ١١.
(٤) الكافي ٨ : ٢٦٣ / ٥٠١.
(٥) الكافي ٥ : ٤٢٠ / ١ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤١٢ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب ٢ ، ح ١.
(٦) الاحتجاج ٢ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩.
(٧) الكافي ٣ : ٤٨٧ / ٣ ، وسائل الشيعة ٤ : ١٢ ، أبواب أعداد الفرائض ، ب ٢ ، ح ٢.
(٨) الفقيه ١ : ١٣٢ / ٦١٥ ، وسائل الشيعة ٤ : ١٢ ، أبواب أعداد الفرائض ، ب ٢ ، ح ٢ ، ولم يرد فيها : « إي والله ، إنا لولده ».
(٩) الكافي ٥ : ٤٢٠ / ١ ، وسائل الشيعة ٢٠ : ٤١٢ ، أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ب ٢ ، ح ١.
(١٠) في المخطوط : ( فللأول ).
في مقام العلم بإرادة الشمول من الخطاب. وقد عرفت ممّا نبّهناك عليه ذلك.
ولو قال القائل بأن إرادة الظاهر والاستعمال الشائع يوجبان الحمل على الأولاد دون أولادهم ؛ بناءً على أن أحاديثنا المرويّة في كتبنا ليست من الخطاب الشفاهيّ في شيء.
فلنا ألّا نسلّمه ، ولو سلّمناه مماشاةً للخصم فلنا أن نقول : إنه يجب العدول عنه إذا كانت هناك قرينة ؛ إذ من شرط العمل بهما عدم الدلالة على خلاف مقتضاهما ، وقد وجدت ؛ لأن ما ذكرناه لا أقلّ من أن يكون قرينة ، فالعدول إلى ما دلّت عليه الأدلّة وقامت القرينة متعيّن البتّة.
والملتمَس من الناظر تحرير الجواب على وجه يجلي غيهب الإشكال ، ويرشد إلى الصواب ؛ إمّا بنقل ما هو الحجّة من فتوى الأصحاب في هذه المسألة بالخصوص ، أو نقل ما يدلّ عليه صريحاً من متون النصوص.
أحسن الله جزاكم ، وأزال عنّا وعنكم العناء وهداكم ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ). هذا آخر السؤال بحروفه.
جواب المسألة
وأقول وبالله المستعان ـ : الشبهة نشأت من تصوّر أن الابن والولد يطلق على ولد الولد وابن [ البنت (١) ] حقيقة.
وقد اختلف علماؤنا في ذلك ؛ فعن المرتضى (٢) : وابن إدريس (٣) : ومعين الدين (٤) وابن أبي عقيل (٥) : في أحد قوليه أنه حقيقة.
__________________
(١) في المخطوط : ( الابن ).
(٢) رسائل الشريف المرتضى ٤ : ٣٣٨ ، عنه في السرائر ٣ : ٢٣٩.
(٣) السرائر ٣ : ٢٣٩ ـ ٢٤٠.
(٤) عنه في مسالك الأفهام ١٣ : ١٢٥.
(٥) عنه في الحدائق الناضرة ١٢ : ٣٩٤.
واحتُجّ لهم بقول رسول الله صلىاللهعليهوآله : للحسن بن علي عليهماالسلام : الحسن ابني (١) وقوله صلىاللهعليهوآله للحسنين ابناي هذان (٢). وقوله صلىاللهعليهوآله لهما إنهما ابناه لا يكاد يحصر.
وبالإجماع على أن عيسى بن مريم : ابنُ آدم : ، وبخطاب الله لنا بـ ( يا بَنِي آدَمَ ) (٣).
وبأن إطلاق ابن آدم : على سائر البشر شائع في كلّ زمان ومكان.
وبما استفاض عن الأئمّة الأبرار ؛ من قولهم عليهمالسلام إنا أبناء رسول الله صلىاللهعليهوآله (٤) ، وبأن الناس يخاطبون كلّ واحد منهم بـ : ( يا بن رسول الله ) ، حتّى في الزيارات بعد موتهم (٥). كلّ ذلك بلا نكير منهم ولا من غيرهم.
وبأن من وقف على بني هاشم شمل الطبقات ، وكذا لو أوصى لهم شمل الطبقات.
وبأنهم يحجبون الزوجين عن أعلى الفرضين كآبائهم.
وبقوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ) (٦) فإنها شاملة لمنكوحات الأجداد وإن علوا إجماعاً. وقوله تعالى : ( وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ ) (٧) وقوله تعالى : ( أَوْ أَبْنائِهِنَّ ) (٨) ، وقوله ( أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ ) (٩) ، وقوله ( فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ ) (١٠) ، وقوله ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ) (١١) ، وقوله ( إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ) (١٢) وقوله ( فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ ) (١٣). فحكم هذه الآيات كلّها وإطلاقها شامل لولد الولد بالإجماع. والأصل في الاستعمال الحقيقة ، وإجراء حكم الولد في هذه الآيات مع إطلاقها بالإجماع دليل على أن إطلاق الولد على ولد الابن أو البنت وإن نزل حقيقة.
__________________
(١) سنن الترمذي ٥ : ٦٥٨ / ٣٧٧٣ ، ينابيع المودّة ٢ : ٣٦ / ١٢ ، وفيهما : « إنّ ابني هذا .. ».
(٢) سنن الترمذي ٥ : ٦٥٦ ـ ٦٥٧ / ٣٧٦٩ ، ينابيع المودّة ٢ : ٣٤ ـ ٣٥ / ٧ ، وفيهما : « هذان ابناي ».
(٣) الأعراف : ٢٦ ، ٢٧ ، ٣١ ، ٣٥.
(٤) الاختصاص ( ضمن سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد ) ١٢ : ٩٠ ، بحار الأنوار ٢٦ : ٢٥٦ ـ ٢٥٧ / ٣٢ ، وفيهما : « نحن أبناء نبيّ الله وأبناء رسول الله ».
(٥) انظر مثلاً المزار الكبير : ٢٢١.
(٦) النساء : ٢٢.
(٧) النساء : ٢٣.
(٨ و ٩) النور : ٣١.
(١٠ و ١١ و ١٣) النساء : ١٢.
(١٢) النساء : ١١.
دليل إطلاق الولد على ولد الولد والبنت مجازاً
والمشهور بين العصابة ، بل بين المسلمين في كلّ عصر أن إطلاق الولد والابن في الولد للصلب حقيقة ، وإنما يطلق على ولد الولد وولد البنت بطريق المجاز ، وهو المعروف من كلام أئمّة اللغة ، وهو الحقّ. ويدلّ عليه أُمور :
منها : صحّة السلب وصدقه ، وذلك دليل المجاز ، كما هو المعروف بين علماء فنون العربيّة وأهل الأُصول ؛ وذلك لأنه لا ريب في وقوع المجاز والحقيقة في الكتاب ، والسنّة ، وكلام العرب ، والعامّ والخاصّ ، والمطلق والمقيّد ، والمجمل والمبيّن ، والمحكم والمتشابه.
ولكلّ باب منها أدلّة أقامها الشارع ؛ إذ لا تكليف إلّا بعد البيان.
ومن أعمّ أدلّة المجاز صدق السلب ، ولا ريب في صدق نفي الولد عن ولد الولد وولد البنت ، فلو قال الجدّ لأحدهما : هذا ليس بولدي. لصدق بلا ريب.
وممّا يدلّ على صدق هذا السلب من الأخبار صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج : عن أبي عبد الله عليهالسلام : قال بنات البنت يقمن مقام البنات إذا لم يكن للميّت بنات ولا وارث غيرهن ، وبنات الابن يقمن مقام الابن إذا لم يكن للميّت ولد ولا وارث غيرهن (١).
وصحيح سعد بن أبي خلف : عن أبي الحسن الأوّل عليهالسلام : قال بنات البنت يقمن مقام البنات إذا لم يكن للميّت بنات ولا وارث غيرهنّ ، وبنات الابن يقمن مقام الابن إذا لم يكن للميّت ولد ولا وارث غيرهنّ (٢).
وصحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج : أيضاً عن أبي عبد الله عليهالسلام : قال بنات البنت يرثن ، إذا لم يكنْ بنات كنَّ مكان البنات (٣).
__________________
(١) الكافي ٧ : ٨٨ / ٤ ، وفيه « بنات الابنة » بدل : « بنات البنت » ، وسائل الشيعة ٢٦ : ١١٢ ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب ٧ ، ح ٤ ، بتقديم جملة : « ابن الابن » على جملة : « ابنة البنت ».
(٢) الكافي ٧ : ٨٨ / ١ ، وسائل الشيعة ٢٦ : ١١٠ ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب ٧ ، ح ٣ ، باختلافٍ يسير.
(٣) الكافي ٧ : ٨٨ / ٣ ، وسائل الشيعة ٢٦ : ١١٠ ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب ٧ ، ح ١ ، وفيهما : « بنات الابنة » بدل : « بنات البنت ».
فقد نفت هذه الأخبار وجود البنات والولد في حال وجود ولد الولد. فإذا صدق سلب الولد مع وجود ولده علم يقيناً أن إطلاق الولد على ولد الولد مجاز.
ومنها : أن الأُبوّة والبنوّة من مقولة الإضافة ، فمتى صدق بنوّة شخص لآخر حقيقة صدق أُبوّة الآخر له حقيقة. ولا ريب أن البنوّة تَولّد والأُبوّةَ إيلاد في كلّ مقام من مقامات الوجود بما يناسبه. فالابن الحقيقيّ متولّد من الأب الحقيقيّ ؛ فإمّا ألّا يكون للشخص إلّا أب واحد حقيقة ، أو يصدق تولّده من اثنين حقيقة ، والضرورة تدفعه.
ومنها : أنه لو قلنا بإطلاق الولد على ولد الولد حقيقة لزم بمقتضى التضايف أن يكون لشخص أبوان في رتبة واحدة حقيقة ؛ جدّه لأبيه وجدّه لُامّه ، بل وأبوه وجدّه لُامّه. وهذا واضح البطلان عقلاً ولغةً ، حتّى بالتشكيك ؛ لما يلزم منه أنه متولّد منهما معاً وهما في رتبة واحدة دفعة واحدة أو متعدّدة.
ومنها : أنه يلزم أن يلد شخص آخر مرّتين إذا كان جدّاً لأبيه وأُمّه ، وهو محال.
ومنها : أنه يلزم منه أن مولانا الصادق عليهالسلام : ولد حقيقة لرسول الله صلىاللهعليهوآله : ولأبي بكر ابن أبي قحافة : ، وهما أبواه حقيقة. وهذا بحكم الجمع بين الضدّين ، بل النقيضين بوجه ؛ لما يلزمه من إنتاج النور المحض من الظلمة المحضة. وهذا جارٍ في ثمانية من أهل البيت عليهمالسلام.
ومنها : أنه يلزم منه أن يكون الرسول صلىاللهعليهوآله : وأمير المؤمنين عليهالسلام : قد سلكا في أصلاب غير طاهرة ، وأرحام غير مطهّرة ؛ إذ لا يشترط إيمان آباء أمّهاتهما إلى آدم وحوّاء عليهماالسلام إجماعاً ، والوجدان يطابقه. بل يلزمه أن أُبوّة أبي بكر : للصادق عليهالسلام : أشدّ وأقوى من أُبوّة النبيّ صلىاللهعليهوآله : له ؛ لأنه صلىاللهعليهوآله ولده مرّة ، وقد قال ولدني أبو بكر مرّتين (١). وهذا باطل عقلاً ونقلاً.
وإذا قلنا : إن إطلاقه مجاز لا يرد أن علاقة أُبوّة أبي بكر : أقوى ، لتكرّرها مرّتين من جهتين ؛ لأنا نقول : علاقة المجاز فيها واحدة بالنسبة إليه ؛ لأن معنى ولدني أبو
__________________
(١) تهذيب الكمال ٥ : ٧٥ / ٩٥٠.
بكر مرّتين : أنه ولد أُمّي مرّتين ، فتكَرّرت العلاقة بالنسبة لأُمّة لا له.
ومنها : أنه ممّا لا ريب فيه أن الولد إنما يتولّد ويتكوّن من ماء الأب والأُمّ المنفعل منهما حسّا والمتكوّن من مطاعمهما وأغذيتهما. وقد أطبق على ذلك الباحثون في الطبيعيات ، وتواتر به مضمون الأخبار ، كما لا يخفى على متتبّعها. فالولد لم يتحقّق في طبيعة جدّه ولا شيء من قواه ، ولا سلك مادّة جسمه في صلب جدّه ، ولا ترائب جدّته ، فكيف يقال : إن جدّه وجدّته والداه حقيقة ، حتّى يكون هو ولدهما حقيقة مع انتفاء معنى التوالد بينهما حقيقة؟!.
ومنها : أن المشهور قديماً وحادثاً شهرة أكيدة ، بل قال المحقّق الطوسي : إنه كاد أن يكون مجمعاً عليه. (١) بل ظاهر غير واحد اتّفاق المتأخّرين على أن ولد الولد وإن كان أُنثى يقوم مقام الولد ويأخذ مستحقّه من إرث جدّه ، وولد البنت وإن كان ذكراً يقوم مقام امّه ويأخذ مستحقّها من إرث جدّه (٢).
وعلى ذلك دلّت نصوص أهل البيت سلام الله عليهم بلا معارض ، فلو كان ولد البنت ولداً حقيقة لكان له مع بنت الولد الثلثان ، ولبنت الولد الثلث بنصّ ( يُوصِيكُمُ اللهُ ) (٣) الآية. ولو كان كذلك لزاد الفرع على أصله ، والمعلول على علّته بفضل ، لم يكن لأصله وعلّته ، وهذا ظاهر البطلان. وليس في هذا مصادرة ؛ لأنا استدللنا بالنصوص الدالّة على توريثهم كذلك على أنهم ليسوا بولد حقيقة.
ومنها : أنك تعلم أنه لم يوجد في كتب التاريخ وكتب النسّابين نسبة رجل ولا امرأة لجدّهما لُامّهما ، بل لو نسب رجل رجلاً لقبيلة امّه كذب أو غلط ، بل إنما ينسب لقبيلة أبيه ، وعلى ذلك بناء معرفة الأنساب والقبائل والعمائر والأفخاذ (٤) في
__________________
(١) عنه في كشف اللثام ٢ : ٢٩٠.
(٢) كشف اللثام ٢ : ٢٩٠ ( حجريّ ).
(٣) النساء : ١١.
(٤) العمائر : جمع عِمارة ، وهي والفَخذ : من أجزاء القبيلة ، فيقال : شِعب ، ثمَّ قبيلة ، ثمَّ فصيلة ، ثمَّ عِمارة ، ثمَّ بطن ، ثمَّ فخذ. مختار الصحاح : ٣٣٨ شعب.
كلّ عصر. ولو صحّ إطلاق الأب على الجدّ للأُمّ حقيقة لصحّ نسبة ولد البنت له ، فلم يعرف شعب ولا قبيلة ولا نسب ، وقد قال عزّ اسمه ( وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا ) (١) فتفوت هذه المزيّة.
ويؤيّد ذلك بل يدلّ عليه قوله تعالى : ( ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ ) (٢) الآية. وبه يتّضح أن نسبة الرجل لجدّه لُامّه مجاز. ولا فارق بين الجدّ للأُمّ والجدّ للأب. ومن أجل ذلك اختصّ الخُمس بمن انتسب لهاشم : بالأب دون الامّ ، وكذا الوقف عليهم والوصيّة لهم.
فإنْ قلت : إطلاق بني هاشم : وشبهه على الموجودين الآن دليل على أنه حقيقة ، ولا فارق بين الجدّ للأب والجدّ للُام.
قلت : كونه مجازاً بالنسبة لأب الامّ دليل على أنه مجاز بالنسبة لأب الأب ؛ لعدم الفارق ، والاستعمال أعمّ من الحقيقة ، ولأنه بعد ثبوت المجازيّة بالنسبة لأب الامّ لا يمكن القول بأن الإطلاق حقيقة بالنسبة لأب الأب ، فهو دليل على المجازيّة مطلقاً ؛ لعدم الفارق دون العكس ؛ لأن الاستعمال أعمّ من الحقيقة.
وأيضاً هذا الوجه يدلّ على أن المجازيّة بالنسبة لأب الامّ ثابتة ، فلو قلنا بأن الاستعمال بالنسبة لأب الأب يدلّ على الحقيقة ، لزم الفرق بين الجدّين. والقول به خرق للإجماع المركّب.
ومنها : أنه لو كان إطلاق الولد يشمل ولد الولد حقيقة لورث ولد الولد وولد البنت مع عمّه وخاله ، وكان لولد البنت ثلثان ، وللبنت للصلب ثلث ، بل كان لها الثلث ، ولولدها الثلثان بنصّ ( يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ ) (٣) الآية. والنصّ (٤) والإجماع على أنه لا يرث ولد الولد مع وجود الولد يدفعه. وكذا لزوم زيادة الفرع وهو الولد على نصيب أصله ، ومن يتقرّب به وهو امّهُ ، وهو باطل. ويدلّ على أن الآية إنما
__________________
(١) الحجرات : ١٣.
(٢) الأحزاب : ٥.
(٣) النساء : ١١.
(٤) انظر وسائل الشيعة ٢٦ : ١١٠ ـ ١١٤ ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب ٧.
عنت الولد للصلب ، فإذن هو الحقيقة دون ولده ، ولو كان الإطلاق يشمل ولد الولد حقيقة لكان دلالة الآية على ولد الصلب وإرادته منها خاصّة بقرينة ؛ فتكون مجازاً ، ولا قائل به.
ومنها : أنك إذا تدبّرت الآيات والروايات وكلام العرب وجدت اختصاص إطلاق الأبوين حقيقة بمن ولد الولد بلا فصل ، وهما من ولده حقيقة ، وما سواهما من آبائهما لا يطلق عليهما الأبوان إلّا مجازاً.
وممّا يدلّ على ذلك الإجماع نصّاً وفتوى وعملاً على إطلاق القول بأنه لا يرث مع الأبوين إلّا الأولاد وأولادهم وإن نزلوا ، فلو كان الجدّان أبوين حقيقة لورثا مع الأولاد ، ولا يرث أحد من الأجداد مع ولد أو ولد ولد بالنصّ (١) والإجماع.
وهما أيضاً قائمان على أن ما ذكره الله عزّ اسمه من فرض الأبوين إنما عنى بهما من ولده بلا فصل ، فإذا ثبت أن الوالدين لا يطلق على الجدّين إلّا مجازاً ، ثبت بحكم التضايف والمقابلة أن الولد لا يطلق على ولد الولد إلّا مجازاً.
وأيضاً قد استفاض عنهم عليهمالسلام مثل قولهم في امرأة ماتت ، تركت أبويها وزوجها ، فقالوا
للزوج النصف وللأُمّ الثلث وللأب السدس (٢). وعلى ذلك الإجماع قائم.
وأن هذا الحكم والإطلاق إنما عنى به الأبوين بلا فصل ، فلو دخل الجدّان في إطلاق الأبوين لشملهما هذا الحكم ، وليس كذلك بالنصّ والإجماع ، فليس الجدّان أبوين حقيقة.
وأيضاً ممّا لا ريب فيه أنك تقول : هذا جدّ فلان وهذا أبوه. وتقول لجدّه : ليس هذا أباه. ولو كان الجدّ أباً حقيقة لصدق أن يقال لشخص واحد : هذا جدّ فلان وأبوه حقيقة ، وهذا تنكره النفوس واللغة والعرف.
__________________
(١) انظر وسائل الشيعة ٢٦ : ٩١ ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب ١ ، ب ٥ ، ب ٨.
(٢) وسائل الشيعة ٢٦ : ٢٤ ، أبواب ميراث الأبوين والأولاد ، ب ١٦ ، ح ٦ ، ومثله بزيادة : « ثلاثة أسهم » و « سهمان » و « سهم » بعد حكم الزوج والأُمِّ والأب على التوالي في الحديثين : ١ ، ٤ من الباب نفسه.
ولو صدق : هذا أبو زيد وجدّه حقيقة ، لكان لفظ الأب والجدّ من قبيل المترادف ، وهو ظاهر البطلان. وإذا ثبت أن أُبوّةَ الجدّ مجازٌ ، ثبت أن بنوّة ابن ابنه مجاز ؛ بحكم التضايف والمقابلة.
ومنها : أن المعروف من تحقيق أرباب النفوس القدسيّة أن المجاز خير من الاشتراك.
ومنها : أنا إذا قلنا بأن إطلاق الولد يشمل ولد الولد وإن نزل والأب يشمل الجدّ وإن علا ؛ فإمّا أن يكون على سبيل [ التواطؤ (١) ] ، وهو ظاهر البطلان ، أو على سبيل التشكيك ، فيعود إلى المجاز ؛ للافتقار في تعيين المراد إلى القرينة.
وأيضاً يجب صرف المطلق إلى أكمل الأفراد وأتمّها فعليّة. وعليه يجب صرف كلّ ما أُطلق فيه الولد والأب إلى المتلاصقين دون المنفصل بواسطة أو أكثر ، أو من باب الاشتراك اللفظي ، وهو باطل لا يقول به الخصم. مع أنه يؤول بافتقاره إلى القرينة إلى المجاز ، على أنه لا دليل على إرادة واحد من الثلاثة بخصوصه ، لا لغةً ولا شرعاً ولا عرفاً. وإرادة الجميع من موضوع واحد أظهر بطلاناً.
ومنها : أن التضايف لا يكون إلّا بين شيئين ، ولا يكون المعنى الواحد متضايفاً إلّا مع واحد ، فإذا تحقّق معنى التضايف بين شيئين لا يكون أحدهما أيضاً متضائفاً مع آخر ، كما يعرفه كل من عرف معناه. فلا يمكن على هذا أن يكون لشخص أكثر من أب واحد حقيقة ؛ لما يلزمه من تحقّق الإضافة بينه وبين العرف بمعنى واحد.
وبالجملة ، فأنت إذا نظرت في معاني الأنساب ومواليد العالم في كلّ طبقة ، وجدت معنى الأُبوّة والبنوّة والتوالد حقيقة منحصراً في المتلاصقين دون المفصولين بواسطة ، فضلاً عن الوسائط. فالبذر ليس أباً للثمرة ، وإنما أبوها ووالدها الشجرة ، والبذر إنما هو أبو الشجرة.
والجواب عن قول رسول الله صلىاللهعليهوآله : للحسن : والحسين : ابناي وقول الأئمّة عليهمالسلام
__________________
(١) في المخطوط : ( التواطي ).
نحن أبناء رسول الله (١) من وجهين :
أحدهما : أنه مجاز كما عرفت ، ولا نسلّم أن الأصل في الاستعمال الحقيقة ، بل هو أعمّ منها ومن المجاز ، والسرّ شاهد ، والبرهان مقرّر في محلّه.
والثاني : أنه حقيقة ، لكنّه ليس في مقام التولّد البشريّ الجسمانيّ الحسّيّ المحض ، وإنما هو في مقام قوله أنا وعلي : أبوا هذه الأُمّة (٢) وقوله : حسين : منّي وأنا من حسين (٣). وقول الرضا عليهالسلام : في تعليل تسمية الرسول : بأبي القاسم : قال لابن فضّال : أمَا علمت أن رسول الله صلىاللهعليهوآله : قال : أنا وعلي أبوا هذه الأمّة؟. قلت : بلى. قال أما علمت أنه يقال : عليّ قاسم الجنَّة والنار؟. قلت : بلى. قال فقيل له : أبو القاسم : ؛ لأنه أبو قسيم الجنّة والنار (٤) الخبر.
وقول زين العابدين عليهالسلام المؤمن أخو المؤمن لأبيه وأُمّه (٥).
وما استفاض من قولهم عليهمالسلام كلّنا واحد ؛ أوَّلنا محمّد ، وأوسطنا محمّد ، وآخرنا محمّد ، وكلّنا محمّد (٦).
وقول أمير المؤمنين عليهالسلام : أنا محمّد ومحمّد أنا ، وأنا من محمّد ومحمّد منّي (٧). وقول النبيّ صلىاللهعليهوآله : عليٌّ منّي ، وأنا من عليٍّ (٨).
وقول الصادق عليهالسلام : وقد أشار إلى فخذه ـ هذا لحم رسول الله صلىاللهعليهوآله : ، أو وهذا جلد رسول الله (٩).
__________________
(١) بحار الأنوار ٢٦ : ٢٥٦ / ٣٢ ، وفيه : « ونحن أبناء نبيِّ الله صلىاللهعليهوآله ».
(٢) كمال الدين : ٢٦١ / ٧ ، عيون أخبار الرضا عليهالسلام ٢ : ٨٥ / ٢٩.
(٣) سنن الترمذي ٥ : ٦٥٨ / ٣٧٧٥.
(٤) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ٢ : ٨٥ / ٢٩.
(٥) وسائل الشيعة ١٢ : ٢٣١ ، أبواب أحكام العشرة ، ب ١٣ ، ح ٥ ، وفيه عن الإمام الكاظم عليهالسلام ، بحار الأنوار ٦٤ : ٧٤ / ٢ ، وفيه عن الصادق عليهالسلام ، بحار الأنوار ٦٤ : ٧٥ / ٦ ، وفيه عن الرضا عليهالسلام.
(٦) بحار الأنوار ٢٦ : ٦ ، وقريب منه في : الغيبة ( النعماني ) : ٨٦ ، بحار الأنوار ٣٦ : ٣٩٩ ـ ٤٠٠ / ٩.
(٧) بحار الأنوار ٢٦ : ٦.
(٨) بحار الأنوار ٢٢ : ١٤٨ ، ٢٦ : ٣٥٠ ، وفيهما : « يا عليٌّ ، أنت منّي وأنا منك ».
(٩) مناقب آل أبي طالب ٤ : ٢٧١ ، بحار الأنوار ٢٦ : ٢٨ / ٢٩ ، وفيهما : قبض أبو عبد الله عليهالسلام على ذراع نفسه وقال : « يا بكير ، هذا والله جلد رسول الله ، وهذه والله عروق رسول الله ، وهذا والله لحمه .. ».
والأخبار بمثل هذا المضمون لا تكاد تحصى ، وكلّها حقيقة وإن لم تكن حقيقة لغويّة ، لكنّها حقيقة حقيقيّة عقليّة وجوديّة شرعيّة. ولا منافاة بينها وبين المجاز اللغوي.
والجواب عن الإجماع على أن عيسى المسيح عليهالسلام : ابنُ آدم من ثلاثة طرق :
أحدها : أنه مجاز ، كالقول بأن جميع البشر ممّن مضى ومَنْ غبر بنو آدم بالإجماع والنصّ (١). ولكنّ الإجماع على الاستعمال لا يدفع القول بأنه مجاز ؛ لأنه أعمّ من الحقيقة.
بهذا يجاب عن خطاب الله تعالى لنا بـ ( يا بَنِي آدَمَ ) (٢) : وشيوع إطلاق ابن آدم على سائر البشر.
الثاني : المعارضة بالإجماع على أن عيسى عليهالسلام ليس له أب. ومنه يظهر أن إطلاق ابن آدم : عليه مجاز ، فلا منافاة بين الإجماعين على هذا.
أمّا لو قلنا بأنه حقيقة تصادم الإجماعان المحقّقان على مرّ الأزمان ، وتحقّقُ إجماعين متناقضين في عصر واحد ظاهرُ الاستحالة ؛ لما يلزمه من اجتماع النقيضين. فثبت أن إطلاق ابن آدم : عليه مجاز ، وبه يثبت أن إطلاق الولد على ولد الولد مجاز.
الثالث : أنك إذا تدبّرت أخبار الذرّ وأخذ الميثاق وجدت فيها ما يدلّ على أن عيسى عليهالسلام بعد أن أُخرج من ظهر آدم عليهالسلام وأُخذ عليه الميثاق لم يُردّ كغيره إلى صلب آدم ، وإلّا لجرى في الأصلاب. ولعلّ في تسمية الله له بعيسى بن مريم : إشارة إلى ذلك.
وبذلك يثبت أن إطلاق ابن آدم : عليه مجاز ، وهو يشهد بأن إطلاق الولد على ولد الولد مجاز ، بل يدلّ عليه ؛ لعدم الفارق بين عيسى عليهالسلام : وغيره.
وعن شمول الوقف والوصيّة لجميع الطبقات ، فيما لو وقف واقف على بني هاشم : مثلاً ، أو أوصى لهم ، بأن الوقوف والوصايا تتبع القصود فمن وقف أو أوصى لبني
__________________
(١) الأعراف : ٢٦ ، ٢٧ ، ٣١ ، ٣٥.
(٢) الأعراف : ٢٦ ، ٢٧ ، ٣١ ، ٣٥.