أبي منصور عبد الملك بن محمّد بن اسماعيل الثعالبي
المحقق: جمال طلبة
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥
« منهج تحقيق الكتاب »
اتَّبعت في تحقيق الكتاب منهجاً تتحدد معالمه في الآتي :
١ ـ مقابلة النسخ الفرعية على النسخة الأصل ، وهي النسخة ( جـ ) المصورة عن مكتبة الجامع الكبير الغربية بصنعاء وإثبات الفروق ، ووضع رواية النسخة ( ط ) المطبوعة بين المعقوفين في النص عند إثباتها.
أما النسخة ( ل ) فأثبتَّ الفروق بالهامش ، ونبهت على النقص والزيادة.
٢ ـ تخريج الآيات القرآنية بعد مراجعتها على المصحف وكتب القراءات القرآنية في حالة ذكر القراءات.
٣ ـ تخريج الأحاديث والآثار في مظانها.
٤ ـ تخريج الأشعار ، وذكر اختلاف الروايات.
٥ ـ تخريج الأمثال وأقوال العرب.
٦ ـ عمل ترجمة موجزة للأعلام ، مع الإشارة إلى مصادر الترجمة.
٧ ـ تناول المواد اللغوية التي تحتاج إلى إيضاح ، وكذلك المسائل اللغوية.
٨ ـ دراسة المعرَّبات ، ومراجعتها على مظانها ، ومحاولة إثبات أصل الكلمة وتعربيها.
٩ ـ عمل الفهارس الفنية التي ألحقتها بالكتاب المحقق هي :
ـ فهرس الآيات القرآنية مُرَتَّبٌ حسب السور في المصحف.
ـ فهرس الأحاديث والآثار حسب أول لفظ في النص المستشهد به.
ـ فهرس الأمثال وأقوال المعرب.
* فهرس الأعلام.
* فهرس الكتب الواردة في الكتاب.
* فهرس القوافي.
* فهرس المسائل اللغوية.
* فهرس مصادر التحقيق.
* فهرس المحتويات.
« رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا ، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا ، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ».
|
د. جمال طلبة. |
النصُّ محققاً
بسم الله الرّحمن الرّحيم
« رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ، وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً » (١).
هذه (٢) رسالة جعلها أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل [ الثعالبي النيسابوري رحمة الله ](٣) ، مقدمة كتاب (٤) « فقه اللغة وسِرّ العربية » ، الذي أَلَّفَهُ لمجلس الأمير السيد أبي الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي ، عفا الله عنه (٥).
قال : من أحبَّ الله تعالى (٦) أَحَبَّ رسولَهُ (٧) محمداً صلىاللهعليهوسلم ، ومن أَحَبَّ الرسولَ العربيّ أَحَبَّ العربَ ، ومن أَحَبَّ العرب أَحَبَّ العربية التي نزل بها (٨) أفضل الكتب ، على أفضل العرب والعجم (٩) ، ومن أحب العربية عني بها ، وثابر عليها وصرف همَّته إليها ، ومَنْ هداهُ الله للإِسلام ، وشرح صدره للإِيمان ، وأتاه حسن سريرة فيه ، اعتقد أن محمداً صلىاللهعليهوسلم (١٠) خير الرسل ، والإِسلام خير الملل ، والعرب خير الأمم ، والعربية خير اللغات والألسنة ، والإِقبال على تفهُّمها من الديانة ، إذ هي أَداةُ العِلْمِ ، ومفتاح التَّفَقُّه في الدين ، وسبب إصلاح المعاش والمعاد ، ثم هي لإحراز الفضائل والاحتواء
__________________
(١) ليست في ط ، ل.
(٢) زيادة عن ( ط ).
(٣) زيادة عن ( ط ).
(٤) في ( ط ) : « على ».
(٥) في ( ح ) : ( أطال الله بقاءه ، وحرس عِزَّه وعُلَاهُ ).
(٦) زيادة عن ( ط ).
(٧) ليست في ل.
(٨) في ل ، ط : ( بها نزل ).
(٩) في ل ، ط : ( العجم والعرب ).
(١٠) في ( ح ) : عليهالسلام ، وبإزائها الحاشية : ( صلى الله عليه وعلى آله وسلم ).
على المروءة وسائر المناقب (١) كالينبوع للماء ، والزند للنار :
ولو لم يكن (٢) في الإحاطة بخصائصها (٣) والوقوف على مجاريها ومصارفها ، والتبحُّرِ في جلائلها ودقائقها (٤) إلا قوة القضية في معرفة إعجاز القرآن ، وزيادة البصيرة في إثبات النبوة اللذين هما (٥) عمدة الإيمان ، لكفي بهما فضلاً يَحْسُنُ أَثَرُهُ ، ويطيب في الدارين ثَمُره ، فكيف وأَيْسَرُهُ ما خصَّها الله عزَّ وَجَلَّ به من ضروب الممادح ، تكل أقلام الكتبة ، وتمل (٦) أنامل الحَسَبة ، ولما شَرَّفها الله تعالى عز اسْمُهُ وعظِّمَها ، ورَفَعَ خَطَرَها وكَرَّمها ، وأوحى بها إلى خير خلقه وجعلها لسان أمِينه على وحْيه ، وخلفائه في أَرْضِه ، وأراد بقاءها ودوامها ؛ حتى تكون (٧) في هذه العاجلة لخير (٨) عباده ، وفي تلك الآجلة لساكني دار ثوابه (٩) ، قَيَّض لها حَفَظَةً وخَزَنَةً من خَوَاصّ الناس (١٠) ، وأعيان الفضل ، وأَنْجُم الأرض ، فَنَسوا (١١) في خِدْمَتِهَا الشَّهوات ، وجَابُوا على إدراكها (١٢) الفَلَواتِ ، ونادَمُوا لاقْتِنائها الدفاتر ، وسامروا القماطر (١٣) والمحابر ، وأَفْنوا (١٤) من حصر لغاتها طباعهم ، وأَسْهَرُوا (١٥) في تَقْييد شَوَارِدِها أَجْفَانَهُم وأَجَالُوا في نَظْمِ قلائدِها أفكارَهُم ، وأَنْفَقُوا على تخليد كتبها أعمارهم ، فعظمت الفائدة ، وعمّت المصلحة وتوفرت العائدة ، وكلما بدأت (١٦) معارفها تتنكّر ، أو كادت معالمها تتستر ، أو عرض لها ما يشبه الفترة ، رد الله [ تعالى ](١٧) لها (١٨) الكرة ، فأهَبَّ بريحها (١٩) ، ونفق سوقها ، بصدر (٢٠) من أفراد الدهر أديبٍ ، ذي صدرٍ رَحيب ،
__________________
(١) في ( ط ) : أنواع المناقب.
(٢) في ( ل ) : تكن.
(٣) في ( ل ) : بها.
العبارة في ( ل ) : ( والتبحر في دقائقها.
(٤) وخصائصها ).
(٥) في ( ط ) : ( التي هي ).
(٦) في ( ط ) : ( يُثعب ).
(٧) عبارة : ( حتى تكون ) ليست في ل.
(٨) في ( ط ) : الخيار.
(٩) في ( ط ) : ( لساكني جنانه ودار ثوابه ).
(١٠) في ( ط ) : ( من خواصه من خيار الناس ).
(١١) في ( ط ) : ( تركوا ).
(١٢) عبارة : ( على إدراكها ) ليست في ( ط ).
(١٣) بإزائها في هامش ( ح ) : « القماطر : جمع قِمَطر ، وهو دعاء الكتب ، كما أن العَيْبَة وعاء الثياب ، وقد ورد في الباب الثالث والعشرين ـ فصل الأوعية : ليس يُعْلَم ما وعى القمطر : ما العلم إلا ما وعاه الصدر وفي معناه. ابن طباطبا ـ ليست علومك ما حوته دفاتر ، لكنها ما قد وعى الصدر ».
(١٤) بإزائها في هامش ( ح ) ؛ ( وأنفقوا ).
(١٥) في ( ل ) : ( وأسهدوا ).
(١٦) في ( ل ) : ( بدت ).
(١٧) ما بين المعقوفين عن ( ط ).
(١٨) كلمة : ( لها ) : ليست في ( ل ).
(١٩) في ( ط ) : ( فأحب ).
(٢٠) في ( ط ) : ( يفرد ).
وقريحة ثاقبة (١) ودراية صائبة ، ونفس سامية ، وهمّة عالية ، يُحِّب الأدب ويتعَصَّبُ للعربية ، فيجمع شملها ، ويكرم أهلها ، ويحرّكُ الخواطر الساكنة لإعادة رَوْنقها ، ويستثيرُ المحاسن الكاملة في صدور المتحلّين بها ويستدعي التأليفات البارعة في تجديد ما عفا من رسوم طرائفها ولطائفها (٢) ، مثل الأمير السيد (٣) أبي الفضل عبيد الله بن أحمد الميكالي أدام الله (٤) بهجته ، وحرس مهجته ، وأين مِثْلُه ، وأَصْلُهُ أَصْلُهُ وفصْلُه فَصْلُه؟
هَيْهَاتَ لَا يأْتي الزَّمَانُ بمثلِهِ |
|
إنَّ الزمانَ بمثلِه لَبَخِيلُ |
وما عَسَيْتُ أن أقول في من جمع أطراف المحاسن ، ونَظَم أشتات الفضائل ، وأخذ برقابِ المحامد ، واسْتَوْلَى على غايات المناقب فإن ذُكِرَ كَرَمُ المَنْصِب ، وشَرَفُ المُنْتَسَبِ ؛ كانت شجرَتُه الميكالية في قرارة المجد والعُلى (٥) ، أَصْلُها ثابِتٌ ، وَفَرْعُها فِي السَّماءِ ؛ وإنْ وُصِفَ حُسْنُ الصُّورَة ـ الذي هو أوَّلُ السعادة ، وعُنْوَانُ الخير وسِمَةُ السِّيادة ـ كان في وَجْههِ المقبول الصَّبيح ، ما يستنطِقُ الأفواه بالتسبيح ؛ لا سيما إذا ترقرقَ ماء البِشْرِ في غُرَّتِهِ وتفتَّق نُورُ الشَّرَفِ بين (٦) أَسِرَّتِهِ ، وإنْ مُدِحَ حُسْنُ الخُلُقِ ، فله أخلاقٌ خُلِقْنَ من الكرم المَحْضِ ، وشِيَمٌ تُشَامُ منها بارقَةُ المجدِ فلو مُزِجَ بها البحرُ لَعَذُبُ طَعْمُهُ ، ولو استعارَها الزمانُ لما جَارَ على حُرِّ حُكْمِهِ ، وإنْ أُجْرِيَ حَدِيثُ بُعْدِ الهِمَّةِ ضَرَبْنَا به المثل ، وتمثلنا هِمَّتَهُ على هَامَةِ زُحَل ، وإن نُعِتَ الفكرُ العميقُ ، والرّأْيُ الزَّنِيقُ (٧) فله منهما فلك يحيط بجوامع الصواب ، ويدورُ
__________________
(١) عبارة ( ل ) : ( وعزيمة راتبة ).
(٢) من هنا تختلف المقدمة في ( ل ).
(٣) في ( ط ) : السيد الأوحد.
(٤) في ( ط ) : ( الله تعالى ).
(٥) في ( ط ) : ( والعلاء ).
(٦) في ( ط ) : ( من ).
(٧) في ( ح ) : ـ الرقيق ، وبإزائه بهامشه « والرأي الزنيق والرقيق والوثيق والرَّنِيقُ.
والزَّنِيقُ : المحْكَمُ ، مأخوذٌ من الزّنَاق الذي يجعل في لَحْي الدابّة. وقال ابن أبي نوح : لم أره في الجمهرة ولا في الصحاح ولا في كتاب العين ، والذي ذكره في هذه الكتب : الزَّنيق ، الذي يجعل في حَنَك الدابة. وفي اللسان : ( الزِّناق ) : حَبْلٌ تحت حنك البعير يُجْذَبُ به. ورأيٌ زَنيقٌ : محكمٌ رَصِينٌ. وأَمْرٌ زَنِيقٌ وثيقٌ. ابن الأعرابي ؛ الزُّنُقُ العُقولُ التامَّةُ ».
بكواكب السّدادِ ، ومرآة تُرِيه وَدَائِعَ القلوبِ ، وتكشفُ له عن أسرار الغيوب ، وإنْ حُدِّثَ عن التواضع كان أَوْلى بقول البحتري ممن قال فيه (١) :
دَنَوْتَ تواضُعاً وَعَلَوْتَ مَجْداً |
|
فَشَأْنَاك انْحِدَارٌ (٢) وارْتِفَاعُ |
كَذَاك الشَّمْسُ تَبْعُدُ أَنْ تُسَامَى |
|
ويَدْنُو الضَّوْءُ مِنْها والشُّعَاعُ |
فأما (٣) سائر آلات (٤) الفَضْلِ ، وأدوات (٥) الخير ، وخِصَالِ المجدِ فقد قَسَمَ الله (٦) له منها ما يُبَاهِي (٧) الشمس ظُهُوراً ، ويُجَاري القَطْرَ وُفُوراً ، وأَمَّا فُنُونُ الآدَابِ ؛ فهو ابن بَجْدَتِها (٨) ، وأخو جملتها وأبو عذرتها (٩) ، ومالك أَزِمّتِها ، وكأنما يُوحَى إليه في الاستئثار بمحاسنها ، والتَّفَرُّدِ ببدائعها ، ولله هو إذا غرس الدُّرَّ في أرض القِرْطاسِ ، وطَرَّزَ بالظلام رِداء النهار ، وأَلْقَت بِحَارُ خواطره جواهرَ البلاغة على أنامله ، فهناك الحُسْنُ بِرُمَّتِه ، والإِحسانُ بكلِّيتِه ، ولله ميراثُ التَّرَسُّل بأَجْمُعِه ، إذْ قد انتهت إليه اليوم بلاغةُ البُلَغَاءِ ، فما تُظِلُّ الخضراءُ ، ولا تُقِلُّ الغبراءُ في زمننا هذا أجرى منه في ميدانها ، وأحسن تصريفاً (١٠) لِعِنَانِها ، فلو كُنْتُ بالنجوم مُصَدِّقاً ، لقلتُ : قد تَأَنَّقَ عطارَدُ في تدبيره ، وقصرَ عليه معظم هِمَّتِهِ ، ووقَفَ في طاعته عند أقصى طاقته.
__________________
(١) هذان البيتان للبحتري من قصيدة مدح بها إبراهيم بن المدبر في ديوانه ٢ / ١٢٤٦ وفي الديوان : ( وبعدت قعراً ) بدل ( وعلوت مجداً ) وفي لباب الآداب ٢ / ٨٧ ـ ٨٨ أن الصاحب بن عباد كان يقول : « أمدح شعر البحتري ، قوله ... وذكر البيتين ».
(٢) في ( ط ) : انخفاض ، وكذا في ديوانه ٢ / ١٢٤٦.
(٣) في ( ط ) : ( وأمّا ).
(٤) في ( ط ) : ( أدوات ).
(٥) في ( ط ) : ( وآلات ).
(٦) في ( ط ) : ( الله تعالى ).
(٧) في ( ط ) : ( يباري ). وبإزائها في هامش ( ح ) : ( يباري ).
(٨) يعنون : العالم بها. قال أبو الطيب المتنبي :
سألتُ حبيبى الوصلَ منه دُعابَةً |
|
وأعْلَمُ أنَّ الوصل ليس يكونُ |
فمَاسَ دلالاً وابتهاجاً وقال لى |
|
برفقٍ مجيباً ( ما سألتَ يَهُونُ) |
انظر : المضاف والمنسوب للثعالبي ٢٦٨.
(٩) بإزائها في هامش ( ح ) : ( العُذْرَةُ : دَم البَكَارَةِ ) وفي المضاف والمنسوب ٢٤٩ « يقال : فلان أبو عُذْرة هذا الكلام ، أي هو الذي اخترعه ولم يسبقه إليه أَحَدٌ ، وهو مستعارٌ من قولهم : هو أبو عُذْرَتِها ، أي هو الذي افْتَضَّها ويقال : إن المرأة لا تَنْسَى أَبَا عُذْرَتِها ».
(١٠) في ( ط ) : ( تصريفاً منه ).
ومن أراد أَنْ يَسْمَعَ سِرَّ النظم (١) ، وسِحْرَ الشِّعْرِ (٢) وَرُقْيَةَ الدَّهْرِ ، ويرى صَوْبَ العَقْلِ ، وذَوْبَ الظَّرْفِ ، ونتيجة الفضل فليستنشدْ ما أَسْفَرَ عنه طَبْعُ مَجْدِه ، وأثمرَهُ عَالي فِكْرِهِ من ملحٍ تمتزجُ بأجزاءِ النفوسِ لنفاسَتِها (٣) ، وتُشْرَبُ بالقلوبِ (٤) لسلاستها :
قَوَافٍ إذا ما رواها المَشُو |
|
قُ هَزَّت لها الغانياتُ القُدُودَا |
كَسَوْن عَبِيداً (٥) ثِيابَ العَبِيد |
|
وأَضْحَى لَبِيدٌ لَدَيْها بَلِيدا |
وايم الله : ما من يوم أسعفني فيه الزمان بمواجهة وجهه وأسعدني بالاقتباس من نوره ، والاغتراف من بحره ، فشاهدت ثمار المجد والسؤدد تنتثر من شمائله ، ورأيت فضائل أفراد الدهر عيالاً على فضائله ، وقرأت نسخة الفضل والكرم (٦) من ألحاظه ، وانتهَبْتُ فَرَائِد من أَلْفَاظِه ، إلَّا تذكَّرْتُ ما أنشدنيه ـ أدام الله تأييده ـ لعلي بن الرومي (٧) :
لَوْ لا عَجَائِبُ صُنْعِ اللهِ مَا نَبَتَتْ |
|
تِلْكَ الفَضَائِلُ في لَحْمٍ وَلَا عَصَبِ (٨) |
وأنشدت فيما بيني وبين نفسي ، ورددت قول الطائي (٩) :
فلو صَوَّرْتَ نَفْسَك لَمْ تَزِدْهَا |
|
على مَا فِيكَ مِنْ كَرَمِ الطِّبَاعِ |
وثلثت (١٠) بقول كَشَاجم (١١) :
__________________
(١) بإزائها في ( ح ) : ( النثر ).
(٢) في ( ط ) : النثر.
(٣) بإزائها في هامش ( ح ) : ( نَفُس الشيء بالضم نفاسة ، أي صار مرغوباً فيه ).
(٤) إزاؤها في ( ح ) : ( بالعقول ).
(٥) إزاؤها في ( ح ) : ( عبيد بن الأبرص : شاعر. وكذا لبيد ، ويعني تفضيل شعر هذا الأمير على شعر عبيد الشاعر ) ، وكذا لبيد.
(٦) في ( ط ) : « الكرم والفضل ».
(٧) في ( ح ) ( لابن الرومي ).
(٨) من قصيدة في الحسن بن عبيد الله بن سليمان ، في ديوانه ١ / ١٩٦ ورواية الديوان :
سألتُ حبيبى الوصلَ منه دُعابَةً |
|
وأعْلَمُ أنَّ الوصل ليس يكونُ |
فمَاسَ دلالاً وابتهاجاً وقال لى |
|
برفقٍ مجيباً ( ما سألتَ يَهُونُ) |
وعلَّق المحقق بأنه في حاشية النسخة ( يروى : ولا عَصَبِ ).
(٩) شرح ديوان أبي تمام ١٨٣.
(١٠) في ( ط ) : ( وثَنَّيْت ).
(١١) كشاجم : هو أبو الفتح محمود بن. ـ
ما كانَ أَحْوَجَ ذا الكمالِ إلى |
|
عَيْبٍ يُوَقِّيهِ من العَيْنِ |
ورَبَّعْتَ (١) بقول أبي الطيب (٢) المتنبي :
فإنْ تَفُقِ الأَنَامَ وأَنْتَ مِنْهُمْ |
|
فإنَّ المِسْكَ بَعْضُ دَمِ الغَزَالِ |
ثم استعرت فيه لسان أبي إسحاق الصَّابي (٣) ، حيث قال للصاحب (٤) وَرَّثَهُ الله أعْمَارَهُما ، كما وَرَّثَهُ في البلاغة أَقْدَارَهُمَا :
الله حَسْبي فيك من كُلَّ ما |
|
يُعَوّذُ العَبْدُ به المَوْلَى |
ولا تَزَلْ تَرْفُلُ في نِعْمَةٍ |
|
أَنْتَ بها مِنْ غَيْرِك الأَوْلَى |
وما أنسى لا أنسى أيامي عنده بفيروز أباد (٥) إحدى قراه برسداق (٦) جوين (٧) ، سقاها الله ما يحكي أخلاق صاحبها من سبل القطر (٨) فإنها كانت بطلعته السعيدة ، وعشرته العطرية ، وآدابه العلوية وألفاظه اللؤلؤية ، مع جلائل إنعامه المذكورة ، ودقائق إكرامه المشكورة ، وفوائد مجالسه المعمورة ،
__________________
الحسين بن السندس بن شاهك من شعراء القرن الرابع ، وكشاجم لقبُهُ ، وهي كلمة مخترعة من صفاته ، تركَّبت منها ، لأنه كان كاتباً وشاعراً وأديباً وجميلاً ومغنياً. وهو من شعراء سيف الدولة ، ومعدودٌ بين كُتّاب الإنشاء.
راجع ترجمته في : فوات الوفيات ٤ / ٩٩ والفهرست ٢٠٦ وزهر الآداب ١ / ٣٨٨.
(١) في ( ط ) : ( وثلّثت ).
(٢) في ( ط ) : « المتنبي » ، والبيت مُخْتَتَمُ قصيدةٍ له في رثاء أُمِّ سَيْف الدولة الحمداني. معجز أحمد ٣ / ٥٤ وديوانه ص ٢٦٨.
(٣) أبو إسحاق الصابي ، هو إبراهيم بن هلال الحراني الصابي ، كان كاتباً لآل بويه وله رسائله المشهورة. راجع ترجمته في وفيات الأعيان ١ / ١٢.
(٤) الصاحب ابن عباد القزويني ، لقب بالصاحب لتلمذته ومصاحبته لابن العميد وزَرَ لآل بويه ، وله يَدٌ راسخة في العلم والأدب.
انظر ترجمته في : وفيات الأعيان ١ / ٧٥.
(٥) في ( ح ) : بقنواباذ وبإزائه بهامشه بقنوزاباد ، تحريف.
(٦) في ( ط ) : ( رستاق ) ، وبإزائه بهامش ( ح ) : « والعامة تقول : الرُّسْتَاق والرُّزْداق والرُّسْداق ». وفي تصحيح التصحيف ٢٨٤ « العامة تقول : « الرُّسْتَاق » بضم الراء وسكون السين المهملة. والصواب « رَزْداق » و « رَسْدَاق ».
(٧) جوين : بلدة بسرخس ، وكورة بخراسان تشتمل على قرى كثيرة مجتمعة.
(٨) بإزائه بهامش ( ح ) : « السبل : المطر ، والسَّبَل والسُّبل : « برد ».
ومحاسن أقواله وأفعاله التي يعيا بها الواصفون أنموذجات (١) من الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ تذكرتها في تلك المرابع ، التي هي مراتع النواظر ، والمصانع التي هي مطالع العيش الناضر ، والبساتين التي إذا أخذت بدائع زخارفها ، ونشرت طرائف مطارفها ، طوى لها الديباج الخسرواني ، ونفى معها الوشي الصنعاني (٢) ، فلم تشبه إلا بشيمه ، وآثار قلمه ، وأزهار كلمه ، تذكرت سحراً ونسيماً ، وخيراً عميماً ، وارتياحاً مقيماً ، وروحاً وريحاناً ونعيماً.
وكثيراً ما أحكي للإِخوان والأصدقاء : أني استغرقت أربعة أشهر هناك بحضرته ، وتَوَفَّرْتُ على خِدْمتِه ، ولازمْتُ في أكثر أوقات الليل والنهار عَالِي مَجْلِسهِ ، وتعطَّرْتُ عند ركوبه بغبار موكبه.
فبالله يميناً (٣) قد كنتُ غنياً عنها (٤) ، لو خِفْتُ حِنْثاً فيها ، أنّي ما أنكرتُ طَرَفاً من أخلاقهِ ، ولم أُشَاهِدْ إلا مجداً وشرفاً من أحواله وما رأيته اغتابَ غائباً ، أَوْ سَبَّ حَاضِراً ، أَوْ حَرَم سَائِلاً ، أو خَيَّب آمِلاً ، أَوْ أَطَاعَ سُلْطَانَ الغَضَبِ والحَرْدِ ، أو تَصَلَّى بنار الضَّجَر في السَّفَرِ ، أو بَطَسَ بَطْشَ المتجبِّر ، وما وَجَدْتُ المآثر إلا ما يتعاطاه ، ولا المآثِمَ إلا ما يَتَخَّطاهُ ، فعوَّذْتُهُ بالله ، وكذلك الآن ، من كل طَرْفٍ عَائِنٍ ، وَصَدْرٍ خَائِنٍ.
هذا ، ولو أعارتني خُطَبَاءُ إياد (٥) ألسنتها ، وكتاب العراق أيديها في وصف أَيَادِيه ، التي اتَّصَلَتْ عندي كاتِّصالِ السُّعُودِ ، وانتظمت لَدَيَّ فِي حَالَتَي حُضُورِي وَغَيْبَتِي كانتظامِ العُقُود. فَقَلْتُ في ذكرها طالباً أَمَدَ الإِسْهَابِ ، وكَتَبْتُ في شُكْرِها مَادًّا أَطْنَابِ الإِطْنَابِ ، لَمَا كنت بعد الاجتهاد إلا مَاثِلاً في جانب القُصُور ، متأخراً عن الغرض المَقْصُود ، فكيف وأنا قاصِرٌ سَعْيَ البَلَاغة ، قَصِيرُ بَاعِ الكتابة.
__________________
(١) بهامش ( ح ) : « أنموذجات : عيون الشيء وخياره ، والأنموذج الطائفة من الشيء ، وقيل : المثال كالمثال من العلم ».
(٢) في ( ح ) : لاسكنداني ، تحريف.
(٣) في ( ط ) : أقسم يميناً.
(٤) في ( ط ) : عنها غنياً ، وبعدها في ( ط ) العبارة ، ( وما كنت أُوليها ).
(٥) بإزائه في ( ح ) : قبيلةٌ من العرب.
وهي قبيلة اشتهرت بالفصاحة ، ومن أشهر خطبائها قسُّ بن سَاعِدةَ الإِيادي.
وعلى ذلك فقد صَدِيَ فَهْمِي مع بُعْدٍ كان عن حَضْرَتِهِ ، وتكدَّرَ مَاءُ خَاطِري ، لتطَاوُلِ العَهْدِ بخدمته ، وتكسَّر في صَدْرِي ما عَجَزَ عن الإِفصاحِ به لِساني ، فكأن أبا القاسم الزعفراني (١) ، أحد شعراء العصر الذين أوردت ملحهم في كتاب « يتيمة الدهر » قد عبَّر عن قلبي بقوله (٢) :
لِيْ لِسَانٌ كَأَنَّهُ لِي مُعَادِي |
|
لَيْس يُنْبِي عَنْ كُنْهِ مَا فِي فُؤَادِي |
حَكَمَ اللهُ لِيْ عَلَيْهِ فَلَوْ أُنْ |
|
صِفَ قَلْبِي عَرَفْتُ قَدْرَ وِدَادِي |
فإلى من جَمَّلَ الزَّمَانَ بمجدِهِ ، وشَرَّفَ أَهْلَ الآدَابِ بِمُنَاسَبِةِ طَبْعِهِ ، ونظرَ لِذَوِي الفَضْلِ بامتداد ظِلِّهِ ، ودَاوَى أَحْوَالَهُم بِطِبِّ كَرَمِهِ ، أَرْغَبُ في أن يَجْعَلَ أيامَهُ المسعودَة أَعْظم الأَيَّامِ السَّالِفِةِ يُمْناً عليه ، ودُونَ الأَيَّامِ المُسْتَقْبَلَةِ فِيما يُحِبُّ ويُحِبُّ أَوْلياؤُهُ لَهُ وأَنْ يُديمَ إمْتَاعَهُ بظلِّ النَّعْمةِ ، ولِبَاسِ العَافِيَةِ ، وفِرَاشِ السَّلَامَةِ ومَرْكِبِ الغِبْطَةِ ، ويُطِيلَ بَقَاءَهُ مَصُوناً في نفسَه وأَعِزَّتِهِ ، متمكّناً مما يقتضيه عَالي هِمَّته ، وأَنْ يَجْمَعَ له المَدّ في العُمرِ إلى النَّفَاذِ في الأَمْرِ ، والفَوْزَ بالمَثُوبَةِ من الخالِق ، والشُّكْرَ من المخلوقين ، ويجمعَ آمالَهُ من الدنيا والدين.
وأعودُ ـ أدامَ اللهُ تَأْيِيدَ الأمير السَّيّد الأَوْحَد ـ لما افْتَتَحْتُ له رسالتي هذه ، فأقولُ : إنّي ما عدلت بمؤلفاتي (٣) إلى هذه الغاية ، عن اسْمِهِ وَرَسْمِهِ ، إخلالاً بما يَلْزَمُني مِنْ حَقِّ سُؤْدُدِهِ ، بل إجلالاً له عما لا أَرْضَاهُ للمُرورُ بِسَمْعِهِ ولَحْظِهِ ، وتَحَامِياً لِعَرْضِ (٤) بِضَاعَتِي المُزْجَاةِ على قُوَّةِ نَقْدِهِ ، وذَهَاباً بنفسي عن أنْ أُهْدِيَ للشَّمْسِ ضَوْءاً ، أَوْ أَنْ أَزِيدَ في القمرِ نُوراً ، أَوْ أَنْ أكون (٥) كجالبِ المسكِ إلى أرض التُّرْكِ (٦) ، والعُودِ إلى بلاد الهِنْد (٧) ، والعَنْبَرِ إلى البحر الأَخْضَرِ (٨).
__________________
(١) أبو القاسم الزعفراني ، من أهل العراق ، شيخُ شعراء العصر وبقية من تقدَّمُوه ، حَسَنُ الشِّعْر ، ولكلامه رَوْنَقٌ ونفاسَةٌ وأكثر شعره في الوصف والمديح ، ينظر فيه : اليتيمة ٣ / ٣٤٦ والمنتحل ١٣٩.
(٢) في لباب الآداب ٢ / ١١٩.
ورواية البيت الثاني :
سألتُ حبيبى الوصلَ منه دُعابَةً |
|
وأعْلَمُ أنَّ الوصل ليس يكونُ |
فمَاسَ دلالاً وابتهاجاً وقال لى |
|
برفقٍ مجيباً ( ما سألتَ يَهُونُ) |
وبنصهما السابق في اليتيمة ٣ / ٣٥٦.
(٣) في ( ط ) : « بمؤلفاتي هذه ».
(٤) في ( ط ) : ( بعرض ).
(٥) في ( ط ) : « فأكون ».
(٦) في ( ط ) : « أو ».
(٧) في ( ط ) : « الهنود ».
(٨) يعني بذلك المحيط الهندي ، وهو معروف بوجود حيوان العنبر فيه.
وقد كانت تجري في مجلسه ـ آنسه الله تعالى (١) ـ نكت من أقاويل أئمة الأدب في أسرار اللغة وجوامعها ، ولطائفها وخصائصها ، من (٢) لم يتنبهوا لجمع شَمْلِه ، ولم يتوصَّلوا إلى نَظْمِ عِقْدِهِ ، وإنما اتَّجَهتْ لهم في أثناء التأليفات ، وتضاعيف التصنيفات ، لُمَعٌ يسيرة كالتوقيعات (٣) ، وفِقَرٌ خفيفة كالإِشارات ، فيلوح لي ـ أدام الله دولته ـ بالبحث عن أمثالها ، وتحصيل أخواتها ، وتذييل ما يتصل بها ، وينخرِطُ في سلكها ، وكَسْرِ كتابٍ (٤) جامع عليها وإعطائها من النَّيْقَةِ (٥) حَقَّها. وأنا ألوذُ بِأكنافِ المُحَاجَزَة ، وأَحُومُ حول المدافعة ، وأَرْعَى رَوْضَ المُمَاطَلَة ، لا تَهَاوُناً بأَمْرِهِ الذي أراه كالمكتوبات ، ولا أُمَيِّزَهُ عن المَفْرُوضَاتِ ، ولكن تفادياً من قُصُورِ سَهْمي (٦) عن هَدَف إرَادَتِهِ ، وانحرافاً عن الثِّقَةِ بنفسي في عملِ ما يَصْلُحُ لخِدْمتِه ، إلى أَنْ اتَّفَقَتْ لي في بعض الأيام ، التي هِي أعيادُ دَهْرِي ، وأَعْيَانُ عُمْرِي ، مُوَاكَبَةُ القمرين ، بمسايرة رِكَابِه ، ومواصلة السعدين (٧) بصلة جنابه ، في متوجَّهه إلى فيروزآباد من الشامات ، ومنها إلى خداي داد (٨) ، عمرها الله بدوام عمره ، فلما :
أخذنا بأطرافِ الأحاديث بيننا |
|
وسالَتْ بأَعْنَاقِ المَطِيِّ الأَبَاطِحُ (٩) |
وعدنا للعادة عند الالتقاء (١٠) في تجاذُب أَهْدَابِ الآداب ، وفَتْقِ نَوَافج الأخبار والأشعارِ ، أَفْضَتْ بنا شُجُونُ الحديث إلى هذا الكتاب المذكور ، وكَوْنِهِ شريفَ الموضوع (١١) ، أنيقَ المسموع إذا خَرَجَ من العَدَمِ إلى الوُجُودِ. فأَحَلْتُ في تأليفه على بعض حاشيته من أهل الأدب إذا أعارَهُ ـ أدام الله
__________________
(١) كلمة « تعالى » : ليست في ( ط ).
(٢) في ( ط ) : « مما ».
(٣) بإزائها في ( ح ) : ما يُوَقَّع من غير تصنيف.
(٤) في ( ط ) : « دفتر ».
(٥) بإزائها في ( ح ) : « الحُسْن ».
(٦) بإزائها في ( ح ) : قصور همتي عما يعمل لخزانته » في نسخة أخرى.
(٧) بإزائه في ( ح ) : يعني بالسَّعْدَين المشتري والزُّهرَة.
(٨) إزؤها في ( ح ) : « خُدْوَاذاد » في أخرى.
(٩) ورد البيت بلا نسبة في الشعر والشعراء ٢٥ ( ط ) بيروت وأسرار البلاغة ١٦ ودلائل الإِعجاز ٥٩ ـ ٦٠ ونسب في الشعر والشعراء ص ٨ ( ط ) بريل بليدن سنة ١٩٠٢ لكثير عزة.
(١٠) في ( ج ) : « لانكفاء ».
(١١) في ( ج ) : « الموضع ».
قدرته ـ لَمْحَةً من هدايته ، وأمَدَّهُ بشْعْبَةٍ (١) من عنايته ، فقال لي ، صَدَّقَ الله قوله ، ولا أعدم الدنيا طَوْلَهُ (٢) ، كما أذاقَ العِدَا بَأْسَهُ وَصَوْلَهُ : إنَّك إنْ أَخَذْتَ فيه أَجَدْتَ وَأَحْسَنْتَ ، وليسُ له إلَّا أَنْتَ.
فقلت له : سَمْعا سَمْعاً ، ولم أسْتجِزْ لأمرهِ دَفْعاً ، بل تلقيتُّهُ باليَدَيْن ، وَوَضَعْتُهُ على الرَّأْسِ والعَيْن ـ وعاد ـ أدام الله تمكينَهُ ـ إلى البلدة عَوْدَ الحَلْي إلى العَاطِلِ ، والغَيْثِ إلى الرَّوْضِ المَاحِل.
فأقام لي في التأليف معالِمَ أقفُ عندها ، وأَقْفُو حَدَّها ، وأَهاب بي إلى ما اتَّخَذْته قِبْلَةً أُصَلِّي إليها ، وقاعِدةً أبني عليها ، من التمثيل والتنزيل ، والتَّفصيل والترتيب ، والتَّقْسيم والتقريب وكنت إذا ذاك مُقِيمَ الجسم ، شاخِصَ العَزْمِ ، فاستأذَنْتُهُ في الخروج إلى ضيعةٍ لي متناهية الاختلال ، بعيدةِ المَزَارِ فأجمع فيها بين الخلوة للتأليف (٣) ، وبين الاستعمار. فأَذِنَ لي أدام الله غِبْطَتَهُ ـ على كُرْهٍ مِنْهُ لِفُرْقَتي ، وأَمَرَ ـ أعلى الله أمرَهُ ـ بتزويدي من ثمار خزائن كُتُبهِ ، عمَّرها الله بطول عمره ، ما أستظهر به على ما أنا بصدَدِه. فكانَ الدليلَ يعينُ على السَّفَرِ بالزاد (٤) ، والطبيبَ يُتْحفُ المريضَ بالدَّواء والغذاء. وحين مضيتُ لِطِيَّتي ، وألْمَمْتُ بمقصدي ، وَجَدْتُ بركةَ حُسْنِ رأيه ، ويُمْنَ اعتزائي إلى خدمته ، قد سَبَقاني إليه وانتظراني به ، وحَصَّلْتُ مع البُعْدِ عن حَضْرَتِهِ ، في مُطَّرَحٍ من شُعَاعِ سعادته ، يُبَشِّرُ بالصُّنْعِ الجميل ، ويُؤذِنُ بالنُّجحِ القريب. وتُرِكْتُ والأدبَ والكُتَبَ ، أنْتَقي منها وأنتخِبُ وأفَصِّلُ وأُبَوِّبُ ، وأُقَسِّمُ وأُرَتِّبُ ، وأَنْتَجِعُ من الأئمة ، كالخليل (٥) والأصمعي ، وأبي عمرو الشيباني ، والكسائي ، والفراء ، وأبي زيد وأبي عبيدة ، وأبي عبيد ، وابن الأعرابي ، والنضر بن شميل وأَبَوَي العباس ، وابن دريد ، ونفطويه ، وابن خالويه والخارزنجي ، والأزهري ، ومن سواهم من ظرفاء الأدباء الذين جمعوا فصاحة العرب (٦) البلغاء ، إلى اتقان العلماء ، ووعُورَةِ اللغة ، إلى سُهُولَةِ البلاغة ،
__________________
(١) بإزائه في ( ح ) : « الشعبة : الطائفة ».
(٢) في ( ط ) : « جماله وطوله ».
(٣) في ( ط ) : « بالتأليف ».
(٤) في ( ط ) : « فكأن كالدليل يعين ذا السَّفَرِ بالزَّاد ».
(٥) في ( ط ) : مثل الخليل.
(٦) كلمة ( العرب ) : ليست في ( ط ).
كالصَّاحب أبي القاسم ، وحمزة بن الحسن الأصبهاني ، وأبي الفتح المراغي ، وأبي بكر الخوارزمي والقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني ، وأبي الحسين أحمد بن فارس القزويني ، وأَجْتَبي من أنوارهم ، وأَجْتَني من ثمارهم ، وأقتفي آثارَ قومٍ قد أَقْفَرَتْ منهم البِقَاعُ ، وأجمعُ في التأليف بين أبكارِ الأبوابِ والأَوْضَاع ، وعُونِ اللغاتِ والألفاظ ، كما قال أبو تمام (١) :
أما المعاني فَهْيَ أبكارٌ إذَا |
|
افْتُضَّتْ وَلَكِنَّ الْقَوَافِيَ عُونُ (٢) |
ثم اعترضتني أسباب ، وعرضت لي أحوال ، أدت إلى إطالة عنان الغيبة عن تلك الحضرة المسعودة ، والمقام تحت جناح الضرورة من الضَّيْعَةِ المذكورة ، بمدرجة للنوائب تصكني فيها سفاتج الأحزان ، وترسل على شواظاً من نار القُفْصِ (٣) ، الذين طَغَوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد :
ولا ثَبَات على سُمِّ الأَسَاوِدِ لي |
|
وَلَا قَرَارَ على زَأْرٍ مِنَ الأَسَدِ (٤) |
إلَّا أَنَّ ذِكْرَ الأمير [ السيد ](٥) الأوحد ، [ أدام الله تأييده ](٦) كان هِجِّيرَايَ في تلك الأحوال ، والاستظهار بيُمْنِ (٧) الاعتزاء إلى خدمته شعاري في تلك الأهوال ، فلم تبسُط النكبةُ إليَّ يدها إلا وقد قَبَضَتْهَا سعادَتُهُ ، ولم تَمْتَدَّ بي أيام المحنة ، إلا وقد قَصَرَتْهَا عني بركتُهُ.
وكانت كتُبهُ الكريمة الواردة عَلَيَّ ، تكتُبُ لي أَمَاناً مِنْ دَهْرِي وَتهدي
__________________
(١) لأبي تمام في ديوانه ٣١٢ ، وفيه « إذا نُصَّتْ » مكان « إذا افْتُضت » ونُصَّت : أقعدت على المِنَصة ، وهي كرسي مرفع عليها العروس في جلائها لِتُرى من بين النساء.
(٢) بإزائه في ( ح ) : « العُونُ : النَّصَفُ من النِّساءِ ، جمع عَوَانٍ ».
(٣) بإزائه في ( ح ) : « القُفْصُ : موضعٌ عند بغداد ، يُوْجَدُ فيه النبيذ.
(٤) في ( ط ) الشطر الثاني ، وعجز البيت للنابغة ، وصدره : * أنْبِئت أَنِ أَبا قابوس أوعدني *
وهي من قصيدة يمدح فيها النعمان بن المنذر ، ويعتذر إليه ممّا بلغه فيما وشى به بنو قريع في أمر المتجردة.
ديوانه ص ١٥ والشعر والشعراء ٩٤.
(٥) ما بين المعقوفين زيادة عن ( ط ).
(٦) ما بين المعقوفين زيادة عن ( ط ).
(٧) في ( ط ) : ( بتمييز ).
الهدوءَ إلى قَلْبي ، وإنْ كانت تَسْحَرُ عَقْلي ، وتُثْقِلُ بالمِنَنِ ظهري ، إلى أن وَافَقَ ما تفضَّلَ اللهُ به من كَشْفِ الغُمَّةِ وحلِّ العقدة ، وتيسير المسير ، ورفع عوائق التعسير اشتمال النظام عى ما دبرته من تأليف كتاب (١) باسمه ، ومشارفة الفراغ من تشييد ما أَسَّسْتُه بِرَسْمِه ، راجياً أن يعيرَهُ نظرَ التهذيب ، ويَأْمُرَ بإجَالةِ قلمِ الإِصلاح فيه ، وإلحاقِ ما يَرْقَعُ خَرْقَهُ ، ويَجْبُرُ كَسْرَهُ بحواشِيهِ.
ولما عَلَوْتُ (٢) رواق العِزِّ واليُمْنِ من حَضْرَتِهِ ، ورَاجَعْتُ رَوْحَ الحياة ونسيم العيش بخدمته ، وجَاوَرْتُ بحر الشرف والأدب من عالي مجلسه ، أدام الله أُنْسَ (٣) الفَضْل به ، فَتَح لي إقبالَهُ رِتَاجَ التَّخيُّر ، وأَزْهَر لي قربُهُ سِرَاجَ التَّبَصُّرِ في استتمام الكتاب ، وتقرير الأبواب ، فبلغْتُ بها الثلاثين على مَهَلٍ وروية ، وضَمَّنْتُها من الفصول ما يناهز ستمائة [ فَصْلٍ ] ، وهذا ترتيب (٤) الأبواب :
الباب الأول : في الكليات (٥) ، أربعة عشر فضلاً.
الباب الثاني : في التنزيل والتمثيل ، خمسه فصول.
الباب الثالث : في الأشياء تختلف أسماؤها وأوصافها لاختلاف أحوالها ، أربعة (٦) فصول.
الباب الرابع : في أوائل الأشياء وأواخرها ، ثلاثة فصول.
الباب الخامس : في صغار الأشياء وكبارها وعظامها وضخامها عشرة فصول.
الباب السادس : في الطول والقصر ، أربعة (٧) فصول.
الباب السابع : في اليبس واللين والرطوبة ، أربعة فصول.
__________________
(١) في ( ط ) : ( الكتاب ).
(٢) في ( ط ) : ( عاودت ).
(٣) في ( ط ) : ( أسّ ).
(٤) في ( ط ) : ( ثبت ).
(٥) تكرر عبارة : « وفيه » في جميع الأبواب في ط ، اكتفينا بالإِشارة إلى ذلك هنا لأول مرة لتكرارها.
(٦) في ( ط ) ثلاثة فصول ، ومرد الاختلاف عن ( ح ) أنه قسم الفصل الثالث فصلين.
(٧) في ( ح ) : خمسة فصول.
الباب الثامن : في الشدة والشديد من الأشياء ، أربعة فصول.
الباب التاسع : في الكثرة ، والقلة ، ثمانية فصول.
الباب العاشر : في سائر الأوصاف والأحوال المتضادة ثمانية وثلاثون فصول.
الباب الحادي عشر : في الملء والامتلاء ، والصفورة والخلاء عشرة فصول.
الباب الثاني عشر : في الشيء بين الشيئين ، سنة فصول.
الباب الثالث عشر : في ضروب الألوان والآثار ، تسعة وعشرون فصلاً.
الباب الرابع عشر : في أسنان الناس والدواب ، وتنقل الحالات بها سبعة عشر فصلاً.
الباب الخامس عشر : في الأصول والأعضاء والرؤوس والأطراف وأوصافها ، وما يتولد منها ، ويتصل بها ، ويذكر منها وستون فصلاً.
الباب السادس عشر : في الأمراض والأدواء وما يتلوها وما يتعلق بها ، أربعة وعشرون فصلاً.
الباب السابع عشر : في ضروب الحيوانات وأوصافها ، تسعة وثلاثون فصلاً.
الباب الثامن عشر : في الأحوال والأفعال الحيوانية ، سبعة وعشرون (١) فصلاً.
الباب التاسع عشر : في الحركات والأشكال والهيئات ، وضروب الضرب والرمي أربعون فصلاً.
الباب العشرون : في الأصوات وحكاياتها ، ثلاثة وعشرون فصلاً.
الباب الحادي والعشرون : في الجماعات ، أربعة عشر فصلاً.
__________________
(١) في ( ح ) : ثمانية وعشرون.
الباب الثاني والعشرون : في القطع والانقطاع والقطع ، وما يقاربها من الشق والكسر ، وما يتصل بها سبعة (١) وعشرون فصلاً.
الباب الرابع والعشرون : في الأطعمة والأشربة وما يناسبها سبعة عشر فصلاً.
الباب الخامس والعشرون : في الآثار العلوية وما يتلو الأمطار من ذكر المياه وأماكنها ، ثمانية (٢) عشر فصلاً.
الباب السادس والعشرون : في الأرضين والرمال والجبال والأماكن والمواضع وما يتصل بها ، سبعة عشر فصلاً.
الباب السابع والعشرون : في الحجارة ، ثلاثة (٣) فصول.
الباب الثامن والعشرون : في النبت والزرع والنخل ، سبعة فصول.
الباب التاسع والعشرون : في ما يجري مجرى الموازنة بين العربية والفارسية ، خمسة فصول.
الباب الثلاثون : في فنون مختلفة الترتيب من الأسماء والأفعال والأوصاف ، تسعة وعشرون فصلاً.
* * *
وقد اخترت لترجمته ، وما أجعله عنوان معرفته ، ما اختاره أدام الله توفيقه ، من « فقه اللغة » ، وشفعته « بسر العربية » ليكون اسماً يوافق مسماه ، ولفظاً يطابق معناه.
وعهدي به ـ أدام الله تأييده ـ يستحسن ما أنشدتُهُ لصديقه أبي الفتح علي بن محمد البستي (٤) ، ورثه الله عمره :
__________________
(١) في ( ج ) : « ستة وعشرون ».
(٢) في ( ح ) : « سبعة عشر ».
(٣) في ( ح ) : « أربعة فصول ».
(٤) أبو الفتح علي بن محمد البستي ، شاعر مكثر يعين بضروب البديع ومن أبرز أغراض شعره : المديح والهجاء والوصف والغزل والإخوانيات وكان كاتباً مقتدراً ، انظر : وفيات الأعيان ٣ / ٥٨ واليتيمة ٤ / ٣٠٢.
لا تُنْكِرَنَّ إذا أَهْدَيْتُ نَحْوَكَ من |
|
عُلُومِكَ الغُرَّ أو آدَابِكَ النُّتَفَا |
فَعَلْيِّمُ الباغِ (١) قد يُهْدِي لِمالِكِهِ |
|
برسْمِ خدمَتِه من باغِهِ التُّحَفَا |
وهكذا أقول له بعد تقديم قول أبي الحسن بن طباطبا (٢) فهو الأصل في معنى ما سقت كلامي إليه (٣) :
لا تُنْكِرَنْ إهْدَاءنا لَكَ مَنْطِقاً |
|
منكَ اسْتَفْدنا حُسنَهُ ونظَامَهُ |
فاللهُ عزوجل يَشْكُرُ فِعْلَ مَنْ |
|
يَتْلُو عليه وَحْيَهُ وَكَلَامَهُ |
والله الموفق للصواب ، وهذا حين سياقة الأبواب.
__________________
(١) بهامش ( ح ) : « الباغ : البستان » ومما في ديوانه ١٢٩.
(٢) في ( ح ) : ابن طباطبا سُمّي بذلك لأنه كانت في أسنانه لُكْنَة ، فكان يحول القاف طاء ، فسقطت النار يوماً في فِيه فصاح بالغلام : الطبَا الطبَا ، يريد : أدرك القبا ».
وهو محمد بن أحمد بن طباطبا من شيوخ الأدب ، له كتب ألفها في الأشعار والآداب ، وكان ينزل أصفهان ، وأكثر شعره في الغزل والآداب ، توفي بأصبهان سنة ٣٢٢ ه.
انظر : معجم الأدباء ٦ / ٨٤ ويتيمة الدهر ١ / ٣٢٨ ومعجم الشعراء ٤٢٧.
(٣) في ( ح ) : « سقت إليه كلامي ».