نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني

نهاية الدّراية في شرح الكفاية - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد حسين الإصفهاني


المحقق: الشيخ أبو الحسن القائمي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-5503-41-8
ISBN الدورة:
964-5503-39-6

الصفحات: ٤٤٠

وضم الجهل إلى العلم صار سببا لهذا الاسم ، إلا أن العلم الإجمالي ، بالنجاسة مثلا بضم العلم بعدم خروج متعلقها من الطرفين يوجب العلم بنجاسة ما لا يخرج عن الطرفين ، لا بنجاسة احدهما المردد ، فهو وإن لم يكن مناقضا لكل واحد من اليقينين في الطرفين ، لكنه مناقض لمجموع اليقينين ونسبته إلى كل منهما على السوية.

فالتعبد الاستصحابي بكليهما مع وجود الناقض للمجموع لا معنى له ، والتعبد بأحدهما بخصوصه بلا موجب ، والتعبد بأحدهما بلا عنوان نظرا إلى أن نسبة المانع إلى المقتضيين على السوية فيسقط أحدهما بلا عنوان ويبقى أحدهما بلا عنوان أيضا محال ، لأن جعل الحكم على طبق المردد وما لا تعين له يوجب إما تعين المردد أو تردد المعين ، وكلاهما محال ، فالتعبد الاستصحابي بأنحائه غير ممكن ، وهذا معنى سقوط الأصول في أطراف العلم.

ولا يخفى أن هذا البيان ليس بيانا للمانع العقلي في مقام الثبوت ليخرج عن محل الكلام ، بل بيان المانع في مقام الإثبات عن جريان الأصل في الطرفين بعد تعميم اليقين إلى الإجمالي ، إذ لو كان متعلق العلم الإجمالي أحدهما المردد ، فأحدهما مشكوك والآخر معلوم ، فيسقط عن طرف ويبقى في طرف.

وأما إذا كان متعلق العلم مفصلا دائما وطرفه مشكوكا في العلم الإجمالي ، فكل منهما مشكوك من حيث كونه متعلق طرف العلم واقعا ، فلو كان مثل هذا الشك بمقتضى إطلاق الذيل خارجا ، فلا محالة لا يجري الأصل في طرف أصلا.

والتحقيق أن مجموع اليقينين أمر اعتباري لا وجود له خارجا ، وليس محكوما بحكم حتى يكون اليقين الإجمالي ناقضا له.

وأما انتزاع الجامع من اليقينين ومن المتيقّنين ومقابلة اليقين الإجمالي المتعلق بالجامع لليقين الجامع. فهو أيضا بلا وجه ، إذ الجامع الانتزاعي لا أثر له.

مع أن اليقين بالطهارة بنحو الجامع مع اليقين الإجمالي بالنجاسة يجتمعان

٢٨١

للقطع بهما في اللاحق.

ومما ذكرنا تبين أنه ليس لليقين الإجمالي اعتبار الناقضية لشيء من اليقينين المرتب عليهما حرمة النقض حتى يكون اليقين الإجمالي محددا للشك كما سيجيء تحقيقه إن شاء الله تعالى في مبحث الاستصحاب (١). هذا كله في جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي وعدمه عموما.

وأما الكلام فيه خصوصا فظاهر شيخنا الأستاد « قدس سره » في المتن عدم المانع خصوصا وإن منع عنه عموما ، نظرا إلى أن الموضوع هو الشك الفعلي والمجتهد لمكان تدريجية الاستنباط لا شك فعلي له إلا فيما ابتلي باستنباطه ، والوقائع الأخر ربما تكون مغفولا عنها ، فلا يقين ولا شك ، فلا موضوع كي يجري فيه الأصل ليعارض الأصل الجاري حتى لا يعمه دليل التعبد للزوم التناقض في مدلوله من شموله لهما.

بل يمكن أن يقال : مضافا إلى ما أفاد أن الوجه في الجريان تدريجية فعلية الأحكام بتدريجية الابتلاء بالوقائع التي لها حكم ، فان علم المجتهد بالأحكام المستنبطة ويقينه وشكه في الأحكام من قبيل العلم بالقضايا الحقيقيّة التي تناط فعلية محمولاتها بفعليّة موضوعاتها.

فلا أثر لعلمه الإجمالي بمثل هذه المحمولات بالفعل ، بل يكون له الأثر عند تعلقه بالمحمولات الفعليّة بفعلية موضوعاتها.

وكذا يقينه بحكم كلي سابقا وشكه في بقائه لا حقا ، فان نتيجة ذلك العلم بالتعبد الاستصحابي عند ترتّب فعلية الحكم الاستصحابي وفي موقع الابتلاء والعمل ، حيث إنه ليس جميع الأحكام أو التعبديات الاستصحابية مورد الابتلاء ، فلا علم بأحكام فعلية على الإجمال ولا تعبدات استصحابية فعلية منافية للعلم

__________________

(١) في التعليقة ١٢٣ من مبحث الاستصحاب فراجع.

٢٨٢

الإجمالي بالحكم الفعلي.

ومنه ظهر أنه لا مانع من جريان الأصل في موقع الابتلاء من وجهين :

أحدهما عدم العلم الإجمالي المانع.

وثانيهما عدم جريان أصلين متمانعين.

ولو كان الوجه خصوص ما أفاده « قدس سره » من تدريجيّة الاستنباط لما كانت التدريجيّة مجدية ، إذ بعد استنباط جملة من الأحكام باجراء الأصول شيئا فشيئا يحصل له العلم بمخالفة بعض هذه الأصول لعلمه الإجمالي ، فلا يمكنه العمل بفتاويه المطابقة للأصول التي اعتقد جريانها حال الاستنباط.

كما لا يمكنه الفتوى على طبقها جميعا لمقلديه ، بخلاف ما إذا كان الوجه ما ذكرنا من تدريجية فعلية الأحكام ، فانه في كل واقعة عملية وإن كان يعلم إجمالا بحكم على خلاف الأصل لكنه لا أثر له ، لأنه يعلم إجمالا بحكم على خلاف ما ابتلي به وما هو خارج عن مورد ابتلائه ، إما لعدم موقع للابتلاء به ، أو للابتلاء به سابقا.

ومما ذكرنا يعلم أنه كما لا مانع إثباتا ، كذلك لا مانع ثبوتا ، إذ لا علم اجمالي بحكم فعلي مضاد أو مماثل أو مناقض كما لا يخفى.

والتحقيق أن الشكوك وإن لم تكن فعليّة والأحكام وإن لم تكن فعلية دفعيّة ، إلا أنه ليس من شرائط اعتبار ناقضيّة اليقين لليقين فعليّتهما ودفعيّتهما ، بل علم المجتهد بأن في مواقع ابتلائه بالاستنباط تعبدات استصحابية بلحاظ موارد فعليتها بفعلية موضوعاتها كاف في العلم بأن الاستصحابات في مواقعها مخالفة للواقع الذي علمه إجمالا.

ومن الواضح أن هذا العلم الإجمالي الموجود من أوّل الأمر هو عين اليقين الإجمالي الناقض في موقع فعليّة الاستصحاب بفعليّة موضوعه لا أنه يحدث له عند إجراء الاستصحابات أو بعده علم إجمالي ناقض.

٢٨٣

وإنما الفرق بين ما قبل الاستنباط وما بعده بكون أطراف العلم الإجمالي ملحوظا بنحو الكلية والجمع قبلا وصيرورة الأطراف بنحو الجزئيّة والفرق والتفصيل عند التعرض لاستنباط تلك الأحكام المعلومة بالإجمال بنحو الجمع والكلية.

فاليقين الناقض موجود قبل الاستنباط ، فيمنع عن جريان الأصل في أول مرحلة الاستنباط لعلمه بمخالفته أو مخالفة الأصل المبتلى به في واقعة أخرى ، وتدريجية الفعلية لا يمنع عن ترتيب الأثر فعلا كما سيأتي (١) إن شاء الله تعالى في بحث الاشتغال.

١٣٣ ـ قوله « قده » : كان خصوص موارد الأصول النافية مطلقا ولو من مظنونات ... الخ (٢).

توضيحه أن نتيجة هذه المقدمات ليس عنده « قدس سره » حجية الظن المطلق كما عليه أهله ، ولا تبعيض الاحتياط في محتملات التكليف برفع اليد عنه في موهومات التكليف وإبقائه في مظنوناته ومشكوكاته ، كما عليه شيخنا العلامة الأنصاري « قدس سره » ، بل عدمهما على وجه والتبعيض في موارد الأصول النافية من مظنونات التكليف على وجه آخر ، وذلك لأن التنزل إلى الظن أو التبعيض على الوجه الأول يتوقف على إبطال إجراء الأصول المثبتة والنافية حتى يتمحض الأمر في حيثية الظن (٣) ومقابليه ، ولا محذور في إجراء الأصول بعد تمامية مقتضيها في مقام الإثبات كما في المتن وشيدناه في الحاشية السابقة ، إلا لزوم الحرج من العمل بالأصول المثبتة للتكليف ، والمخالفة للاحتياط اللازم

__________________

(١) في التعليقة ٧٣ من مبحث البراءة والاشتغال.

(٢) كفاية الأصول / ٣١٤.

(٣) في النسخة المطبوعة والمخطوطة بغير خط المصنف قده حيثية الظن لكن الصحيح حجية الظن.

٢٨٤

عقلا أو شرعا من العمل بالأصول النافية كما عن شيخنا العلامة الأنصاري (١) « قدس سره ».

ومن الواضح أن شيئا منهما على فرض الصحة لا يقتضي سقوط الأصول من الاعتبار مطلقا ، بل يجب دفع الحرج بضم مقدار من موارد الأصول المثبتة إلى موارد الأصول النافية بترك العمل بمحتملات التكليف فيهما ، كما يجب دفع محذور مخالفة الاحتياط اللازم بضم مقدار من موارد الأصول النافية من محتملات التكليف إلى موارد الأصول المثبتة للتكليف ، ثم العمل على طبق الأصول المثبتة في الأول وعلى طبق النافية في الثاني في غير ذلك المقدار الخارج لدفع محذور الحرج أو لدفع محذور مخالفة الاحتياط الواجب ، لا إبطال الأصول بالكلية ومراعاة التبعيض بالإضافة إلى محتملات التكاليف.

مع أن شيئا من المحذورين غير وارد : أما لزوم الحرج ، فلبداهة كثرة موارد الأصول النافية وقلة موارد الأصول المثبتة.

وأما لزوم مخالفة الاحتياط ، فلضرورة وفاء العلم والعلمي وموارد الأصول المثبتة بالمعلوم بالإجمال ، بحيث لا يبقى مجال للزوم الاحتياط عقلا ، ولاستكشاف إيجابه شرعا.

مضافا إلى ما في الجمع بين المحذورين ، إذ مقتضى كثرة موارد الأصول المثبتة حتى لزم منها الحرج عدم بقاء ما يلزم من إجراء الأصول النافية فيه كثرة المخالفة القطعية كما لا يخفى.

ويمكن أن يقال : في وجه الجمع بعدم وفاء المطابق من الأصول المثبتة للواقع بالمعلوم بالاجمال بضم العلم والعلمي ، فتكون بقية المعلوم بالإجمال في موارد الأصول النافية ، وهذه الدعوى بلحاظ وجود أمارات كثيرة على خلاف

__________________

(١) في المقدمة الثالثة من مقدمات الانسداد من كتاب الرسائل فراجع.

٢٨٥

الأصول المثبتة ، بحيث يعلم إجمالا بصدور جملة منها واقعا ، فلا تكون الدعوى جزافا.

وعليه فحيث إن الموافق من الأصول المثبتة قليل فلا يكون وافيا بالمعلوم بالإجمال ، والأخذ بجملتها مستلزم للحرج ، وحيث إن الأصول المثبتة الموافقة للواقع لا تفي بالمعلوم بالإجمال ، فالواقع المعلوم (١) في موارد الأصول النافية ، فالعمل بها مستلزم للمخالفة القطعية العملية.

١٣٤ ـ قوله « قده » : وأما المقدمة الخامسة فلاستقلال العقل ... الخ (٢).

تحقيق المقام أن قبح ترجيح العمل بالمشكوك أو الموهوم على العمل بالمظنون إمّا أن يكون متفرعا على حجّية الظن ، فيقبح التنزل عنه حيث إنّه حجّة وإمّا أن يكون مقدمة لها بمعنى أنه حيث يقبح الترجيح فالظن حجة :

أما الأول ففيه أولا أنه خلف ، إذ المفروض أن المقدمة الخامسة من مقدمات حجية الظن لا من متفرعاتها.

وثانيا أن الغاية المقصودة من هذه المقدمات هي حجية الظن ، فمع حصولها بدون هذه المقدمة فكون ترجيح المشكوك (٣) والموهوم قبيحا أو غير قبيح مستدرك إذ ليس الكلام في تعداد القبائح العقلية.

وثالثا أن مخالفة الحجة حيث إنه خروج عن زي الرقية ، فهو ظلم ، وهو قبيح يستحق عليه الذم والعقاب ، وليس الإقدام على القبيح المذموم المعاقب

__________________

(١) قوله : فالواقع المعلوم ، مبتدأ بلا خبر فان مقتضى القاعدة أن يكون خبره باق على حاله أو لم يرتفع بأن يقال فالواقع المعلوم في موارد الأصول النافية باق على حاله أو لم يرتفع أو نحو ذلك.

(٢) كفاية الأصول / ٣١٥.

(٣) هذا الكلام غير مرتبط بما قبله فلا بدّ من كونه تفريعا على محذوف أو يكون في العبارة تصحيف بأن كان في الأصل يكون ترجيح المشكوك والموهوم قبيحا أو غير قبيح مستدركا.

٢٨٦

عليه قبيحا آخر بملاك التحسين والتقبيح العقليين لوجهين قدمنا ذكرهما (١) عند التعرض لقاعدة دفع الضرر المظنون.

ورابعا أن حجية الظن المفروغ عنها هنا إمّا شرعيّة أو عقليّة : لا مجال للأولى ، إذ المفروض عدم الدليل على الحجية من قبل الشارع ، وبلحاظ ما عدا هذه المقدمة يكون المقدمات بضميمة قبح نقض الغرض كاشفة عن الحجّية شرعا لا من باب استقلال العقل ، والمفروض ترتيب المقدمات على نحو تنتج حكومة العقل بحجية الظن.

ولا مجال للثانية ، إذ المراد بالحجية عقلا ليس كما يتوهم من كونها مفاد حكم العقل العملي في قبال حكم العقل النظري ، إذ ليس شأن العاقلة إلا التعقل كما في سائر القوى ، ولا بعث ولا زجر من العاقلة.

وليس تفاوت العقل النظري مع العقل العملي من حيث ما هو وظيفة القوة العاقلة ، بل التفاوت بالمدرك.

فالمدرك : إذا كان له مساس بالعمل وكان ينبغي أن يؤتى به أو لا يؤتى به سمي حكما عقليا عمليا.

وإذا كان مما ينبغي أن يعلم سمي نظريا.

وكونه كذلك من غير ناحية الإدراك والقوة المدركة ، بل لا بد من أن يكون من تلقاء الشارع أو العقلاء ، فما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظا للنظام وإبقاء للنوع كحسن العدل وقبح الظلم إذا أدركه العقل دخل في حكم العقل العملي.

وأما نفس كون العدل حسنا يمدح على فاعله وكون الظلم قبيحا يذم على فاعله ، فمأخوذ من العقلاء.

__________________

(١) في التعليقة ١٢٠ فراجع.

٢٨٧

وعليه ، فليس المراد بكونه حجة عقلا إلا كونه حجة عند العقلاء.

وقد بينا في (١) مبحث حجية الظواهر أن المراد بحجية شيء عند العقلاء ليس جعل الحكم المماثل منهم على طبقه ، ولا الإنشاء بداعي تنجيز الواقع ، بل بنائهم عملا على اتباع خبر الثقة أو ظاهر الكلام والاحتجاج بهما هو مدرك الحجية ، فما لا عمل على طبقه منهم لا معنى لحجيته عندهم.

ومن الواضح أنه لا عمل منهم على طبق الظن مطلقا وهو واضح ، ولا عمل على طبقه في فرض المقدمات المزبورة حيث لم يقع هذه المقدمات في أمورهم العادية وأوامرهم المولوية ليكون لهم عمل على طبقه فيكون إمضاء الشارع على وفقه.

والبناء الفرضي مع أنه في نفسه غير مفيد لا يحقق إمضاء من الشارع ، حيث لا عمل ليتحقق التقرير والإمضاء ، فاتضح أن تفرع قبح العمل بغير الظن على حجيته فاسد من جميع الوجوه.

وأما الثاني وهو كون قبح ترجيح المرجوح على الراجح من مقدمات حجية الظن ، فنقول : إن المراد من الراجح والمرجوح : تارة ما يوافق الغرض المولوي وما لا يوافقه ، أو ما يوافق الغرض العقلائي وما لا يوافقه.

وأخرى مجرّد المظنون والمشكوك والموهوم. فالأول راجح من حيث الغرض ، والثاني راجح من حيث وقوعه في أفق النفس.

فإن أريد الأول ، ففيه أن قبحه إنما يسلّم إذا كان الموافق للغرض بنحو يكون تركه مخلا بالنظام حتى يكون قبيحا بحيث يذم عليه عند العقلاء ويكون

__________________

(١) لم نجد في مبحث حجية الظواهر أن المراد بحجية شيء عند العقلاء ليس جعل الحكم المماثل ولا الانشاء بداعي جعل الداعي وإنما ذكر في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي أن الثابت من العقلاء هو العمل بالظاهر أو خبر الثقة لا اعتبار الوصول والاحراز نهاية الدراية ٣ : التعليقة ٥٦.

٢٨٨

ذم الشارع عقابه ، والحال أن الأغراض المولوية أي مصالح الأفعال ومفاسدها لا دخل لها بالمصلحة العامة التي ينحفظ بها النظام أو المفسدة العامة التي يختل بها النظام كما مر مرارا.

وكذلك الأغراض العقلائية ليست دائما من المصالح العامة التي ينحفظ بها النظام أو المفاسد العامة التي يختل بها النظام ، ضرورة أن الغرض الداعي لهم إلى اتباع خبر الثقة أو ظاهر الكلام ليس بحيث يكون تركه مخلا بالنظام كالظّلم.

مع أن هذا فيما إذا تمحض أحد الأمرين في كونه موافقا للغرض المولوي أو العقلائي في قبال الآخر ، لا في مثل ما نحن فيه الذي يحتمل موافقة كل منهما للغرض.

وإن أريد الثاني فالأمر في عدم الملاك للقبح أوضح ، إذ المظنون بما هو مظنون لا ملاك للقبح في تركه بنفسه إذا لم ينطبق عليه عنوان قبيح ، وانطباق عنوان الظلم موقوف على حجية الظن حتى يكون خلاف ما قامت عليه الحجة ظلما قبيحا ، والمفروض أن ما عدا المقدمة الخامسة لا يقتضي حجية الظن حتى ينطبق عليه عنوان قبيح ، وإلاّ لرجع الأمر إلى الشق الأول الذي فصلنا القول فيه.

فان قلت : هذه المقدمات محققة ، لصغرى الظن بالعقاب.

ومن الواضح أن طبع كل ذي شعور وجبلته يقتضي تقديم مظنون العقاب على محتمل العقاب إذا دار الأمر بينهما ، فيفر من المظنون دون غيره ، ولا يفر من المشكوك ، ويقدم على المظنون ، بل يستحيل أن يؤثّر الاحتمال المساوي أو المرجوح في فرارهم ، ولا يؤثّر الاحتمال الراجح والمفروض عدم خصوصية في طرفهما ، فهذه المقدمة الخامسة لبيان هذا المعنى الجبلي الطبعي ، فالتعبير بالقبح هنا كالتعبير باللزوم في قولهم بلزوم دفع الضرر المظنون عقلا.

٢٨٩

قلت : أولا إن هذا عين القول بالتبعيض في الاحتياط دون حجية الظن على الحكومة ، إذ الأثر المترقب من الحجيّة وهو تنجز الواقع على تقدير وجوده في ضمن المظنونات مفروض الحصول ، فلا معنى لحجية الظن عقلا ، بل خصوصية الظن بالعقاب عند الدوران توجب تعيّن المظنونات للاحتياط.

وتوهم الحكومة بتقريب أنه بعد تحقق المقدمات المفروض فيها تنجز الواقع يستقل العقل بلزوم الإطاعة الظنّية ، وتقدمها على الإطاعة الاحتماليّة والوهميّة بعد عدم التمكن من الإطاعة العلميّة.

مدفوع بأنه بعد تنجز الواقع بوصول التكليف تفصيلا أو إجمالا بحكم العقل باستحقاق العقاب على مخالفة التكليف الواصل لا حكم آخر من العقل في باب الإطاعة والامتثال ، بل بعد تحقق العقاب في مخالفة التكليف يفر كل عاقل ذي شعور عن العقاب المقطوع أو المظنون أو المحتمل ، وبعد عدم إمكان الفرار من العقاب على أي تقدير ، والتردد بين المظنون وغيره ، فلا محالة يفر من المظنون دون غيره.

وثانيا إن قلنا : بتنجز الأحكام المعلومة بالعلم الإجمالي أو بايجاب الاحتياط شرعا طريقيا وكانت المقدمات مضيقة لدائرة التنجز إلى أن دار الأمر فيه بين المظنونات والمشكوكات والموهومات صح دعوى أن المظنونات يظن بالعقاب فيها ، والمشكوكات يحتمل العقاب فيها ، والموهومات يحتمل العقاب فيها احتمالا مرجوحا ، فالمقدمات الأربعة تحقق صغرى مظنون العقاب ومحتمله ، فيصح الإيكال إلى مقتضى الجبلّة والطبع.

وأما إذا قلنا بعدم منجّزيّة العلم الإجمالي ـ وعدم إيجاب الاحتياط الطريقي شرعا ، لما ذكرنا من المحاذير ، وأن مقتضى المقدمة الثالثة العلم بعدم رفع اليد عن الأحكام بجعلها فعلية على أحد الوجوه : إما فعليّة على أي تقدير يقتضي الاحتياط التام ، أو فعليّة على طبق الأصول الموردية ، أو فعلية على طبق

٢٩٠

المظنون ، أو على طبق المشكوك والموهوم ، وقد أبطلنا الأولين بمقتضى المقدمة الرابعة ، فيدور الأمر بين جعلها فعليّة على طبق المظنونات بخصوصها أو على طبق المشكوكات والموهومات بخصوصهما ، ـ فتعيّن فعليّة الحكم على طبق المظنون دون المشكوك والموهوم يحتاج إلى معيّن حتى يكون الظن بالحكم ظنا بالحكم الفعلي ليتنجّز بالظن.

فالظن بالحكم الفعلي نتيجة تعيّن الحكم الفعلي في طرف المظنون ، ولا يتعيّن إلاّ بالقطع بصلاحيّة الظن للاحتياج به على الحكم على تقدير ثبوته حتى يظن بثبوته فعليّا بقول مطلق.

وقد عرفت عدم الدليل على صلاحيّة الظن للاحتجاج به المبلّغ للحكم إلى مرتبة الفعليّة والتنجّز لا شرعا ولا عقلا ، فلا يتحقق بالمقدمات ظن بالعقاب واحتمال العقاب حتى يصح الإيكال إلى ما هو مقتضى الجبلة والطبع بالمقدّمة الخامسة إلا بتقريب ينتج حجية الظن على وجه الكشف ، وهو أن الشارع حيث لا طريق له في إيصال أحكامه التي لا يمكنه رفع اليد عنها إلاّ الظن والاحتمال ، فان الخصوصيّة الواقعيّة المحتملة في طرف المشكوك أو الموهوم بوجودها الواقعي غير صالحة لجعل الحكم في طرف المشكوك أو الموهوم بالغا مرتبة الفعليّة ، فلا بد من بيانها.

فلو كان الغرض فعليّة الحكم في طرفهما مع عدم بيان تلك الخصوصيّة كان الشارع ناقضا لغرضه ، فيستكشف قطعيّا عدم خصوصيّة مبلّغة للحكم مرتبة الفعلية في خصوص المشكوك والموهوم ، فينحصر أمر المبلغ في الظن وما يقابله.

وإذا فرض أن مقتضي البلوغ إلى مرتبة الفعلية إما الاحتمال الراجح أو غيره ، فلا محالة يؤثّر الاحتمال الراجح في فعليّة الحكم لاستحالة تأثير الأقوى (١)

__________________

(١) في النسخة المطبوعة والمخطوطة بغير خط المصنف قده لاستحالة تأثير الاقوى دون الاضعف لكن الصحيح لاستحالة تأثير الأضعف دون الأقوى وهو واضح.

٢٩١

دون الأضعف ، ويقبح من الحكيم جعل حكمه فعليّا على طبق المرجوح دون الرّاجح.

فالمقدّمة الخامسة كاشفة عن أن الشارع لا يجعل الاحتمال الغير الرّاجح مبلّغا لحكمه دون الراجح لفرض انحصار المبلغ في الاحتمال بما هو. ونتيجة هذه المقدّمات بضميمة قبح نقض الغرض جعل الشارع للظن مبلّغا للحكم في طرفه إلى مرتبة الفعليّة والتّنجّز. وسيجيء بعض الكلام في محله إن شاء الله تعالى.

١٣٥ ـ قوله « قده » : لعدم التفاوت في نظر العقل ... الخ (١).

لأن المهم عنده بعد ما كان تحصيل الظن بالفراغ كان هو المعتبر تحصيله لا الظن بالواقع الذي اقتضت المقدمات تحصيل خصوصه لقصورها بنفسها عن الأعم منه.

والتحقيق أن مورد الظن بالطريق الذي نقول بحجّيته من حيث الظن بالفراغ محتملات التكليف من مشكوكاتها وموهوماتها ، وإلا لو كان الطريق مفيدا للظن بالتكليف لكان الظن بالتكليف حجّة سواء كان الطريق مظنون الحجّية أم لا ، ومحتمل التكليف من حيث نفسه لا يوجب إلاّ احتمال الفراغ وهو غير لازم التحصيل.

فسببيّة الظن بالطريق للظن بالفراغ ليست إلاّ بلحاظ أن الظن بالحجّية :

إمّا ظن بالبدليّة بناء على جعل الحكم المماثل عن مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع.

وإمّا ظن بالمعذريّة بناء على كون الحجّية بمعنى الإنشاء بداعي تنجيز الواقع عند المصادفة والعذر عند المخالفة.

وإمّا ظن بأنه هو الواقع اعتبارا بناء على أن الحجّية بمعنى اعتبار وصول

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣١٦.

٢٩٢

الواقع وأنه هو الواقع.

فيكون العمل بالطريق المظنون الحجّية موجبا للظن بالفراغ عن عهدة الواقع إمّا بإتيان بدله أو بما يعذر معه على تقدير المخالفة أو بما هو الواقع بنظر الشارع.

وعليه ، فيرد عليه : أولا أن البدليّة والمعذريّة إنما تعقل في مثل دوران الأمر بين وجوب أحد الفعلين من الظهر والجمعة مثلا.

وأمّا في غيره ، فلا واقع كي يتخلف عنه ، ويكون بدلا عنه تارة ، ومعذّرا عنه أخرى ، مثلا إذا ظن بحجية طريق أدّى إلى وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، فانه إذا لم يكن واجبا واقعا ، فليس هناك عمل آخر يكون واجبا واقعا ليكون الدعاء بدلا عنه ، والطريق معذّرا عنه ، فليس الظن بالطريق مفيدا للظّن بالبدليّة أو بالمعذّريّة ليستلزم الظن بالفراغ دائما ، حيث لا يعقل البدليّة والمعذريّة دائما بل أحيانا.

وثانيا أنه لا دليل على البدليّة واشتمال المؤدّى بما هو مؤدّى على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع حتى يكون الظنّ بالطريق ظنّا بالفراغ لمكان الظن ببدليّة المؤدّى عن الواقع ، وذلك لأن غاية ما يقتضيه دليل الحجّية ظهور الإنشاء في جعل الحكم المماثل وانبعاثه عن مصلحة زائدة على مصلحة الواقع ، وإلاّ كان جعل الحكم المماثل مقصورا على مطابقة الواقع.

وأما كون تلك المصلحة مسانخة لمصلحة الواقع يتدارك بها مصلحة الواقع ، فلا دليل عليه إلاّ توهّم قبح تفويت مصلحة الواقع بجعل الطريق المخالف له من دون تدارك.

وهو مدفوع بما تفردنا به في محلّه من أنّه ربما يكون إيكال العبد إلى طرقه العلميّة موجبا لفوات الواقعيّات أكثر من العمل بالأمارات ، وموجبا لوقوعه في مفسدة أعظم من فوات مصلحة الواقع أحيانا.

٢٩٣

مع أن تفويت مصلحة الواقع بإيصال مصلحة أخرى مساوية أو أقوى لا قبح فيه ، وإن لم تكن تلك المصلحة مسانخة للفائتة.

ولذا ذكرنا في محله من أن القول بحجية الأمارة من باب السببية (١) والموضوعية دون الطريقية لا يستلزم الإجزاء ، وتمام الكلام في محلّه.

وثالثا أن فرض البدلية لا يستلزم الظن بها الظّن بالفراغ عن عهدة الواقع المنجز على وجه يكتفي به العقل.

بيانه أن البدليّة بمعنى اشتمال المؤدّى على مصلحة يتدارك بها مصلحة الواقع لا تتقوّم إلاّ بقيام ذات الطريق عليه ، لا بقيام معلوم الطريقيّة ومقطوع الحجية ، لأن الحجية منبعثة عن البدليّة ، لا أن البدليّة منبعثة عن الحجّية ، وإلاّ لزم جعل الحجّية بلا سبب وعلّة.

فما عن ظاهر بعض أجلّة العصر (٢) من أن بدليّة مفاد الطريق تابعة للعلم بحجيته لا وجه له بظاهره ، إلا أن يراد خلاف ما هو ظاهر البدليّة بأن يراد المعذرية عن الواقع كما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

لكنه مع أن البدليّة بالمعنى المزبور غير متقوّمة بالحجية ولا بالعلم بالحجية فرق بين الظن بالفراغ المنبعث عن الظن بالواقع والظن بالفراغ المنبعث عن الظن بالطريق ، لأن المفروض في الظن بالواقع سقوط الواقعيات في غير المظنونات عن التّنجّز وتضيّق دائرة الواقعيات المنجّزة وانحصارها في مظنونات التكليف.

فاذا أتى المكلف بمظنونات التكليف يقطع بخروجه عن عهدة الواقعيّات المنجّزة للقطع بسقوط ما عدا المظنونات بمقتضى المقدمات السابقة

__________________

(١) نهاية الدراية ١ : التعليقة ٢١٤.

(٢) المحقق الحائري قدس سره ، درر الفوائد / ٤٠٨.

٢٩٤

عن التنجّز وإتيان ما تنجّز عليه في المظنونات.

وإنما عبر هنا بالظن بالفراغ عن الواقع المنجّز ، للظن بثبوت التكليف ، وإلاّ فيقطع بالفراغ على تقدير ثبوت المظنون في الواقع.

وهذا بخلاف الظن بالطريق ، لأن مورده إن كان محتمل التكليف بحيث يدور الأمر بين وجوده وعدمه ، فهو خارج عن دائرة المعلومات الإجمالية المنجزة على الفرض ، والمفروض أيضا عدم اندراج التكاليف الغير الواقعية تحت العلم الإجمالي وعدم جريان المقدمات فيها ، فلا منجّز لها حتى يجب عقلا تحصيل الظن بالفراغ عنها.

وإن كان محتمل التكليف يدور أمره بين فعلين يعلم بوجوب أحدهما كالظهر والجمعة سواء كان أحدهما مظنون الوجوب واقعا في نفسه أو لا ولكن كان الجمعة مثلا ما قام على وجوبها طريق مظنون الحجية ، فهناك واقع منجز ، إما بالخصوص كما إذا ظن بوجوب الظهر أو بالاجمال ، والاتيان بالجمعة لا يوجب الخروج عن عهدة الواقع المنجّز ، إذ على فرض عدم حجية الطريق واقعا لا بدل عن الواقع المنجّز بالتفصيل أو بالإجمال كما كان في الظن بالواقع ، فلا ظن. بالفراغ عن الواقع المنجز بسبب العلم الإجمالي أو بسبب الظن بالواقع بحيث يكتفى به عند العقل عن الواقع المنجّز ، فان العقل إنما يكتفى به إذا كان الواقع في ضمن غيره ساقطا عن التّنجّز ، وهنا ليس كذلك إلاّ إذا فرض جريان المقدمات في الطريق أيضا ، فيكون مؤدّياتها في ضمن مظنوناتها منجّزة بحيث يكتفى بها عن الواقع. هذا كله بناء على أن الحجّية بمعنى جعل الحكم المماثل المنبعث عن مصلحة بدليّة.

وأما إذا كانت بمعنى الإنشاء بداعي تنجيز الواقع عند المصادفة والعذر عند المخالفة ، فالأمر أوضح لأن الأحكام الطريقيّة مرتبة فعليّتها وتنجّزها واحدة ، فما لم يصل الحكم الطريقي لا يكون منجّزا ولا معذّرا.

٢٩٥

فالظن به في الحقيقة ظن بالإنشاء بداعي تنجيز الواقع لا ظن بالمنجّز والمعذّر بالحمل الشائع حتى يفيد فائدة الظن بالواقع.

بل قد ذكرنا في مسألة جعل الطريق أن جعل الحكم المماثل إن كان بداعي إيصال الواقع بعنوان آخر ، فهو أيضا كذلك من حيث وحدة مرتبة فعليّته وتنجّزه ، إذ لو كفى وجود الحكم واقعا في الباعثية والزاجريّة لما كانت حاجة إلى جعل الحكم المماثل بهذا العنوان.

ومما ذكرنا تبين حال الحجّيّة بمعنى اعتبار وصول الواقع وأنه هو ، فان الاعتبار المزبور لا يجدي مع عدم وصوله علما أو علميا ، إذ ما لا وصول له بنفسه لا يعقل أن يكون موصلا لغيره.

ورابعا إنما يكون المهم الظن بالفراغ لأن المفروض عنده « قدس سره » وعند الشيخ الأعظم « قدس سره » في الرسائل إجراء مقدمات الانسداد في كيفيّة إطاعة الاحكام المنجّزة ، فإنه يصح أن يقال : حينئذ إن الغرض ليس امتثال الأحكام باتيان متعلقاتها ، بل المهم الفراغ عنها والخروج عن عهدتها.

وأما بناء على ما سلكناه من إجراء المقدمات في جعل الأحكام الواقعية فعليّة منجزة بالظن ، فالظن بالفراغ أجنبي عن هذا المهم ، بل يحتاج منجزية الظن بالطريق إلى مقدمات تقتضي منجزيّته كما اقتضت منجزية الظن بالواقع.

١٣٦ ـ قوله « قده » : قال فيها إنّا كما نقطع بأنا مكلفون ... الخ (١).

لا يخفى عليك أن كلام صاحب الفصول (٢) « قدس سره » مبنيّ على مقدمتين :

إحداهما انحلال العلم الإجمالي الكبير بتكاليف كثيرة في المحتملات

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣١٦.

(٢) فصول / ٢٧٩ طبع هاشم.

٢٩٦

بمظنوناتها ومشكوكاتها وموهوماتها بالعلم الإجمالي الصغير بمؤدّيات طرق مخصوصة.

ثانيتهما دوران فعلية التكاليف ووصولها إلى حدّ حقيقة الحكم من الباعثيّة والزاجريّة مدار وصولها بعد تعذّر العلم بتلك الطّرق المنصوبة.

ومن البين أنه بعد هاتين المقدمتين لا ظن بالحكم الفعلي البعثي والزجري الذي هو مدار الإطاعة والعصيان ، إلا في دائرة تلك الطرق المعلومة بالإجمال.

وأما في غيرها ، فلا ظن إلاّ بالحكم الواقعي فقط ، ومثله لا أثر له كما سيجيء إن شاء الله تعالى تحقيقه عند تعرض شيخنا الأستاد « قدس سره » للإشكال على دليله وسنبين إن شاء الله تعالى أن الدوران المزبور مما لا بد منه لا أنه محال أو مجمع على بطلانه إلى غير ذلك من المحاذير كما سنبين إن شاء الله تعالى انحلال العلم الإجمالي الكبير بهذا العلم الإجمالي الصغير.

١٣٧ ـ قوله « قده » : لا الاحتياط في خصوص ما بأيدينا ... الخ (١).

ويشهد لعدم لزوم المحذور من الاحتياط في هذه الطرق أن بناء الفقهاء على العمل بكل خبر موثوق به ولو كان ضعيفا استند إليه المشهور وبالإجماعات المنقولة بل بالشهرات أيضا ، وعليها يدور رحى الفقه ، ولم يلزم من العمل بها اختلال النظام ولا عسر ولا حرج ، فلا معنى لأن يكون الاحتياط فيها موجبا لأحدهما ، إذ لا يعقل التفاوت بسبب وجه العمل من كونه بعنوان الاحتياط أو بعنوان قيام الحجة الشرعية ، فلا مقايسة للعمل بمؤدّيات هذه الطرق المتداولة بالعمل بتمام المحتملات.

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣١٧.

٢٩٧

١٣٨ ـ قوله « قده » : فان قضية هذا الاحتياط هو جواز رفع اليد ... الخ (١).

غرضه بيان الموارد التي لا يقتضي العلم الإجمالي بالطرق الاحتياط فيها في المسألة الفرعيّة ، ولا اقتضاء المورد من حيث الأصل الجاري فيه للعمل ليوجب انضمامه إلى الاحتياط في الطرق عسرا مخلا بالنظام أو حرجا مرفوعا في الإسلام :

فمنها الموارد التي لا طريق عليها ولو إجمالا سواء كان عليها طريق غير معتبر شرعا أم لا ، وحيث إنها خارجة عن أطراف العلم بالطريق ، فلا احتياط فيها من قبل العلم الإجمالي ، وحيث لا حجة عليها ولو إجمالا ، فلا مانع من جريان الأصل مثبتا كان أو نافيا.

نعم إذا كان فيها استصحاب مثبت للتكليف ، فربما يتوهم لزوم الحرج منه بانضمامه إلى الاحتياط في الطريق.

لكنه حيث إن هذه الموارد في نفسها قليلة ، لأنها بحيث يقطع بعدم طريق عليها واقعا ، وهو قليل الوقوع جدا ، ولو فرض فكونها مسبوقة بالتكليف قليل ، دون سبقها بعدم التكليف ، فلذا يندفع توهم لزوم الحرج منه.

إلا أنه لو كان المهم عدم منافاة العلم الإجمالي للأصل لصح أن يقال كما في المتن ولو كان الأصل نافيا لأنه الذي يتوهم منافاته للعلم الإجمالي.

لكنه حيث إن المهم عدم الاحتياط في المسألة الفرعية بحيث يلزم منه الحرج لم يكن هذا التعبير وجيها ، بل الأنسب أن يقال : ولو كان الأصل مثبتا.

ومنها ما إذا نهض الكل على نفيه أي قامت جملة من الامارات التي يعلم إجمالا بحجية إحداها على نفي تكليف شخصي ، فانه لا احتياط من قبل الأخذ

__________________

(١) كفاية الأصول / ٣١٧.

٢٩٨

بالأمارات ، لأنها نافية لا عمل لها ليلزم من انضمامها إلى غيرها عسر.

وحيث يعلم بقيام الحجة على نفي التكليف لا مجال لاستصحاب مثبت له لعدم الشك في الحكم الفعلي لاستحالة اجتماع المتناقضين ، بل ولا شك في بقاء الحكم الفعلي السابق أيضا لاستحالة بقائه على فعليّته مع فعلية نقيضه.

وبهذا البيان تعرف عدم جريان الأصل الموافق أيضا لتقومه بالشك واستحالة اجتماع المثلين كالنقيضين.

وعطف هذا المورد على سابقه بلحاظ عدم لزوم الاحتياط فقط ، لا بجميع شئونه حتى من حيث جريان الأصل.

وأما حمل العبارة على توافق الأمارات على نفي التكليف نوعا ليكون مجرى للأصول المثبتة للتكليف أو النافية له ، فلا مجال له لتعرضه « رحمه الله » له في الموارد الأخيرة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ومنها ما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف كفردين من الخبر أو كفردين من الإجماع المنقول مثلا وكانا متعارضين بالنفي والإثبات ، فلا احتياط من ناحية الأمارة المثبتة التي هي من أطراف العلم لسقوطها بالمعارضة بمثلها في غير الخبرين.

والتخيير في الخبرين المتعادلين على وجه دون وجه ، وعدم محذور الاحتياط فيما إذا كان الخبر الراجح نافيا لعدم العمل له.

فلم يبق من صورة الاحتياط إلا ما إذا كان الخبر المثبت راجحا ، وإلا ففي غيرها إمّا لا عمل ، أو لا يتعيّن العمل ليلزم منه العسر.

وأما من حيث جريان الأصل موافقا كان أو مخالفا ، فظاهر المتن عدم المانع من الجريان لعدم الحجة على التكليف إثباتا أو نفيا لمكان المعارضة بالمثل.

والتحقيق أن المانع من جريان الأصل ثبوتا أمران :

أحدهما : لزوم المناقضة أو المضادة أو المماثلة بين مفادي الأصل والأمارة.

٢٩٩

ثانيهما : لزوم الإذن في المخالفة العملية.

وإثباتا لزوم المناقضة بين صدر الرواية وذيلها.

فاذا كان المتعارضان فردين من غير الخبر ، فهما متساقطان ، فلا تكليف فعلي أصلا غير ما هو على طبق الأصل مثبتا كان أو نافيا ، فلا مضادة ولا مماثلة ولا مناقضة.

وحيث إن الحجة معارضة بمثلها ، فلا مخالفة عملية ولو احتمالية حتى يلزم من جريان الأصل النافي الإذن في المخالفة العملية ، فلا مانع ثبوتا أصلا في غير الخبرين.

وأما إثباتا ، فلأن الناقض لليقين هو اليقين أو الحجّة القاطعة للعذر تفصيلا كان أو اجمالا.

والمتعارضان وإن كانا من أطراف ما علم اعتباره ، إلاّ أن ملاك المناقضة كون المجرى مما قامت الحجة على خلافه أو على وفاقه ولو إجمالا بحيث يكون أصل قيامه مقطوعا به ، وهنا لا قطع بقيام الحجة على خلاف مجرى الأصل أو على طبقه ، بل يحتمل عدم حجية أصل الأمارة التي تعارض فردان منها.

بل على الفرض يقطع بعدم حجّيتهما فعلا ، فلا حجة على خلاف الأصل الجاري في المورد ، ولا على طبقه.

هذا كله إن كان المتعارضان من غير سنخ الخبر.

وأما إذا كانا فردين من الخبر وكان الخبر النافي راجحا ، فجريان الأصل المثبت أو النافي وإن لم يلزم منه الإذن في المخالفة العملية حيث لا عمل للخبر ، إلا أن محذور مناقضة الحكمين أو مماثلتهما مانع عقلي كما قدمناه سابقا (١) ، والحجية الفعلية وإن كانت محتملة ، إلا أن احتمال المتناقضين والمتماثلين كالقطع بهما في

__________________

(١) في التعليقة ١٣٢.

٣٠٠