تراثنا ـ العدد [ 138 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 138 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ٠
ISBN: 1019-4030
الصفحات: ٣١٧

بِقَوْلِ شَاعِر) وهو يحمل في طيّه الجمّ الغفير من أوزان الشعر ، إنّما هو قول جاهل أو إقحام متحامل ؛ وذلك أنّ للأدب قوانينه وموازينه العلمية ، فلا يمكن تجاوزها أو تحميلها غير ما تبديه من قواعد وفنون وبيان.

أمّا الأوزان الشعرية التي يحملها القرآن فهذا ما سنتصدّى له ونبيّنه من خلال البحث ليتبيّن لنا الغثّ من السمين وتتّضح لنا ماهيّة النظم والوزن الخاص بالقرآن وعلّنا نعلم ما هو وجه إعجاز القرآن.

الإعجاز البياني في القرآن الكريم :

ففي هذه المرحلة من البحث آنَ لَنا أن نجيب عن السؤال الأوّل الذي ذكرناه آنفاً وهو : ما الذي كان يدركه المستمع لآيات القرآن ويطرق سمعه حتّى صار يطلق صفة شاعر على رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟

لا يخفى أنّ الكلام حول القرآن في مقالنا هذا إنّما هو من الناحية الأدبية لكلام الله أيّ الإعجاز البياني ، وهذا هو أحد الاصطلاحات المعروفة في بحوث إعجازالقرآن ، أمّا الإعجاز العلمي والتاريخي والتنبؤّات عن أحداث المستقبل فهذا أمرٌ آخر وجوانب أخرى في إعجاز كتاب الله فلا نقصدها في البحث ولا نرمي إليها بغرض.

فكلّما سرنا في رحاب الكتاب الإلهي وبحثنا ونقّبنا وفتّشنا عن أقوال العلماء والأدباء وأهل الصنعة والفنّ ، وأعملنا النظر وأرجعنا البصر وأمعنّا فيما تبديه الفكر من إعجاز الآيات الغرر فلا يدور الكلام ولا يقصد المرام في

٢٦١

معرفة كلام الملك العلاّم سوى ما أشار إليه العلماء والأدباء والفصحاء والبلغاء من كلمة بينهم على حدّ سواء وهو أنّ كتاب الله عزّ وجلّ قد بلغ من الفصاحة والبلاغة الغاية القصوى والمرتبة العليا التي لا يمكن أن يؤتى مثلها في هذا المضمار بما بلغه من تفاضل الألفاظ والمعاني ، وأنّ لهذا الكتاب نظماً ووزناً خاصّاً به غير الشعر ، فهو ليس بنثر ولا سجع ولا شعر ، إذن لابدّ من الإشارة إلى نقاط يمكن من خلالها تسليط الضوء على الإعجاز البياني في القرآن الكريم.

أ ـ القرآن الكريم ونظمه الخاص :

إذن تبيّن لنا أنّ للقرآن نظماً ووزناً خاصّاً به ، فهو لا يخلو عن وزن له إيقاعه ووقعه الخاصّ على ذهن القارىء وسمع المستمع ؛ ولكن كيف صار للقرآن هذا الوزن الذي صار يشعره ويلمسه البشر بما يملكه من حواس ومواهب وشعور كما يلمس ذلك من الشعر ، ويحكم أنّ للشعر أوزاناً وبحوراً ما ليس للقرآن منه شيء؟ فمن أين أتى هذا الوزن إلى آيات الكتاب المجيد وهو قرآن عربيّ مبين؟ وهذا ما أكّد عليه القرآن في آياته الغرر الحسان ، ولا محالة ولا غرو أنّه أدبٌ عربيّ محض ، ولا حاجة في ذلك إلى إصدار حكم أو فرض ، فلتذهب الأفكار في الطول والعرض ، فليس لها إلاّ أن تقرّ وتشهد أنّه رائعة البيان العربي الثرّ المبين الذي يتلقّاه الحبيب المؤيّد والرسول المسدّد أبو القاسم محمّد(صلى الله عليه وآله) من لدن عزيز حكيم.

٢٦٢

وهل يمكننا أن نقول أنّ وجود الأوزان الشعرية الموافقة لبحور الشعر العربي في طيّ آياته هي التي جعلت للقرآن هذا الوزن؟ وهل يمكن لهذه البحور ـ التي طالما أُشير إليها في الأبحاث الأدبية للقرآن ـ أن تطلي القرآن وتشمله بهذا النظم والوزن الخاصّ من أوّله إلى آخره؟ إذ لم نمرّ على آية إلاّ ونشعر ونلمس منها بوضوح هذا النظم والوزن الخاصّ المشار إليه في أبحاث إعجاز القرآن الكريم ، وإنّ كلّ من أشار إلى وجود الأوزان الشعرية في القرآن اعترف أنّ هذه الأوزان عُثر عليها في آيات عديدة من كتاب الله ، قد بلغت إلى حدّ مشهود ومعلوم لا يمكن إنكاره وإن كانت لا تشمل آيات الكتاب بأسرها.

إذن بما أنّ القرآن أدبٌ وبيانٌ عربيّ محض فعلينا أن نبحث وننقّب عن معرفة هذا الوزن الخاصّ بالقرآن في الأدب العربي وبيانه ، هذا وإنّ الأدب العربي بما يحتويه من علوم وفنون فهو لا يخرج من أقسامه الثلاثة (النثر والسجع والشعر) ، وإنّ الوزن لا نعثر عليه من بين تلكم الأقسام إلاّ في الشعر ، وإن كان للسجع نوعٌ من الوزن والوقع على ذهن القارىء أو المستمع له ، إلاّ أنّ إطلاق الوزن لا ينصرف في موازين الأدب والبيان العربي إلاّ للشعر وليس للسجع ما للشعر من وزن ووقع واستئناس وانسجام وتشوّق إليه بين الناس.

ولمّا آل بنا الأمر إلى معرفة النظم والوزن الخاصّ بالقرآن ، وعلمنا أنّ الشعر هو المحتمل للأوزان والمختصّ به دون قسيميه في علم البيان كما

٢٦٣

اتّضح وبان أنّ كتاب الله قد تظافرت به بحور الشعر وتفعيلاته بحيث لا يمكن لمدّع أن يدّعي أنها جاءت عن غير قصد بل على سبيل الاتّفاق كما يحصل مثله في كلام البشر ؛ لأنّ وجود تلكم الأوزان والتفعيلات أضحت في آيات الكتاب الحكيم جمّة غفيرة بحيث لا يمكن تجاوزها والغضّ عنها فكيف يمكن أن يقال أنّها جاءت على سبيل الاتّفاق ومن غير قصد ، وهذا هو الكتاب يصرّح في خطابه للرسول الأعظم محمّد(صلى الله عليه وآله) (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَدُنْ حَكِيم عَلِيم) فكيف يمكن للحكيم العليم عزّ وجلّ أن تتظافر تلكم الأوزان والبحور في كلامه وآياته وحكمه وبيّناته من متشابهه ومحكماته على سبيل الاتّفاق ومن غير قصد ، وأنّه سبحانه لا يعلمها ولا يعيها؟ تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ، وأنّا يكون ذلك وهو سبحانه وتعالى يتحدّى فصحاء العرب وبلغاءها ويجاريهم ويباريهم في ميادين البيان أن يأتوا ولو بسورة من مثل سوره! أليس كلّ ذلك دليل على أنّ كتاب الله يحمل بياناً وعلماً وفنّاً فاق علم البشر وبيانهم وفنّهم وصناعتهم.

إذن لنا أن نقول : إنّ الأمر يدور مداره حول الشعر لأنّ الشعر هو الوحيد المحتمل للأوزان والتفعيلات ، وإنّ الشعر العربي هو أقوى صناعة أدبيّة في البيان العربي اهتمّ به العرب فشهدت لهم بذلك محافلها ونواديها وحواضرها وبواديها ووقائعها وعواديها ؛ لما فيه من وزن وقافية تنشدّ إليه الأذهان والطبائع وكلّ حسٍّ مرهف ، ولما يحمله من قوّة الأدب من استعارة ومبالغة ونعت وسائر أصناف وضروب فنون البيان العربي ، هذا مع أنّ القرآن ليس

٢٦٤

بشعر لأنّ سوره وآياته لم تأت على وزن وقافية ، ولم نر شيئاً منها نُظم نظم الشعر ، فليس للشاعر أن ينظم إلاّ على بحر واحد من بحور الشعر العربي الستّة عشر المعروفة والمعهودة عندنا ، ولم نر آية من آيات الكتاب الحكيم ولا سورة من سوره قد نُظمت على بحر من بحور الشعر العربي مع تظافر تلكم الأوزان والتفعيلات في كتاب الله تبارك وتعالى ؛ ولكن ومن أجل أن نتعرّف على ذلك النظم والوزن الخاصّ الذي تميّز به القرآن الكريم مع ما فيه من فصاحة وبلاغة بلغت الحدّ الأقصى من تفاضل الألفاظ والمعاني لابدّ لنا أن نمرّ على صناعة الشعر عند العرب وتطوّرها بدراسة وقراءة مقتضبة :

ب ـ صناعة الشعر وتطوّرُها :

إنّ الشعر العربي الذي اعتمده العرب وركنوا إليه وأنسوا به أيّما إيناس واهتمّوا به أيّما اهتمام إنّما هو الشعر العمودي الذي يجري رويّه على بحر واحد من بحور الشعر ، وذلك حسب ما يملكه الشاعر من قوّة الملكة الشعرية ، فتجود قريحته بما يختاره وحيه الشعري من تلكم البحور ، هذا هو ما مضت عليه العرب في صناعة الشعر منذ جاهليّتها وحتّى يومنا هذا ، فإنّ أصل الشعر المعتمد في الأدب العربي إنّما هو الشعر العمودي ، ولكن مع مرور السنين والدّهور وتطوّر الأدب في جميع مجالاته وشتّى ضروبه وفنونه قد تطوّر الشعر إلى أنواع من الفنون والصناعات الشعرية مثل : الدوبيت أو الرباعي والتخميس والتشطير والموشّح والشعر الحرّ ، وإذا فتّشنا كتب الأدب

٢٦٥

ونقّبنا عن الصناعات الأدبية الشعرية نرى كتاب شعراء الغريّ ينقل إلينا صناعة أدبية امتاز بها شعراء وأدباء النجف الأشرف دون غيرهم من سائر البلدان العربية وحواضر وحواضن الأدب العربي ، وهي ما يعبّر عنها بالمقطوعة أو المقطعوعات الأدبية ربّما تكون أشبه بالسجع ولكنّ الوزن الشعري واضحة أعلامه في تلكم المقطوعات.

فكيف تطوّر الشعر العربي من الشعر العمودي إلى تلكم الصناعات الشعرية التي ربّما يستغرب منها شعراء الجاهلية والقرون التي خلت من قبل ، وذلك لأنّها لم تشهد مثل هذه الصناعات والتصرّفات والإنجازات الأدبية ممّا صنعها فكر البشر وطبعه وحسّه المرهف بما يملكه من قوّة فصاحة وبلاغة وملكة في الأوزان الشعرية.

إذن الشعر العربي يمكن للأديب الأريب اللبيب أن يتصرّف به ويصنع منه أشعاراً لم يشهدها الأدب العربي من قبل ، وكلّما درسنا هذه الصناعات الجديدة وتمعّنّا بها ودقّقنا بها وقلّبناها نراها إنّما هي مشتقّة من تلكم الأوزان التي بُني عليها الشعر العمودي ، وهي البحور الستّة عشر ومأخوذة منها.

ومروراً بتاريخ الشعر العربي ومعرفة أوزانه نرى أنّ الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت ١٧٠هـ) قد اكتشف لنا تلكم البحور والأوزان بما وضعه من دوائر التفعيلات ، وعليه قامت دراسة الشعر ومعرفة أوزانه وبحوره بكلّ مشتقّاتها ، ومنها صار يأخذ الأدباء والشعراء تلكم التفعيلات ويتصرّفون بها وفقاً لتلك الموازين ولما يتقبّله الطبع البشري من معرفة وأنس بالنغم

٢٦٦

الشعري ، وكذلك ضرب لنا صفيّ الدين الحلّي (ت ٧٥٢هـ) أمثالا على تلكم البحور تسهيلا لمعرفتها ونيلها لهواة الشعر وبغاته ، فليس ما ذكرناه من تطوّر الصناعات الشعرية إلاّ من تلكم البحور ، وليس الشعر الحرّ إلاّ هو من تكسير تلكم الأوزان ، وليس للمقطوعات الأدبية إلاّ وهي مأخوذة من تلكم التفعيلات.

فهذا هو كلّ ما صنعته يد الإنجاز البشري من صناعات شعرية بحيث لم تخرج بكلّ ما جاءت به من تصرّفات من إطار الوزن الشعري المستلهم من تلكم البحور التي قام عليها الشعر العمودي منذ الجاهلية وحتّى يومنا هذا.

إذن فإنّ الصناعة الشعرية إنّما هي قائمة على تلك التفعيلات التي تشكّل لكلّ شعر نظمه ووزنه الخاصّ من البحور الشعرية ، فلا يمكن للشاعر أن يخرج عن إطارها ومدارها مهما تطوّرت صناعة الشعر ، كما لا يمكن للشاعر أن ينظم قصيدة من بحرين ؛ أي أنّه لا يمكن أن تنسجم تفعيلات بحرين في أبيات قصيدة واحدة مهما بلغت قدرة الشاعر من قوّة الفصاحة والبلاغة وأخذه برقاب القوافي وتسلّطه على الأوزان ؛ فإنّ جميع مرتكزاته الذهنية من فصاحة وبلاغة وتراكيب اللفظ والمعنى وملكته الشعرية ومعرفته ببحور الشعر إنّما تصبّ في بحر واحد في إنشاء قصيدة ونظمها ، وعلى سبيل الفرض لو استطاع الشاعر أن يأتي ببحرين ـ أي يجمع بين تفعيلتين في القصيدة الواحدة ـ لأخلّ هذا بشعره فيضحى الشعر لا وزن له كما يخلّ بفصاحته وبلاغته وهذا ما يضحك الثكلى!

٢٦٧

فعلى هذا لا يمكن للقرآن أن يكون شعراً وإن تكاثرت الأقاويل تهجّماً عليه ، فما تلكم التهجّمات إلاّ نزعة عناد لا رأي سداد ، إذن فما الذي جعل للقرآن نظماً ووزناً خاصّاً؟ وقد علمنا أنّ وجود الأوزان الشعرية بمفردها مع شيء من التفعيلات لا يمكن لها أن تشكّل نظماً ووزناً لا للقرآن ولا لغيره ، فما هي الصناعة الأدبية في القرآن الكريم؟

ج ـ الصناعة الأدبية بين يدي الإعجاز :

إنّ تظافر أوزان الشعر في كتاب الله مع التفعيلات لا يشكّلان نظماً ووزناً خاصّاً بالقرآن الكريم ، وإنّ الأمر أجلّ وأكبر من ذلك بل أدقّ وأعجب ، فعندما ينكشف لنا هذا السرّ ويناط عنه الستر هناك نرى العجب العجاب في بيان كلام الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ويبدو أنّه أعظم إعجاز في باب الإعجاز البياني للقرآن الكريم والصناعة الفريدة التي لا يمكن لشاعر مهما بلغت قدرته أن يأتي بمثله حتّى ولو كان الإنس والجنّ بعضهم لبعض ظهيراً.

فهلمّ بنا هنا ـ ولمّا بلغ بنا المطاف ، إلى معرفة سرّ خفيّ الألطاف وما علمناه من صناعة الأدب الشعري في اعتمادها على الأوزان والتفعيلات ـ أن نأخذ بعنان علم العروض ونعرضه على القرآن الذي أنزله الرحمن خالق الإنسان ليعلّمه من سحر البيان وفنّه ورقّته ودقّته وعذوبة لحنه وكلماته لنرى كيف انسجمت تلك البحور والتفعيلات في حشو آيات الكتاب لتملأ كلّ

٢٦٨

مفاصله وتراكيبه وأركانه وتعاريبه ، فقد جاءت آيات الكتاب الحكيم مركّبة من تلكم الأوزان والتفعيلات بحيث إنّك ما مررت بآية إلاّ ووجدتها منسوجة بذلك النسيج ، ورأيت تلك الأوزان والتفعيلات قد أخذت بجميع مفاصل الكلام فنسجت به نسجاً وحبكت به حبكاً ورصّت به رصّاً وشكّلت هندسة خاصّة بها بحيث خرجت من مدار الشعر وموازينه وقلبت كلّ معاييره رأساً على عقب ، فتجاوز كتاب الله قواعد الشعر وميزانه ، وخرق منطقه وفاق بيانه ، وجاء بالعجب العجاب ، وبصناعة عجزت عن مجاراته الألباب ، فهو القول الحقّ وفصل الخطاب ، فنزّله سبحانه تنزيلا وقال : (إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيْلا) من حيث نسجه بحراً وتفعيلا ، فأمر نبيّه(صلى الله عليه وآله) (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيْلاَ) فصار للقرآن ذلك الوزن الخاصّ به وقال عزّ من قائل : (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَه) فكيف ينبغي للحبيب(صلى الله عليه وآله) أن يجعله شعراً وهو بهذا التركيب العجيب.

فانظر إلى البسملة من كلّ سورة لترى كيف انسجمت بها ثلاث تفعيلات من بحر المتدارك وتفعيلة واحدة من بحر المديد ، وانظر إلى الآية الأولى من سورة الفاتحة لترى كيف جاء بها بحر البسيط مخروم الآخر ، والآية الثانية منها كيف جاءت بها تفعيلتان من المتدارك وتفعيلة من المتقارب ، والآية الثالثة من الرجز ، وهكذا امض في كتاب الخالق البارئ لترى العجب العجاب ممّا صنعته يد الإعجاز من تراكيب البحور والتفعيلات ، وانظر إلى قوله تعالى : (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيْهِ هُدَىً لِّلْمُتَّقِيْن) لترى

٢٦٩

كيف انسجم به بحر المديد مع تفعيلة من المتقارب ومن المديد ، وانظر إلى أوّل سورة مريم لترى (فاعلاتن فعلن فعلن فعلن ...) ، واقرأ قوله تبارك وتعالى من سورة الحشر : (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَل) وانظر إلى بحر المتدارك ثمّ ما يتلوه من تركيب تفاعيل أخرى من سائر البحور ، وهذا هو شأن كتاب الله تبارك وتعالى في كلّ سُوَرِهِ وآياته من ألفه إلى يائه ، أي من أوّل سورة الحمد وحتّى سورة الناس.

ولقائل أن يقول : إنّ هذه التفعيلات يمكن أن نعثر عليها في النثر وفي خطب العرب وبيانها.

أقول : نعم إنّ هذه التفعيلات إنّما هي تركيب ، من نفس الكلم العربي ، فهي لا تنفكّ أن تتواجد من أقلّ تركيب ، ولكن أن تنسجم وتأخذ بجميع مفاصل الكلام مع الأوزان الشعرية فهذا ما لا أراه في كلام ولا خطبة من خطب العرب لا في سجعها ولا في نثرها.

وهذا هو ما كان يقرع مسامع العرب آنذاك عند استماعهم إلى القرآن ، فكانوا يتّهمون النبيّ(صلى الله عليه وآله) أنّه شاعر ومعلَّم مجنون لما كانوا يرون في نسيج كلام الله العجيب في أسلوبه من أوزان شعرية وتفعيلات متراصّة في كلّ مفاصل الكلام ، قد شكّلت له هذا النظم والوزن الخاصّ الذي كان يأخذ بمجامع قلوبهم فينشدّون إليه فأدهشهم وحيّرهم.

فإنّ هذا الإعجاز البياني مع ما للقرآن من أسمى مراتب الفصاحة والبلاغة ، وما احتواه من قصص وعبر ، وأحكام ، وأمر ونهي ، وسائر تراكيب

٢٧٠

اللغة ، وأنواع العلوم ، وأصناف النعوت ، والمعجزات المشار إليها والمذكورة في كتب التفسير وكتب إعجاز القرآن ، يشكّل المعجزة العظمى التي لا يجاريها ولا يباريها أحد.

وهكذا تتهافت أمام عظمة القرآن كلّ الأقاويل والأراجيف ، والترّهات البسابس ، وتتساقط كتساقط قزع الخريف التي تسفو بها الريح أو تصبح كرماد اشتدّت به الريح في يوم عاصف.

الإعجاز البياني بين الخالق والمخلوق :

وفي ختام هذا المقال أقول : إنّي ما رأيت هذا الإعجاز إلاّ في كتاب الله وفي كلام أئمّة الهدى المعصومين عليهم‌السلام وفي أدعيتهم ؛ فانظر إلى فقرات دعاء كميل «اللهمّ إنّي أسألك برحمتك التي وسعت كلّ شيء» لترى كيف نسجت به تفعيلات المتدارك والمديد والمقتضب وتفعيلتين من الوافر ثمّ تفعيلة من المديد ، وانظر إلى هذه الفقرة منه : «يا سيّدي يامن عليه معوّلي يا من إليه شكوت أحوالي» لترى فيه البحر الكامل ، وانظر إلى دعاء الصباح «اللهمَّ يا من دلع لسان الصباح بنطق تبلّجه» لترى تفعيلات المتدارك والرمل والوافر والمتقارب ، وكذا «سرّح قطع الليل المظلم» (فعلن فعلن فعلن فعلن) ، ولو دقّقت في حديث الكساء لرأيته مليئاً بتفعيلات بحر الرجز وكذلك الزيارة الجامعة.

انظر إلى حديث الكساء المروي عن جابر عن سيّدة النساء فاطمة

٢٧١

الزهراء عليها‌السلام دوحة أهل الولاء لرأيت السهل الممتنع ، من حديث رفع ، وكلام كأنّه من بحر الرجز انتزع ، ومن أجله صنع ، وقد نظمته في أرجوزة إليك بعض أبياتها :

هذا حديث الخمسة الأطهار

وقد أتى عن جابر الأنصاري

بسند يرويه في الأنباء

وذاك عن فاطمة الزهراء

تلك عليها في الورى تقام

تحية يرفقها السلام

بنت رسول الله صلّى الله

عليه ذا وآله الأنباه

يحكيه نصّاً ما حكته العالمة

قال سمعت ذات يوم فاطمة

ما أنّها قالت بداري قد دخل

عليّ أحمد أبي بيتي حلّ

وهو رسول الله في الأنام

في بعض ما مضى من الأيّام

فقال لما دخل السلام

عليك يا فاطمة احترام

فقلت ردّاً للسلام ما بدا

عليك منّي السلام يا هدى

قال لها بُنَيَّ إنّي أَجِدُ

في بدني ضُعفاً عليَّ يَرِدُ

فقلت حينها على انتباهِ

له أعيذك أبي باللهِ

يا أبتاه من حديث الضعف

يحميك ربّي إنّه ذو اللطف

فقال يا فاطمة الإحسان

إيتيني بالكساء ذا اليماني

ألا فغطّيني به علانية

علّيّ أفيق بعد هذا ثانية

ها فأتيته على امتنان

ثمّة بالكساء ذا اليماني

ألا فقد غطّيته به مدى

وصرت أنظر إليه كمدا

٢٧٢

ها وإذا وجهه بالنور الأغر

ذا يتلألؤ كأنّه القمر

والبدر في ليلة تمّ حاله

لدى تمامه وفي كماله

هذا فما كانت هناك إلاّ

من الزمان ساعة تخلّى

ها وإذا بولدي البرّ الحسن

قد أقبل السبط وأدبر الحَزَن

وللحديث صلة وما ذكرناه على سبيل الاختصار.

وبهذا أرى يتهاوى رأي كلّ من مضى بغير رشاد ، ونطق بغير سداد ، وبه ينتقض كلّ ما أبرم عن عناد ، بذريعة أنّه حديث ضعيف الإسناد ، أنّى وهم سادة الأسياد ، وآل أفصح من نطق بالضاد ، وخيرة ربّ العباد.

ولو رأيت القوافي اللامعة في الزيارة الجامعة(١) ، ذات العبارات الساجعة ، لرأيتها بنضد التفاعيل بارعة ، ببراعة شارعة للأغيار مانعة ، ببلاغة ناصعة خافضة رافعة.

وإنّ ما أدهشني وزاد في إعجابي هو تظافر تفعيلات بحر الرجز وبحر المتدارك في آيات الكتاب وفي خطب أئمّة الهدى وأدعيتهم وزياراتهم ، وكما رأيته أيضاً في خطبة العقيلة زينب في مجلس يزيد ابن معاوية (لعنة الله عليه) ولا عجب أن نرى ذلك الإعجاز وتلك الكرامة منهم عليهم السلام فهم من غذّاهم الله بعلمه ، وأودعهم أسراره ، وعلّمهم تفسير الكتاب وتأويله ، ومنحهم جوامع الكلم ، وجعلهم سادة الأمم ، وهم نور من حضيرة القدس الإلهي.

__________________

(١) أنظر مقالنا تحت عنوان القوافي اللامعة في الزيارة الجامعة في مجلّة تراثنا العدد (٨٣ ـ ٨٤).

٢٧٣

وإنّي المتطفّل على موائد الأدب ، أدعوا أدباء العرب وشعراءها عامّة ، كما أدعو وأحثّ الشعراء والأدباء من أبناء طائفتي خاصّة أن يتوجّهوا إلى كتاب الله وأن يأخذوا هذا المقال بعين الاعتبار ويدرسوا الأمر بكلّ حصافة وبما أحاطوا به من الأمر خبراً ليلمسوا من قريب هذا الإعجاز الذي فاق كلّ إنجاز.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

أخوكم السيد محمّد علي نجل السيّد راضي الحكيم

صبيحة يوم الأربعاء / جمادى الآخرة سنة ١٤٣٩ هـ

مدينة قم المقدّسة

٢٧٤

من ذخائر الترّاث

٢٧٥
٢٧٦

منظومة

روض الزهر

في آل سيّد البشر عليهم‌السلام

تأليف

الشيخ محمّد بن مصطفى البرزنجي

الشهرزوري النودهي

(المتوفّى سنة ١٢٥٤ هجرية)

تَحْقيق

الشيخ عبد الحليم عوض الحلّي

٢٧٧
٢٧٨

مقـدّمة التحقيـق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وأهل بيته الطاهرين المعصومين ، واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

أهل البيت عليهم‌السلام لهم منزلة عظيمة يعرفها من اتّبعهم ومن لم يتّبعهم ، بل يعرفها القاصي والداني ، كيف لا ، وهم الذرّية الطاهرة للرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله) ، وقد ورد مدحهم على لسان النبي الكريم صلوات الله عليه ، وقد مدحهم الشعراء والأدباء في قصائد عديدة على مرّ السنين.

وبين يدي القارئ الكريم قصيدة شعرية كتبها الشيخ محمّد بن مصطفى البرزنجي الشهرزوري (المتوفّى سنة ١٢٥٤ هجرية) ، وقد بيّن فيها منازل ومقامات أهل البيت عليهم‌السلام في عدّة روضات ، حيث ذكر روضة في عظم شرفهم ورفعة منزلتهم ، وأردفها بروضة في التحذير عن انتقادهم والاعتصام بعلمائهم ، ثمّ بيّن تحريمهم وتحريم محبّيهم ومصاهرهم على النار ، وبعد

٢٧٩

ذلك ذكر التحريض على الإحسان إليهم وزيارتهم ، وقبل أن ندخل في نقل الأرجوزة الشعرية محققة لا بدّ من تقديم أمور :

الأمر الأوّل : اسم الشاعر ونسبه :

هو الشيخ محمّد بن مصطفى البرزنجي الشهرزوري النودهي ، أديب ، شاعر ، عارف باللغات العربية والكردية والفارسية.

وجاء في هديّة العارفين لإسماعيل باشا البغدادي : «هو معروف البرزنجي ، الشيخ العارف بالله محمّد بن مصطفى بن أحمد الحسني البرزنجي الشافعي القادري الشهير بـ : (معروف) ، ولد بقرية (نوده) من قرى (السليمانية) ، وتوفّي بها سنة (أربع وخمسين ومائتين وألف) ، وقبره مشهور يزار ويتبرّك»(١).

وجاء في الأعلام : «هو محمّد معروف بن مصطفى بن أحمد النودهي الشهرزوري البرزنجي الشافعي ، ويعرف بـ : (الشيخ معروف النودهي) ، وبالبرزنجي ، باحث متصوّف ، من أهل قرية (نودي) بـ: (السليمانية) في العراق ، وإليها نسبته ، ولد في (شهربازار) ، وتوفي بـ : (السليمانية) ، وهو من أسرة يتّصل نسبها بالسيّد عيسى البرزنجي الحسني».

وذكره عمر رضا كحّالة في معجم المؤلّفين ، حيث قال : «محمّد معروف بن مصطفى بن أحمد النودهي ، الشهرزوري ، البرزنجي ، الشافعي

__________________

(١) هديّة العارفين ٢ / ٣٦٨.

٢٨٠