ثمّ خرجوا من السقيفة وابوبكر قدّامهم يدعون الناس لمبايعته ، ولأجل ذلك كان عمر بن الخطاب يرفع عقيرته فوق المنبر ، ويقول : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها.
وأمّا خلافة عمر فقد عقدت له الخلافة بتعيين الخليفة الأوّل ، وأمّا خلافة عثمان فقد حصر عمر الشورى في ستة أشخاص انتخبهم هو بنفسه ليعقدوا لأحدهم ، كما هو واضح من التاريخ.
٢. لو كان أساس الحكم ومنشؤه هو الشورى ، لوجب على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الخوض في تفاصيلها وخصوصياتها وأُسلوبها على الأقلّ. مع انّه لا نجد في الصحاح والمسانيد أثراً لذلك.
فلو كانت الشورى مبدأًً للحكومة لكان على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بيان حدود الشورى وتوعية الأُمَّة وإيقافها على ذلك حتى لا تتحيَّر بعد رحيله ، ومع الأسف الشديد لا نجد شيئاً من ذلك في كلام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم .
ومن جملة الأُمور التي كان من المفروض بيانها ، هي :
أوّلاً : من هم الذين يجب أن يشتركوا في الشورى المذكورة ؟ هل هم العلماء وحدهم ، أو السياسيون وحدهم ، أو المختلط منهم ؟
ثانياً : من هم الذين يختارون أهل الشورى ؟
ثالثاً : لو اختلف أهل الشورى في شخص فبماذا يكون الترجيح ، هل يكون بملاك الكم ، أم بملاك الكيف ؟
إنّ جميع هذه الأُمور تتصل بجوهر مسألة الشورى ، فكيف يجوز ترك بيانها ، وتوضيحها وكيف سكت الإسلام عنها ، إن كان جعل الشورى طريقاً إلى تعيين الحاكم ؟
٣. لو كانت الشورى مبدأًً للحكم لكانت واضحة المعالم فيما يمس متن الشورى ، ومنها العدد الذي تنعقد به الشورى ، وقد اختلفوا في عدد من تنعقد بهم الشورى إلى مذاهب شتى يذكرها الماوردي ( ٣٦٤ ـ ٤٥٠ ه ) في كتابه : « الاحكام السلطانية » ويقول :
الإمامة تنعقد بوجهين :
أحدهما : باختيار أهل العقد والحل.
والثاني : بعهد الإمام من قبل.
فأمّا انعقادها باختيار أهل العقد والحل ، فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتى ، فقالت طائفة : لا تنعقد إلاّ بجمهور أهل العقد والحل من كلّ بلد ليكون الرضا به عاماً ، والتسليم لإمامته إجماعاً ، وهذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة ، باختيار من حضرها ولم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها.
وقالت طائفة أُخرى : أقلُّ من تنعقد به منهم الإمامة ( خمسة ) يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة ، استدلالاً بأمرين :
أحدهما : أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ، ثمّ تابعهم الناس فيها ، وهم : عمر بن الخطاب ، وأبوعبيدة الجرّاح ، وأسيد بن حضير ، وبشر ابن سعد ، وسالم مولى أبي حذيفة.
الثاني : أنّ عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة ، وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلّمين من أهل البصرة.
وقال آخرون من علماء الكوفة : تنعقد بثلاثة يتولاّها أحدهم برضا الاثنين
ليكونوا حاكماً وشاهدين ، كما يصحّ عقد النكاح بولي وشاهدين.
وقالت طائفة أُخرى : تنعقد بواحد لأنّ العباس قال لعلي : أُمدد يدك أُبايعك ، فيقول الناس : عمّ رسول الله بايع ابن عمه ، فلا يختلف عليك اثنان ، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ. ١
وهذه الوجوه تسقط كون الشورى أساس الحكم وأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ارتحل واعتمد في صيانة دينه بنظام مبني على الشورى وهي مجملة من جهات شتى.
هل البيعة أساس الحكم الإسلامي ؟
هل البيعة سبيل إلى تعيين الحاكم الإسلامي وأساس له. وقد اتخذه غير واحد ممن كتب في نظام الحكومة الإسلامية أساساً لها ، وقد أمضاها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن غير موضع ، حيث بايعه أهل المدينة في السنة ١١ و ١٢ و ١٣ من البعثة ، بايعوه على أن لا يشركوا بالله ولا يسرقوا ولا يقترفوا فاحشة.
كما بايعوه في البيعة الثانية على نصرته والدفاع عنه ، كما يدافعون عن أولادهم وأهليهم. ٢
إنّ الموارد التي بايع فيها المسلمون رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لا تنحصر في هذين الموردين بل توجد في موارد أُخرى ، أعظمها وأفضلها بيعة الرضوان المذكورة في تفسير قوله سبحانه : ( لَّقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ المُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
__________________
١. الأحكام السلطانية : ٧.
٢. السيرة النبوية : ١ / ٤٣١ ـ ٤٣٨.
فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ). ١
يذكر المفسرون أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعث رسولاً في صلح الحديبية إلى قريش ، وقد شاع أنَّ مبعوث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد قتل ، فاستعدّ المسلمون للانتقام من قريش ، ولمّا رأى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّ الخطر على الأبواب ، وبما أنّ المسلمين لم يخرجوا للقتال وإنّما خرجوا للعمرة ، قرر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يُجدِّد بيعته مع المسلمين فجلس تحت شجرة وأخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة والثبات والوفاء واحداً بعد الآخر ، ويحلفون له أن لا يتخلّوا عنه أبداً وأن يدافعوا عن حياض الإسلام حتى النفس الأخير ، وقد سميت هذه البيعة « بيعة الرضوان ». ٢
وقد بايعت المؤمنات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في فتح مكة ، وقد ذكر التفصيلَ قوله سبحانه وقال : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ). ٣
نقد فكرة انّ البيعة أساس الحكم
لو أمعن القارئ الكريم في تفاصيل الموارد التي بايع فيها المسلمون ـ كلّهم أو بعضهم ـ قائدهم يقف على أنَّه لم تكن الغاية من البيعة الاعتراف بزعامة الرسول ورئاسته فضلاً عن نصبه وتعيينه ، بل كان الهدف التأكيد العملي
__________________
١. الفتح : ١٨. |
٢. السيرة النبوية : ٢ / ٣١٥. |
٣. الممتحنة : ١٢.
على الالتزام بلوازم الإيمان المسبق ، ولذلك نجد جرير بن عبدالله ، قال : بايعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على إقام الصَّلاة ، وإيتاء الزَّكاة ، والنصح لكلِّ مسلم. ١
وقال أيضاً : « وأن تدفعوا عني العدو حتى الموت ٢ ولا تفرُّوا من الحرب ». ٣
والحاصل أنّ البيعة كانت تأكيداً للإيمان الذي أظهروه برسالته ونبوَّته فلازم ذلك إطاعة قوله وأمره ، فكانت البيعة تأكيداً لما أضمروا من الإيمان.
نعم لا يمكن أن ينكر أنّ البيعة في العهود التي أعقبت وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كانت طريقاً لتنصيب الحاكم وذلك تقليداً للجاهلية ، حيث كان الرائج فيها انّه إذا مات أمير أو رئيس عمدوا إلى شخص فأقاموه مقام الراحل من خلال البيعة.
والظاهر أنّ تعيين بعض الخلفاء من خلال البيعة كان تقليداً لما كان رائجاً بينهم قبل الإسلام ، ولا يكون هذا دليلاً تاريخياً أو شرعياً على أنّ البيعة طريق لتعيين الخليفة ، بغض النظر عن سائر المواصفات والضوابط ، وغاية ما هناك أنّ البيعة إحدى الطرق فيما لم يكن هناك نص إذا كان المبايع واجداً للملاكات والمواصفات التي يجب أن يتمتع بها الحاكم.
__________________
١. كتاب الإيمان. : لاحظ ايضاً صحيح البخاري ، ٥ / ٥٥ ، بيعة الأنصار.
٢. مسند أحمد : ٤ / ١٥.
٣. مسند أحمد : ٣ / ٢٩٢.
الفصل الثالث :
نظرية الحكم
عند النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
دلّت البحوث السابقة على أنّ الشورى والبيعة ليسا أساس الحكم ، فحان البحث لبيان نظرية الحكم في كلمات النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
والسبر في كلماته طيلة حياته من البعثة إلى الوفاة ، يُثبت أنّ الإمامة عنده كالنبوة أمر موكول إلى الله تبارك وتعالى وليس للأُمّة حتى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيها دور.
إنّ الكلمات المأثورة عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وموقفه من قضية القيادة ، تعرب عن أنّه كان يعتبر أمر القيادة وتعيين القائد مسألة إلهية وحقاً إلهياً ، فالله سبحانه هو الذي له أن يعّين القائد وينصب خليفة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد رحيله ، نجد ذلك في كلماته بوفرة ولا نجد في كل ما نقل عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ما يدل على إرجاع الأمر إلى اختيار الأُمّة ونظرها ، أو آراء أهل الحلّ والعقد ، وها نحن نذكر هنا شاهدين من كلمات الرسول يكشف الستار عن وجه الحقيقة.
١. لما عرض الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم نفسه على بني عامر الذين جاءوا إلى مكة في موسم الحجّ ودعاهم إلى الإسلام. قال له كبيرهم : أرأيت ان نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟
فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء ». ١
٢. لما بعث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم سليط بن عمرو العامري إلى ملك اليمامة ( هوذة بن علي الحنفي ) الذي كان نصرانياً ، يدعوه إلى الإسلام وقد كتب معه كتاباً ، فقدم على هوذة ، فأنزله وحباه وكتب إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول فيه : ( ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي ، وخطيبهم ، والعرب تهاب مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتبعك ).
فقدم سليط على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأخبره بما قال هوذة ، وقرأ كتابه ، فقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لو سألني سيابة من الأرض ما فعلت ، باد وباد ما في يده ». ٢
ونقل ابن الأثير على نحو آخر ، فقال : أرسل هوذة إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وفداً فيهم مُجاعة بن مرارة والرّجال بن عنفوة ، يقول له :
إن جعل الأمر له من بعده أسلم وصار إليه ونصره ، وإلاّ قصد حربه.
فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا ولا كرامة ، اللّهم اكفنيه » ، فمات بعده بقليل. ٣
إنّ هذين النموذجين التاريخيين اللَّذين لم تمسّهما يد التحريف والتغيير يدلاّن بوضوح كامل على أنّ رؤية النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في مسألة الحكم والخلافة هي انّها أمر سماويّ خارج عن صلاحيته ، فالإرجاع إلى الله وضرب الصفح عن الشورى والبيعة أو الاستفتاء العام خير دليل على كونه منصباً إلهياً ، والعجب انّه لم يكن هذا رُؤى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في مورد الحكم فقط بل كانت الصحابة بعد رحيله يسيرون على هذا النهج غير انّهم بدّلوا التنصيب الإلهي بتنصيب الخليفة لمن يقوم مكانه بعده.
__________________
١. السيرة النبوية : ٢ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥.
٢. الطبقات الكبرى : ١ / ٢٦٢.
٣. الكامل في التاريخ : ٢ / ١٤٦.
٣. وهذا هو أبو بكر عيَّن عمر بن الخطاب للخلافة في عهد كتبه عثمان ابن عفان. ١
٤. كما أنّه تم استخلاف عثمان عن طريق الشورى الستة التي عيَّن اعضاءها عمر بن الخطاب. ٢
٥. وقد كانت السيدة عائشة تتبنى نظرية التنصيب من جانب الخليفة ، وقالت لعبد الله بن عمر : يا بني بلِّغ عمر سلامي ، فقل له لا تدع أُمّة محمد بلا راع ، استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملاً ، فانّي أخشى عليهم الفتنة ؛ فأتى عبد الله إلى أبيه فأعلمه. ٣
والعجب انّ أُمّ المؤمنين التفتت إلى أنَّ ترك الأُمة هملاً يورث الفتنة ، ولكن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حسب زعم القوم ـ لم يلتفت إلى تلك النكتة ـ فلقي الله سبحانه وترك الأُمّة هملاً !!!
٦. انّ عبد الله بن عمر دخل على أبيه قُبيل وفاته ، فقال : إنّي سمعت الناس يقولون مقالة فآليت أن أقولها لك ، وزعموا انّك غير مستخلف ، وانّه لو كان لك راعي إبل أو راعي غنم ثمّ جاءك وتركها لرأيت أن قد ضيَّع ، فرعاية الناس أشد. ٤
٧. قدم معاوية المدينة ليأخذ من أهلها البيعة ليزيد ، فاجتمع مع عدّة من الصحابة ، وأرسل إلى ابن عمر فأتاه وخلا به ، فكلّمه بكلام ، قال : إنّي كرهت أن أدع أُمّة محمد بعدي كالضعن بلا راع لها. ٥
__________________
١. الإمامة والخلافة : ١٨ ؛ الكامل في التاريخ : ٢ / ٢٩٢ ؛ الطبقات الكبرى : ٣ / ٢٠٠.
٢. الكامل في التاريخ : ٣ / ٣٥. |
٣. الإمامة والسياسة : ٣٢. |
٤. حلية الأولياء : ١ / ٤٤. |
٥. الإمامة والسياسة : ١ / ١٦٨. |
هذه النصوص تدل بجلاء على أنّ انتخاب الخليفة عن طريق الاستفتاء الشعبي ، أو بمراجعة أهل الحلّ والعقد ، أو اتفاق الأنصار والمهاجرين ، أو بالشورى ، أو بالبيعة كلها فروض اختلقها المتكلّمون بعد تمامية الخلافة للخلفاء ، ولم يكن أي أثر من هذه العناوين بعد رحيل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلاّ شيئاً لا يذكر عند محاجة علي عليهالسلام مع المتقمّصين منصَّة الخلافة.
هذه الكلمات تعرب عن أنّ نظرية التنصيب هي التي كانت مهيمنة على الأفكار والعقول.
بلاغات غير رسمية
لقد بلّغ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم خلافة علي عليهالسلام بصورة رسمية في غدير خم كما سيوافيك ، ولكن لم يكن ذلك البلاغ بصورة عفوية بل هيّأ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أرضيته منذ أن صدع بالنبوّة في مواقف مختلفة نذكر منها :
١. دعوة الأقربين وتنصيب علي للخلافة
يقول المفسرون : لمّا نزل قوله سبحانه : ( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ ) ١ أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليّ بن أبي طالب عليهالسلام أن يعد طعاماً ولبناً ، فدعا خمسةًً وأربعين رجلاً من وجوه بني هاشم ، ولما فرغوا من الطعام تكلم رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقال : « إنّ الرائد لا يكذب أهله ؛ والله الذي لاإله إلاّ هو إنّي رسول الله إليكم خاصة ، وإلى الناس عامة ، والله لتموتُنّ كما تنامون ، ولتبعثنّ كما تستيقظون ، ولتحاسبُنَّ بما تعملون ، وإنّها الجنّة أبداً أو النار أبداً.
__________________
١. الشعراء : ٢١٤ ـ ٢١٥.
ثمّ قال :
يا بني عبد المطلب إنّي والله ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله عزّ وجلّ أن أدعوكم إليه فأيُّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم ؟
ولمّا بلغ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى هذه النقطة ، وبينما أمسك القوم وسكتوا عن آخرهم وأخذوا يفكّرون مليّاً في ما يؤول إليه هذا الأمر العظيم ، وما يكتنفه من أخطار قام علي عليهالسلام فجأة ، وهو آنذاك في الثالثة أو الخامسة عشرة من عمره ، وقال وهو يخترق بكلماته الشجاعة جدار الصمت والذهول :
أنا يا رسول الله أكون وزيرك على ما بعثك الله.
فقال له رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : اجلس ، ثمّ كرّر دعوته ثانية وثالثة وفي كلّ مرة يحجم القوم عن تلبية دعوته ، ويقوم علي ويعلن عن استعداده لمؤازرة النبي ، ويأمره رسول الله بالجلوس حتى إذا كانت المرة الثالثة أخذ رسول الله بيده والتفت إلى الحاضرين من عشيرته الأقربين ، وقال :
إنّ هذا أخي ، ووصيي ، وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا.
فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع وجعله عليك أميراً. ١
هذا موجز ما ذكره المفسرون والمحدّثون حول الآية ، وفي صحاحهم ومسانيدهم.
__________________
١. تاريخ الطبري : ٢ / ٦٢ ـ ٦٣ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٤٠ ـ ٤١ ، مسند أحمد : ١ / ١١١ ، شرح نهج البلاغة : ١٣ / ٢١٠ ـ ٢١١.
وهناك من حرّف الكلم عن مواضعه ، أو حرّفها المستنسخون في كتبهم :
١. منهم محمد بن جرير الطبري ( المتوفّى عام ٣١٠ ه ) حيث ذكر في تاريخه حديث بدء الدعوة كما نقلناه غير أنّه حرف الكلم في موضعين :
أحدهما : قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : « على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي » وضع في مكانه قوله : « على أن يكون كذا وكذا ».
ثانيهما : قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي » حيث حرّفه إلى قوله : إنّ هذا أخي وكذا وكذا.
ونحن لا نتَّهم الطبري شخصاً بالتحريف ، ولكن يحتمل تطرق التحريف إلى تفسيره من جانب النُّسّاخ ، بشهادة سرد الواقعة في تاريخه برمّتها دون أدنى تحريف.
٢. منهم ابن كثير ( المتوفّى عام ٧٧٤ ه ) : فقد حرف الكلم عن مواضعه في تفسيره وتاريخه ولم يقتنع بالتحريف في مكان واحد. ١
ولا نستبعد أن يكون التحريف مستنداً إلى نفس المؤلف لأنَّ له مواقف معادية من أهل بيت النبوة عليهمالسلام.
ومما يثير الاستغراب أن تصدر تلك الهفوة من وزير المعارف المصرية « حسنين هيكل » الأسبق فقد أثبت في الطبعة الأُولى من كتابه « حياة محمد » قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : أيُّكم يؤازرني على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي ، ولم يذكر خطاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لعلي عليهالسلام عند ما أعلن مؤازرته له وهو قوله : إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي.
ولكنّه ارتكب في الطبعات الأُخرى جناية كبيرة بحذفه كلتا الجملتين من
__________________
١. انظر البداية والنهاية : ٢ / ٤٠ ، تفسير ابن كثير : ٣ / ٣٥١.
رأس وكأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يتفوه بها وكأنّ الكاتب لم يذكر إحدى الجملتين في الطبعة الأُولى ، وبذلك أسقط كتابه عن أيَّة قيمة علمية.
فلو كان هذا هو الميزان في ضبط الحقائق لثبت أنّ كثيراً من فضائل آل البيت عليهمالسلام لعبت بها يد التحريف الجانية وما بقي ليس إلاّ فلتات التاريخ.
٢. آية الولاية وخلافة علي
لم تزل الشيعة عن بكرة أبيهم يستدلون على إمامة علي عليهالسلام وقيادته وزعامته بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله سبحانه : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ). ١
استدلت الشيعة بهذه الآية على أنّ عليّاً عليهالسلام وليّ المسلمين بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قائلين بأنّ الآية تعد الولي ـ بعد الله ورسوله ـ الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة في حال الركوع ، وقد تضافرت الروايات بأنّ عليّاً عليهالسلام تصدّق بخاتمه وهو راكع فنزلت الآية في حقّه.
أخرج الحفاظ وأئمّة الحديث عن أنس بن مالك وغيره أنّ سائلاً أتى المسجد وعليٌّ عليهالسلام راكعٌ فأشار بيده للسائل ، أي اخلع الخاتم من يدي. قال رسول الله : يا عمر وجبت. قال : بأبي أنت وأُمّي يا رسول الله ما وجبت ؟! قال : وجبت له الجنّة ، والله ما خلعه من يده حتّى خلعه الله من كلِّ ذنب ومن كلِّ خطيئة. قال : فما خرج أحدٌ من المسجد حتّى نزل جبرئيل بقوله عزّ وجلّ : ( إِنَّمَا
__________________
١. المائدة : ٥٥ ـ ٥٦.
وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ). فأنشأ حسّان بن ثابت يقول :
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي |
|
بطيءٍ في الهدى ومسارع |
أيذهب مدحي والمحبّين ضايعاً ؟! |
|
وما المدح في ذات الإله بضائع |
فأنت الذي أعطيت إذ أنت راكعٌ |
|
فدتك نفوس القوم يا خير راكع |
بخاتمك الميمون يا خير سيّدٍ |
|
ويا خير شارٍ ثمّ يا خير بائع |
فأنزل فيك الله خير ولاية وقد وكلّ |
|
وبيَّنها في محكمات الشرائع ١ |
وقد أخرجه ابن جرير الطبري ٢ والحافظ أبوبكر الجصاص الرازي في أحكام القرآن ٣ والحاكم النيسابوري ( المتوفّى ٥٠٤ ه ) ٤ والحافظ أبو الحسن الواحدي النيسابوري ( المتوفّى ٤٦٨ ه ) ٥ وجار الله الزمخشري ( المتوفّى ٥٣٨ ه ) إلى غير ذلك من أئمّة الحفاظ وكبار المحدثين ربما ناهز عددهم السبعين ، وهم بين محدّث ومفسّر ومؤرخ ويطول بنا الكلام لو قمنا بذكر أسمائهم ونصوصهم ، وكفانا في ذلك مؤلّفات مشايخنا في ذلك المضمار. ٦
__________________
١. بلوغ المرام للبحراني : ١٠٦ ، نقلاً عن الحافظ أبي نعيم الإصفهاني في كتابه الموسوم ب « نزول القرآن في أميرالمؤمنين عليهالسلام ».
٢. تفسير الطبري : ٦ / ١٨٦.
٣. أحكام القرآن : ٢ / ٥٤٢ ورواه من عدّة طرق.
٤. معرفة أُصول الحديث : ١٠٢.
٥. أسباب النزول : ١٤٨.
٦. لاحظ المراجعات للسيد شرف الدين العاملي ، المراجعة الأربعون ، ص ١٦٢ ـ ١٦٨ والغدير : ٣ / ١٦٢ ، وقد رواه من مصادر كثيرة.
ولا يمكن لنا إنكار هذه الروايات المتضافرة لو لم تكن متواترة ، فانّ اجتماعهم على الكذب أو على السهو والاشتباه أمر مستحيل.
والمراد من الولي في الآية المباركة هو الأولى بالتصرف كما في قولنا : فلان وليّ القاصر ، وقول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم « أيّما امرأة نُكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل » وقد صرّح اللغويّون ومنهم الجوهري في صحاحه بأنّ كلّ من ولي أمر أحد فهو وليّه ، فيكون المراد : انّ الّذي يلي أُموركم فيكون أولى بها منكم إنّما هو الله عزّوجلّ ورسوله ومن اجتمعت فيه هذه الصفات : الإيمان وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة في حال الركوع. ولم يجتمع يوم ذاك إلاّ في الإمام علي عليهالسلام حسب النصوص المتضافرة.
وفي حقّه نزلت هذه الآية.
والدليل على أنّ المراد من الولي هو الأولى بالتصرّف أنّه سبحانه أثبت في الآية الولاية لنفسه ولنبيّه ولوليّه على نسق واحد ، وولاية الله عزّوجلّ عامة فولاية النبي والولي مثلها وعلى غرارها. غير انّ ولاية الله ، ولاية ذاتية وولاية الرسول والولي مكتسبة معطاة ، فهما يليان أُمور الأُمّة بإذنه سبحانه.
ولو كانت الولاية المنسوبة إلى الله تعالى في الآية غير الولاية المنسوبة إلى الّذين آمنوا » لكان الأنسب أن تفرّد ولاية أُخرى للمؤمنين بالذِّكر ، دفعاً للالتباس ، كما نرى نظيرها في الآيات التالية :
قال تعالى : ( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ). ١
نرى أنّه سبحانه كرر لفظ الإيمان ، وعدّاه في أحدهما بالباء ، وفي الآخر
__________________
١. التوبة : ٦١.
باللاّم لاختلاف في حقيقة إيمانه بالله ، وللمؤمنين حيث إنّ إيمانه بالله سبحانه إيمان جدّي وتصديق واقعي ، بخلاف تصديقه للمؤمنين المخبرين بقضايا متضادة حيث لا يمكن تصديق الجميع تصديقاً جدّياً ، والذي يمكن هو تصديقهم بالسماع وعدم الرفض والرد ، ثمّ التحقيق في الأمر ، وترتيب الأثر على الواقع المحقّق.
وممّا يكشف عن وحدة الولاية في الآية المبحوثة انّه سبحانه أتى بلفظ « وليكم » بالإفراد ، ونسبه إلى نفسه وإلى رسوله وإلى الّذين آمنوا ، ولم يقل : « إنّما أولياؤكم » ، وما هذا إلاّ لأنّ الولاية في الآية بمعنى واحد وهو : الأولى بالتصرف ، غير أنّ الأولوية في جانبه سبحانه بالأصالة وفي غيره بالتبعية.
وعلى ضوء ذلك يُعلم أنّ القصر والحصر المستفاد من قوله : « إنّما » لقصر الإفراد ، وكأنّ المخاطبين يظنون أنّ الولاية عامّة للمذكورين في الأُمة وغيرهم ، فأُفرد المذكورون للقصر ، وأنّ الأولياء هؤلاء لا غيرهم.
ثمّ يقع الكلام في تبيين هؤلاء الّذين وصفهم الله سبحانه بالولاية وهم ثلاثة :
١. الله جلّ جلاله.
٢. ورسوله الكريم صلىاللهعليهوآلهوسلم .
وهما غنيان عن البيان.
٣. فبما أنّه كان مبهماً بيّنه بذكر صفاته وخصوصياته الأربع :
١. ( الَّذِينَ آمَنُوا ).
٢. ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ).
٣. ( وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ).
ولا شكّ أنّ هذه السمات ، سمات عامة لا تميّز الولي عن غيره.
فالمقام بحاجة إلى مزيد توضيح يجسّد الولي ويحصره في شخص خاص لا يشمل غيره ، ولأجل ذلك قيّده بالسمة الرابعة أعني قوله : ( وَهُمْ رَاكِعُونَ ).
وهي جملة حاليّة لفاعل « يؤتون » ، وهو العامل فيها. وعند ذلك انحصر في شخص خاص على ما ورد في الروايات المتضافرة.
هذا هو منطق الشيعة في تفسير الآية لا تتجاوز في تفسيرها عن ظاهرها قيد أنملة.
بلاغ رسمي في غديرخُم
تقدّم أنَّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد فوَّض في كلامه أمر الخلافة إلى الله سبحانه ، فقد كان يترصد أمره سبحانه في ذلك المجال حتى وافاه الوحي ، وخاطبه بقوله سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ). ١
نزلت الآية الشريفة يوم الثامن عشر من ذي الحجة سنة حجة الوداع في العام العاشر من الهجرة ، لما بلغ النبي الأعظم غدير خم فأتاه جبرئيل بها ، فقال : يا محمد إنّ الله يقرئك السلام ويقول لك : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) وكان أوائل القوم قريبين من الجحفة ، فأمرُه أن يرد من تقدّم منهم ، ويحبس من تأخر عنهم في ذلك المكان ، وأن يقيم عليّاً عليهالسلام علماً للناس ويبلغهم ما أنزل الله فيه وأخبره بأنّ الله عزّوجلّ قد عصمه من الناس.
__________________
١. المائدة : ٦٧.
وقد اتّفقت الشيعة الإمامية على نزول الآية في يوم غدير خم ، وافقهم على ذلك لفيف من المحدّثين والمؤرِّخين ، فقد ذكر الواقعة الطبري في تفسيره ، كما رواها السيوطي في الدر المنثور عن جماعة من الحفاظ ، منهم :
١. الحافظ ابن أبي حاتم أبو محمد الحنظلي الرازي ( المتوفّى ٣٢٧ ه ).
٢. الحافظ أبو عبد الله المحاملي ( المتوفّى ٣٣٠ ه ).
٣. الحافظ أبو بكر الفارسي الشيرازي ( المتوفّى ٤٠٧ ه ).
٤. الحافظ ابن مردويه ( المتوفّى ٧١٦ ه ).
وغيرهم من أعلام الحديث والتاريخ ، وقد جمع المحقّق الأميني أسماء من روى نزول هذه الآية في يوم غدير خم من أصحاب السنّة فبلغ ٣٠ رجلاً. ١
وعلى كلّ حال فقد قام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بتحقيق البلاغ في يوم غدير خم ، فخطب خطبة ، وقال : « أيّها الناس ، إنّي أوشك أن أُدعى فأُجِبْتُ ، وإنّي مسؤول وأنتم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟ »
قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت ، وجهدت ، فجزاك الله خيراً.
قال : « ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّداً عبده ورسوله ، وأنّ جنته حق ، وناره حق ، وأنّ الموت حقّ ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ الله يبعث من في القبور ؟ »
قالوا : بلى نشهد بذلك.
قال : « اللّهمّ اشهد » ، ثمّ قال : أيّها الناس ، ألا تسمعون ؟
قالوا : نعم.
__________________
١. الغدير : ١ / ٢١٤ ـ ٢٢٣.
قال : « فإنّي فرط على الحوض ، فانظروني كيف تخلّفوني في الثقلين ».
فنادى مناد : وما الثقلان يا رسول الله ؟
قال : « الثقل الأكبر ، كتاب الله ، والآخر الأصغر عترتي ، وإنّ اللطيف الخبير نبَّأني انَّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فلا تقدموهما فتهلكوا ، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ».
ثمّ أخذ بيد علي فرفعها ، حتى رؤي بياض آباطهما ، وعرفه القوم أجمعون ، فقال : « أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم ؟ ».
قالوا : الله ورسوله أعلم.
قال : « إنّ الله مولاي ، وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم.فمن كنت مولاه ، فعليّ مولاه » ـ يقولها ثلاث مرات ـ
ثمّ قال : « اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وأحبّ من أحبّه ، وابغض من أبغضه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله ، وأدر الحقّ معه حيث دار ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب ».
ثمّ لم يتفرقوا حتى نزل أمين وحي الله بقوله :
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) الآية ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : « الله أكبر على إكمال الدين ، وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي ، والولاية لعليّ من بعدي ».
ثمّ أخذ الناس يهنِّئون علياً ، وممن هنّأه في مقدم الصحابة الشيخان أبو بكر وعمر ، كلّ يقول : بخ بخ ، لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة.
وقال حسان : ائذن لي يا رسول الله أن أقول في عليٍّ أبياتاً ، فقال : قل على
بركة الله ، فقام حسان ، فقال :
يناديهم يوم الغدير نبيهم |
|
بخمٍّ واسمع بالرسول منادياً |
فقال فمن مولاكم ونبيكم |
|
فقالوا ولم يُبدوا هناك التعاميا |
إلهك مولانا وأنت نبيّنا |
|
ولم تلق منا في الولاية عاصياً |
فقال له قم يا عليُّ فإنّني |
|
رضيتك من بعدي إماماً وهادياً |
فمن كنت مولاه فهذا وليُّه |
|
فكونوا له أتباع صدق مواليا |
هناك دعا اللّهمّ وال وليّه |
|
وكن للذي عادى عليّاً معادياً |
فلمّا سمع النبي أبياته ، قال : « لا تزال يا حسّان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك ». ١
إنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وإن أشار إلى ولاية الإمام علي بن أبي طالب بعد رحيله ، فتارة في بدء الدعوة ، وأُخرى في غزوة تبوك ٢ ، غير انّما ذكره متقدماً على حديث الغدير لم يكن بياناً رسمياً لعامة الأُمة بل كانت بلاغات مقطعية ، وأمّا في ذلك اليوم فقد قام بإبلاغ المحتشد العظيم على نحو أخذ منهم الإقرار والاعتراف بولاية علي عليهالسلام .
وبذلك أكمل دعائم دينه وأتم نعمة الله عليهم كما سيوافيك.
وأمّا تواتر الحديث فحدّث عنه ولا حرج ، فقد رواه من الصحابة ما يربو على ١٢٠ صحابياً وأمّا من التابعين ما يقارب ٨٤ تابعياً ، وأمّا العلماء الذين نقلوه عبر القرون فيزيد على ٣٦٠ عالماً ، تجد نصوصهم وأسماءهم وأسماء كتبهم
__________________
١. الغدير : ٢ / ٣٤ ـ ٤٢.
٢. حديث المنزلة : أنت بمنزلة هارونَ من موسى إلاّ أنَّه لا نبيَّ بعدي.
بتفصيل في كتاب الغدير. ١
ولا أظن انّ ذا مسكة ومن له إلمام بعلم الحديث وقراءة الصحاح والمسانيد ينكر صحة حديث الغدير أو تضافره بل تواتره ، ولو أنكره فإنّما أنكره بلسانه لا بجنانه وقلبه اللّهمّ إلاّ إذا كان غير ملم بعلم الحديث.
وإنّما المهم دلالة الحديث على ولاية الإمام وإمامته.
وقد استخدم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لفظة « مولى » وقال : « من كنت مولاه » فهي بمعنى أولى ، كما في قوله سبحانه : ( فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ المَصِيرُ ). ٢
والمعنى أولى بكم النار كما فسره غير واحد من المفسرين ، وهناك قرائن تؤيد على أنّ المقصود من المولى هو الأولى. الوارد في قوله سبحانه : ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ). ٣
وهناك قرائن لفظية محفوفة بالحديث وقرائن حالية تثبت انّ المراد من المولى هو الأولى الوارد في الآية المتقدمة ، وإليك تلك القرائن :
القرينة الأُولى : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في صدر الحديث : « أَلَسْتُ أولى بِكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ » وهو دليل على أنّ المراد من قوله : « فمن كنت مولاه » هو الأولى وذلك لأنّه رتب الثاني على الأوّل.
القرينة الثانية : دعاؤه في صدر الحديث : « اللّهم وال من والاه ، وعاد من عاداه » فلو أُريد منه غير الأولى بالتصرّف فما معنى هذا التطويل ؟ فانّه لا يلتئم
__________________
١. الغدير : ١ / ٧٣ ـ ١٥٢ ، تحت عنوان « طبقات الرواة من العلماء ».
٢. الحديد : ١٥. |
٣. الأحزاب : ٦. |