آية الله السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة إحياء آثار الإمام الخوئي قدّس سرّه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٦
«أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله ، فقيل : كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة. فقال : إنا لله ، وأمر بالقرآن فجمع فكان أول من جمعه في المصحف».
٨ ـ وروى يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب. قال :
«أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن فقام في الناس ، فقال : من كان تلقى من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئا من القرآن فليأتنا به ، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح ، والعسب ، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان ، فقتل وهو يجمع ذلك إليه ، فقام عثمان ، فقال : من كان عنده من كتاب الله شىء فليأتنا به ، وكان لا يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شهيدان ، فجاءه خزيمة بن ثابت ، فقال : إني قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما. قالوا : ما هما؟ قال : تلقيت من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ ...)
إلى آخر السورة ، فقال عثمان : وأنا أشهد أنهما من عند الله ، فأين ترى أن نجعلهما قال اختم بهما آخر ما نزل من القرآن ، فختمت بهما براءة».
٩ ـ وروى عبيد بن عمير ، قال :
«كان عمر لا يثبت آية في المصحف حتى يشهد رجلان ، فجاءه رجل من الأنصار بهاتين الآيتين : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) إلى آخرها. فقال عمر : لا أسألك عليها بيّنة أبدا ، كذلك كان رسول الله» (١).
١٠ ـ وروى سليمان بن أرقم ، عن الحسن وابن سيرين ، وابن شهاب الزهري. قالوا :
__________________
(١) الروايات التي نقلناها عن المنتخب مذكورة في كنز العمّال : ٢ / ٣٦١ ، الطبعة الثانية ، عدا هذه الرواية ، ولكن بمضمونها رواية عن يحيى بن جعدة. (المؤلف)
«لما أسرع القتل في قراء القرآن يوم اليمامة قتل منهم يومئذ أربعمائة رجل ، لقي زيد بن ثابت عمر بن الخطاب ، فقال له : إن هذا القرآن هو الجامع لديننا فإن ذهب القرآن ذهب ديننا ، وقد عزمت على أن أجمع القرآن في كتاب ، فقال له : انتظر حتى أسأل أبا بكر ، فمضيا إلى أبي بكر فأخبراه بذلك ، فقال : لا تعجل حتى أشاور المسلمين ، ثم قام خطيبا في الناس فأخبرهم بذلك ، فقالوا : أصبت ، فجمعوا القرآن ، فأمر أبو بكر مناديا فنادى في الناس : من كان عنده شىء من القرآن فليجئ به ...».
١١ ـ وروى خزيمة بن ثابت. قال :
«جئت بهذه الآية : لقد جاءكم رسول من أنفسكم ... إلى عمر بن الخطاب وإلى زيد بن ثابت. فقال زيد : من يشهد معك؟ قلت : لا والله ما أدري. فقال عمر : أنا أشهد معه ذلك».
١٢ ـ وروى أبو إسحاق ، عن بعض أصحابه. قال :
«لما جمع عمر بن الخطاب المصحف سأل : من أعرب الناس؟ قيل : سعيد بن العاص. فقال : من أكتب الناس؟ فقيل : زيد بن ثابت. قال : فليمل سعيد وليكتب زيد ، فكتبوا مصاحف أربعة ، فأنفذ مصحفا منها إلى الكوفة ، ومصحفا إلى البصرة ، ومصحفا إلى الشام ، ومصحفا إلى الحجاز».
١٣ ـ وروى عبد الله بن فضالة. قال :
«لما أراد عمر أن يكتب الإمام أقعد له نفرا من أصحابه ، وقال : إذا اختلفتم في اللغة فاكتبوها بلغة مضر ، فإن القرآن نزل على رجل من مضر».
١٤ ـ وروى أبو قلابة. قال :
«لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلّم قراءة الرجل ، والمعلم يعلّم قراءة الرجل ، فجعل الغلمان يلتقون ويختلفون ، حتى ارتفع ذلك الى المعلمين ، حتى كفر بعضهم بقراءة بعض ، فبلغ ذلك عثمان فقام خطيبا. فقال : أنتم عندي تختلفون وتلحنون ، فمن نأى عني من الأمصار أشدّ اختلافا ، وأشد لحنا ، فاجتمعوا يا أصحاب محمد فاكتبوا للناس إماما ، قال أبو قلابة : فحدثني مالك ابن أنس ، قال أبو بكر بن أبي داود : هذا مالك بن انس جد مالك بن أنس. قال : كنت فيمن أملى عليهم فربما اختلفوا في الآية فيذكرون الرجل قد تلقاها من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولعله أن يكون غائبا أو في بعض البوادي ، فيكتبون ما قبلها وما بعدها ، ويدعون موضعها حتى يجيء أو يرسل اليه ، فلما فرغ من المصحف كتب إلى أهل الأمصار أني قد صنعت كذا وصنعت كذا ، ومحوت ما عندي ، فامحوا ما عندكم».
١٥ ـ وروى مصعب بن سعد. قال :
«قام عثمان يخطب الناس. فقال : أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن ، تقولون قراءة أبيّ ، وقراءة عبد الله ، يقول الرجل والله ما تقيم قراءتك ، فاعزم على كل رجل منكم كان معه من كتاب الله شىء لما جاء به ، فكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن ، حتى جمع من ذلك كثرة ، ثم دخل عثمان ودعاهم رجلا رجلا ، فناشدهم لسمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو أمّله عليك فيقول : نعم ، فلما فرغ من ذلك عثمان. قال : من أكتب الناس؟ قالوا : كاتب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم زيد بن ثابت. قال : فأيّ الناس أعرب؟ قالوا سعيد بن العاص. قال عثمان : فليمل سعيد ، وليكتب زيد ، فكتب زيد ، وكتب مصاحف ففرقها في الناس ، فسمعت بعض أصحاب محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : قد أحسن».
١٦ ـ وروى أبو المليح. قال :
«قال عثمان بن عفان حين أراد أن يكتب المصحف ، تملي هذيل وتكتب ثقيف».
١٧ ـ وروى عبد الأعلى بن عبد الله بن عبد الله بن عامر القرشي. قال :
«لما فرغ من المصحف أتى به عثمان فنظر فيه. فقال : قد أحسنتم وأجملتم ، أرى شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها».
١٨ ـ وروى عكرمة. قال :
«لما أتى عثمان بالمصحف رأى فيه شيئا من لحن. فقال : لو كان المملي من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا».
١٩ ـ وروى عطاء :
«أن عثمان بن عفان لما نسخ القرآن في المصاحف ، أرسل إلى أبي بن كعب فكان يملي على زيد بن ثابت ، وزيد يكتب ، ومعه سعيد بن العاص يعربه ، فهذا المصحف على قراءة أبيّ وزيد».
٢٠ ـ وروى مجاهد :
«ان عثمان أمر أبيّ بن كعب يملي ، ويكتب زيد بن ثابت ، ويعربه سعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحرث».
٢١ ـ وروى زيد بن ثابت :
«لما كتبنا المصاحب فقدت آية كنت أسمعها من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فوجدتها عند خزيمة بن ثابت (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ...) إلى (تَبْدِيلاً). وكان خزيمة يدعى ذا الشهادتين أجاز رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شهادته بشهادة
رجلين».
٢٢ ـ وقد أخرج ابن اشته ، عن الليث بن سعد. قال :
«أول من جمع القرآن أبو بكر ، وكتبه زيد ، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت ، فكان لا يكتب آية إلا بشهادة عدلين ، وإن آخر سورة براءة لم توجد إلا مع أبي خزيمة بن ثابت. فقال : اكتبوها فإن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جعل شهادته بشهادة رجلين ، فكتب ، وإن عمر أتى بآية الرجم فلم نكتبها لأنه كان وحده» (١).
هذه أهم الروايات التي وردت في كيفية جمع القرآن ، وهي ـ مع أنها أخبار آحاد لا تفيدنا علما ـ مخدوشة من جهات شتى :
١ ـ تناقض أحاديث جمع القرآن
إنها متناقضة في أنفسها فلا يمكن الاعتماد على شىء منها ، ومن الجدير بنا أن نشير إلى جملة من مناقضاتها ، في ضمن أسئلة وأجوبة :
ـ متى جمع القرآن في المصحف؟
ظاهر الرواية الثانية أن الجمع كان في زمن عثمان ، وصريح الروايات الأولى ، والثالثة ، والرابعة ، وظاهر البعض الآخر أنه كان في زمان أبي بكر ، وصريح الروايتين السابعة ، والثانية عشرة أنه كان في زمان عمر.
ـ من تصدّى لجمع القرآن زمن أبي بكر؟
تقول الروايتان الاولى ، والثانية والعشرون أن المتصدي لذلك هو زيد بن ثابت ، وتقول الرواية الرابعة أنه أبو بكر نفسه ، وإنما طلب من زيد أن ينظر فيما جمعه من
__________________
(١) الإتقان : ١ / ١٠١ ، النوع ١٨.
الكتب ، وتقول الرواية الخامسة ـ ويظهر من غيرها أيضا ـ أن المتصدي هو زيد وعمر.
ـ هل فوّض لزيد جمع القرآن؟
يظهر من الرواية الأولى أن أبا بكر قد فوّض إليه ذلك ، بل هو صريحها ، فإن قوله لزيد : «إنك رجل شاب عاقل لا نتّهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فتتّبع القرآن واجمعه» صريح في ذلك ، وتقول الرواية الخامسة وغيرها : إن الكتابة إنما كانت بشهادة شاهدين ، حتى ان عمر جاء بآية الرجم فلم تقبل منه.
ـ هل بقي من الآيات ما لم يدون إلى زمان عثمان؟
ظاهر كثير من الروايات ، بل صريحها أنه لم يبق شىء من ذلك ، وصريح الرواية الثانية بقاء شىء من الآيات لم يدون إلى زمان عثمان.
ـ هل نقص عثمان شيئا مما كان مدونا قبله؟
ظاهر كثير من الروايات بل صريحها أيضا أن عثمان لم ينقص مما كان مدوّنا قبله ، وصريح الرواية الرابعة عشرة أنه محا شيئا مما دوّن قبله ، وأمر المسلمين بمحو ما محاه.
ـ من أي مصدر جمع عثمان المصحف؟
صريح الروايتين الثانية والرابعة : أن الذي اعتمد عليه في جمعه هي الصحف التي جمعها أبو بكر ، وصريح الروايات الثامنة ، والرابعة عشرة ، والخامسة عشرة ، أن عثمان جمعه بشهادة شاهدين ، وبأخبار من سمع الآية من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
من الذي طلب من أبي بكر جمع القرآن؟
تقول الرواية الاولى أن الذي طلب ذلك منه هو عمر ، وأن أبا بكر إنما أجابه بعد الامتناع فأرسل إلى زيد وطلب منه ذلك ، فأجابه بعد ذلك الامتناع ، وتقول الرواية العاشرة أن زيدا وعمر طلبا ذلك من أبي بكر ، فأجابهما بعد مشاورة المسلمين.
من جمع المصحف الإمام وأرسل منه نسخا إلى البلاد؟
صريح الرواية الثانية أنه كان عثمان ، وصريح الرواية الثانية عشرة أنه كان عمر.
ـ متى ألحقت الآيتان بآخر سورة براءة؟
صريح الروايات الأولى ، والحادية عشرة ، والثانية والعشرين أن إلحاقهما كان في زمان أبي بكر ، وصريح الرواية الثامنة ، وظاهر غيرها أنه كان في عهد عمر.
ـ من أتى بهاتين الآيتين؟
صريح الروايتين الأولى ، والثانية والعشرين أنه كان أبا خزيمة ، وصريح الروايتين الثامنة ، والحادية عشرة أنه كان خزيمة بن ثابت ، وهما رجلان ليس بينهما نسبة أصلا ، على ما ذكره ابن عبد البر (١).
ـ بما ذا ثبت أنهما من القرآن؟
بشهادة الواحد ، على ما هو ظاهر الرواية الأولى ، وصريح الروايتين التاسعة ، والثانية والعشرين ، وبشهادة عثمان معه ، على ما هو صريح الرواية الثامنة ، وبشهادة عمر معه ، على ما هو صريح الرواية الحادية عشر.
ـ من عيّنه عثمان لكتابة القرآن وإملائه؟
صريح الرواية الثانية أن عثمان عيّن للكتابة زيدا ، وابن الزبير ، وسعيد ،
__________________
(١) تفسير القرطبي : ١ / ٥٦.
وعبد الرحمن ، وصريح الرواية الخامسة عشرة أنه عيّن زيدا للكتابة وسعيدا للإملاء ، وصريح الرواية السادسة عشرة أنه عيّن ثقيفا للكتابة ، وهذيلا للإملاء ، وصريح الرواية الثامنة عشرة أن الكاتب لم يكن من ثقيف وأن المملي لم يكن من هذيل ، وصريح الرواية التاسعة عشرة أن المملي كان أبيّ بن كعب ، وأن سعيدا كان يعرب ما كتبه زيد ، وهذا أيضا صريح الرواية العشرين بزيادة عبد الرحمن بن الحرث للإعراب.
٢ ـ تعارض روايات الجمع :
إن هذه الروايات معارضة بما دل على أن القرآن كان قد جمع ، وكتب على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فقد روى جماعة ، منهم ابن أبي شيبة ، وأحمد بن حنبل ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم ، والبيهقي ، والضياء المقدسي ، عن ابن عباس. قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ، وإلى براءة ، وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر : «بسم الله الرحمن الرحيم»؟ ووضعتموهما في السبع الطوال ، ما حملكم على ذلك؟ فقال عثمان ، إن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان مما يأتي عليه الزمان ينزل عليه السورة ذات العدد ، وكان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول : ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وتنزل عليه الآيات فيقول : ضعوا هذا في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أول ما أنزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ، فظننت أنها منها ، وقبض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يبين لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر : «بسم الله الرحمن الرحيم»
ووضعتهما في السبع الطوال (١).
وروى الطبراني ، وابن عساكر عن الشعبي ، قال :
«جمع القرآن على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ستة من الأنصار : أبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل ، وأبو الدرداء ، وسعد بن عبيد ، وأبو زيد وكان مجمع بن جارية قد أخذه إلا سورتين أو ثلاث» (٢).
وروى قتادة ، قال :
«سألت أنس بن مالك : من جمع القرآن على عهد النبي؟ قال : أربعة كلهم من الأنصار : أبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد» (٣).
وروى مسروق : ذكر عبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود ، فقال :
«لا أزال أحبه ، سمعت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : خذوا القرآن من أربعة : من عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأبيّ بن كعب» (٤).
وأخرج النسائي بسند صحيح ، عن عبد الله بن عمر ، قال :
«جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة ، فبلغ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : اقرأه في شهر ...» (٥). وستجىء رواية ابن سعد في جمع أم ورقة القرآن.
ولعل قائلا يقول وإن المراد من الجمع في هذه الروايات هو الجمع في الصدور لا التدوين ، وهذا القول دعوى لا شاهد عليها ، أضف إلى ذلك أنك ستعرف أن حفاظ
__________________
(١) منتخب كنز العمال : ٢ / ٤٨.
(٢) نفس المصدر : ٢ / ٥٢.
(٣) صحيح البخاري : ٦ / ٢٠٢ ، كتاب المناقب ، باب القراء من أصحاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم رقم الحديث : ٣٥٢٦
(٤) المصدر السابق.
(٥) الإتقان : ١ / ١٢٤ ، النوع ٢٠.
القرآن على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كانوا أكثر من أن تحصى أسماؤهم ، فكيف يمكن حصرهم في أربعة أو ستة؟!! وإن المتصفح لأحوال الصحابة ، وأحوال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يحصل له العلم اليقين بأن القرآن كان مجموعا على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأن عدد الجامعين له لا يستهان به. وأما ما رواه البخاري بإسناده عن أنس ، قال : مات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة : أبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وزيد بن ثابت ، وأبو زيد ، فهو مردود مطروح ، لانه معارض للروايات المتقدمة ، حتى لما رواه البخاري بنفسه. ويضاف إلى ذلك أنه غير قابل للتصديق به. وكيف يمكن أن يحيط الراوي بجميع أفراد المسلمين حين وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على كثرتهم ، وتفرقهم في البلاد ، ويستعلم أحوالهم ليمكنه أن يحصر الجامعين للقرآن في أربعة ، وهذه الدعوى تخرص بالغيب ، وقول بغير علم.
وصفوة القول : أنه مع هذه الروايات كيف يمكن أن يصدق أن أبا بكر كان أول من جمع القرآن بعد خلافته؟ وإذا سلمنا ذلك فلما ذا أمر زيدا وعمر بجمعه من اللخاف ، والعسب ، وصدور الرجال ، ولم يأخذه من عبد الله ومعاذ وأبيّ ، وقد كانوا عند الجمع أحياء ، وقد أمروا بأخذ القرآن منهم ، ومن سالم؟ نعم إن سالما قد قتل في حرب اليمامة ، فلم يمكن الأخذ منه. على أن زيدا نفسه كان أحد الجامعين للقرآن على ما يظهر من هذه الرواية ، فلا حاجة إلى التفحص والسؤال من غيره ، بعد أن كان شابا عاقلا غير متهم كما يقول أبو بكر ، أضف إلى جميع ذلك أن أخبار الثقلين المتظافرة تدلنا على أن القرآن كان مجموعا على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على ما سنشير إليه.
٣ ـ تعارض أحاديث الجمع مع الكتاب :
إن هذه الروايات معارضة بالكتاب ، فإن كثيرا من آيات الكتاب الكريمة دالة
على أن سور القرآن كانت متميزة في الخارج بعضها عن بعض ، وان السور كانت منتشرة بين الناس ، حتى المشركين وأهل الكتاب ، فإن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد تحدى الكفار والمشركين على الإتيان بمثل القرآن ، وبعشر سور مثله مفتريات ، وبسورة من مثله ، ومعنى هذا : أن سور القرآن كانت في متناول أيديهم.
وقد أطلق لفظ الكتاب على القرآن في كثير من آياته الكريمة ، وفي قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي» وفي هذا دلالة على أنه كان مكتوبا مجموعا ، لأنه لا يصح إطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور ، بل ولا على ما كتب في اللخاف ، والعسب ، والأكتاف ، إلا على نحو المجاز والعناية ، والمجاز لا يحمل اللفظ عليه من غير قرينة ، فإن لفظ الكتاب ظاهر فيما كان له وجود واحد جمعي ، ولا يطلق على المكتوب إذا كان مجزّأ غير مجتمع ، فضلا عما إذا لم يكتب ، وكان محفوظ في الصدور فقط.
٤ ـ مخالفة أحاديث الجمع مع حكم العقل!
إن هذه الروايات مخالفة لحكم العقل ، فإن عظمة القرآن في نفسه ، واهتمام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بحفظه وقراءته ، واهتمام المسلمين بما يهتم به النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وما يستوجبه ذلك من الثواب ، كل ذلك ينافي جمع القرآن على النحو المذكور في تلك الروايات ، فإن في القرآن جهات عديدة كل واحدة منها تكفي لان يكون القرآن موضعا لعناية المسلمين ، وسببا لاشتهاره حتى بين الأطفال والنساء منهم ، فضلا عن الرجال. وهذه الجهات هي :
١ ـ بلاغة القرآن : فقد كانت العرب تهتم بحفظ الكلام البليغ ، ولذلك فهم يحفظون أشعار الجاهلية وخطبها ، فكيف بالقرآن الذي تحدّى ببلاغته كل بليغ ،
وأخرس بفصاحته كل خطيب لسن ، وقد كانت العرب بأجمعهم متوجهين إليه ، سواء في ذلك مؤمنهم وكافرهم ، فالمؤمن يحفظه لإيمانه ، والكافر يتحفظ به لأنه يتمنى معارضته ، وإبطال حجته.
٢ ـ إظهار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم رغبته بحفظ القرآن ، والاحتفاظ به : وكانت السيطرة والسلطة له خاصة ، والعادة تقضي بأن الزعيم إذا أظهر رغبته بحفظ كتاب أو بقراءته فإن ذلك الكتاب يكون رائجا بين جميع الرعية ، الذين يطلبون رضاه الدين أو دنيا.
٣ ـ إن حفظ القرآن سبب لارتفاع شأن الحافظ بين الناس ، وتعظيمه عندهم : فقد علم كل مطّلع على التاريخ ما للقرّاء والحفّاظ من المنزلة الكبيرة ، والمقام الرفيع بين الناس ، وهذا أقوى سبب لاهتمام الناس بحفظ القرآن جملة ، أو بحفظ القدر الميسور منه.
٤ ـ الأجر والثواب الذي يستحقه القارئ والحافظ بقراءة القرآن وحفظه : هذه أهم العوامل التي تبعث على حفظ القرآن والاحتفاظ به ، وقد كان المسلمون يهتمون بشأن القرآن ، ويحتفظون به أكثر من اهتمامهم بأنفسهم ، وبما يهمهم من مال وأولاد. وقد ورد أن بعض النساء جمعت جميع القرآن.
أخرج ابن سعد في طبقات : «أنبأنا الفضل ابن دكين ، حدثنا الوليد بن عبد الله بن جميع ، قال : حدثتني جدتي عن أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يزورها ، ويسميها الشهيدة وكانت قد جمعت القرآن ، ان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حين غزا بدرا ، قالت له : أتأذن لي فأخرج معك أداوي جرحاكم وامرّض مرضاكم لعل الله يهدي لي شهادة؟ قال : إن الله مهّد لك شهادة ...» (١)
__________________
(١) الإتقان : ١ / ١٢٥ ، النوع ٢٠.
وإذا كان هذا حال النساء في جمع القرآن فكيف يكون حال الرجال؟ وقد عدّ من حفاظ القرآن على عهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم جمّ غفير. قال القرطبي : «قد قتل يوم اليمامة سبعون من القراء ، وقتل في عهد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ببئر معونة مثل هذا العدد» (١).
وقد تقدم في الرواية «العاشرة» أنه قتل من القراء يوم اليمامة أربعمائة رجل على أن شدة اهتمام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالقرآن ، وقد كان له كتّاب عديدون ، ولا سيما أن القرآن نزل نجوما في مدة ثلاث وعشرين سنة ، كل هذا يورث لنا القطع بأن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان قد أمر بكتابة القرآن على عهده.
روى زيد بن ثابت ، قال : «كنا عند رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نؤلف القرآن من الرقاع». قال الحاكم : «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» وفيه الدليل الواضح : أن القرآن إنما جمع على عهد رسول الله (٢).
وأما حفظ بعض سور القرآن أو بعض السورة فقد كان منتشرا جدا ، وشذ أن يخلو من ذلك رجل أو امرأة من المسلمين. روى عبادة بن الصامت قال :
«كان رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يشغل ، فإذا قدم رجل مهاجر على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم دفعه إلى رجل منّا يعلمه القرآن» (٣).
وروى كليب ، قال :
«كنت مع علي عليهالسلام فسمع ضجتهم في المسجد يقرءون القرآن ، فقال : طوبى لهؤلاء ...» (٤).
__________________
(١) الإتقان : ١ / ١٢٢ ، النوع ٢٠ ، وقال القرطبي في تفسيره : ١ / ٥٩ : وقتل منهم «القراء» في ذلك اليوم «يوم القيامة» فيما قيل سبعمائة.
(٢) سنن الترمذي : كتاب المناقب ، رقم الحديث : ٣٨٨٩. ومسند احمد : مسند الأنصار ، رقم الحديث : ٢٠٦٢٢.
(٣) مسند أحمد : ٥ / ٣٢٥ ، كتاب باقي مسند الأنصار ، رقم الحديث : ٢١٧٠٣.
(٤) كنز العمال : ٢ / ١٨٥ ، الطبعة الثانية. فضائل القرآن.
وعن عبادة بن الصامت أيضا :
«كان الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى رجل منا يعلمه القرآن ، وكان يسمع لمسجد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ضجة بتلاوة القرآن ، حتى أمرهم رسول الله أن يخفضوا أصواتهم لئلا يتغالطوا» (١).
نعم إن حفظ القرآن ولو ببعضه كان رائجا بين الرجال والنساء من المسلمين ، حتى أن المسلمة قد تجعل مهرها تعليم سورة من القرآن أو أكثر (٢) ومع هذا الاهتمام كله كيف يمكن أن يقال : إن جمع القرآن قد تأخر إلى زمان خلافة أبي بكر ، وإن أبا بكر احتاج في جمع القرآن إلى شاهدين يشهدان أنهما سمعا ذلك من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم / ٩ ١٠ /
٥ ـ مخالفة أحاديث الجمع للاجماع :
إن هذه الروايات مخالفة لما أجمع عليه المسلمون قاطبة من أن القرآن لا طريق لإثباته إلا التواتر ، فإنها تقول : إن إثبات آيات القرآن حين الجمع كان منحصرا بشهادة شاهدين ، أو بشهادة رجل واحد إذا كانت تعدل شهادتين ، وعلى هذا فاللازم أن يثبت القرآن بالخبر الواحد أيضا ، وهل يمكن لمسلم أن يلتزم بذلك؟ ولست أدري كيف يجتمع القول بصحة هذه الروايات التي تدل على ثبوت القرآن بالبينة ، مع القول بأن القرآن لا يثبت إلا بالتواتر ، أفلا يكون القطع بلزوم كون القرآن متواترا سببا للقطع بكذب هذه الروايات أجمع؟
ومن الغريب أن بعضهم كابن حجر فسر الشاهدين في الروايات بالكتابة
__________________
(١) مناهل العرفان : ص ٣٢٤.
(٢) رواه الشيخان ، وأبو داود والترمذي والنسائي. التاج : ٢ / ٣٣٢.
والحفظ (١). وفي ظني أن الذي حمله على ارتكاب هذا التفسير هو ما ذكرناه من لزوم التواتر في القرآن. وعلى كل حال فهذا التفسير واضح الفساد من جهات :
أما أولا : فلمخالفته صريح تلك الروايات في جمع القرآن ، وقد سمعتها.
وأما ثانيا : فلأنّ هذا التفسير يلزمه أنهم لم يكتبوا ما ثبت أنه من القرآن بالتواتر ، إذا لم يكن مكتوبا عند أحد ، ومعنى ذلك أنهم أسقطوا من القرآن ما ثبت بالتواتر أنه من القرآن.
وأما ثالثا : فلأنّ الكتابة والحفظ لا يحتاج إليهما إذا كان ما يراد كتابته متواترا ، وهما لا يثبتان كونه من القرآن ، إذا لم يكن متواترا. وعلى كل حال فلا فائدة في جعلهما شرطا في جمع القرآن.
وعلى الجملة لا بد من طرح هذه الروايات ، لأنها تدل على ثبوت القرآن بغير التواتر ، وقد ثبت بطلان ذلك بإجماع المسلمين. /
٦ ـ أحاديث الجمع والتحريف بالزيادة!
أن هذه الروايات لو صحت ، وأمكن الاستدلال بها على التحريف من جهة النقص ، لكان اللّازم على المستدل أن يقول بالتحريف من جهة الزيادة في القرآن أيضا ، لأن كيفية الجمع المذكورة تستلزم ذلك ، ولا يمكن له أن يعتذر عن ذلك بأن حد الإعجاز في بلاغة القرآن يمنع من الزيادة عليه ، فلا تقاس الزيادة على النقيصة ، وذلك لأن الإعجاز في بلاغة القرآن وإن كان يمنع عن الإتيان بمثل سورة من سوره ، ولكنه لا يمنع من الزيادة عليه بكلمة أو بكلمتين ، بل ولا بآية كاملة ، ولا سيما إذا كانت قصيرة ، ولو لا هذا الاحتمال لم تكن حاجة إلى شهادة شاهدين ، كما في روايات
__________________
(١) الإتقان : ص ١٠٠ ، النوع ١٨.
الجمع المتقدمة ، فإن الآية التي يأتي بها الرجل تثبت نفسها أنها من القرآن أو من غيره. وإذن فلا مناص للقائل بالتحريف من القول بالزيادة أيضا وهو خلاف إجماع المسلمين.
وخلاصة ما تقدم ، أن إسناد جمع القرآن إلى الخلفاء أمر موهوم ، مخالف للكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والعقل ، فلا يمكن القائل بالتحريف أن يستدل به على دعواه ، ولو سلمنا أن جامع القرآن هو أبو بكر في أيام خلافته ، فلا ينبغي الشك في أن كيفية الجمع المذكورة في الروايات المتقدمة مكذوبة ، وإن جمع القرآن كان مستندا إلى التواتر بين المسلمين ، غاية الأمر أن الجامع قد دوّن في المصحف ما كان محفوظا في الصدور على نحو التواتر.
نعم لا شك أن عثمان قد جمع القرآن في زمانه ، لا بمعنى أنه جمع الآيات والسور في مصحف ، بل بمعنى أنه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد ، وأحرق المصاحف الأخرى التي تخالف ذلك المصحف ، وكتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها ، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة ، وقد صرح بهذا كثير من أعلام أهل السنة.
قال الحارث المحاسبي : «المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان ، وليس كذلك ، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد ، على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار ، لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات ، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي أنزل بها القرآن ...» (١).
__________________
(١) الإتقان : ١ / ١٠٣ ، النوع ١٨.
أقول : أما أن عثمان جمع المسلمين على قراءة واحدة ، وهي القراءة التي كانت متعارفة بين المسلمين ، والتي تلقوها بالتواتر عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنه منع عن القراءات الأخرى المبتنية على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف ، التي تقدم توضيح بطلانها. أما هذا العمل من عثمان فلم ينتقده عليه أحد من المسلمين ، وذلك لأن الاختلاف في القراءة كان يؤدي إلى الاختلاف بين المسلمين ، وتمزيق صفوفهم ، وتفريق وحدتهم ، بل كان يؤدي إلى تكفير بعضهم بعضا. وقد مرّ فيما تقدم بعض الروايات الدالّة على أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم منع عن الاختلاف في القرآن ، ولكن الأمر الذي انتقد عليه هو إحراقه لبقية المصاحف ، وأمره أهالى الأمصار بإحراق ما عندهم من المصاحف ، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين ، حتى سمّوه بحرّاق المصاحف.
النتيجة :
ومما ذكرناه : قد تبين للقارئ أن حديث تحريف القرآن حديث خرافة وخيال ، لا يقول به إلا من ضعف عقله ، أو من لم يتأمل في أطرافه حق التأمل ، أو من ألجأه إليه يجب القول به. والحب يعمي ويصم ، وأما العاقل المنصف المتدبر فلا يشك في بطلانه وخرافته. / ١٥
حجيّة ظواهر القرآن
ـ إثبات حجية ظواهر القرآن.
ـ أدلة المنكرين لها مع تزييفها.
ـ اختصاص فهم القرآن بمن خوطب به.
ـ الأخذ بالظاهر من التفسير بالرأي.
ـ غموض معاني القرآن يمنع من فهمها.
ـ إرادة خلاف الظاهر في بعض الآيات ـ إجمالا ـ تسقط الظواهر عن الحجية.
ـ المنع من اتباع المتشابه يسقط حجية ظواهر القرآن.