الشيخ محمّد هادي معرفة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الجامعة الرضوية للعلوم الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٥٧
ولا رأوه ، فلذلك قال : (طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ)(١) و (أَضَلَّهُمُ)(٢) و (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ)(٣) و (جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)(٤) و (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ)(٥). وكان ذلك إخبارا عما أحدثوه عند امتحان الله إياهم ، وأمره لهم بالطاعة والإيمان ؛ لأنه ما فعل بهم ما منعهم من الإيمان.
وقد يقول الرجل : حب المال قد أعمى فلانا وأصمه ، ولا يريد بذلك نفي حاسّته ، لكنه إذا شغله عن الحقوق والقيام بما يجب عليه ، قيل : أصمه وأعماه. وكما قيل في المثل : حبّك الشيء يعمي ويصمّ ، ويريدون ما قلناه. وقال مسكين الدارمي :
أعمى إذا ما جارتي خرجت |
|
حتى يواري جارتي الخدر |
ويصمّ عما كان بينهما |
|
سمعي وما بي غيره وقر |
وقال آخر : أصم عما ساءه سميع ، فجمع الوصفين (٦).
وعند قوله : (كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ)(٧) يقول : وليس المراد بالطبع ـ في الآية ـ المنع من الإيمان ؛ لأنّ مع المنع من الإيمان لا يحسن تكليف الإيمان (٨).
__________________
(١) التوبة / ٩٣ ـ النحل / ١٠٨ ـ محمد / ١٦.
(٢) طه / ٨٥.
(٣) محمد / ٢٣.
(٤) الأنعام / ٢٥ ، الإسراء / ٤٦ ، الكهف / ٥٧.
(٥) الصف / ٥.
(٦) التبيان ، ج ١ ، ص ٨٨ ـ ٩٠.
(٧) يونس / ٧٤.
(٨) التبيان ، ج ٥ ، ص ٤١٢.
مجمع البيان ـ في تفسير القرآن لأبي علي الطبرسي
هو أمين الإسلام أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي ، نسبة إلى «طبرس» على وزان جعفر معرّب «تفرش» بكسر الراء مدينة عامرة قرب «ساوة» من بلاد إيران. أما النسبة إلى «طبرستان» فهو طبري ، كما هو معروف.
علم شامخ من أعلام الإمامية ، علّامة فاضل ، جامع أديب ، ومفسر فقيه ، تتلمذ لدى مشايخ عصره الأجلاء ، منهم : الشيخ أبو علي ابن شيخ الطائفة الطوسي ، والشيخ أبو الوفاء الرازي ، والسيد أبو طالب الجرجاني ، والسيد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني القايني ، عن الحاكم أبي القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني ، وغيرهم. هو من أعلام القرن السادس ، توفي سنة (٥٦١) على ما ذكره حاجي خليفة في «كشف الظنون».
وهو تفسير حاشد بالأدب واللغة والقراءات وحججها ، ويختص بالإحاطة بآراء المفسرين السلف. وكان المؤلف قد جعل تفسير «التبيان» لشيخ الطائفة أسوة له في هذا المجال ، فجعله أصلا بنى عليه زيادات المباني والفروع ، ذكر المؤلف بهذا الشأن :
وقد خاض العلماء قديما وحديثا في علم تفسير القرآن ، واجتهدوا في إبراز مكنونه وإظهار مصونه ، وألّفوا فيه كتبا جمّة ، غاصوا في كثير منها إلى أعماق لججه ، وشقّقوا الشعر في إيضاح حججه ، وحقّقوا في تنقيح أبوابه ، وتغلغل شعابه ، إلّا أنّ أصحابنا رضى الله عنه لم يدوّنوا في ذلك غير مختصرات ، نقلوا فيها ما وصل إليهم في ذلك من الأخبار ، ولم يعنوا ببسط المعاني وكشف الأسرار ، إلّا ما جمعه الشيخ الأجل السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي قدسسره من كتاب التبيان ، فإنه الكتاب الذي يقتبس منه ضياء الحق ، ويلوح عليه رواء الصدق ، قد تضمّن
من المعاني الأسرار البديعة ، واحتضن من الألفاظ اللغة الوسيعة ، ولم يقنع بتدوينها دون تبيينها ، ولا بتنميقها دون تحقيقها ، وهو القدوة أستضيء بأنواره ، وأطأ مواقع آثاره.
قدّم على تفسيره مقدّمات سبع ، بحث فيها عن تعداد آي القرآن ، وأسامى القرّاء المشهورين ، وذكر التفسير والتأويل ، وأسامي القرآن ، وعلومه وفضله وتلاوته ، وأثبت فيها صيانة القرآن من التحريف والزيادة والنقصان ، وبيّن إجماع علماء الإمامية على ذلك ، واتفاق آرائهم فيه.
منهجه في التفسير
أما المنهج الذي سار عليه مفسرنا فهو منهج رتيب ، يبدأ بالقراءات ، فيذكر ما جاء عن اختلاف القراءة في الآية ، ويعقبها بذكر الحجج التي استندت إليها كل قراءة ، ثم اللغة ثم الإعراب ، وأخيرا المعنى. وقد يتعرّض لأسباب النزول ، والقصص الّتي لها بعض الصلة بالآيات. وبحق قد وضع تفسيره على أحسن ترتيب وأجمل تبويب. يقول هو عن تفسيره :
وابتدأت بتأليف كتاب هو في غاية التلخيص والتهذيب ، وحسن النظم والترتيب ، يجمع أنواع هذا العلم وفنونه ، ويحوي فصوصه وعيونه ، من علم قراءته وإعرابه ولغاته وغوامضه ومشكلاته ، ومعانيه وجهاته ، ونزوله وأخباره ، وقصصه وآثاره ، وحدوده وأحكامه ، وحلاله وحرامه. والكلام عن مطاعن المبطلين فيه ، وذكر ما ينفرد به أصحابنا رضى الله عنهم من الاستدلالات بمواضع كثيرة منه ، على صحّة ما يعتقدونه من الأصول والفروع ، والمعقول والمسموع ، على وجه الاعتدال والاختصار ، فوق الإيجاز ودون الإكثار. فإن الخواطر في هذا الزمان لا تحتمل أعباء العلوم الكثيرة ، وتضعف عن الإجراء في الحلبات الخطيرة ؛
إذ لم يبق من العلماء إلّا الأسماء ، ومن العلوم إلّا الذماء وهو بقية الروح في المذبوح.
قال : وقدّمت في مطلع كل سورة ذكر مكّيّها ومدنيّها ، ثم ذكر الاختلاف في عدد آياتها ، ثم ذكر فضل تلاوتها. ثم أقدم في كل آية الاختلاف في القراءات ، ثم ذكر العلل والاحتجاجات ، ثم ذكر العربيّة واللغات ، ثم ذكر الإعراب والمشكلات ، ثم ذكر الأسباب والنزولات ، ثم ذكر المعاني والأحكام والتأويلات ، والقصص والجهات. ثم ذكر انتظام الآيات.
ثم إني قد جمعت في عربيّته كل غرّة لائحة ، وفي إعرابه كل حجّة واضحة ، وفي معانيه كل قول متين ، وفي مشكلاته كل برهان مبين. وهو بحمد الله للأديب عمدة ، وللنحوي عدّة ، وللمقرئ بصيرة ، وللناسك ذخيرة ، وللمتكلم حجّة ، وللمحدّث محجّة ، وللفقيه دلالة ، وللواعظ آلة.
قال الذهبي بشأن هذا التفسير : والحق أنّ تفسير الطبرسي ـ بصرف النظر عما فيه من نزعات تشيّعية وآراء اعتزاليّة ـ كتاب عظيم في بابه ، يدلّ على تبحّر صاحبه في فنون مختلفة من العلم والمعرفة. والكتاب يجري على الطريقة التي أوضحها لنا صاحبه ، في تناسق تام ، وترتيب جميل. وهو يجيد في كل ناحية من النواحي التي يتكلم عنها. فإذا تكلم عن القراءات ووجوهها الإعراب أجاد ، وإذا تكلم عن المعاني اللغوية للمفردات أجاد ، وإذا تكلم عن وجوه الإعراب أجاد ، وإذا شرح المعنى الإجمالي أوضح المراد ، وإذا تكلم عن أسباب النزول وشرح القصص استوفى الأقوال وأفاض ، وإذا تكلم عن الأحكام تعرض لمذاهب الفقهاء ، وجهر بمذهبه ونصره إن كانت هناك مخالفة منه للفقهاء ، وإذا ربط بين الآيات آخى بين الجمل ، وأوضح لنا عن حسن السبك وجمال النظم ، وإذا عرض لمشكلات القرآن أذهب الإشكال وأراح البال. وهو ينقل أقوال من تقدّمه من
المفسرين معزوّة لأصحابها ، ويرجّح ويوجّه ما يختار منها.
ثم يقول عنه الذهبي : وإذا كان لنا بعض المآخذ عليه فهو تشيّعه لمذهبه وانتصاره له ، وحمله لكتاب الله على ما يتّفق وعقيدته ، وتنزيله لآيات الأحكام على ما يتناسب مع الاجتهادات التي خالف فيها هو ومن على شاكلته. وروايته لكثير من الأحاديث الموضوعة. غير أنه ـ والحق يقال ـ ليس مغاليا في تشيّعه ، ولا متطرفا في عقيدته ، كما هو شأن كثير غيره ، من علماء الإمامية (١).
ثم يذكر الذهبي أمثلة لما ظنّه مؤاخذة على مفسّرنا الجليل ، وحسب أنه تعصّب لها انتصارا لمذهبه في التشيّع ، في حين أنه أدّى الكلام حقه ولم يفرط في القول ، كما أنه لم يفرط كما فرّط الآخرون من سائر المفسرين.
مثلا في قصّة الخاتم عند تفسير قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)(٢) نراه يفصّل في الكلام عن شأن نزول الآية ، ودلالتها الصريحة في إمامة مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام بما أتم الحجة وبلّغ في البيان.
أما الأستاذ الذهبي فلم يرقه ذلك ، وقال ناقما عليه : ولا شك أنّ هذه محاولة فاشلة ، فإنّ حديث تصدّق عليّ بخاتمه في الصّلاة ـ وهو محور الكلام ـ حديث موضوع لا أصل له. وقد تكفّل العلامة ابن تيميّة بالرّد على هذه الدعوى في كتابه «منهاج السنة ، ج ٤ ، ص ٣ ـ ٩» (٣).
قلت : أترى ابن تيميّة لم يتعصّب لمذهبه في النّصب لعليّ وآل الرسول ، في
__________________
(١) التفسير والمفسرون ، ج ٢ ، ص ١٠٤ ـ ١٠٥.
(٢) المائدة / ٥٥.
(٣) التفسير والمفسرون ، ج ٢ ، ص ١٠٩.
إنكاره لمنقبة هي من أكبر المناقب التي نزل بها القرآن الكريم ، وأذعن لها أهل العلم والتحقيق ، في الحديث والتفسير.
إن لهذا الحديث أسنادا متظافرة ـ إن لم تكن متواترة ـ أوردها جلّ أهل الحديث ، حتى أن الحاكم النيسابوري عدّه من الأحاديث الّتي رواها أهل مدينة عن أهل مدينة ، فقد رواه الرازيون عن الكوفيين (١) ، وقد تعددت طرقه وكثرت مخارجه.
قال ابن حجر العسقلاني : وإذا كثرت الطرق وتباينت مخارجها دلّ ذلك على أن لها أصلا (٢).
كيف ، وهذا الحديث قد أخرجها الأئمة الحفاظ بعدة أسانيد ، وفيها الصحاح. صرّح بذلك الحافظ أبو بكر ابن مردويه الأصبهاني ، قال : إسناد صحيح ، رجاله كلهم ثقات ، وهكذا ابن أبي حاتم الرازي (٣).
وأورده جلال الدين السيوطي ، في أسباب النزول ، بعدّة طرق ، وذكر له شواهد ، ثم قال : فهذه شواهد يقوّي بعضها بعضا (٤).
وقد استقصى العلامة الأميني موارد ذكر الحديث ، فأنهاه إلى (٦٦) موردا في أمّهات الكتب الحديثية ، وكتب المناقب والتفسير والكلام (٥).
وهذا الحديث مما سارت به الركبان ، وأنشد فيه الشعراء ، منهم حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث يقول :
__________________
(١) معرفة علوم الحديث ، ص ١٠٢ ، للإمام الحافظ الحاكم النيسابوري.
(٢) فتح الباري بشرح صحيح البخاري ، ج ٨ ، ص ٣٣٣.
(٣) راجع : الغدير للعلامة الأميني ، ج ٣ ، ص ١٥٧ رقم ٦ و ١٦.
(٤) لباب النقول في أسباب النزول للسيوطي ص ١٠٧.
(٥) الغدير ، ج ٣ ، ص ١٥٦ ـ ١٦٢. وراجع تفسير أبي الفتوح ، ج ٤ ، ص ٢٤٤ ـ ٢٥٧.
أبا حسن أفديك نفسي ومهجتي |
|
وكل بطيء في الهدى ومسارع |
أيذهب مدحي ذا المحبّر ضايعا |
|
وما المدح في ذات الإله بضائع |
فأنت الّذي أعطيت إذ كنت راكعا |
|
فدتك نفوس القوم يا خير راكع |
بخاتمك الميمون يا خير سيّد |
|
ويا خير شار ثم يا خير بايع |
فأنزل فيك الله خير ولاية |
|
وبيّنها في محكمات الشرائع (١) |
كل ذلك يدل على شيوعه واستفاضته بما لا يكاد يمكن إنكاره ، إلّا من عمى قلبه وأعمته عصبيته أمثال الذهبي ، ومن قبله ابن تيميّة.
هذا وقد أرسله الفقهاء وهم أبصر بمواضع الأحاديث إرسال المسلّمات ، وأخذوه حجّة على أنّ الفعل القليل لا يبطل الصلاة ، ومن ثم عدّوا هذه الآية من آيات الأحكام ، الأمر الذي ينمّ عن اتفاقهم على صحة الحديث. هكذا أورد الجصّاص هذه الآية دليلا على جواز العمل اليسير في الصلاة ، وروى نزولها في علي عليهالسلام عن مجاهد والسدّي وأبي جعفر وعتبة بن أبي حكيم (٢).
كما استوفى الكلام فيه الحاكم الحسكاني وأورده بإسناده إلى جماعة من كبار الصحابة ، أمثال : عمار بن ياسر ، والمقداد بن الأسود ، وجابر بن عبد الله الأنصاري ، وعبد الله بن عباس ، وأنس بن مالك ، وأبي ذر الغفاري ، فضلا عن أقوال التابعين في ذلك ، فراجع (٣). وراجع ـ أيضا ـ فضائل الخمسة للسيد الفيروزآبادي (٤).
__________________
(١) ونسبت هذه الأبيات إلى خزيمة بن ثابت ذي الشهادتين أيضا ، ولعلّه الأرجح. غير أنّ المشهور نسبتها إلى حسان ، راجع هامش ابن عساكر ـ ترجمة الإمام عليهالسلام ، ج ٢ ، ص ٤١٠.
(٢) أحكام القرآن للجصاص ، ج ٢ ، ص ٤٤٦.
(٣) شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ، ج ١ ، ص ١٦١ ـ ١٨٤.
(٤) فضائل الخمسة ، ج ٢ ، ص ١٣ ـ ١٩.
وتعرّض الذهبي لمسائل في الأصول والفروع مما اختصت الشيعة القول به ، مثل : «الرجعة» و «المهدي» و «التقية» و «المسح على الأرجل» ونحوها ، مما صرّحت به الآيات ، أو جاء به النقل المتواتر متوافقا مع ظاهر القرآن. وقد أشاد به شيخنا الطبرسي في تفسيره حسب مسلكه ، في تحكيم ظواهر القرآن عند تزاحم الآراء في مسائل الخلاف.
وأخيرا يقول عنه : والطبرسي معتدل في تشيّعه غير مغال فيه ، كغيره من متطرفي الإمامية ، ولقد قرأنا في تفسيره فلم نلمس عليه تعصّبا كبيرا ، ولم نأخذ عليه أنه كفّر أحدا من الصحابة ، أو طعن فيهم بما يذهب بعدالتهم ودينهم ، كما أنه لم يغال في شأن علي بما يجعله في مرتبة الإله أو مصافّ الأنبياء ، وإن كان يقول بالعصمة.
وكل ما لاحظناه عليه من تعصّبه لمذهب أنه يدافع بكل قوّة عن أصول مذهبه وعقائد أصحابه. كما أنه إذا روى أقوال المفسرين في آية من الآيات ، ونقل أقوال المفسّرين من أهل مذهبه فيها ، نجده يرتضي قول علماء مذهبه ويؤيّده ، بما يظهر له من الدليل (١).
قلت : وقد أساء الظنّ بالشيعة ولعلّه تعمّد مقيت حيث حسب منهم من يجعل عليا عليهالسلام في مرتبة الإله ؛ إذ لم نجد من ينتمي إلى الشيعة من يزعم ذلك ، اللهمّ إلّا الغلاة وهم خارجون عن الملّة ، وتحكم الشيعة عليهم بالكفر والإلحاد.
أما مصافّ الأنبياء ، فهو بلوغ مرتبة توازي مرتبة الأنبياء في الفضيلة دون النبوّة ، فهو أمر معقول. وقد جعل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم العلماء في مصافّ الأنبياء ؛ حيث
__________________
(١) التفسير والمفسرون ، ج ٢ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٣.
قال : علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل (١). والعلماء ورثة الأنبياء (٢). وقال بشأن علي عليهالسلام : أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي. حديث متواتر مستفيض ، وقد رواه أصحاب الصحاح والمسانيد من أهل الحديث. (٣)
وأما المسائل الّتي تعرّض لها الذهبي ؛ حيث وقعت مورد تأييد مفسري الشيعة ، فأظنّها خارجة عن اختصاص مثل الذهبي البعيد عن مسائل الخلاف بين المذاهب الإسلامية ، في الأصول وفي الفروع ، كل يدافع عن رأيه ، ويتكلم حسب فهمه من الكتاب والسنة والعقل الرشيد ، ما لم يكن تحميلا ظاهرا ، الأمر الذي يتحاشاه أمثال الطبرسي وقبله الشيخ في «التبيان».
وليعلم أن في الشيعة جماعة أخبارية هم أصحاب جمود ، نظير إخوانهم الحشوية من أهل الحديث في السنّة والجماعة ، ولا تحسب الطائفة على حساب هذه الفئة. وتفاسير علماء الشيعة من لدن شيخ الطائفة أمثال «التبيان» و «روح الجنان» و «مجمع البيان» ، كلها على نمط واحد ، تفاسير وضعت على أساس معقول لا إفراط فيها ولا قصور ، ولا فيها شيء من التعصّب المقيت.
وأما النزعة الاعتزالية الّتي نسبهم إليها أمثال الذهبي ، فهي نسبة خاطئة ، إنّ للشيعة الإمامية مباني في أصول معارفها قد تتفق مع مشرب الاعتزال ، كمسألة العدل في الأفعال ، وتجريد الذات عن مبادئ الصفات ، وتحكيم العقل في معرفة الحسن والقبح في التكليف ، وما إلى ذلك. وهذا لا يعني أنّ الشيعة أخذت عن المعتزلة ولا العكس ، بل هو اتفاق نظر في مسائل من الكلام ، كما اتّفقت الأمّة
__________________
(١) عوالي اللئالي ، لابن أبي جمهور الأحسائي ، ج ٤ ، ص ٧٧ رقم ٦٧.
(٢) المصدر ، ج ١ ، ص ٣٥٨ رقم ٢٩ وج ٢ ص ٢٤١ رقم ٩. وسنن ابن ماجة ، ج ١ ، ص ٩٨.
(٣) راجع : فضائل الخمسة ، ج ١ ، ص ٢٩٩ فما بعد.
على مسائل في أصول العقيدة وفروع من مسائل الأحكام.
ففي مثل مسألة «الهداية والضلال» حيث زعم الذهبي أنّ مفسّرنا الجليل وافق المعتزلة في عقيدتهم ودافع عنها ، وهدّم ما عداها (١). إنما هو توافق محض ، ولعل الشيعة هم الأصل في هذا النظر ؛ لأنهم إنما أخذوها عن أهل بيت الرسالة ، ومنهم نشر العلم والمعرفة في أرجاء الإسلام.
وكذا مسألة «الرؤية» وإنكار تأثير السحر لو لا إذنه تعالى ، وهكذا مسألة «الشفاعة» ومعرفة حقيقة الإيمان ، وما إليها. فإنا نرى الذهبي أخذها دليلا على محاكاة الشيعة فيها لأصحاب الاعتزال ، ولعلّ الصواب العكس.
روح الجنان وروح الجنان لأبي الفتوح الرازي
هو جمال الدين أبو الفتوح الحسين بن علي بن محمد بن أحمد الخزاعي الرازي ، من أحفاد نافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي. ونافع وأبوه بديل من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، واستشهد نافع ومات بديل في حياة الرسول ، وأخوه عبد الله بن بديل استشهد بصفين في ركاب علي عليهالسلام. كانت أسرته ممن هاجر إلى بلاد فارس وسكنت في مدينة نيسابور ، وانتقل جده إلى الرّي ، فاشتهر بها. وكان جده أبو بكر أحمد بن الحسين بن أحمد الخزاعي ، نزيل الرّي من تلامذة السيد المرتضى قدسسره وتتلمذ على يد السيد ابن زهرة ، والشيخ أبي جعفر الطوسي أيضا.
كان مترجمنا عالما خبيرا بأحوال الرواة والمحدّثين ، وكان له صيت في أرجاء البلاد ، كان يرتحل إليه روّاد العلم وطلاب الحديث. ومن أشهر تلاميذه
__________________
(١) التفسير والمفسرون ، ج ٢ ، ص ١٢٨.
ابن شهرآشوب والشيخ منتجب الدين ، وغيرهما من كبار العلماء. وتتلمذ على أيدي علماء مشاهير ، أمثال الشيخ أبي الوفاء عبد الجبار المقري تلميذ الشيخ الطوسي ، والشيخ أبي علي ابن الشيخ ، والقاضي عماد الدين الاسترابادي قاضي الري ، وجار الله الزمخشري وغيرهم.
من أشهر مؤلّفاته : التفسير الكبير ، المعروف بروح الجنان وروح الجنان ، الذي وضعه باللغة الفارسية ، التي كانت دارجة ذلك العهد ، في بلاد إيران ؛ وذلك أن أحسّ بحاجة الأمة إلى تفسير يقرب من متناول أهل تلك البلاد ، فكان في نثر أدبيّ بليغ وسبك سهل بديع. يقول هو في سبب تأليفه : إنّ جماعة من أعاظم أهل العلم في بلده التمسوا منه أن يضع لهم تفسيرا يقرب من أفهامهم ، ويسهل التناول منه لدى عامة أهل زمانه ؛ حيث إعوزازهم تفسيرا جامعا وشاملا وسهلا على الناس ، فأجاب لملتمسهم وأزاح الإشكال من نفوسهم. فوضع تفسيرا جامعا وشاملا ، وفي نفس الوقت متوسطا بين الإيجاز المخلّ والإطناب المملّ.
فقدّم على تفسيره مقدمات ، ذكر فيها : أقسام معاني القرآن ، وأنواع آيه ، وأسماءه ، ومعنى السورة والآية ، ثم ثواب تلاوته ، والترغيب في معرفة غريبه ، ومعنى التفسير والتأويل.
وهو تفسير جيّد متين ، قد فصّل في الكلام عن معضلات الآيات ، وشرحها شرحا وافيا في أوجز كلام وأخصر بيان. متعرضا لجوانب مختلفة من الكلام حول الآية ، إن كلاميّة أو أدبيّة أو فقهية ونحو ذلك ، وإنما يتكلم عن علم ومعرفة واسعة ، ويؤدّي المسألة حقها بإيجاز وإيفاء.
ولهذا التفسير مكانة رفيعة في كتب التفاسير ، فكثير من كتب التفسير رست مبانيها على قواعده الركينة وبنت مسائلها على مباحثها الحكيمة. هذا الإمام
الرازي ، شيخ المفسرين ، بنى تفسيره الكبير على مباني شيخنا أبي الفتوح ، فيما فتح الله عليه أمهات المباحث الجليلة. قال العلامة القاضي نور الله التستري المرعشي : إنّ هذا التفسير من خير التفاسير ، وقد سمحت به قريحة شيخنا الرازي الوقّادة ، ومما لا نظير له في كتب التفسير ، في عذوبة ألفاظه وسلاسة عباراته ، وظرافة أسلوبه ودقّة اختياره ، وقد بنى عليه الفخر الرازي في تفسيره الكبير ، فأخذ منه اللّباب ، وزاد عليه بعض تشكيكاته ، مما زاد في الحجم ، ولكن الأصل اللباب ، هو ما ذكره مفسرنا الرازي أبو الفتوح الكبير (١).
وقد تتبعت مواضع من التفسيرين ، فوجدت الأمر كما ذكره القاضي ، كان الأصل ما ذكره أبو الفتوح الرازي ، وجاء تحقيق الفخر فرعا عليه ومقتبسا منه ، ولو مع زيادات.
مثلا عند قوله تعالى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)(٢) ذهب أبو الفتوح إلى أنّ إبليس لم يزل كان كافرا ، وأن المؤمن سوف لا يكفر ؛ لأن الإيمان يوجب استحقاق الثواب الدائم ، وكذا الكفر يوجب استحقاق العقاب الدائم ، والجمع بين الاستحقاقين محال (٣).
وهكذا جاء الاستدلال في «التفسير الكبير» ، قال : الوجه الثاني في تقرير أنه كان كافرا أبدا ، قول أصحاب الموافاة ؛ وذلك لأن الإيمان يوجب استحقاق الثواب الدائم ، والكفر يوجب استحقاق العقاب الدائم ، والجمع بين الثواب الدائم والعقاب الدائم محال ، فإذا صدر الإيمان من المكلّف في وقت ثم صدر
__________________
(١) راجع : مجالس المؤمنين للقاضي التستري ، ج ١ ، ص ٤٩٠.
(٢) البقرة / ٣٤.
(٣) راجع : تفسير أبي الفتوح ، ج ١ ، ص ١٣٨.
عنه ـ والعياذ بالله ـ بعد ذلك كفر ، فإما أن يبقى الاستحقاقان معا وهو محال ـ على ما بينّاه ـ أو يكون الطارئ مزيلا للسابق ، وهو أيضا محال ؛ لأنّ القول بالإحباط باطل ... (١).
ويبحث الرازي عن قوله : «وكان من الكافرين» هل كان هناك كفّار غير إبليس حتى يكون واحدا منهم؟ فيجيب عن ذلك بجوابات ، كلها واردة في كلام أبي الفتوح الرازي (٢).
أما منهجه في التفسير ، فجرى على منوال سائر التفاسير ، فيبدأ بذكر السورة وأسمائها وفضلها وثواب قراءتها ، ثم يذكر جملة من الآيات ، مع ترجمتها بالفارسية ، ويفسرها جملة جملة ، فيبدأ باللغة والنحو والصرف ، ثم القراءة أحيانا ثم ذكر أسباب النزول ، والتفسير أخيرا ، كل ذلك باللغة الفارسية القديمة ، ولكن في أسلوب سهل بديع.
ومن براعته في اللغة : إحاطته بمفردات اللغة الفارسية المرادفة تماما مع مفردات لغة العرب ، في مثل : «فسوس» مرادفة لكلمة «الاستهزاء» ، و «ديو» لكلمة «الشيطان» ؛ لأنه من الجنّ ، والجنّ في الفارسية : «ديو» (٣) و «پيمان» لكلمة «الميثاق» و «برفروزد» لقوله «استوقد» و «دوزخ» لجهنم ، و «كارشكسته» بمعنى
__________________
(١) راجع : التفسير الكبير ، ج ٢ ، ص ٢٣٧.
(٢) راجع : تفسير أبي الفتوح ، ج ١ ، ص ١٣٩ ، والتفسير الكبير ، ج ٢ ، ص ٢٣٧ ـ ٢٣٨.
(٣) تفسير أبي الفتوح ، ج ١ ، ص ٧٩ و ٨٠.
«كاركشته» مرادفة لكلمة «ذلول» (١) و «شكمش بياماساند» بمعنى «انتفخ بطنه» (٢) و «خداوندان علم» بمعنى «أولوا العلم» (٣) و «خاك باز شياراند» بمعنى «تثير الأرض» (٤) و «همتا» و «انباز» بمعنى «الشريك» (٥) و «ستون چوب دركش گرفت» بمعنى «چوب ستون را در بغل گرفت» مرادفة لقولهم : «احتضن الشيء» (٦) و «ما خواستمانى كه در آن خيرى بودى تا ما نيز به آن خير برسيدمانى» تعبير فارسى قديم (٧) وهكذا «وما را بپاى ، وگوش نما» مرادفة لكلمة «راعنا» (٨) و «با من بازار مى كنى» ترجمة لعبارة : «أم إليّ تشوقت» من كلام الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام (٩) ، وربما قرئ بالسين ، ولعل العبارة ترجمة «تسوّقت» بالسين لتكون ترجمتها «بازار گرمى مى كنى».
واستعمل «مه» ـ بكسر الميم ـ بمعنى «الأكبر» في قوله : «هارون در سال امن وعفو زاد وبه يكسال مه موسى بود». (١٠) ، وهو في مقابلة «كه» ـ بكسر الكاف ـ بمعنى «الأصغر». وقد جاء في كلام «سعدي» الشيرازي
__________________
(١) تفسير أبي الفتوح ، ج ١ ، ص ٢٢٥.
(٢) المصدر ، ج ٢ ، ص ٤٨٤.
(٣) المصدر ، ص ٤٧٧.
(٤) المصدر ، ج ١ ، ص ٢٥٥.
(٥) المصدر ، ص ٢٤٠.
(٦) المصدر ، ص ٢٤١.
(٧) المصدر ، ص ٢٨٣.
(٨) المصدر ، ص ٢٨٠.
(٩) الكلمة رقم ٧٧ ، من قصار الكلم ـ نهج البلاغة.
(١٠). تفسير أبي الفتوح ، ج ١ ، ص ١٧٩.
چه از قومى يكى بى دانشى كرد |
|
نه كه را منزلت ماند نه مه را |
كما أنه لم يتقيد بترجمة ظاهر الكلمة ، وإنما فسر معناها تفسيرا يتطابق مع العقل والواقع.
مثلا : فسّر قوله تعالى : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ ...)(١) : بإذا خلوا إلى رؤسائهم وأكابرهم ؛ لأنه فسّر «الشيطان» بكل متمرّد عات ، سواء أكان من الجن أم الإنس ، وحتى الحيوان الخبيث يقال له : شيطان عند العرب ، كالأفعى في قوله تعالى : (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ)(٢) أي رءوس الأفاعي والحيّات (٣).
والمطالع في هذا التفسير يجد براعته الفائقة في مختلف العلوم الإسلامية ، ولا سيما الفقه وعلم الكلام.
من ذلك نجده عند تفسير قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ...)(٤) يبحث هل كان بنو إسرائيل مكلّفين بالخصوصيات من بدء الأمر؟ أو ليس في ذلك تأخير للبيان عن وقت الخطاب؟ فيقول : هذا عند المعتزلة وأصحاب الحديث وأكثر أهل الكلام غير جائز ، لكن السيد المرتضى علم الهدى أجاز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة ، ويأخذ الآية دليلا على صحة مذهب المرتضى (٥).
__________________
(١) البقرة / ١٤.
(٢) الصافات / ٦٥.
(٣) تفسير أبي الفتوح ، ج ١ ، ص ٧٩ ـ ٨٠.
(٤) ـ البقرة / ٦٧.
(٥) تفسير أبي الفتوح ، ج ١ ، ص ٢٢٠.
وهكذا يذهب إلى أن المؤمن لا يرتدّ ولا يكفر بعد الإيمان ، ويؤوّل ما ظاهره الخلاف ، مستدلا بأنّ الإيمان عمل يستحق صاحبه المثوبة الدائمة ، ولا مثوبة مع موافاة الكفر ، وكانت عقوبته دائمة أيضا ؛ إذ لا يجتمع تداوم الأمرين.
قال عند تفسير قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)(١) القائل بأنّ ذلك كفر من إبليس ، جعلوا «كان» بمعنى «صار» أي وصار من الكافرين ، لكنه خطأ من وجهين : أولا : ذلك عدول عن ظاهر اللفظ بلا ضرورة تدعو إليه ، ثانيا : جعل العمل الجوارحي كفرا ، أي موجبا للكفر ، في حين أنه يوجب الفسق ، حتى ولو كانت كبيرة ، على خلاف مذهب أهل الاعتزال ؛ حيث جعلوا فعل الكبيرة موجبا للكفر ، وهذا خلاف البرهان.
ثم أخذ في الاستدلال على أن الإيمان لا يتعقّبه كفر أو نفاق ، وإنما هو كاشف عن عدمه من قبل ، ولم يكن سوى إيمان ظاهري لا واقعي. قال ـ ما لفظه بالفارسية ـ :
«ومذهب ما آن است كه مؤمن حقيقى ، كه خداى تعالى از او ايمان داند ، كافر نشود ، براى منع دليلى ، وآن دليل آن است كه اجماع امّت است كه مؤمن مستحق ثواب ابد بود ، وكافر مستحق عقاب ابد بود ، وجمع بين استحقاقين بر سبيل تأبيد محال بود ، چه استحقاق در صحت واستحالت ، تبع وصول باشد. واحباط به نزديك ما باطل است ، چنانكه بيانش كرده شود ، پس دليل مانع از ارتداد مؤمن اين است كه گفتيم. وابليس هميشه كافر بود ومنافق (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)(٢).
__________________
(١) البقرة / ٣٤.
(٢) تفسير أبي الفتوح ، ج ١ ، ص ١٣٨ ـ ١٣٩. وراجع ايضا ج ٤ ، ص ٢٣٣.
يقول : انعقد إجماع الأمّة على أنّ المؤمن يستحق مثوبة دائمة ، وكذلك الكافر يستحق عقوبة دائمة ، والجمع بين تداوم الاستحقاقين محال ؛ ذلك لأن الاستحقاق يستدعي بلوغ الثواب ووصوله إليه. فإذا كان الإيمان متأخرا كفّر ما قبله «الإسلام يجبّ ما قبله» (١) وأما الكفر المتأخر فلا يوجب حبط الإيمان ؛ لأن (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ).
ونجده يفصّل الكلام حول الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر ، كلّما حنّ الكلام في تفسيره بالمناسبة.
مثلا : يقول في تفسير «الغيب» من قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)(٢) جاء في تفسير أهل البيت عليهمالسلام : أنّ المراد به هو المهدي عليهالسلام وهو الغائب الموعود في الكتاب والسنّة ، أما الكتاب فقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(٣).
وأما الأحاديث ، فكثيرة ، منها قوله عليهالسلام : «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج رجل من أهل بيتي يواطي اسمه اسمي وكنيته كنيتي ، يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما».
وهذه الأوصاف لم تجتمع إلّا في شخص المهدي المنتظر ـ عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ ثم يقول : كلّما مررنا بآية تعرّضت لهذا المعنى ، استقصينا الأخبار
__________________
(١) المستدرك ، ج ٧ ، ص ٤٤٨ ، رقم ٨٦٢٥ والبحار ، ج ٢١ ، ص ١١٤.
(٢) البقرة / ٣.
(٣) النور / ٥٥.
بشأنه (١).
وله في مباحث الهداية والضلال بحوث مذيّلة ، وفي نفس الوقت ممتعة ، استفاض فيها الكلام من جميع جوانبه (٢).
ثم إنه لا يترك موضعا من التفسير يناسب ذكر مسائل الخلاف إلّا بيّنه بتفصيل ، وذكر مواقف الشيعة الإمامية في ذلك.
مثلا ، عند تفسير قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا)(٣) يتعرّض لأنحاء السجود ، منها : السجود في الصلاة ، وهو ركن من أركانها ـ ويفسّر معنى الركن ـ وسجدة السهو ، وسجدة الشكر ، وسجدة القرآن ، وهذه الأخيرة إما واجبة في أربعة مواضع : الم تنزيل ، حم السجدة ، النجم ، اقرأ. أو سنة ، ففي أحد عشر موضعا ، فالمجموع : خمسة عشر موضعا عندنا. وعند الشافعي : أربعة عشر موضعا ، كلها سنة. ثم يفصّل في أحكام سور العزائم ، مما يخص مذهب الإمامية ، ويذكر مواضع سجود السهو للصلاة ، ومذهب سائر المذاهب في ذلك.
ويذكر علائم المؤمن الخمس : الصلاة إحدى وخمسين ، وزيارة الأربعين ـ في اليوم العشرين من شهر صفر بكربلاء ـ والتختم باليمين ، وتعفير الجبين ، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. ويذكر سبب استحباب زيارة
__________________
(١) تفسير أبي الفتوح ، ج ١ ، ص ٦٤.
(٢) راجع مباحثه عن (الضلال والإضلال) ذيل تفسير قوله تعالى : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) ، البقرة / ٢٦. راجع : التفسير ج ١ ، ص ١١٤ ـ ١١٥.
(٣) ـ البقرة / ٣٤.
الحسين عليهالسلام في يوم الأربعين بكربلاء ، وهو يوم ورود جابر بكربلاء ، بعد مقتل الحسين بأربعين يوما (١).
ومما يمتاز به هذا التفسير ، إحاطة صاحبه بالتاريخ والسيرة الكريمة ، وكذلك بالأحاديث الشريفة في مختلف شئون الدين ، ومن ثم تراه في شتّى المناسبات يخوض المعركة ، ويأتي بلباب القول باستيفاء وشمول. وقد يأتي على حوادث قلّ ما يوجد في سائر الكتب.
من ذلك حادثة يوم الصريخ ، جاء بها ذيل الآية رقم (٥٤) من سورة المائدة ؛ حيث قوله تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ).
فذكر أولا غزوة خيبر وفتحها على يد الإمام أمير المؤمنين ، وشعر حسان بن ثابت فيه :
وكان عليّ مرمد العين يبتغي |
|
دواء فلمّا لم يحسّ مداويا |
رماه رسول الله منه بتفلة |
|
فبورك مرقيا وبورك راقيا |
وقال سأعطي الراية اليوم صارما |
|
كميّا محبّا للرسول مواليا (٢) |
يحب الإله والإله يحبّه |
|
به يفتح الله الحصون الأوابيا (٣) |
فأصفى بها دون البريّة كلها |
|
عليّا وسمّاه الوزير المؤاخيا |
وبعد ذلك يذكر غزوة الصريخ ، وفيها : خرج «أسد عويلم» مبارزا ، متترسا
__________________
(١) أبو الفتوح ، ج ١ ، ص ١٣٥ ـ ١٣٦.
(٢) الكمي : البطل الكفي.
(٣) الأوابي : جمع آبية ، أي حصينة ممتنعة.
بترس حديدي ، يبلغ وزنه مئات الأمنان ، وكان يعادل أربعين فارسا ، وهو يرتجز ويقول :
وجرد شعال وزغف مزال |
|
وسمر عوال بأيدي رجال (١) |
كآساد ديس وأشبال خيس |
|
غداة الخميس ببيض صقال (٢) |
تجيد الضراب وحزّ الرّقاب |
|
أمام العقاب غداة النزال |
يكيد الكذوب ويجري الهبوب |
|
ويروي الكعوب دما غير آل (٣) |
فبرز إليه علي عليهالسلام فقدّه نصفين ، ثم أتى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يقول :
ضربته بالسيف وسط الهامة |
|
بشفرة صارمة هدّامه (٤) |
فبتّكت من جسمه عظامه |
|
وبيّنت من أنفه إرغامه (٥) |
أنا عليّ صاحب الصمصامة |
|
وصاحب الحوض لدى القيامة (٦) |
أخي نبي الله ذو العلامة |
|
قد قال إذ عمّمني العمامة |
«أنت الذي بعدي له الإمامة» (٧)
__________________
(١) الجرد : الفرس القصار الشعر وهو من صفات حسنهنّ. والشعال : ما كان في أعالي ذيلها بياض. والزغف : السّرد. والمذال : الواسعة. والسمر : جمع أسمر : القناة. والعوالي : جمع عالية.
(٢) آساد : جمع أسد. والديس : الشجعان. والأشبال : جمع شبل ولد الأسد. والخيس : الغابة.
والخميس : الجند عند ما تتهيأ وتترتب للقتال.
(٣) العقاب : راية النضال. وغير آل : غير مقصّر.
(٤) الهامة : عظم فوق الرأس. والشفرة : حد السيف.
(٥) بتّكت : فرّقت. وإرغام الأنف : تعفيره بالتراب.
(٦) الصمصامة : السيف الصارم.
(٧) راجع : تفسير أبي الفتوح ، ج ٤ ، ص ٢٣٧ ـ ٢٤١.