التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٥

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0695-7
الصفحات: ٥٥٤

وأما النّعمة ـ بكسر النون ـ فاسم للحالات الملائمة لرغبة الإنسان من غنى أو عافية أو نحوهما.

وأما النّعمة ـ بالضم ـ فهي اسم المسرة. يقال : فلان في نعمة ـ بضم النون ـ أى : في فرح وسرور.

وقوله : (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) أى : واتركهم ودعهم في باطلهم وقتا قليلا ، فسترى بعد ذلك سوء عاقبة تكذيبهم للحق.

وقوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً ...) تعليل لما قبله. والأنكال : جمع نكل ـ بكسر النون وسكون الكاف ـ وهو القيد الثقيل ، يوضع في الرجل لمنع الحركة. وسميت القيود بذلك لأنها تجعل صاحبها موضع عبرة وعظة ، أو لأنها تجعل صاحبها ممنوعا من الحركة ، والتقلب في مناكب الأرض.

أى : إن لدينا ما هو أشد من ردك عليهم ... وهو تلك القيود التي نقيد حركتهم بها ، وإن لدينا «جحيما» أى : نارا شديدة الاشتعال نلقى بهم فيها ، وإن لدينا كذلك «طعاما ذا غصة» أى : طعاما يلتصق في الحلوق ، فلا هو خارج منها ، ولا هو نازل عنها ، بل هو ناشب فيها لبشاعته ومرارته.

وهذا الطعام ذو الغصّة ، يشمل ما يتناولونه من الزقوم ومن الغسلين ومن الضريع ، كما جاء في آيات أخرى. والغصة : ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره. وجمعه غصص.

وإن لدينا فوق كل ذلك (عَذاباً أَلِيماً) أى : عذابا شديد الإيلام لمن ينزل به.

فأنت ترى أن هذه الآية الكريمة قد توعدت هؤلاء المكذبين بألوان من العقوبات الشديدة ، توعدتهم بالقيود التي تشل حركتهم ، وبالنار المشتعلة التي تحرق أجسادهم ، وبالطعام البشع الذي ينشب في حلوقهم ، وبالعذاب الأليم الذي يشقيهم ويذلهم.

والظرف في قوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ ...) منصوب بالاستقرار العامل في «لدنيا» ، الذي هو الخبر في الحقيقة.

أى : استقر لهم ذلك العذاب الأليم لدينا ، يوم القيامة ، يوم تضطرب وتتزلزل الأرض والجبال.

(وَكانَتِ الْجِبالُ) في هذا اليوم (كَثِيباً مَهِيلاً) أى : رملا مجتمعا ، بعد أن كانت قبل ذلك الوقت أحجارا صلبة كبيرة.

فقوله : (كَثِيباً) من كثب الشيء يكثبه ، إذا جمعه من قرب ثم صبه ، وجمعه كثب

١٦١

وكثبان ، وهي تلال الرمال المجتمعة كالربوة.

وقوله (مَهِيلاً) اسم مفعول من هال الشيء هيلا ، إذا نثره ، وفرقه بعد اجتماعه.

والشيء المهيل : هو الذي يحرّك أسفله فينهار أعلاه ويتساقط بسرعة.

ثم يذكر ـ سبحانه ـ بعد ذلك هؤلاء المكذبين بما حل بالمكذبين من قبلهم ، فيقول : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ ، كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً. فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً).

أى : إنا أرسلنا إليكم ـ أيها المكذبون ـ رسولا عظيم الشأن ، رفيع القدر ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (شاهِداً عَلَيْكُمْ) أى : سيكون يوم القيامة شاهدا عليكم ، بأنه قد بلغكم رسالة الله ـ تعالى ـ دون أن يقصر في ذلك أدنى تقصير.

والكاف في قوله ـ تعالى ـ : (كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) للتشبيه ، أى : أرسلنا إليكم ـ يا أهل مكة ـ رسولا شاهدا عليكم هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما أرسلنا من قبلكم إلى فرعون رسولا شاهدا عليه ، هو موسى ـ عليه‌السلام ـ وأكد الخبر في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا أَرْسَلْنا ...) لأن المشركين كانوا ينكرون نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ونكر رسولا ، لأنهم كانوا يعرفونه حق المعرفة ، وللتعظيم من شأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى : أرسلنا إليكم رسولا عظيم الشأن ، سامى المنزلة جامعا لكل الصفات الكريمة.

والفاء في قوله : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) للتفريع. أى : أرسلنا إليكم رسولا كما أرسلنا إلى فرعون رسولا قبل ذلك ، فكانت النتيجة أن عصى فرعون أمر الرسول الذي أرسلناه إليه ، واستهزأ به ، وتطاول عليه فكانت عاقبة هذا التطاول ، أن أخذناه (أَخْذاً وَبِيلاً).

أى أهلكنا فرعون إهلاكا شديدا ، وعاقبناه عقابا ثقيلا ، فوبيل بزنة فعيل ـ صفة مشبهة ، مأخوذة من وبل المكان ، إذا وخم هواؤه وكان ثقيلا رديئا. ويقال : مرعى وبيل ، إذا كان وخما رديئا.

وخص ـ سبحانه ـ موسى وفرعون بالذكر ، لأن أخبارهما كانت مشهورة عند أهل مكة.

وأل في قوله (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) للعهد. أى : فعصى فرعون الرسول المعهود عندكم ، وهو موسى ـ عليه‌السلام ـ.

١٦٢

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم نكر الرسول ثم عرف؟ قلت : لأنه أراد : أرسلنا إلى فرعون بعض الرسل ، فلما أعاده وهو معهود بالذكر أدخل لام التعريف. إشارة إلى المذكور بعينه .. (١).

وأظهر ـ سبحانه ـ اسم فرعون مع تقدم ذكره فقال : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) ، دون أن يؤتى بضميره ، للإشعار بفظاعة هذا العصيان ، وبلوغه النهاية في الطغيان.

والمقصود من هاتين الآيتين ، تهديد المشركين ، بأنهم إذا ما استمروا في تكذيبهم لرسولهم ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد يصيبهم من العذاب ما أصاب فرعون عند ما عصى موسى ـ عليه‌السلام ـ.

ثم ذكرهم ـ سبحانه ـ بأهوال يوم القيامة ، لعلهم يتعظون أو يرتدعون فقال : (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً ، السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً).

والاستفهام في قوله : (فَكَيْفَ) مستعمل في التوبيخ والتعجيز ، و (تَتَّقُونَ) بمعنى تصونون أنفسكم من العذاب ، ومعنى (إِنْ كَفَرْتُمْ) إن بقيتم على كفركم وأصررتم عليه. وقوله (يَوْماً) : منصوب على أنه مفعول به لقوله : (تَتَّقُونَ).

وقوله : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) صفة ثانية لهذا اليوم.

والمراد بالولدان : الأطفال الصغار ، وبه بمعنى فيه ..

والمقصود بهاتين الآيتين ـ أيضا ـ تأكيد التهديد للمشركين ، حتى يقلعوا عن شركهم وكفرهم .. أى : إذا كان الأمر كما ذكرنا لكم من سوء عاقبة المكذبين ، فكيف تصونون أنفسكم ـ إذا ما بقيتم على كفركم ـ من عذاب يوم هائل شديد ، هذا اليوم من صفاته أنه يحول الشعر الشديد السواد للولدان ، إلى شعر شديد البياض ..

وهذا اليوم من صفاته ـ أيضا ـ أنه لشدة هوله ، أن السماء ـ مع عظمها وصلابتها ـ تصير شيئا منفطرا ـ أى : متشققا (بِهِ) أى : فيه ، والضمير يعود إلى اليوم ..

وصدر ـ سبحانه ـ الحديث عن يوم القيامة ، بلفظ الاستفهام «كيف» للإشعار بشدة هوله. وأنه أمر يعجز الواصفون عن وصفه.

ووصف ـ سبحانه ـ هذا اليوم بأنه يشيب فيه الولدان ، ثم وصفه بأن السماء مع عظمها تتشقق فيه ، للارتقاء في الوصف من العظيم إلى الأعظم ، إذ أن تحول شعر الأطفال من السواد

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٤١.

١٦٣

إلى البياض ـ مع شدته وعظمه ـ أشد منه وأعظم ، انشقاق السماء في هذا اليوم.

قال صاحب الكشاف : وقوله (يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً) مثل في الشدة ، يقال في اليوم الشديد ، يوم يشيب نواصي الأطفال والأصل فيه أن الهموم والأحزان ، إذا تفاقمت على الإنسان ، أسرع فيه الشيب ، كما قال أبو الطيب :

والهمّ يخترم الجسيم نحافة

ويشيب ناصية الصبى ويهرم

ويجوز أن يوصف اليوم بالطول ، وأن الأطفال يبلغون فيه أوان الشيخوخة والشيب. وقوله : (السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) وصف لليوم بالشدة ـ أيضا ـ وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه فما ظنك بغيرها من الخلائق .. (١).

ووصف ـ سبحانه ـ السماء بقوله : (مُنْفَطِرٌ) بصيغة التذكير ، حيث لم يقل منفطرة ، لأن هذه الصيغة ، صيغة نسب. أى : ذات انفطار ، كما في قولهم : امرأة مرضع وحائض ، أى : ذات إرضاع وذات حيض. أو على تأويل أن السماء بمعنى السقف ، كما في قوله ـ تعالى ـ : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) أو على أن السماء اسم جنس واحده سماوة ، فيجوز وصفه بالتذكير والتأنيث ..

وقوله : (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) الضمير فيه يعود إلى الخالق ـ عزوجل ـ والوعد مصدر مضاف لفاعله. أى : كان وعد ربك نافذا ومفعولا ، لأنه ـ سبحانه ـ لا يخلف موعوده.

ويجوز أن تكون هذه الجملة صفة ثالثة لليوم ، والضمير في وعده يعود إليه ، ويكون من إضافة المصدر لمفعوله. أى : كان الوعد بوقوع يوم القيامة نافذا ومفعولا.

ثم ختم ـ سبحانه ـ هذه التهديدات بقوله : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).

واسم الإشارة «هذه» يعود إلى الآيات المتقدمة ، المشتملة على الكثير من القوارع والزواجر.

والتذكرة : اسم مصدر بمعنى التذكير والاتعاظ والاعتبار. ومفعول «شاء» محذوف.

والمعنى : إن هذه الآيات التي سقناها لكم تذكرة وموعظة ، فمن شاء النجاة من أهوال يوم القيامة ، فعليه أن يؤمن بالله ـ تعالى ـ إيمانا حقا ، وأن يتخذ بسبب إيمانه وعمله الصالح ، طريقا وسبيلا إلى رضا ربه ورحمته ومغفرته.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٤٢.

١٦٤

والتعبير بقوله : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ ...) ليس من قبيل التخيير ، وإنما المقصود به الحض والحث على سلوك الطريق الموصل إلى الله ـ تعالى ـ بدليل قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ) أى : هذه الآيات تذكرة وموعظة ، فمن ترك العمل بها ساءت عاقبته ، ولم يكن من الذين سلكوا طريق النجاة.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) هذا ، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة ، ـ من أول السورة إلى هنا ـ ، يراها قد نادت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم نداء فيه ما فيه من الملاطفة والمؤانسة ، وأمرته بأن يقوم الليل إلا قليلا متعبدا لربه ، كما أمرته بالصبر على أذى المشركين ، حتى يحكم الله ـ تعالى ـ بينه وبينهم.

كما يراها قد هددت المكذبين بأشد أنواع التهديد. وذكرتهم بأهوال يوم القيامة ، وبما حل بالمكذبين من قبلهم ، وحرضتهم على سلوك الطريق المستقيم.

وبعد هذه الإنذارات المتعددة للمكذبين ، عادت السورة الكريمة إلى الحديث عن قيام الليل لعبادة الله ـ تعالى ـ وطاعته ... فقال ـ سبحانه ـ :

(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٢٠)

والمراد بالقيام في قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ...) التهجد بالليل عن طريق الصلاة تقربا إلى الله ـ تعالى ـ.

وقوله : (أَدْنى) بمعنى أقرب ، من الدنو بمعنى القرب ، تقول : رأيت فلانا أدنى إلى فعل

١٦٥

الخير من فلان. أى : أقرب ، واستعير هنا للأقل ، لأن المسافة التي بين الشيء والشيء إذا قربت كانت قليلة ، وهو منصوب على الظرفية بالفعل «تقوم».

وقوله : (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) قرأه بعض القراء السبعة بالجر عطفا على (ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) وقرأه الجمهور بالنصب عطفا على أدنى.

والمعنى على قراءة الجمهور : إن ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ يعلم أنك تقوم من الليل ، مدة قد تصل تارة إلى ثلثى الليل ، وقد تصل تارة أخرى إلى نصفه أو إلى ثلثه ... على حسب ما يتيسر لك ، وعلى حسب أحوال الليل في الطول والقصر.

والمعنى على قراءة غير الجمهور : إن ربك يعلم أنك تقوم تارة أقل من ثلثى الليل وتارة أقل من نصفه ، وتارة أقل من ثلثه .. وذلك لأنك لم تستطع ضبط المقدار الذي تقومه من الليل ، ضبطا دقيقا ، ولأن النوم تارة يزيد وقته وتارة ينقص ، والله ـ تعالى ـ قد رفع عنك المؤاخذة بسبب عدم تعمدك القيام أقل من ثلث الليل ..

فالآية الكريمة المقصود منها بيان رحمة الله ـ تعالى ـ بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قبل منه قيامه بالليل متهجدا ، حتى ولو كان هذا القيام أقل من ثلث الليل ..

وافتتاح الآية الكريمة بقوله ـ سبحانه ـ (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ ..) يشعر بالثناء عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وبالتلطف معه في الخطاب ، حيث إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مواظبا على قيام الليل. على قدر استطاعته ، بدون تقصير أو فتور.

وفي الحديث الشريف : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام الليل حتى تورمت قدماه.

والتعبير بقوله ـ تعالى ـ : (أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) يدل على أن قيامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان متفاوتا في طوله وقصره ، على حسب ما تيسر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى حسب طول الليل وقصره.

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) معطوف على الضمير المستتر في قوله : (تَقُومُ).

أى : أنت أيها الرسول الكريم ـ تقوم أدنى من ثلثى الليل ونصفه وثلثه ، وتقوم طائفة من أصحابك للصلاة معك ، أما بقية أصحابك فقد يقومون للتهجد في منازلهم.

روى البخاري في صحيحه عن عائشة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى ذات ليلة في المسجد ، فصلى بصلاته ناس ، ثم صلى من القابلة فكثر الناس ، ثم اجتمعوا في الليلة الثالثة

١٦٦

أو الرابعة ، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما أصبح قال : «قد رأيت الذي صنعتم ، ولم يمنعني من الخروج إليكم ، إلا أنى خشيت أن تفرض عليكم».

قال بعض العلماء : قوله : (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) معطوف على الضمير المستكن في (تَقُومُ).

وهو ـ وإن كان ضمير رفع متصل ـ ، قد سوغ العطف عليه الفصل بينه وبين المعطوف.

والمعنى : أن الله يعلم أنه كان يقوم كذلك جماعة من الذين آمنوا بك ، واتبعوا هداك ..

وقد يقال : إن هذا يدل على أن قيام الليل لم يكن فرضا على جميع الأمة ، وهو خلاف ما تقرر تفسيره في أول السورة ، ويخالف ـ أيضا ـ ما دلت عليه الآثار المتقدمة هناك ..

والجواب : أنه ليس في الآية ما يفيد أن الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا جميعا يصلون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة التهجد في جماعة واحدة ، فلعل بعضهم كان يقيمها في بيته ، فلا ينافي ذلك فرضية القيام على الجميع .. (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) بيان لشمول علمه ـ تعالى ـ ولنفاذ إرادته. أى : والله ـ تعالى ـ وحده ، هو الذي يعلم مقادير ساعات الليل والنهار ، وهو الذي يحدد زمانهما ـ طولا وقصرا ـ على حسب ما تقتضيه مشيئته وحكمته.

والآية الكريمة تفيد الحصر والاختصاص ، عن طريق سياق الكلام ، ودلالة المقام.

وقوله ـ تعالى ـ : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) مؤكد لما قبله ، وإحصاء الأشياء ، عدها والإحاطة بها.

والضمير المنصوب في قوله : (تُحْصُوهُ) يعود على المصدر المفهوم من قوله : (يُقَدِّرُ) في الجملة السابقة.

والتوبة في قوله ـ سبحانه ـ : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) يصح أن تكون بمعنى المغفرة ، وعدم المؤاخذة ، أو بمعنى قبولها منهم ، والتيسير عليهم في الأحكام. وتخفيفها عنهم.

أى : والله ـ تعالى ـ هو الذي يقدر أجزاء الليل والنهار ، وهو الذي يعلم ـ دون غيره ـ أنكم لن تستطيعوا تقدير ساعاته تقديرا دقيقا .. ولذلك خفف الله عنكم في أمر القيام ، ورفع عنكم المقدار المحدد ، وغفر لكم ما فرط منكم من تقصير غير مقصود ، ورخص لكم أن تقوموا المقدار الذي تستطيعون قيامه من الليل ، مصلين ومتهجدين ..

__________________

(١) تفسير آيات الأحكام ج ٤ ص ٢٠٠ للشيخ محمد السائس.

١٦٧

فالجملة الكريمة تقرر جانبا من فضل الله ـ تعالى ـ على عباده ، ومن رحمته بهم ..

والفاء في قوله ـ تعالى ـ : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) للإفصاح ، والمراد بالقراءة الصلاة ، وعبر عنها بالقراءة ، لأنها من أركانها .. أى : إذا كان الأمر كما وضحت لكم ، فصلوا ما تيسر لكم من الليل.

قال الآلوسي : قوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أى : فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل ، وعبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها ، وقيل : الكلام على حقيقته ، من طلب قراءة القرآن بعينها وفيه بعد عن مقتضى السياق.

ومن ذهب إلى الأول قال : إن الله ـ تعالى ـ افترض قيام مقدار معين من الليل ، لقوله : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً ، نِصْفَهُ ...) إلخ. ثم نسخ بقيام مقدار ما منه ، في قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ...) فالأمر في الموضعين للوجوب ، إلا أن الواجب أولا كان معينا من معينات. وثانيا كان بعضا مطلقا ، ثم نسخ وجوب القيام على الأمة مطلقا بالصلوات الخمس.

ومن قال بالثاني. ذهب إلى أن الله ـ تعالى ـ رخص لهم في ترك جميع القيام للصلاة ، وأمر بقراءة شيء من القرآن ليلا ، فكأنه قيل : فتاب عليكم ورخص لكم في الترك ، فاقرءوا ما تيسر من القرآن ، إن شق عليكم القيام .. (١).

وقال الإمام ابن كثير : وقوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) أى : من غير تحديد بوقت ، أى : لكن قوموا من الليل ما تيسر ، وعبر عن الصلاة بالقراءة ، كما قال في آية أخرى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) أى : بقراءتك (وَلا تُخافِتْ بِها).

وقد استدل الأحناف بهذه الآية على أنه لا يتعين قراءة الفاتحة في الصلاة ، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ، ولو بآية. أجزأه واعتضدوا بحديث المسيء صلاته الذي في الصحيحين ، وفيه : «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن».

وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت ، وهو في الصحيحين ـ أيضا ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وفي صحيح مسلم عن أبى هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج .. غير تمام» وفي صحيح ابن خزيمة عن أبى هريرة مرفوعا : «لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب» (٢).

__________________

(١) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١١١.

(٢) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٨٤.

١٦٨

وقوله ـ سبحانه ـ بعد ذلك : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى ، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ ، وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ ...) بدل اشتمال من جملة : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ ...) ، أو هو كلام مستأنف لبيان الحكمة التي من أجلها خفف الله على المسلمين قيام الليل.

أى : صلوا من الليل على قدر استطاعتكم من غير تحديد بوقت ، فالله ـ تعالى ـ يعلم أنكم لا تستطيعون ضبط ساعات الليل ولا أجزائه ، فخفف عنكم لذلك ، ولعلمه ـ أيضا ـ أن منكم المرضى الذين يعجزون عن قيام ثلثى الليل أو نصفه أو أقل من ذلك بقليل.

ومنكم ـ أيضا ـ الذين (يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ) أى : يسافرون فيها للتجارة وللحصول على مطالب الحياة ، وهم في كل ذلك يبتغون ويطلبون الرزق من فضله ـ تعالى ـ. ومنكم ـ أيضا ـ الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله ، ويجاهدون من أجل نشر دينه ومادام الأمر كذلك ، فقد أبحت لكم ـ بفضلي وإحسانى ـ أن تصلوا من الليل ما تيسر لكم.

وقد جمع ـ سبحانه ـ بين السعى في الأرض لطلب الرزق ، وبين الجهاد في سبيله ، للإشعار بأن الأول لا يقل في فضله عن الثاني ، متى توفرت فيه النية الطيبة ، وعدم الانشغال به عن ذكر الله ـ تعالى ـ.

قال الإمام القرطبي : سوى الله ـ تعالى ـ في هذه الآية بين درجة المجاهدين والمكتسبين المال الحلال ، للنفقة على النفس والعيال .. فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد في سبيل الله.

وفي الحديث الشريف : ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد ، فيبيعه بسعر يومه ، إلا كانت منزلته عند الله كمنزلة الشهداء. ثم قرأ صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية .. (١).

وأعيدت جملة (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) لتأكيد التيسير والتخفيف وتقريره ، وليعطف عليه ما بعده من بقية الأوامر ، وهي قوله ـ تعالى ـ : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أى : وأدوها كاملة الأركان والخشوع والسنن .. في وقتها بدون تأخير.

(وَآتُوا الزَّكاةَ) أى : قدموها لمستحقيها من الفقراء والمساكين وغيرهما.

قال ابن كثير : أى : أقيموا الصلاة الواجبة عليكم ، وآتوا الزكاة المفروضة ، وهذا يدل

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٥٥.

١٦٩

لمن قال : إن فرض الزكاة نزل بمكة ، لكن مقادير النصاب لم تبين إلا بالمدينة .. (١).

وقوله : (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً). والقرض : ما قدمته لغيرك من مال ، على أن يرده إليك بعد ذلك. والمراد من إقراض الله ـ تعالى ـ : إعطاء الفقراء والمساكين ما يحتاجونه على سبيل المعاونة والمساعدة.

وشبه ـ سبحانه ـ إعطاء الصدقة للمحتاج ، بقرض يقدم له ـ تعالى ـ ، للإشعار بأن ما سيعطى لهذا المحتاج ، سيعود أضعافه على المعطى. لأن الله ـ تعالى ـ قد وعد أن يكافئ على الصدقة بعشر أمثالها ، وهو ـ سبحانه ـ بعد ذلك يضاعف لمن يشاء الثواب والعطاء.

ووصف القرض بالحسن ، لحض النفوس على الإخلاص وعلى البعد عن الرياء والأذى .. ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بقوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) أى : أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، وأقرضوا الله قرضا حسنا ، وافعلوا ما تستطيعونه ـ بعد ذلك ـ من وجوه الخير ، وما تقدموا لأنفسكم من هذا الخير الذي يحبه ـ سبحانه ـ (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ). أى : تجدوا ثوابه وجزاءه عند الله ـ تعالى ـ ، ففي الكلام إيجاز بالحذف ، وقد استغنى عن المحذوف بذكر الجزاء عليه. والهاء في قوله (تَجِدُوهُ) هو المفعول الأول.

والضمير المنفصل في قوله : (هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) هو ضمير الفصل .. و (خَيْراً) هو المفعول الثاني. أى : كل فعل موصوف بأنه خير ، تقدمونه عن إخلاص لغيركم ، لن يضيع عند الله ـ تعالى ـ ثوابه ، بل ستجدون جزاءه وثوابه مضاعفا عند الله ـ تعالى ـ.

(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أى : وواظبوا على الاستغفار وعلى التوبة النصوح ، وعلى التضرع إلى الله ـ تعالى ـ أن يغفر لكم ما فرط منكم ، فإنه ـ سبحانه ـ واسع المغفرة والرحمة ، لمن تاب إليه وأناب ..

وبعد : فهذا تفسير لسورة «المزمل» نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

الراجي عفو ربه

د. محمد سيد طنطاوى

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٨٦.

١٧٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تفسير

سورة المدثر

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة «المدثر» من أوائل السور التي نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويغلب على الظن أن نزولها كان بعد نزول صدر سورة «اقرأ».

ويشهد لذلك ما رواه الشيخان وغيرهما عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءه الوحى وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال له : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ).

وروى الشيخان ـ أيضا ـ وغيرهما ، عن يحيى بن أبى كثير قال : سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ فقال : يا أيها المدثر. قلت : يقولون : اقرأ باسم ربك ..

فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك ، فقال : يا أيها المدثر لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : جاورت بحراء ، فلما قضيت جواري : هبطت الوادي ، فنوديت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا .. فرفعت رأسى ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض ، فرجعت على أهلى فقلت : دثروني ، دثروني. فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قُمْ فَأَنْذِرْ).

قال الآلوسى ما ملخصه : وظاهر هذا الحديث يقتضى نزول هذه السورة قبل سورة اقرأ ، مع أن المروي في الصحيحين عن عائشة أن سورة «اقرأ» أول ما نزل على الإطلاق ، وهو الذي ذهب إليه أكثر الأمة ، حتى قال بعضهم وهو الصحيح.

وللجمع بين هذين الحديثين وجوه منها : أن مراد جابر بالأولية أولية مخصوصة ، بما نزل بعد

١٧١

فترة الوحى ، لا أولية مطلقة كما هو الحال بالنسبة لسورة اقرأ. أو أن السؤال في حديث جابر ، كان عن نزول سورة كاملة ، فبين أن سورة المدثر نزلت بكمالها. أو أن جابرا قد قال ذلك باجتهاده ، ويقدم على هذا الاجتهاد ما ذكرته عائشة من أن أول ما نزل على الإطلاق ، هو صدر سورة اقرأ .. (١).

أقول : وفي هذا الحديث ما يدل على أن الملك قد جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحراء قبل رؤيته في هذه المرة ، وفي غار حراء بدأ الوحى ونزل قول الله تعالى : «اقرأ باسم ربك الذي خلق ...» وذلك يدل على أن «اقرأ» أول ما نزل على الإطلاق ، وهو ما جاء في الصحيحين عن السيدة عائشة رضى الله عنها.

وعلى أية حال فسورة المدثر تعتبر من أوائل ما نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قرآن ، كما يرى ذلك من تدبر آياتها التي تحض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم على إنذار الناس بدعوته.

وعدد آياتها : ست وخمسون آية في المصحف الكوفي ، وخمس وخمسون في البصري.

٢ ـ ومن أهم مقاصدها : تكريم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمره بتبليغ ما أوحاه الله ـ تعالى ـ إليه الى الناس ، وتسليته عما أصابه من أذى ، وتهديد أعدائه بأشد ألوان العقاب ، وبيان حسن عاقبة المؤمنين ، وسوء عاقبة المكذبين ، والرد عليهم بما يبطل دعاواهم ..

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٨٩ تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١١٥.

١٧٢

تفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) (٣٠)

قد افتتح الله ـ تعالى ـ سورة المدثر ، بالملاطفة والمؤانسة في النداء والخطاب ، كما افتتح سورة المزمل. والمدثر اسم فاعل من تدثر فلان ، إذا لبس الدثار ، وهو ما كان من الثياب فوق الشعار الذي يلي البدن ، ومنه حديث : «الأنصار شعار والناس دثار».

قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب ، إذ ناداه بحاله ، وعبر عنه بصفته ، ولم يقل يا محمد ويا فلان ، ليستشعر اللين

١٧٣

والملاطفة من ربه ، كما تقدم في سورة المزمل. ومثله قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلىّ إذ نام في المسجد «قم أبا تراب».

وكان قد خرج مغاضبا لفاطمة ـ رضى الله عنها ـ ، فسقط رداؤه وأصابه التراب. ومثله قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحذيفة بن اليمان ليلة الخندق «قم يا نومان» (١).

والمراد بالقيام في قوله ـ تعالى ـ : قم فأنذر ، المسارعة والمبادرة والتصميم على تنفيذ ما أمره ـ سبحانه ـ به ، والإنذار هو الإخبار الذي يصاحبه التخويف.

أى : قم ـ أيها الرسول الكريم ـ وانهض من مضجعك ، وبادر بعزيمة وتصميم ، على إنذار الناس وتخويفهم من سوء عاقبتهم ، إذا ما استمروا في كفرهم ، وبلغ رسالة ربك إليهم دون أن تخشى أحدا منهم ، ومرهم بأن يخلصوا له ـ تعالى ـ العبادة والطاعة.

والتعبير بالفاء في قوله : (فَأَنْذِرْ) للإشعار بوجوب الإسراع بهذا الإنذار بدون تردد.

وقال : فأنذر ، دون فبشر ، لأن الإنذار هو المناسب في ابتداء تبليغ الناس دعوة الحق حتى يرجعوا عما هم فيه من ضلال.

ومفعول أنذر محذوف. أى : قم فأنذر الناس ، ومرهم بإخلاص العبادة لله.

وقوله : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) أمر آخر له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولفظ (وَرَبَّكَ) منصوب على التعظيم لفعل (فَكَبِّرْ) قدم على عامله لإفادة التخصيص.

أى : يا أيها المدثر بثيابه لخوفه مما رآه من ملك الوحى ، لا تخف ، وقم فأنذر الناس من عذاب الله ، إذا ما استمروا في شركهم ، واجعل تكبيرك وتعظيمك وتبجيلك لربك وحده ، دون أحد سواه ، وصفه بما هو أهله من تنزيه وتقديس.

والمراد بتطهير الثياب في قوله ـ تعالى ـ : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) تطهيرها من النجاسات.

والمقصود بالثياب حقيقتها ، وهي ما يلبسه الإنسان لستر جسده ..

ومنهم من يرى أن المقصود بها ذاته ونفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أى : ونفسك فطهرها من كل ما يتنافى مع مكارم الأخلاق ، ومحاسن الشيم.

وقال صاحب الكشاف : قوله ـ تعالى ـ : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) أمر بأن تكون ثيابه طاهرة من النجاسات ، لأن طهارة الثياب شرط في الصلاة ، ولا تصح إلا بها. وهي الأولى والأحب في غير الصلاة. وقبيح بالمؤمن الطيب أن يحمل خبثا.

__________________

(١) تفسير القرطبي ج ١٩ ص ٦١.

١٧٤

وقيل : هو أمر بتطهير النفس مما يستقذر من الأفعال ، ويستهجن من العادات. يقال : فلان طاهر الثياب ، وطاهر الجيب والذيل والأردان ، إذا وصفوه بالنقاء من المعايب ، ومدانس الأخلاق. ويقال : فلان دنس الثياب : للغادر ـ والفاجر ـ ، وذلك لأن الثوب يلابس الإنسان ، ويشتمل عليه .. (١).

وسواء أكان المراد بالثياب هنا معناها الحقيقي ، أو معناها المجازى المكنى به عن النفس والذات ، فإن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مواظبا على الطهارة الحسية والمعنوية في كل شئونه وأحواله ، فهو بالنسبة لثيابه كان يطهرها من كل دنس وقذر ، وبالنسبة لذاته ونفسه ، كان أبعد الناس عن كل سوء ومنكر من القول أو الفعل.

إلا أننا نميل إلى حمل اللفظ على حقيقته ، لأنه لا يوجد ما يوجب حمله على غير ذلك.

ثم أمره ـ سبحانه ـ بأمر رابع فقال : (وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) والأصل في كلمة الرجز أنها تطلق على العذاب ، قال ـ تعالى ـ : (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ ، إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ).

والمراد به هنا : الأصنام والأوثان ، أو المعاصي والمآثم التي يؤدى اقترافها إلى العذاب. أى : وداوم ـ أيها الرسول الكريم ـ على ما أنت عليه من ترك عبادة الأصنام والأوثان ، ومن هجر المعاصي والآثام.

فالمقصود بهجر الرجز : المداومة على هجره وتركه ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يلتبس بشيء من ذلك.

ثم نهاه ـ سبحانه ـ عن فعل ، لا يتناسب مع خلقه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) والمن : أن يعطى الإنسان غيره شيئا ، ثم يتباهى به عليه ، والاستكثار : عد الشيء الذي يعطى كثيرا.

أى : عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ أن تبذل الكثير من مالك وفضلك لغيرك ، ولا تظن أن ما أعطيته لغيرك كثيرا ـ مهما عظم وجل ـ فإن ثواب الله وعطاءه أكثر وأجزل ...

ويصح أن يكون المعنى : ولا تعط غيرك شيئا ، وأنت تتمنى أن يرد لك هذا الغير أكثر مما أعطيته ، فيكون المقصود من الآية : النهى عن تمنى العوض.

قال ابن كثير : قوله : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) قال ابن عباس : لا تعط العطية تلتمس أكثر منها.

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٤٥.

١٧٥

وقال الحسن البصري : لا تمنن بعملك على ربك تستكثره ، وعن مجاهد : لا تضعف أن تستكثر من الخير.

وقال ابن زيد : لا تمنن بالنبوة على الناس : تستكثرهم بها ، تأخذ على ذلك عوضا من الدنيا.

فهذه أربعة أقوال ، والأظهر القول الأول ـ المروي عن ابن عباس وغيره ـ (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) أى : وعليك ـ أيها الرسول الكريم ـ أن توطن نفسك على الصبر ، على التكاليف التي كلفك بها ربك ، وأن تتحمل الآلام والمشاق في سبيل دعوة الحق ، بعزيمة صادقة ، وصبر جميل ، وثبات لا يخالطه تردد أو ضعف.

فهذه ست وصايا قد اشتملت على ما يرشد إلى التحلي بالعقيدة السليمة ، والأخلاق الكريمة.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ بعد ذلك جانبا من أهوال يوم القيامة فقال : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ. فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ. عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ).

والفاء في قوله : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) للسببية. والناقور ـ بزنة فاعول : من النقر ، وهو اسم لما ينقر فيه ، أى : لما ينادى فيه بصوت مرتفع. والمراد به هنا : الصور أو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل بأمر الله ـ تعالى ـ النفخة الثانية التي يكون بعدها الحساب والجزاء.

والفاء في قوله : (فَذلِكَ) واقعة في جواب (فَإِذا) واسم الإشارة يعود إلى مدلول النقر وما يترتب عليه من حساب وجزاء. وقوله (يَوْمَئِذٍ) بدل من اسم الإشارة.

والتنوين فيه عوض عن جملة وقوله : (عَسِيرٌ) و (غَيْرُ يَسِيرٍ) صفتان لليوم.

أى : أنذر ـ أيها الرسول الكريم ـ الناس ، وبلغهم رسالة ربك ، واصبر على أذى المشركين ، فإنه إذا نفخ إسرافيل بأمرنا النفخة الثانية ، صار ذلك النفخ وما يترتب عليه من أهوال ، وقتا وزمانا عسير أمره على الكافرين ، وغير يسير وقعه عليهم.

ووصف اليوم بالعسير ، باعتبار ما يقع فيه من أحداث يشيب من هولها الولدان.

وقوله : (غَيْرُ يَسِيرٍ) تأكيد لمعنى (عَسِيرٌ) كما يقال : هذا أمر عاجل غير آجل.

قال صاحب الكشاف فإن قلت : ما فائدة قوله : (غَيْرُ يَسِيرٍ) وقوله : (عَسِيرٌ) مغن عنه؟ قلت : لما قال (عَلَى الْكافِرِينَ) فقصر العسر عليهم قال : (غَيْرُ يَسِيرٍ) ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هينا ، ليجمع بين وعيد الكافرين

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٩٠.

١٧٦

وزيادة غيظهم ، وبين بشارة المؤمنين وتسليتهم. ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا. كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا (١).

ثم ذكر ـ سبحانه ـ جانبا من قصة زعيم من زعماء المشركين. افترى الكذب على الله ـ تعالى ـ وعلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكانت عاقبته العذاب المهين ، فقال ـ تعالى ـ : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً. وَبَنِينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا ...).

وقد ذكر المفسرون أن هذه الآيات نزلت في شأن الوليد بن المغيرة المخزومي ، وذكروا في ذلك روايات منها : أن المشركين عند ما اجتمعوا في دار الندوة ، ليتشاوروا فيما يقولونه في شأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي شأن القرآن الكريم ـ قبل أن تقدم عليهم وفود العرب للحج. فقال بعضهم : هو شاعر ، وقال آخرون بل هو كاهن .. أو مجنون .. وأخذ الوليد يفكر ويرد عليهم ، ثم قال بعد أن فكر وقدر : ما هذا الذي يقوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا سحر يؤثر ، أما ترونه يفرق بين الرجل وامرأته ، وبين الأخ وأخيه .. (٢).

قال الآلوسى : نزلت هذه الآيات في الوليد بن المغيرة المخزومي ، كما روى عن ابن عباس وغيره. بل قيل : كونها فيه متفق عليه .. وقوله : (وَحِيداً) حال من الياء في (ذَرْنِي) أى : ذرني وحدي معه فأنا أغنيك في الانتقام منه ، أو من التاء في خلقت أى : خلقته وحدي ، لم يشركني في خلقه أحد ، فأنا أهلكه دون أن أحتاج إلى ناصر في إهلاكه ، أو من الضمير المحذوف العائد على «من» أى : ذرني ومن خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد .. وكان الوليد يلقب في قومه بالوحيد .. لتفرده بمزايا ليست في غيره ـ فتهكم الله ـ تعالى ـ به وبلقبه ، أو صرف هذا اللقب من المدح إلى الذم (٣).

أى : اصبر ـ أيها الرسول الكريم ـ على ما يقوله أعداؤك فيك من كذب وبهتان ، واتركني وهذا الذي خلقته وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد ثم أعطيته الكثير من النعم ، فلم يشكرني على ذلك.

والتعبير بقوله (ذَرْنِي) للتهديد والوعيد ، وهذا الفعل يأتى منه الأمر والمضارع فحسب ، ولم يسمع منه فعل ماض.

وقوله : (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) أى : وجعلت له مالا كثيرا واسعا ، يمد بعضه بعضا ،

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٤٧.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٨ ص ٢٩٢.

(٣) تفسير الآلوسى ج ٢٩ ص ١٢٢.

١٧٧

فقوله : (مَمْدُوداً) اسم مفعول من «مدّ» الذي بمعنى أطال بأن شبهت كثرة المال ، بسعة مساحة الجسم.

أو من «مدّ» الذي هو بمعنى زاد في الشيء من مثله ، ومنه قولهم : مد الوادي النهر ، أى : مده بالماء زيادة على ما فيه.

قالوا : وكان الوليد من أغنى أهل مكة ، فقد كانت له أموال كثيرة من الإبل والغنم والعبيد والبساتين وغير ذلك من أنواع الأموال.

(وَبَنِينَ شُهُوداً) أى : وجعلت له ـ بجانب هذا المال الممدود ـ أولادا يشهدون مجالسه ، لأنهم لا حاجة بهم إلى مفارقته في سفر أو تجارة ، إذ هم في غنى عن ذلك بسبب وفرة المال في أيدى أبيهم.

فقوله : (شُهُوداً) جمع شاهد بمعنى حاضر ، وهو كناية عن كثرة تنعمهم وائتناسه بهم.

قيل : كانوا عشرة ، وقيل ثلاثة عشر ، منهم : الوليد ، وخالد ، وعمارة ، وهشام ، والعاصي ، وعبد شمس.

وقد أسلم منهم ثلاثة ، وهم : خالد ، وهشام ، وعمارة. (١) (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) والتمهيد مصدر مهد ، بمعنى سوى الشيء ، وأزال منه ما يجعله مضطربا متنافرا ، ومنه مهد الصبى. أى : المكان المعد لراحته. والمراد بالتمهيد هنا : تيسير الأمور ، ونفاذ الكلمة ، وجمع وسائل الرياسة له.

أى : جعلت له مالا كثيرا ، وأولادا شهودا ، وفضلا عن ذلك ، فقد هيأت له وسائل الراحة والرياسة تهيئة حسنة ، أغنته عن الأخذ والرد مع قومه ، بل صار نافذ الكلمة فيهم بدون عناء أو تعب.

فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت أن الله ـ تعالى ـ قد أعطى الوليد بن المغيرة ، جماع ما يحتاجه الإنسان في هذه الحياة ، فقد أعطاه المال الوفير ، والبنين الشهود ، والجاه التام الذي وصل إليه بدون جهد أو تعب.

وقوله ـ سبحانه ـ : (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ) بيان لما جبل عليه هذا الإنسان من طمع وشره .. أى : مع إمدادى له بكل هذه النعم ، هو لا يشبع ، بل يطلب المزيد منها لشدة حرصه وطمعه. و «ثم» هنا للاستبعاد والاستنكار والتأنيب ، فهي للتراخي الرتبى ، والجملة

__________________

(١) راجع حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ٤٣٧.

١٧٨

معطوفة على قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : «جعلت ومهدت ...» أى : أعطيته كل هذه النعم ، ثم بعد ذلك هو شره لا يشبع ، وإنما يطلب المزيد منها ثم المزيد.

وقوله ـ تعالى ـ : (كَلَّا) زجر وردع وقطع لرجائه وطمعه ، وحكم عليه بالخيبة والخسران. أى : كلا ، لن أعطيه شيئا مما يطمع فيه ، بل سأمحق هذه النعم من بين يديه ، لأنه قابلها بالجحود والبطر ، ومن لم يشكر النعم يعرضها للزوال ، ومن شكرها زاده الله ـ تعالى ـ منها ، كما قال ـ سبحانه ـ : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ).

وقوله : (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) تعليل للزجر والردع وقطع الرجاء. أى : كلا لن أمكنه مما يريده ويتمناه .. لأنه كان إنسانا شديد المعاندة والإبطال لآياتنا الدالة على وحدانيتنا ، وعلى صدق رسولنا فيما يبلغه عنا. ومن مظاهر ذلك أنه وصف رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ساحر ...

قال مقاتل : ما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقص من ماله وولده حتى هلك.

ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعده له من عذاب أليم فقال : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً). والإرهاق : الإتعاب الشديد ، وتحميل الإنسان ما لا يطيقه. يقال : فلان رهقه الأمر يرهقه ، إذا حل به بقهر ومشقة لا قدرة له على دفعها. ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ ، كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً ...).

والصعود : العقبة الشديدة ، التي لا يصل الصاعد نحوها إلا بمشقة كبيرة ، وتعب قد يؤدى إلى الهلاك والتلف. وهذه الكلمة صيغة مبالغة من الفعل صعد.

وهذه الآية الكريمة في مقابل قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك : (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) أى : أن هذا الجاه الذي أتاه في الدنيا بدون تعب ... سيلقى في الآخرة ما هو نقيضه من تعب وإذلال ..

قال صاحب الكشاف : قوله : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) أى : سأغشيه عقبة شاقة المصعد.

وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعد الذي لا يطاق. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يكلف أن يصعد عقبة في النار ، كلما وضع عليها يده ذابت ، فإذا رفعها عادت ، وإذا وضع رجله عليها ذابت ، فإذا رفعها عادت». وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوى فيه كذلك أبدا» (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٦٤٨.

١٧٩

ثم صور ـ سبحانه ـ حال هذا الشقي تصويرا بديعا يثير السخرية منه ومن تفكيره فقال : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) أى : إن هذا الشقي ردد فكره وأداره في ذهنه ، وقدّر وهيأ في نفسه كلاما شنيعا يقوله في حق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي حق القرآن الكريم.

يقال : قدّر فلان الشيء في نفسه ، إذا هيأه وأعده ..

والجملة الكريمة تعليل للوعيد والزجر ، وتقرير لاستحقاقه له ، أو بيان لمظاهر عناده ..

وقوله ـ سبحانه ـ : (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) تعجيب من تفكيره وتقديره ، وذم شديد له على هذا التفكير السّيّئ ...

أى : إنه فكر مليا ، وهيأ نفسه طويلا للنطق بما يقوله في حق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي حق القرآن ، (فَقُتِلَ) أى : فلعن ، أو عذب ، وهو دعاء عليه (كَيْفَ قَدَّرَ) أى : كيف فكر هذا التفكير العجيب البالغ النهاية في السوء والقبح.

وقوله : (ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) تكرير للمبالغة في ذمه ، والتعجيب من سوء تقديره ، وفي الدعاء عليه باللعن والطرد من رحمته ـ تعالى ـ.

والعطف بثم لإفادة التفاوت في الرتبة ، وأن الدعاء عليه والتعجيب من حاله في الجملة الثانية ، أشد منه في الجملة الأولى.

وقوله ـ تعالى ـ بعد ذلك : (ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ...) تصوير آخر لحالة هذا الشقي ، يرسم حركات جسده ، وخلجات قلبه ، وتقاطيع وجهه .. رسما بديعا ، يثير في النفوس السخرية من هذا الشقي.

أى : إنه فكر تفكيرا مليا ، وقدر في نفسه ما سيقوله في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تقديرا طويلا ، ... ولم يكتف بكل ذلك ، بل فكر وقدر (ثُمَّ نَظَرَ) أى : ثم نظر في وجوه من حوله نظرات يكسوها الجد المصطنع المتكلف ، حتى لكأنه يقول لهم : اسمعوا وعوا لما سأقوله لكم ..

(ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ) أى : ثم قطب ما بين عينيه حين استعصى عليه أن يجد في القرآن مطعنا ، وكلح وجهه ، وتغير لونه ، وارتعشت أطرافه ، حين ضاقت عليه مذاهب الحيل ، في أن يجد في القرآن مطعنا.

يقال : عبس فلان يعبس عبوسا ، إذا قطب جبينه. وأصله من العبس وهو ما تعلق بأذناب الإبل من أبوالها وأبعارها بعد أن جف عليها.

ويقال : بسر فلان يبسر بسورا ، إذا قبض ما بين عينيه كراهية للشيء.

ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ.).

١٨٠