التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٣

الدكتور محمد سيد طنطاوي

التفسير الوسيط للقرآن الكريم - ج ١٣

المؤلف:

الدكتور محمد سيد طنطاوي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 977-14-0693-0
الصفحات: ٣٥٥

على أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم صادق فيما يبلغه عن ربه ، وعلى أن الإسلام هو الدين الحق.

وقوله : (الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ) جملة من مبتدأ وخبر ، وهي خبر إن في قوله ـ سبحانه ـ : (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا).

وقوله : (سَوَّلَ) من التسويل بمعنى التزيين والتسهيل. يقال : سولت لفلان نفسه هذا الفعل ، أى : زينته وحسنته له ، وصورته له في صورة الشيء الحسن مع أنه قبيح.

وقوله : (وَأَمْلى) من الإملاء وهو الإبقاء ملاوة من الدهر ، أى : زمنا منه أى : الشيطان زين لهؤلاء المنافقين سوء أعمالهم ، ومد لهم في الأمانى الباطلة ، والآمال الفاسدة ، وأسباب الغواية والضلال.

وأسند ـ سبحانه ـ هذا التسويل والإملاء إلى الشيطان ، مع أن الخالق لذلك هو الله ـ تعالى ـ لأن الشيطان هو السبب في هذا الضلال والخسران.

ثم بين ـ سبحانه ـ أسباب هذا الارتداء فقال : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ).

أى : ذلك الارتداء عن الحق والتردي في الباطل. بسبب أن هؤلاء المنافقين قالوا للذين كرهوا ما نزل الله من الهدى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهم اليهود ومن على شاكلتهم ، قالوا لهم : (سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ) أى : سنطيعكم في بعض أموركم وأحوالكم التي على رأسها : العداوة لهذا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما جاء به من عند ربه.

كما قال ـ تعالى ـ حكاية عنهم في آية أخرى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ. لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) تهديد لهم على هذا الدس والكيد والتآمر على الإسلام وأتباعه. أى : والله ـ تعالى ـ يعلم ما يسرونه من أقوال سيئة ، ومن أفعال قبيحة ، وسيعاقبهم على ذلك عقابا شديدا.

وكلمة (إِسْرارَهُمْ) ـ بكسر الهمزة ـ مصدر أسررت إسرارا ، بمعنى كتمت الشيء وأخفيته وقرأ بعض القراء السبعة (إِسْرارَهُمْ) ـ بفتح الهمزة ـ جمع سر. أى : يعلم الأشياء التي يسرونها ويخفونها.

__________________

(١) سورة الحشر الآية ١١.

٢٤١

ثم بين ـ سبحانه ـ حالهم ـ عند ما تقبض الملائكة أرواحهم فقال : (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ).

والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، والاستفهام للاستعظام والتهويل ، و «كيف» منصوب بفعل محذوف هو العامل في الظرف «إذا».

والمراد بوجوههم : كل ما أقبل منهم ، وبأدبارهم : كل ما أدبر من أجسامهم.

أى : هؤلاء الذين ارتدوا على أدبارهم ، وقالوا ما قالوا من كفر وضلال ، كيف يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة وقبضت أرواحهم؟ لا شك أن حالهم سيكون أسوأ حال وأقبحه ، لأن ملائكة الموت يضربون عند قبض أرواحهم وجوه هؤلاء المنافقين وأدبارهم ، ضربا أليما موجعا.

وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ ، وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) (١).

واسم الإشارة في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) يعود إلى توفى الملائكة لهم ، وقبضهم لأرواح هؤلاء المنافقين. أى : ذلك الضرب الأليم لهم من الملائكة عند قبضهم لأرواحهم بسبب أن هؤلاء المنافقين قد اتبعوا ما يغضب الله ـ تعالى ـ من الكفر والمعاصي ، وبسبب أنهم كرهوا ما يرضيه من الإيمان والطاعة.

(فَأَحْبَطَ) ـ سبحانه ـ : (أَعْمالَهُمْ) بأن أبطلها ولم يقبلها منهم ، لأنها لم تصدر عن قلب سليم.

ثم هددهم ـ سبحانه ـ بكشف أستارهم ، وفضح أسرارهم فقال : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ).

و «أم» منقطعة بمعنى بل والهمزة ، والاستفهام للتقريع والتوبيخ ، و «أن» مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن محذوف ، والجملة بعدها خبرها ، وأن وصلتها سادة مسد مفعولي حسب.

والأضغان : جمع ضغن ، وهو الحقد الشديد. يقال : ضغن صدر فلان ضغنا ـ بزنة تعب ـ ، إذا اشتد حقده وغيظه ، والاسم الضّغن ، بمعنى الالتواء والاعوجاج الذي يكون في كل شيء ، ويقال : تضاغن القوم ، إذا انطوت قلوبهم على البغض والحقد.

__________________

(١) سورة الأنفال الآية ٥٠.

٢٤٢

أى : بل أحسب هؤلاء المنافقون الذين امتلأت قلوبهم بمرض الكفر والضلال ، أن الله ـ تعالى ـ غير قادر على إظهار أحقادهم الشديدة لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين؟

إن حسبانهم هذا هو لون من جهالاتهم ومن غباوتهم وانطماس بصائرهم.

لأن الله ـ تعالى ـ لا يخفى عليه شيء ، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

ثم بين ـ سبحانه ـ بعض مظاهر قدرته فقال : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ ، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ).

والمراد بالإراءة هنا : التعريف والعلم الذي يقوم مقام الرؤية بالبصر ، كما في قولهم : سأريك يا فلان ما أصنع بك. أى : سأعلمك بذلك.

والفاء في قوله : (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) لترتيب المعرفة على الإراءة ، والمراد بسيماهم : علاماتهم. يقال : سوم فلان فرسه تسويما ، إذا جعل له علامة يتميز بها.

وكررت اللام في قوله : (فَلَعَرَفْتَهُمْ) للتأكيد.

ولحن القول : أسلوب من أساليبه المائلة عن الطريق المعروفة ، كأن يقول للقائل قولا يترك فيه التصريح إلى التعريض والإبهام ، يقال : لحنت لفلان ألحن لحنا ، إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره.

قال الجمل : واللحن يقال على معنيين ، أحدهما : الكناية بالكلام حتى لا يفهمه غير مخاطبك ـ ومنه قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبعض أصحابه في غزوة الأحزاب : «وإن وجدتموهم ـ أى : بنى قريظة ـ على الغدر فالحنوا لي لحنا أعرفه».

والثاني : صرف الكلام من الإعراب إلى الخطأ ـ أى : من النطق السليم إلى النطق الخطأ ـ.

ويقال من الأول : لحنت ـ بفتح الحاء ـ ألحن فأنا لاحن ، ويقال من الثاني : لحن ـ بكسر الحاء إذا لم ينطق نطقا سليما ـ فهو لحن (١).

والمعنى : ولو نشاء إعلامك وتعريفك ـ أيها الرسول الكريم ـ بهؤلاء المنافقين وبذواتهم وأشخاصهم لفعلنا ، لأن قدرتنا لا يعجزها شيء (فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) أى : بعلاماتهم الخاصة بهم ، والتي يتميزون بها عن غيرهم.

(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ) ـ أيضا ـ (فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أى : ولتعرفنهم بسبب أقوالهم المائلة عن

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ١٥٣.

٢٤٣

الأساليب المعروفة في الكلام ، حيث يتخاطبون فيما بينهم بمخاطبات لا يقصدون ظاهرها ، وإنما يقصدون أشياء أخرى فيها الإساءة إليك وإلى أتباعك.

قال الإمام ابن كثير : قوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ) يقول ـ تعالى ـ : ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم ، فعرفتهم عيانا ، ولكن لم يفعل ـ سبحانه ـ ذلك في جميع المنافقين ، سترا منه على خلقه.

(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أى : فيما يبدون من كلامهم الدال على مقاصدهم. كما قال عثمان ـ رضى الله عنه ـ : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه. وفي الحديث : «ما أسر أحد سريرة إلا كساه الله جلبابها».

وعن أبى مسعود عقبة بن عمرو قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطبة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : «إن منكم منافقين ، فمن سميت فليقم. ثم قال : قم يا فلان ، قم يا فلان ـ حتى سمى ستة وثلاثين رجلا ـ ثم قال : إن فيكم ـ أو منكم ـ فاتقوا الله» (١).

وقوله ـ سبحانه ـ : (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ) ببان لعلمه الشامل ـ سبحانه ـ وتهديد لمن يجترح السيئات ، أى : والله ـ تعالى ـ يعلم أعمالكم علما تاما كاملا ، وسيجازيكم عليها بما تستحقون من ثواب أو عقاب.

ثم بين ـ سبحانه ـ سنة من سننه في خلقه فقال : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ).

أى : ولنعاملنكم ـ أيها الناس ـ معاملة المختبر لكم بالتكاليف الشرعية المتنوعة ، حتى نبين ونظهر لكم المجاهدين منكم من غيرهم ، والصابرين منكم وغير الصابرين (وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ) أى : ونظهر أخباركم حتى يتميز الحسن منها من القبيح.

فالمراد بقوله : (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ ..) إظهار هذا العلم للناس ، حتى يتميز قوى الإيمان من ضعيفه ، وصحيح العقيدة من سقيمها.

وإلى هنا نجد الآيات الكريمة قد هددت المنافقين تهديدا شديدا ، ووبختهم على مسالكهم الذميمة ، وفضحتهم على رءوس الأشهاد ، وحذرت المؤمنين من شرورهم.

ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة الكريمة بالدعوة إلى صلاح الأعمال ، وبتهديد الكافرين

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٠٤.

٢٤٤

بالعذاب الشديد ، وبتبشير المؤمنين بالثواب الجزيل ، وبدعوتهم إلى الإكثار من الإنفاق في سبيله .. فقال ـ تعالى ـ :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (٣٨)

والمراد بالذين كفروا في قوله : ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) جميع الكافرين ، كمشركي قريش ، والمنافقين ، وأهل الكتاب.

أى : إن الذين كفروا بكل ما يجب الإيمان به ، (وَصَدُّوا) غيرهم عن الإيمان بالحق. و «سبيل الله» الواضح المستقيم.

٢٤٥

(وَشَاقُّوا الرَّسُولَ) أى : عادوه وخالفوه وآذوه ، وأصل المشاقة : أن تصير في شق وجانب ، وعدوك في شق وجانب آخر ، والمراد بها هنا : العداوة والبغضاء.

وقوله : (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ) ذم وتجهيل لهم ، حيث حاربوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بعد أن ظهر لهم أنه على الحق ، وأنه صادق فيما يبلغه عن ربه.

وقوله : (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) بيان للآثار السيئة التي ترتبت على هذا الصدود والعداوة.

أى : هؤلاء الذين كفروا ، وصدوا غيرهم عن سبيل الله ، وحاربوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هؤلاء لن يضروا الله ـ تعالى ـ شيئا بسبب كفرهم وضلالهم ، وسيبطل ـ سبحانه ـ أعمالهم التي عملوها في الدنيا ، وظنوها نافعة لهم ، كإطعام الطعام ، وصلة الأرحام.

لأن هذه الأعمال قد صدرت من نفس كافرة ولن يقبل ـ سبحانه ـ عملا من تلك النفوس ، كما قال ـ تعالى ـ : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً).

وكما قال ـ سبحانه ـ : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

ثم وجه ـ سبحانه ـ نداء إلى المؤمنين ، أمرهم فيه بالمداومة على طاعته ومراقبته فقال. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ).

أى : يا من آمنتم بالله ـ تعالى ـ حق الإيمان ، أطيعوا الله ـ تعالى ـ في كل ما أمركم به. وأطيعوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا تبطلوا ثواب أعمالكم بسبب ارتكابكم للمعاصي ، التي على رأسها النفاق والشقاق ، والمن والرياء ، وما يشبه ذلك من ألوان السيئات.

عن أبى العالية قال : كان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بظنون أنه لا يضر مع «لا إله إلا الله» ذنب ، كما لا ينفع مع الشرك عمل ، فنزلت هذه الآية ، فخافوا أن يبطل الذنب العمل.

وروى نافع عن ابن عمر قال : كنا معشر أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات إلا مقبولا حتى نزلت هذه الآية ، فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش حتى نزل قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ).

فلما نزلت كففنا من القول في ذلك ، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش ، ونرجو لمن لم يصبها (١).

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٠٥.

٢٤٦

ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مصير الذين استمروا على كفرهم حتى ماتوا عليه فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ـ تعالى ـ ، وبكل ما يجب الإيمان به.

(وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أى : ومنعوا غيرهم عن الطريق التي توصلهم إلى طاعة الله ورضاه. (ثُمَّ ماتُوا) جميعا ، (وَهُمْ كُفَّارٌ) دون أن يقلعوا عن كفرهم.

(فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) شيئا من ذنوبهم ، لأن استمرارهم على الكفر حال بينهم وبين المغفرة.

ومن الآيات الكثيرة التي تشبه هذه الآية في معناها قوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ، فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (١).

والفاء في قوله : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) فصيحة ، والخطاب للمؤمنين على سبيل التبشير والتثبيت والحض على مجاهدة المشركين.

أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن الله ـ تعالى ـ لن يغفر للكافرين .. (فَلا تَهِنُوا) أى : فلا تضعفوا ـ أيها المؤمنون ـ أمامهم. ولا تخافوا من قتالهم .. من الوهن بمعنى الضعف ، وفعله وهن بمعنى ضعف ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ، فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

وقوله : (وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) معطوف على (تَهِنُوا) داخل في حيز النهى.

أى : فلا تضعفوا عن قتال الكافرين ، ولا تدعوهم إلى الصلح والمسالمة على سبيل الخوف منهم ، وإظهار العجز أمامهم ، فإن ذلك نوع من إعطاء الدنية التي تأباها تعاليم دينكم.

وقوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ ، وَاللهُ مَعَكُمْ ، وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) جمل حالية.

أى : لا تضعفوا ولا تستكينوا لأعدائكم والحال أنكم أنتم الأعلون ، أى : الأكثر قهرا وغلبة لأعدائكم ، والله ـ تعالى ـ معكم بعونه ونصره وتأييده.

(وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ) أى : ولن ينقصكم شيئا من أجور أعمالكم ، يقال : وترت فلانا حقه ـ من باب وعد ـ إذ انقصته حقه ولم تعطه له كاملا ، وترت الرجل ، إذا قتلت له قتيلا ، أو سلبت منه ماله.

قالوا : ومحل النهى عن الدعوة إلى صلح الكفار ومسالمتهم ، إذا كان هذا الصلح أو تلك

__________________

(١) سورة آل عمران الآية ٩١.

٢٤٧

المسالمة تؤدى إلى إذلال المسلمين أو إظهارهم بمظهر الضعيف القابل لشروط أعدائه .. أما إذا كانت الدعوة إلى السلم لا تضر بمصلحة المسلمين فلا بأس من قبولها ، عملا بقوله ـ تعالى ـ : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).

ثم بين ـ سبحانه ـ ما يدل على هوان هذه الدنيا فقال : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ).

قال الجمل : يعنى كيف تمنعكم الدنيا عن طلب الآخرة ، وقد علمتم أن الدنيا كلها لعب ولهو ، إلا ما كان منها في عبادة الله ـ تعالى ـ وطاعته.

واللعب : ما يشغل الإنسان وليس فيه منفعة في الحال أو المآل ، ثم إذا استعمله الإنسان ولم ينتبه لأشغاله المهمة فهو اللعب ، وإن أشغله عن مهمات نفسه فهو اللهو (١).

(وَإِنْ تُؤْمِنُوا) إيمانا حقا (وَتَتَّقُوا) الله ـ تعالى ـ (يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) كاملة غير منقوصة ، (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) أى : ولا يأمركم ـ سبحانه ـ أن تخرجوا جميع أموالكم على سبيل دفعها في الزكاة المفروضة ، أو في صدقة التطوع ، فالسؤال بمعنى الأمر والتكليف ويصح أن يكون المعنى : ولا يسألكم رسولكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا من أموالكم ، على سبيل الأجر له على تبليغ دعوة ربه ، كما قال ـ تعالى ـ : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ).

فالضمير على المعنى الأول يعود إلى الله تعالى ، وعلى الثاني يعود إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أشار ـ سبحانه ـ إلى جانب من حكمته في تشريعاته فقال : (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ).

وقوله (فَيُحْفِكُمْ) من الإحفاء بمعنى الإلحاف : وهو المبالغة في الطلب. يقال : أحفاه في المسألة ، إذا ألح عليه في طلبها إلحاحا شديدا ، ومنه قوله ـ تعالى ـ (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) وأصله من أحفيت البعير ، إذا أرهقته في المشي حتى انبرى ورق خفه.

أى : إن يكلفكم بأخراج جميع أموالكم ، ويبالغ في طلب ذلك منكم ، تبخلوا بها فلا تعطوها ، وبذلك (يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) أى : يظهر أحقادكم وكراهيتكم لهذا التكليف ، لأن حبكم الجم للمال يجعلكم تكرهون كل تشريع يأمركم بإخراج جميع أموالكم.

فقوله (فَيُحْفِكُمْ) عطف على فعل الشرط ، وقوله (تَبْخَلُوا) جواب الشرط ، وقوله : (وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ) معطوف على هذا الجواب.

__________________

(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٤ ص ١٥٥.

٢٤٨

ثم تختتم السورة الكريمة بالدعوة إلى الإنفاق في سبيل الله فقال : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) ـ أيها المؤمنون ـ (تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أى : في وجوه الخير التي على رأسها الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله ، ونصرة دينه.

(فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ) أى : فمنكم ـ أيها المخاطبون ـ من يبخل بماله عن الإنفاق في وجوه الخير (وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ) أى : ومن يبخل فإنما يبخل عن داعي نفسه لا عن داعي ربه ، أو فإنما يبخل على نفسه. يقال : بخل عليه وعنه ـ كفرح وكرم ـ بمعنى ، لأن البخل فيه معنى المنع والإمساك ومعنى التضييق على من منع عنه المعروف ، فعدى بلفظ (عَنْ) نظرا للمعنى الأول ، ولفظ على نظرا للمعنى الثاني.

(وَاللهُ) ـ تعالى ـ هو (الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) إليه ، لاحتياجكم إلى عونه احتياجا تاما ، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) أى : وإن تعرضوا عن هذا الإرشاد الحكيم.

(يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) أى : يخلق بدلكم قوما آخرين.

(ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) أى : ثم لا يكونوا أمثالكم في الإعراض عن الخير ، وفي البخل بما آتاهم الله من فضله.

والمتأمل في هذه الآية يراها قد اشتملت على أسمى ألوان الدعوة إلى الإيمان والسخاء ، والنهى عن الجحود والبخل.

وبعد فهذا تفسير وسيط لسورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم نسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعله خالصا لوجهه ، ونافعا لعباده.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

٢٤٩
٢٥٠

تفسير

سورة الفتح

٢٥١
٢٥٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة وتمهيد

١ ـ سورة الفتح من السور المدنية ، وعدد آياتها تسع وعشرون آية ، وكان نزولها في أعقاب صلح الحديبية.

قال ابن كثير ـ رحمه‌الله ـ : نزلت سورة «الفتح» لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة ، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، ليقضى عمرته فيه ، وحالوا بينه وبين ذلك ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتى من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على تكره من جماعة من الصحابة .. (١).

٢ ـ والمتدبر للقرآن الكريم ، يرى كثيرا من آياته وسوره ، في أعقاب بعض الغزوات ، ليتعلم المسلمون من تلك الآيات والسور ما ينفعهم وما يصلح من شأنهم.

فمثلا في أعقاب غزوة «بدر» نزلت سورة الأنفال التي سماها ابن عباس سورة بدر.

وفي أعقاب غزوة «أحد» نزلت عشرات الآيات في سورة آل عمران.

وفي أعقاب غزوة «بنى النضير» نزلت آيات من سورة الحشر.

وفي أعقاب غزوة «الأحزاب» نزلت آيات من سورة الأحزاب.

وفي أعقاب صلح الحديبية نزلت هذه السورة الكريمة ، التي تحكى الكثير من الأحداث التي تتعلق بهذا الصلح.

٣ ـ وقبل أن نبدأ في تفسير هذه السورة الكريمة ، نرى من الخير أن نعطى للقارئ فكرة واضحة عن صلح الحديبية ، التي نزلت في أعقابه هذه السورة .. فنقول ـ وبالله التوفيق ـ : رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في منامه أنه قد دخل المسجد الحرام هو وأصحابه ، وقد صرحت السورة الكريمة بذلك في قوله ـ تعالى ـ : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ، لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ...) فقص صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا بها. وكان المشركون قد منعوهم من دخول مكة ، ومن الطواف بالمسجد الحرام.

__________________

(١) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٠٧.

٢٥٣

٤ ـ وخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه حوالى أربعمائة وألف من أصحابه ، ليس معهم من السلاح سوى السيوف في أغمادها ، وساقوا معهم الهدى الذي يتقربون بذبحه إلى الله ـ تعالى ـ ليكون دليلا على أنهم لا يريدون حرب قريش ، وإنما يريدون الطواف بالبيت الحرام.

وسار صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المدينة إلى مكة ، فلما وصل إلى «عسفان» وهو مكان بين مكة والمدينة ـ جاءه بشر بن سفيان الكعبي وكان مكلفا من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعرفة أخبار قريش فقال : يا رسول الله ، هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فخرجوا معهم العوذ المطافيل ـ أى : ومعهم الإبل التي لم تلد ، والإبل التي ولدت ، قد لبسوا جلود النمور ـ أى : قد استعدوا لقتالك وقد نزلوا بذي طوى ـ وهو مكان بالقرب من مكة ـ ، يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا ..

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا ويح قريش!! لقد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب ، فإن هم أصابونى كان ذلك الذي أرادوا ، وإن أظهرنى الله عليهم ، دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظن قريش؟ فو الله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به ، حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة» أى أو أن أقتل في سبيل الله.

ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها»؟.

فقال رجل من قبيلة أسلم : أنا يا رسول الله ، فسلك بهم طريقا وعرا ، انتهى بهم إلى «الحديبية» وهي قرية على بعد مرحلة من مكة ، أو هي بئر سمى المكان بها.

٥ ـ وفي هذا المكان بركت القصواء ـ وهي الناقة التي كان يركبها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال الناس : خلأت الناقة أى : حرنت وأبت المشي ـ ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما خلأت وما هو لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة. لا تدعوني قريش إلى خطة يسألوننى فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها».

ثم أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس بالنزول في هذا المكان ..

٦ ـ وعلمت قريش بنزول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه في الحديبية ، فبدءوا يرسلون رسلهم لمعرفة الأسباب التي حملت المسلمين إلى المجيء إليهم.

وكان من بين الرسل بديل بن ورقاء الخزاعي .. فلما سأل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن سبب مجيئه إلى مكة ، أخبره أنه لم يأت يريد حربا وإنما جاء زائرا للبيت الحرام ، ومعظما لحرمته ..

وعاد بديل إلى مكة ، وأخبر المشركين بما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكنهم لم يقتنعوا ، وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا. والله لا يدخلها علينا عنوة أبدا ...

٢٥٤

٧ ـ ثم أرسلت قريش رسلا آخرين إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من بينهم ، عروة بن مسعود الثقفي .. فكان مما قاله للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد ، أجمعت أوشاب الناس ـ أى : أخلاطهم ـ ثم جئت بهم إلى أهلك .. إن قريشا قد تعاهدت أنك لن تدخل عليهم مكة عنوة ..

وكان عروة خلال حديثه مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمد يده إلى لحيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان المغيرة ابن شعبة يقرع يد عروة ويقول له : اكفف يدك عن وجه رسول الله قبل أن لا تصل إليك.

وشاهد عروة ما شاهد من احترام المسلمين لرسولهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعاد إلى المشركين وقال لهم : يا معشر قريش ، إنى قد جئت كسرى في ملكه ، والنجاشيّ في ملكه ، وإنى والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء أبدا ، فروا رأيكم ..

٨ ـ ثم أرسل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قريش عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ لكي يخبرهم بأن المسلمين ما جاءوا لحرب ، وإنما جاءوا للطواف بالبيت.

وذهب إليهم عثمان وأخبرهم بذلك ، ولكنهم صمموا على منع المسلمين من دخول مكة ، قالوا لعثمان : إن شئت أنت أن تطوف بالبيت فطف.

فقال لهم : ما كنت لأفعل حتى يطوف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وطال مكث عثمان عند قريش ، حتى أشيع بين المسلمين أنه قد قتله المشركون.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بلغه أن عثمان قد قتل : «لا نبرح حتى نناجز القوم» ودعا المسلمين إلى مبايعته على الموت ، فبايعه المسلمون على ذلك تحت شجرة الرضوان ...

ثم جاء عثمان بعد ذلك دون أن يصيبه أذى ...

٩ ـ وأخيرا أوفدت قريش إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا منهم اسمه سهيل بن عمرو ، ليعقد صلحا مع المسلمين ، وقالوا له : ائت محمدا فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلا أن يرجع عنا عامه هذا ، فو الله لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبدا ..

وعند ما رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سهيلا مقبلا نحوه ، قال لأصحابه : لقد سهل الله لكم من أمركم ، إن قريشا أرادت الصلح حين بعثت هذا الرجل.

وتم الصلح بين الفريقين على ما يأتى :

أولا : أن يرجع المسلمون دون زيارة البيت هذا العام ، فإذا كان العام التالي : أخلت قريش لهم مكة ثلاثة أيام ، ليطوفوا بالبيت ، وليس معهم إلا السيوف في غمدها ..

٢٥٥

ثانيا : أن تضع الحرب أوزارها بين الطرفين عشر سنوات.

ثالثا : من أتى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قريش مسلما بغير إذن وليه رده إليهم ، ومن أتى قريشا من المسلمين لم يردوه.

رابعا : من أحب أن يدخل في عقد مع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فله ما أراد. ومن أحب أن يدخل في عهد قريش فله ذلك.

ولقد عز على بعض المسلمين قبول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لهذه الشروط ، التي ظاهرها الظلم للمسلمين ، حتى قال عمر ـ رضى الله عنه ـ للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا رسول الله ، ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنى رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري».

ثم أشار صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المسلمين أن يتحللوا من عمرتهم ، بأن ينحروا هديهم ، وأن يحلقوا رءوسهم أو يقصروا. ولكنهم لم يسارعوا بالامتثال ، فدخل صلى‌الله‌عليه‌وسلم على زوجه أم سلمة ـ رضى الله عنها ـ ، وقد ظهر الغضب على وجهه.

فقالت له : يا رسول الله ، اعذرهم ، وابدأ بما تأمرهم به دون أن تكلم منهم أحدا.

فقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنحر هديه ، ودعا حالقه فحلق له ، فلما رأى المسلمون ذلك من نبيهم ، قاموا فنحروا هديهم ، وجعل بعضهم يحلق بعضا.

ثم أقام المسلمون بعد ذلك عدة أيام بالحديبية ، ثم قفلوا راجعين إلى المدينة ، وعند ما سمع صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعضهم يقول : لقد رجعنا ولم نصنع شيئا ..

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «بل فتحتم أعظم الفتح».

وصدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله هذا. فقد كان صلح الحديبية فتحا عظيما ، كما نبين ذلك عند تفسيرنا للسورة الكريمة.

وبهذا العرض المجمل لأحداث صلح الحديبية ، نكون قد أعطينا القارئ فكرة مركزة عن هذا الصلح ، وعن الجو العام الذي نزلت في أعقابه سورة الفتح ، ومن أراد المزيد لمعرفة أحداث صلح الحديبية فليرجع إلى كتب السيرة (١).

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ..

__________________

(١) راجع سيرة ابن هشام ج ٣ من ص ٣٥٥ إلى ص ٣٧٨ وتفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٢٧.

٢٥٦

التفسير

قال الله ـ تعالى ـ :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) (٧)

افتتحت سورة «الفتح» بهذه البشارات السامية ، والمدائح العالية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم افتتحت بقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً).

٢٥٧

والفتح في الأصل : إزالة الأغلاق عن الشيء .. وفتح البلد : المقصود به الظفر به ، ووقوعه تحت سيطرة الفاتح.

والذي عليه المحققون من العلماء أن المراد بالفتح هنا : صلح الحديبية وما ترتب عليه من خيرات كثيرة ، ومنافع جمة للمسلمين.

ويشهد لذلك أحاديث متعددة منها : ما أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن مسعود قال : أقبلنا من الحديبية مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان قد خرج إليها صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الاثنين هلال ذي القعدة ، فأقام بها بضعة عشر يوما ، ثم قفل راجعا إلى المدينة ، فبينما نحن نسير إلى المدينة إذ أتاه الوحى ـ وكان إذا أتاه اشتد عليه ـ فسرى عنه وبه من السرور ما شاء الله ، فأخبرنا أنه أنزل عليه : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً).

وروى الإمام أحمد وأبو داود عن مجمع بن جارية الأوسى قال : شهدنا الحديبية ، فلما انصرفنا منها وجدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واقفا عند كراع الغميم ـ موضع بين مكة والمدينة ـ وقد جمع الناس وقرأ عليهم : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) الآيات.

فقال رجل : يا رسول الله ، أو فتح هو؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أى والذي نفسي بيده إنه لفتح (١).

ويرى بعضهم : أن المراد بالفتح هنا : فتح مكة ، والتعبير عنه بالماضي في قوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) لتحقق الوقوع ، فهو من قبيل قوله ـ تعالى ـ : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ...) ويبدو لنا أن المراد بالفتح هنا صلح الحديبية لوجود الآثار الصحيحة التي تشهد لذلك ، ولأن هذا الصلح قد ترتب عليه من المنافع للدعوة الإسلامية ما يجعله من أعظم الفتوح ، إن لم يكن أعظمها.

لقد ترتب عليه أن انتشر الأمان بين المسلمين والمشركين ، فاستطاع المسلمون أن ينشروا دعوة الحق في مكة وفي غيرها ، كما استطاعوا أن ينتقلوا من مكان إلى آخر للتبشير بدينهم ، فترتب على ذلك أن دخل في الإسلام عدد كبير من الناس.

قال الزهري : لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية ، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين ، فسمعوا كلامهم ، وتمكن الإسلام من قلوبهم ، وأسلم خلق كثير ، وكثر بهم سواد الإسلام.

__________________

(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٢٠٧ وتفسير الآلوسى ج ٢٦ ص ٨٣.

٢٥٨

قال ابن هشام : والدليل على صحة قول الزهري ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة من أصحابه ثم خرج إلى مكة في عام الفتح ـ بعد ذلك بسنتين ـ في عشرة آلاف من أصحابه.

وقد أكد ـ سبحانه ـ هذا الفتح بثلاثة أنواع من المؤكدات ، وهي «إن» والمصدر «فتحا» والوصف «مبينا» وذلك للمسارعة إلى تبشير المؤمنين بتحقق هذا الفتح ، ولإدخال السرور على قلوبهم ، بعد تلك الشروط التي اشتمل عليها الصلح ، والتي ظنها بعضهم أن فيها إجحافا بالمسلمين.

وأسند ـ سبحانه ـ الفعل إلى نون العظمة (فَتَحْنا) لتفخيم شأن المخبر ـ عزوجل ـ وعلو شأن المخبر عنه وهو الفتح.

وقدم ـ سبحانه ـ الجار والمجرور (لَكَ) على المفعول المطلق (فَتْحاً) للاهتمام وللإشعار بأن ذلك الفتح كان من أجله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي ذلك ما فيه من تعظيم أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن وجوب طاعته ، والامتثال لأمره.

ثم ذكر ـ سبحانه ـ بعد ذلك مظاهر فضله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً).

واللام في قوله (لِيَغْفِرَ) متعلقة بقوله : (فَتَحْنا) وهي للتعليل. والمراد بما تقدم من ذنبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان قبل النبوة ، وبما تأخر منه ما كان بعدها.

والمراد بالذنب هنا بالنسبة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان خلاف الأولى ، فهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين ، أو المراد بالغفران : الحيلولة بينه وبين الذنوب كلها ، فلا يصدر منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذنب ، لأن غفران الذنوب معناه : سترها وتغطيتها وإزالتها.

قال الشوكانى : وقوله ـ تعالى ـ : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) اللام : متعلقة بفتحنا وهي لام العلة ، قال المبرد : هي لام كي ومعناها : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ـ أى : ظاهرا واضحا مكشوفا ـ لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح ، فلما انضم إلى المغفرة شيء حادث واقع حسن معنى كي.

وقال ابن عطية : المراد أن الله فتح لك لكي يجعل الفتح علامة لغفرانه لك ، فكأنها لام الصيرورة .. (١).

__________________

(١) تفسير فتح القدير ج ٥ ص ٤٤ للشوكانى.

٢٥٩

وقال بعض العلماء : وقوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) هو كناية عن عدم المؤاخذة. أو المراد بالذنب ما فرط منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من خلاف الأولى بالنسبة لمقامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو المراد بالغفران : الحيلولة بينه وبين الذنوب كلها ، فلا يصدر منه ذنب. لأن الغفر هو الستر ، والستر إما بين العبد والذنب ، وهو اللائق بمقام النبوة ، أو بين الذنب وعقوبته ، وهو اللائق بغيره.

واللام في (لِيَغْفِرَ) للعلة الغائية. أى : أن مجموع المتعاطفات الأربعة غاية للفتح المبين ، وسبب عنه لا كل واحد منها.

والمعنى : يسرنا لك هذا الفتح لإتمام النعمة عليك ، وهدايتك إلى الصراط المستقيم ، ولنصرك نصرا عزيزا.

ولما امتن الله عليه بهذه النعم ، صدرها بما هو أعظم ، وهو المغفرة الشاملة ليجمع له بين عزى الدنيا والآخرة. فليست المغفرة مسببة عن الفتح (١).

ولقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع هذه المغفرة من الله ـ تعالى ـ له ، أعبد الناس لربه ، وأشدهم خوفا منه ، وأكثرهم صلة به.

قال ابن كثير : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن زياد بن علاقة قال : سمعت المغيرة بن شعبة يقول : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلى حتى ترم قدماه أى : تتورم ـ فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : «أفلا أكون عبدا شكورا» ..

وعن عروة بن الزبير عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه ـ أى : تتشقق ـ فقالت له عائشة : يا رسول الله ، أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟.

فقال : «يا عائشة ، أفلا أكون عبدا شكورا ..» (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) معطوف على ما قبله. أى : ويتم ـ سبحانه ـ نعمه عليك ـ أيها الرسول الكريم ـ بأن يظهر دعوتك ، ويكتب لها النصر ، والخلود ، ويعطيك من الخصائص والمناقب ما لم يعطه لأحد من الأنبياء ، فضلا عن غيرهم.

(وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أى : ويهديك ويرشدك ـ سبحانه ـ بفضله وكرمه ، إلى

__________________

(١) تفسير صفوة البيان ج ٢ ص ٣٣٣ لفضيلة الشيخ حسنين مخلوف.

(٢) تفسير ابن كثير ج ٧ ص ٣٠٩.

٢٦٠