البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٧

سورة ابراهيم

مكية. وهى إحدى وخمسون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١) ، مع قوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) ؛ فإنه تصريح بالشهادة له. أو : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) ، على تفسيره بالقرآن ، مع قوله : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ).

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر ...)

الألف : آلاؤه ، واللام : لطفه ، والراء : رحمته. فكأنه يقول : بآلائنا ولطفنا ورحمتنا أنزلنا إليك كتابنا ، ولذلك رتّب عليه قوله :

(... كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٣))

قلت : (كتاب) : خبر ، أي : هذا كتاب ، و (بإذن) : متعلق بتخرج ، أو حال من فاعله ، أو مفعوله. و (إلى صراط) : بدل من (النور). (الله الذي) ؛ من رفعه فعلى الابتداء ، والموصول خبره ، أو خبر عن محذوف ، ومن خفضه فبدل من (العزيز) ، و (الذين يستحبون) : صفة للكافرين أو نصب ، أو رفع على الذم.

يقول الحق جل جلاله : أيها الرسول المحبوب ، هذا (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ) بدعائك إياهم إلى العمل به ، (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ؛ من ظلمات الضلال والجهل إلى نور الهداية والعلم ، (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ؛ بتوفيقه وهدايته وتسهيله ، (إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي : لتخرجهم إلى نور العلم الذي هو سلوك طريق العزيز الحميد ، التي توصل إلى رضوانه ومعرفته. وفى ذكر الوصفين إشارة إلى أنه لا يذل سالكه ، ولا يخيب سائله ، بل تحمد عاقبته.

ثم ذكر الموصوف بهما بقوله : (اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) أي : الموصوف بالعزة والحمد هو الله الذي استقر له ما فى السموات وما فى الأرض ملكا وعبيدا. ثم ذكر وعيد من كفر بكتابه أو به ،

__________________

(١) من الآية ٤٣ سورة الرعد.

٤١

فقال : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ) بكتابه ، ولم يخرجوا به من ظلمات كفرهم ، (مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ) ، والويل : كلمة عذاب تقال لمن استحق الهلاك ، أي : هلاك لهم من أجل عذاب شديد يلحقهم. وقيل : واد فى جهنم.

ثم ذكر وجه استحقاقهم العذاب بقوله : (الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) ؛ يختارونها (عَلَى الْآخِرَةِ) ، فإنّ من أحب شيئا اختاره وطلبه ، (وَيَصُدُّونَ) الناس (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ؛ بتعويقهم عن الإيمان ، (وَيَبْغُونَها عِوَجاً) أي : ويبغون لها زيغا ، ونكوبا عن الحق ، ليتوصلوا للقدح فيها ، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير ، (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) أي : فى تلف بعيد عن الحق ، بحيث ضلوا عن الحق ، وبعدوا عنه بمراحل. والبعد فى الحقيقة : للضال ، ووصف به فعله ؛ للمبالغة.

الإشارة : قد أخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمته من ظلمات عديدة إلى أنوار متعددة ، أولها : ظلمة الكفر والشرك إلى نور الإيمان والإسلام ، ثم من ظلمة الجهل والتقليد إلى نور العلم والتحقيق ، ثم من ظلمة الذنوب والمعاصي إلى نور التوبة والاستقامة ، ثم من ظلمة الغفلة والبطالة إلى نور اليقظة والمجاهدة ، ثم من ظلمة الحظوظ والشهوات إلى نور الزهد والعفة ، ثم من ظلمة رؤية الأسباب ، والوقوف مع العوائد ، إلى نور شهود المسبب ، وخرق العوائد ، ثم من ظلمة الوقوف مع الكرامات وحلاوة الطاعات إلى نور شهود المعبود ، ثم من ظلمة الوقوف مع حس الأكوان الظاهرة إلى شهود أسرار المعاني الباطنة ، فيغيب عن الأكوان بشهود المكون. وهذا آخر ظلمة تبقى فى النفس ، فتصير حينئذ روحا ، وسرا من أسرار الله ، ويصير صاحبها روحانيا ربانيا عارفا بالله ، ولا يبقى حينئذ إلا الترقي فى شهود الأسرار أبدا سرمدا. وهذا محل القطبانية والتهيؤ للتربية النبوية ، ويصير وليا محمديا ، يخرج الناس من هذه الظلمات إلى هذه الأنوار.

وأما من لم يبلغ هذا المقام ، فإنما له الإخراج من أحد هذه الأشياء ؛ فالغزاة والمجاهدون يخرجون من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان ، والعلماء يخرجون من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، والعباد والزهاد يخرجون من صحبهم من الذنوب إلى التوبة والاستقامة. وأما ما بقي من الظلمات فلا يخرج منها إلا الربانيون الروحانيون ، أهل التربية النبوية ، بإذن ربهم ، يدلهم على صراط العزيز الحميد ، الموصل إلى العز المديد. وويل لمن أنكر هؤلاء ، واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه ، واستحبّ حياة دنياه على أخراه ، أولئك فى ضلال عن حضرة الحق بعيد. وبالله التوفيق.

ولمّا كان الإخراج من هذه الظلمات لا يكون إلا بالمقال والحال ، بعث الله الرسل ، وورثتهم من الأولياء الداعين إلى الله بلسان قومهم ، كما قال تعالى :

٤٢

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤))

يقول الحق جل جلاله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ) قبلك (إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) ، وأنت بعثناك بلسان قومك. وإنما قال : بلسان قومه ، ولم يقل بلسان أمته ؛ لأن الأمة قد تكون أوسع من قومه ، كما فى حق نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقد بعث إلى العرب والعجم ، والجن والإنس ، فقومه الذين يفهمون عنه : يترجمون إلى من لا يفهم ، فتقوم الحجة عليهم. وكذلك إعجاز القرآن يدركه أهل الفصاحة والبلاغة ، فإذا وقع العجز عن معارضته منهم قامت الحجة على غيرهم ، كما قامت الحجة فى معجزة موسى عليه‌السلام بعجز السحرة ، وفى معجزة عيسى بعجز الأطباء.

ثم بيّن الحكمة ، فى كون الداعي لا يكون إلا بلسان قومه ، بقوله : (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) ما أمروا به ؛ فيفهمونه عنه بسرعة ، ثم ينقلونه ويترجمونه لغيرهم ، فتقوم الحجة عليهم ولذلك أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإنذار عشيرته أولا ، فإذا فهموا عنه بلّغوا إلى غيرهم. قال البيضاوي : ولو نزل على من بعث إلى أمم مختلفة كتب على ألسنتهم استقل ذلك بنوع من الإعجاز ، لكن أدى إلى اختلاف الكلمة وإضاعة فضل الاجتهاد فى تعلم الألفاظ ومعانيها ، والعلوم المتشعبة منها ، وما فى إتعاب القرائح وكد النفس من القرب المقتضية لجزيل الثواب. ه.

فالرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ إنما عليهم البيان بلسانهم ، والهداية بيد ربهم ، ولذلك قال تعالى : (فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) إضلاله ، فيخذله عن الإيمان ، (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) بالتوفيق له ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على أمره ، فلا يغلب على مشيئته ، (الْحَكِيمُ) فى صنعه ، فلا يضل ولا يهدى إلا لحكمة أرادها. والله تعالى أعلم.

الإشارة : ما بعث الله وليا داعيا إلا بلسان قومه ، وقد يخرق له العادة ، فيطلعه على جميع اللغات ، كما قال المرسى رضي الله عنه : من بلغ هذا المقام لا يخفى عليه شىء. وذلك من باب الكرامة ؛ كما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاطب كل قوم بلغتهم ؛ معجزة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فقد اتسع علمه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فأحاط بحقائق الأشياء وأسمائها ومفهوماتها ، وأصول اللغة وفروعها ، فعلم ما علمه سيدنا آدم عليه‌السلام ، أو أكثر ، وإلى ذلك أشار القطب ابن مشيش فى تصليته المشهورة بقوله : «وتنزلت علوم آدم فأعجز الخلائق». وقال البوصيرى فى همزيته :

لك ذات العلوم من عالم الغي

ب ومنها لآدم الأسماء

ولمّا كان علاج موسى عليه‌السلام فى إخراج أمته من الظلمات إلى النور ، قريبا من علاج نبينا ـ عليه الصلاة والسلام ـ ذكره بإثره ، كما فعل فى سورة طه ، فقال :

٤٣

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨))

قلت : (أَنْ أَخْرِجْ) : إما تفسيرية لا محل لها ، أي : وقلنا : أن أخرج ؛ لأن فى الإرسال معنى القول ، أو على إسقاط الخافض ، أي : بأن أخرج ؛ فإنّ صيغ الأفعال سواء فى الدلالة على المصدر ، فيصح أن توصل بها (أَنْ) الناصبة.

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا) ؛ كاليد والعصا ، وسائر معجزاته التسع ، وقلنا له : (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) ؛ بنى إسرائيل ، وفرعون وملأه ؛ (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ؛ من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، أما فرعون وملؤه فظاهر ، وأما بنو إسرائيل فقد كان فرعون فتن جلّهم ، وأضلهم مع القبط ، فكانوا أشياعا متفرقين ، لم يبق لهم دين. فإن قلت : إذا كان موسى عليه‌السلام مبعوثا إلى القبط ، فلم لم يرجع إليهم بعد خروجه عنهم إلى الشام؟ فالجواب : أنه لما بلّغهم الرسالة قامت الحجة عليهم ، فيجب عليهم أن يهاجروا إليه للدين.

ثم أمره بالتذكير فقال : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) : بوقائعه التي وقعت على الأمم الدراجة قبلهم ، وأيام العرب : حروبها. أو ذكّرهم بنعم الله وآلائه ، وبنقمه وبلائه ؛ فالأيام تطلق على المعنيين. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) فى بلائه ، (شَكُورٍ) لنعمائه. وإنما خصه ؛ لأنه إذا سمع ما نزل على من قبله من البلاء ، وأفيض عليهم من النعماء ، اعتبر وتنبه لما يجب عليه من الصبر والشكر. وقيل : المراد لكل مؤمن ، وإنما عبّر عنهم بذلك ؛ تنبيها على أن الصبر والشكر عنوان الإيمان. قاله البيضاوي.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ) : حين أنجاكم (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) : رهطه ، (يَسُومُونَكُمْ) : يولونكم (سُوءَ الْعَذابِ) : أقبحه ، يستعبدونكم ويكلفونكم مشاق الأعمال ، (وَيُذَبِّحُونَ

٤٤

أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) ، قال البيضاوي : المراد بالعذاب هنا غير المراد به فى سورتى البقرة والأعراف ؛ لأنه هناك مفسر بالتذبيح والقتل ، ومعطوف عليه هنا ، فهو هنا إما جنس العذاب ، أو استعبادهم واستعمالهم بالأعمال الشاقة. ه. (وَفِي ذلِكُمْ) الامتحان (بَلاءٌ) أي : ابتلاء (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) ؛ اختبركم به حتى أنقذكم منه ، ليعظم شكركم ، أو : فى ذلك الإنجاء بلاء ، أي : نعمة واختبار عظيم ، لينظر كيف تعملون فى شكر هذه النعمة.

ولذلك قال لهم موسى عليه‌السلام : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) أي : آذن ، بمعنى أعلم ، كتوعّد وأوعد ، غير أنّ تأذن أبلغ من آذن ؛ لما فى تفعّل من التكلف والمبالغة ، أي : أعلمكم ، وقال : والله (لَئِنْ شَكَرْتُمْ) يا بنى إسرائيل ما أنعمت به عليكم من الإنجاء وغيره ، بالإيمان والعمل الصالح ، وبالإقرار باللسان ، وإفراد النعمة للمنعم بالجنان ، (لَأَزِيدَنَّكُمْ) نعمة على نعمة. وهذا الخطاب ، وإن كان لبنى إسرائيل ، يعم جميع الخلق ، والزيادة إما من خير الدنيا ، أو ثواب الآخرة. وشكر الخواص يكون على السراء والضراء ؛ فتكون الزيادة فى الضراء ، إما فى الثواب أو فى التقريب. ثم ذكر ضده فقال : (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ) ما أنعمت به عليكم ، وقابلتموه بالكفر والعصيان ، (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) ؛ فأعذبكم به على كفركم. قال البيضاوي : ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد. ه. فصرح بوصول الزيادة إليهم ، ولم يقل : أعذبكم عذابا شديدا ، بل عظم عذابه فى الجملة.

(وَقالَ مُوسى) ، فى شأن من لم يشكر : (إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) من الثقلين ، (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ) عن شكركم ، (حَمِيدٌ) : محمود على ألسنة خلقه ، من الملائكة وغيرهم. فكل ذرة من المخلوقات ناطقة بحمده ؛ حالا أو مقالا ، فهو غنى أيضا عن حمدكم ، فما ضررتم بالكفر إلا أنفسكم ؛ حيث حرمتموها مزيد الإنعام ، وعرضتموها لشديد الانتقام. وبالله التوفيق.

الإشارة : ذكر الحق تعالى فى هذه الآية مقامين من مقامات اليقين : الصبر والشكر ، ومدح من تخلق بهما واستعملهما فى محلهما ، فيركب أيهما توجه إليه منهما ، ويسير بهما إلى ربه. فالصبر عنوان الظفر ، وأجره لا ينحصر ، والشكر ضامن للزيادة ، قال بعض العارفين : (لم يضمن الحق تعالى الزيادة فى مقام من المقامات إلا الشكر) ، فدل أنه أفضل المقامات وأحسن الطاعات ، من حيث إنه متضمن للفرح بالله ، وموجب لمحبة الله. ولا شك أن مقام الشكر أعلى من مقام الصبر ؛ لأن الشاكر يرى المنن فى طى المحن ، فيتلقى المهالك بوجه ضاحك ؛ لأنه لا يكون شاكرا حقيقة حتى يشكر فى السراء والضراء ، ولا يشكر فى الضراء حتى يراها سراء ، باعتبار ما يواجه به فى حال الضراء من الفتوحات القلبية ، والمواهب اللدنية ، فتنقلب النقمة نعمة. بخلاف مقام الصبر ، صاحبه يتجرع مرارة الصبر ؛ لأنه لم يترق إلى شهود المبلى فى حال بلائه ، ولو ترقى إلى شهوده للذّت لديه البلايا ، كما قال صاحب العينية :

تلدّ لى الآلام ؛ إذ كنت مسقمى

وإن تختبرني فهى عندى صنائع

٤٥

لكن هذه الأحوال تختلف على العبد باعتبار القوة والضعف ؛ فتارة تجده قويا يتلقى المهالك بوجه ضاحك ، وتارة تصادفه الأقدار ضعيفا ؛ فلا يبقى معه إلا الصبر وتجرع مرارة البلاء ، والعياذ بالله. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه فى كتاب القصد : «رأيت كأنى مع النبيين والصديقين ، فأردت الكون معهم ، ثم قلت : اللهم اسلك بي سبيلهم مع العافية مما ابتليتهم ، فإنهم أقوى ونحن أضعف منهم ، فقيل لى : قل : وما قدّرت من شىء فأيّدنا كما أيدتهم».

ثم ذكّرهم بمن سلف قبلهم ، فقال :

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى)

قلت : (شك) : فاعل بالمجرور ، و (فاطر) : نعت له.

يقول الحق جل جلاله ، حاكيا عن نبيه موسى عليه‌السلام فى تذكير قومه ، أو من كلامه ؛ تذكيرا لهذه الأمة : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) : ما جرى عليهم حين عصوا أنبياءهم ؛ (قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) كقوم شعيب ، وأمم كثيرة (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) ؛ لكثرة عددهم ، واندراس آثارهم. ولذلك قال ابن مسعود : كذب النسّابون. (جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ؛ بالمعجزات الواضحات ، (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) ؛ ليعضوا عليها ؛ غيظا مما جاءت به الرسل ، كقوله : (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) (١). أو : وضعوها عليها ؛ تعجبا منهم ، أو : استهزاء بهم ، كمن غلب عليه الضحك. أو إسكاتا للأنبياء ، وأمرا لهم بإطباق الأفواه ، أو : ردوها فى أفواه الأنبياء ، يمنعونهم من التكلم ، أو : ردوا أياديهم ، أي : نعم الأنبياء عليهم ، وهى : مواعظهم والشرائع التي أتوهم بها من عند الله ، ردوها فى أفواه الأنبياء حيث كذبوها ، ولم يعملوا بها ، كما تقول لمن لم يمتثل أمرك : ترك كلامى فى فمى وذهب. (وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ) على زعمكم ، (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا

__________________

(١) من الآية ١١٩ من سورة آل عمران.

٤٦

تَدْعُونَنا إِلَيْهِ) من التوحيد والإيمان ، (مُرِيبٍ) : موقع فى الريبة ، أو : ذى ريبة ، وهو : قلق النفس بحيث لا تطمئن إلى شىء.

فأجابتهم الرسل عن دعواهم الشك فى الربوبية ، (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌ) : أفى وجوده شك ، أو فى ألوهيته ، أو فى وحدانيته شك؟ قال البيضاوي : أدخلت همزة الإنكار على الظرف ؛ لأن الكلام فى المشكوك فيه ، لا فى الشك ، أي : إنما ندعوكم إلى الله ، وهو لا يحتمل الشك ؛ لكثرة الأدلة ، وظهور دلالتها عليه. ه. وأشار إلى ذلك بقوله : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : خالقهما ومبدعهما على هذا الشكل الغريب ، والإتقان العجيب ؛ إذ لا يصدر إلا من إله عظيم القدرة ، باهر الحكمة ، واحد فى ملكه ؛ (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (١) ، وهو (يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان والتوحيد ، ببعثه إيانا ، والتصديق بنا ، (لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) إن آمنتم ، أي : يغفر لكم بعض ذنوبكم ، وهو ما تقدم قبل الإسلام ، ويبقى ما يذنب بعده فى المشيئة ، أو : ما بينكم وبينه دون المظالم.

والجمهور : أنه يغفر للكافر ما سلف مطلقا ، وقيل : (مِنْ) : زائدة ، على غير مذهب سيبويه. قال البيضاوي : وجيئ بمن ، فى خطاب الكفرة ، دون المؤمنين فى جميع القرآن ؛ تفرقة بين الخطابين ، ولعل المعنى فيه أن المغفرة ، حيث جاءت فى خطاب الكفار ، مرتبة على الإيمان ، وحيث جاءت فى خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة ، والتجنب عن المعاصي ، ونحو ذلك ؛ فيتناول الخروج عن المظالم. ه. (وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : إلى وقت سماه الله ، وجعله آخر أعماركم. وقال الزمخشري تبعا للمعتزلة : يؤخركم إن آمنتم إلى آجالكم ، وإن لم تؤمنوا عاجلكم بالهلاك قبل ذلك الوقت ، وهذا على قولهم بالأجلين. وأهل السنة يأبون هذا ؛ فإن الأجل عندهم واحد محتوم ، والله تعالى أعلم.

الإشارة : التفكر والاعتبار أفضل عبادة الأبرار ، وفى الحديث : «تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة». فيتفكر العبد فيما سلف قبله من القرون الماضية والأمم الخالية ، كيف رحلوا عن ديارهم المشيدة ، وفروشهم الممهدة ، واستبدلوها بضيق القبور ، وافتراش التراب تحت الجنوب ، وجاءهم الموت وهم غافلون ، وتجرعوا كأسها وهم كارهون ، فلا ما كانوا أمّلوا أدركوا ، ولا إلى مافاتهم رجعوا ، قدموا على ما قدّموا ، وندموا على ما خلفوا ، ولم ينفع الندم وقد جف القلم. فيوجب هذا التفكر الانحياش إلى الله ، والمسارعة إلى طاعة الله ، والزهد فى هده الدار الفانية ، والتأهب للسفر إلى الدار الباقية ؛ فيفوز فوزا عظيما. وفى تكذيب الصادقين تسلية للعارفين ، وللمتوجهين من المريدين ، إذا قوبلوا بالإيذاء والتكذيب ، وبالله التوفيق.

__________________

(١) من الآية ٢٢ من سورة الأنبياء.

٤٧

ثم ذكر ما أجاب به الكفار رسلهم ، فقال :

(... قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٠) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢))

يقول الحق جل جلاله : وقال الذين كفروا لرسلهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) لا فضل لكم علينا ، فلم تختصون بالنبوة دوننا ، ولو شاء الله أن يبعث رسلا إلى البشر لأرسلهم من جنس أفضل ، كالملائكة ، أو : ما أنتم إلا بشر ، والبشر لا يكون رسولا. قال ابن جزى : يحتمل أن يكون استبعادا لتفضيل بعض البشر على بعض بالنبوة ، أو يكون إحالة لنبوة البشر ، والأول أظهر ؛ لطلبهم البرهان بقولهم : (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) ، ولقول الرسل : (وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ). ه. ثم قالوا للرسل : (تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) من الأصنام بهذه الدعوى ، (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) : ببرهان بيّن يدل على فضلكم ، واستحقاقكم لهذه المرتبة التي هى مرتبة النبوة. كأنهم لم يعتبروا ما جاءوا به من البينات والحجج ، فاقترحوا عليهم آية أخرى ؛ تعنتا ولجاجا.

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ) : ما نحن (إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) بالنبوة والرسالة ، فمنّ علينا بذلك ، وإن كنا بشرا مثلكم ، سلّموا لهم مشاركتهم فى الجنس ، وجعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة فضل الله ومنّه عليهم. وفيه دليل على أن النبوة مواهب عطائية لا كسبية. ثم أجابوهم عما اقترحوا بقولهم : (وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ، فليس لنا الإتيان بآيات ، ولا فى قدرتنا أن نأتيكم بما اقترحتموه ، وإنما هو أمر متعلق بمشيئة الله ، يخص من يشاء بها ، على ما تقتضيه حكمته وسابق إرادته.

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) ، فلنتوكل نحن عليه ، فى الصبر على معاناتكم ومعاداتكم. عمموا الأمر بذكر المؤمنين ؛ للإشعار بأن الإيمان موجب للتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا ، ألا ترى قولهم : (وَما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ) أي : أىّ عذر لنا فى ترك التوكل على الله؟ (وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا) أي : طرقنا التي نعرفه بها ، فنوحده ، ونعلم أن الأمور كلها بيده ، (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) : على أذاكم حتى يحكم الله بيننا ، وهو جواب عن قسم محذوف ، أكدوا به توكلهم ، وعدم مبالاتهم بما يجرى من الكفار عليهم. (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) أي : فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم ، المسبب عن إيمانهم. قاله البيضاوي تبعا للزمخشرى.

٤٨

قال ابن جزى : إن قيل : لم كرر الأمر بالتوكل؟ فالجواب عندى : أن قوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) راجع إلى ما تقدم من طلب الكفار : (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : حجة ظاهرة ، فتوكل الرسل فى ورود ذلك إلى الله. وأما قوله : (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) فهو راجع إلى قولهم : (وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا) أي : نتوكل على الله فى دفع أذاكم. ه. وهو حسن ، لكن التعبير بالمتوكلين يقتضى أن التوكل حاصل ، والمطلوب الدوام عليه ، وقد يقال : إنما عبّر ثانيا بفظ المتوكلين ؛ كراهية إعادة اللفظ بعينه ، أي : من كان متوكلا على الله فإنه الحقيق بذلك. وقال فى القوت : أي : ليتوكل عليه فى كل شىء من توكل عليه فى شىء. وهذا أحسن وجوهه. قال فى الحاشية : والوجه الآخر : وعليه فليتوكل ، فى توكله من توكّل عليه فى الأشياء ؛ لأن الوكيل فى كل شىء واحد ، فينبغى أن يكون التوكل فى كل شىء واحد. ه.

الإشارة : سر الخصوصية مستور بأوصاف البشرية ، ولا فرق بين خصوصية النبوة ، والولاية. سترها الحق تعالى غيرة عليها أن يعرفها من لا يعرف قدرها ؛ فلا يطلع عليها إلا من سبقت له من الله العناية ، وهبت عليه ريح الهداية. وفى الحكم : «سبحان من ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية ، وظهر بعظمة الربوبية فى إظهار العبودية». وقال أيضا : «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه». قال فى لطائف المنن : فأولياء الله أهل كهف الإيواء ، فقليل من يعرفهم ، ولقد سمعت شيخنا أبا العباس المرسى رضي الله عنه يقول : معرفة الولي أصعب من معرفة الله ؛ فإن الله معروف بكماله وجماله ، وحتى متى تعرف مخلوقا مثلك ، يأكل كما تأكل ، ويشرب كما تشرب؟ قال فيه : وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته ، وأشهدك وجود خصوصيته. ه.

قلت : ومعنى : «طوى عنك وجود بشريته» هو : عدم الوقوف مع أوصافها اللازمة للنقائص ، بل تنفذ منها إلى شهود خصوصيته ، التي هى محل الكمالات. فأوصاف البشرية الذاتية للبشر لا تزول عن الولي ، ولا عن النبي كالأكل والشرب ، والنوم والنكاح ، والضعف والفقر ، وغير ذلك من نعوت البشر ؛ لأنها فى حقهم رداء وصوان لستر خصوصيتهم ؛ صيانة لها أن تتبدل بالإظهار ، وينادى عليها بلسان الاشتهار ، ولذلك اختفوا عن كثير من الخلق. وإلى هذا أشار فى الحكم بقوله : «لا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم البشرية».

وقال صاحب كتاب (أنوار القلوب) : لله سبحانه عباد ضنّ بهم عن العامة ، وأظهرهم للخاصة ، فلا يعرفهم إلا شكل ، أو محب لهم ، ولله عباد ضنّ بهم عن الخاصة والعامة ، ولله عباد يظهرهم فى البداية ويسترهم فى النهاية ، ولله عباد يسترهم فى البداية ويظهرهم فى النهاية ، ولله عباد لا يظهر حقيقة ما بينه وبينهم إلى الحفظة فمن سواهم ، حتى يلقوه بما أودعهم منه فى قلوبهم ، وهم شهداء الملكوت الأعلى ، والصفح (١) الأيمن من العرش ؛ الذين

__________________

(١) الصفح : الجنب.

٤٩

يتولى الله قبض أرواحهم بيده ، فتطيب أجسادهم به ، فلا يعدوا عليها الثرى ، حتى يبعثوا بها مشرقة بنور البقاء الأبد مع الباقي الأحد عزوجل. ه.

وقال أبو يزيد رضي الله عنه : أولياء الله تعالى عرائس ، ولا يرى العرائس إلا من كان محرما لهم ، وأما غيرهم فلا. وهم مخبأون عنده فى حجاب الأنس ، لا يراهم أحد فى الدنيا ولا فى الآخرة. ه. وجميع ما أجاب به الأنبياء قومهم يجيب به الأولياء من أنكر عليهم ، من قوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا) ، من التعلق بالأسباب والانهماك فى الحظوظ ، ومتابعة الهوى ، وحب الدنيا ، ومن قولهم : (فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) إلى تمام ما أجابوا به. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر تخويف الكفار للرسل بإخراجهم من الديار ، فقال :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧))

قلت : (وَاسْتَفْتَحُوا) : معطوف على (فَأَوْحى) ؛ إن كان الضمير للرسل ، واستئناف إن كان للكفار. و (يُسْقى) : معطوف على محذوف ، أي : يلقى فيها ويسقى ، و (صَدِيدٍ) : عطف بيان لماء ، و (يَتَجَرَّعُهُ) : صفة لماء ، أو حال من ضمير (يُسْقى).

يقول الحق جل جلاله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ) ؛ تخويفا لهم : والله (لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) ، حلفوا ليكونن أحد الأمرين ؛ إما إخراج الرسل من ديارهم ، أو عودهم إلى ملتهم ، والعود هنا بمعنى الصيرورة ؛ لأنهم لم يكونوا على ملتهم ، كما تقدم فى قصة شعيب عليه‌السلام. ويجوز أن يكون الخطاب لكل رسول ، ولمن آمن معه ، فغلّب الجماعة على الواحد ، وقال الذين كفروا فى كل عصر لكل رسول أتاهم : لنخرجنك ، أو لتعودن فى ملتنا. (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أي : إلى رسلهم ، مجتمعين أو مفترقين ـ على القولين ـ وقال فى إيحائه : والله (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) فتخلى بلادهم ، (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : أرضهم وديارهم ،

٥٠

لقوله : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) (١). (ذلِكَ) الميراث والإسكان (لِمَنْ خافَ مَقامِي) أي : قيامه للحساب بين يدى فى القيامة ، أو قيامى على عبادى ، وحفظى لأعمالهم ، واطلاعى على سرهم وعلانيتهم. أو خاف عظمة ذاتى وجلالى ، (وَخافَ وَعِيدِ) أي : وعيدي بالعذاب ، أو عذابى الموعود للكفار.

(وَاسْتَفْتَحُوا) أي : استفتح الرسل : طلبوا من الله الفتح على أعدائهم ، أو القضاء بينهم وبين أعاديهم ، كقوله : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) (٢) ؛ واستفتح الكفرة واستنصروا على غلبة الرسل ، على نحو قول أبى جهل فى غزوة بدر : اللهم ، أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا يعرف ، فأحنه الغداة ، أي : أهلكه. أو : استفتح الفريقان معا ، فكل واحد منهما سأل الله أن يهلك المبطل وينصر المحق. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن : بكسر التاء ؛ على الأمر للرسل بطلب الفتح. (وَخابَ) : خسر (كُلُّ جَبَّارٍ) : متكبر على الله ، (عَنِيدٍ) : معاند للحق ولمن جاء به. وهذا هو الفتح الذي فتح لهم ، وهو : خيبة المتكبرين وفلاح المؤمنين.

ثم ذكر مآل خيبتهم بقوله : (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) أي : أمامه وبين يديه ، فإنه مرصد بها ، واقف على شفيرها فى الدنيا ، مبعوث إليها بعد الموت فيلقى فيها ، (وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ) ، وهو ما يسيل من جلود الكفار من القيح والدم. (يَتَجَرَّعُهُ) : يتكلف جرعه ، أي : زهوقه فى حلقه. روى : «أن الكافر يؤتى بالشربة منه فيتكرهها ، فإذا أدنيت منه شوت وجهه ، وسقطت فيها فروة رأسه ، فإذا شربها قطعت أمعاءه» (٣). فيتجرعه (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) أي : لا يقارب أن يسيغه ، أي : يبتلعه بصعوبة فكيف يسيغه ، بل يكلف به ويطول عذابه ثم يبتلعه ؛ لأن نفى «كاد» يقتضى الوقوع. والسوغ : جواز الشراب على الحلق بسهولة ، وهذا بخلافه. (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ) أي : أسباب الموت (مِنْ كُلِّ مَكانٍ) ؛ من أجل الشدائد التي تحيط به من جميع الجهات. أو : من كل مكان من جسده حتى من أصول شعره وإبهام رجليه. (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) فيستريح ، (وَمِنْ وَرائِهِ) : من بين يديه (عَذابٌ غَلِيظٌ) أي : يستقبل فى كل وقت عذابا أشد مما هو عليه ، وقيل : هو الخلود فى النار ، وقيل : حبس الأنفاس فى الأجساد. قاله الفضيل بن عياض. وقيل : قوله : (وَاسْتَفْتَحُوا) : كلام منقطع عن قصة الرسل ، بل نزل فى أهل مكة حين استفتحوا بطلب المطر فى السنة التي أخذتهم بدعوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخيب الله رجاءهم ولم يسقهم ، وأوعدهم أن يسقيهم ـ بدلا من سقياهم المطر ـ صديد أهل النار. قال معناه البيضاوي.

__________________

(١) من الآية ١٣٧ من سورة الأعراف.

(٢) من الآية ٨٩ من سورة الأعراف.

(٣) أخرجه أحمد فى المسند (٥ / ٢٦٥) والترمذي فى (أبواب صفة جهنم ، باب ما جاء فى صفة شراب أهل النار) والحاكم فى المستدرك (٢ / ٣٥١) وصححه ووافقه الذهبي ، عن أبى أمامة مرفوعا.

٥١

الإشارة : ما خوّفت الكفار به رسلهم خوفت به العوام فقراءهم وأولياءهم ، قال التجيبى ، فى الإنالة ، لما تكلم على خفاء الأولياء ، قال : ومعلوم أن العصمة لم تثبت إلا للنبيين والرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وأنّ غيرهم يصيب ويخطئ ، ويذنب ويتوب ، لكن لما سطرت مناقب الرجال ، وكراماتهم ، ولم تذكر سيئاتهم ، وطال العهد بهم ، ظن أكثر الخلق أن ليس لهم سيئات ، وقد كان لهم فى أزمانهم المحب والمبغض ، والمسلّم والمنتقد. ثم قال : فمن يرضى يقول أحسن ما يعلم ، ومن يسخط يقول أقبح ما يعلم ، وقد رأى أولئك فى أزمانهم من الأذى والتنقص ، وإساءة الظن بهم ما كان يقصر عنه صبر غيرهم ، وقد أخرج أبو يزيد البسطامي من بسطام مرارا ، ورفع الشبلي والخواص والنوري للسلطان ، وتستر الجنيد بالفقه حين ضيّق على الفقراء ، وقبض على الحلاج ، وضرب ، ومثّل به ، على أنه ساحر زنديق. ه. المراد منه.

قلت : وقد وقع بنا فى مدينة تطوان أيام التجريد أمثال هذا ، فقد خوفنا بالضرب مرارا ، وسجنا وأخرجنا من زاويتنا ، وقال لنا محتسبهم : والله لنخرجنكم من مدينتنا ، ونركبكم فى سفينة إلى بر النصارى ، فقلت له : حبا وكرامة ، ولعلنا نذكرهم الله حتى يسلموا ، ولما وصل الخبر بهذه المقالة إلى شيخنا ، كتب لنا بهذه الآية : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ ....) إلخ. وكل آية فى الكفار تجر ذيلها على من تشبه بهم ، وإن كان مسلما. وبالله التوفيق.

ثم ضرب مثلا لعمل الكفار ، فقال :

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨))

قلت : (مَثَلُ) : مبتدأ ، والخبر محذوف عند سيبويه ، أي : فيما يتلى عليكم مثلهم. وقال الفراء : الخبر ما بعده ، وهو جملة : (أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ) ، أو (أَعْمالُهُمْ) : بدل ، والخبر : (كَرَمادٍ) ، وعلى قول سيبويه تكون جملة : (أَعْمالُهُمْ) : مستأنفة لبيان مثلهم.

يقول الحق جل جلاله : (مَثَلُ) أعمال (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) ؛ فى عدم الانتفاع بها وذهابها : (كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ) فى الهوى بسرعة (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) : شديد ريحه. والعصف : اشتداد الريح. وصف به زمانه ؛ للمبالغة ، كقولهم : نهاره صائم ، وليله قائم. شبه صنائعهم ؛ من الصدقة ، وصلة الرحم ، وإغاثة الملهوف ، وعتق الرقاب ، ونحو ذلك من مكارمهم ؛ فى حبوطها ـ لبنائها على غير أساس من الإيمان بالله ، والتوجه بها إليه ـ بغبار طارت به الريح العاصفة (فِي يَوْمٍ عاصِفٍ ، لا يَقْدِرُونَ) يوم القيامة (مِمَّا كَسَبُوا) من أعمالهم (عَلى شَيْءٍ) من الانتفاع بها ؛ لحبوطها ، وتلاشيها ، فلا يقدرون منها على شىء ، ولا يجدون ثوابها ،

٥٢

وحيل بينهم وبين النفع ، كما حالت الرياح بينك وبين ما تنسفه ، فهو كما قيل : فذلكة التمثيل. (ذلِكَ) ؛ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون ، (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) أي : هو الغاية فى البعد عن طريق الحق.

الإشارة : العمل الذي يثبت لصاحبه هو الذي يصحبه الإخلاص فى أوله ، والإسرار فى آخره ، والتبري فيه من الحول والقوة ، وفى الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الإبقاء على العمل أشدّ من العمل ، وإنّ الرجل ليعمل العمل فيكتب له عمل صالح ، معمول به فى السر ، يضعّف أجره بسبعين ضعفا ، فلا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس ويعلنه ، فيكتب علانيته ، ويمحى تضعيف أجره كله ، ثم لا يزال به الشيطان حتى يذكره للناس ويحب أن يحمد عليه ، فيمحى من العلانية ويكتب رياء ، فاتقى الله امرؤ صان دينه ، وإن الرياء شرك». رواه البيهقي (١).

وبهذا تظهر فضيلة عمل القلوب ، كعبادة التفكر والاعتبار ، أو الشهود والاستبصار ، أو نية صالحة وهدى صالح ، أو زهد فى القلب ، وورع وصبر ، وشكر وحلم ، وغير ذلك من أعمال القلوب ، التي لا يطلع عليها ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده ، بل يتولى جزاءه أكرم الأكرمين. ولذلك قيل : ذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح. وقال عليه الصلاة والسلام : «تفكر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة» ولهذا أمر به ـ أي : بالتفكر ـ بعد ضرب المثل للعمل الظاهر ، فقال :

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠))

يقول الحق جل جلاله : (أَلَمْ تَرَ) يا محمد ، أو أيها السامع ، (أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) ؛ لتدل على الحق ، أو بالوجه الذي يحقّ أن تخلق لأجله ، وهو التعريف بخالقها ، وبقدرته الباهرة التي تقدر على الإيجاد والإعدام ، ولذلك قال : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) ، أي : إن يشأ يعدمكم ويستبدل مكانكم خلقا آخر. فإنّ من قدر على إيجاد صورهم ، وما تتوقف عليه مادتهم ، قادر على أن يبدلهم بخلق آخر ؛ (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) أي : بمتعذر ، أو ممتنع ؛ لأن قدرته عامة التعلق ، لا تختص بمقدور دون آخر ، ومن كان هذا شأنه كان حقيقا بأن يفرد بالعبادة والقصد ؛ رجاء لثوابه ، وخوفا من عقابه يوم الجزاء ، الذي أشار إليه بقوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ ...) إلخ.

__________________

(١) فى شعب الإيمان (باب فى إخلاص العمل لله وترك الرياء ح ٦٨١٣ ، ح ٦٨٦٤) من حديث أبى الدرداء ، مرة بلفظ (إن الإبقاء) ومرة بلفظ «إن الاتقاء».

٥٣

الإشارة : ألم تر أن الله خلق سماوات الأرواح ، لشهود الحق فى مقام التعريف ، وأرض النفوس لعبادة الحق فى مقام التكليف. الأرواح مستقرها سماء الحقائق ، والأشباح مقرها أرض الشرائع. عالم الأرواح محل التعريف ، وعالم الأشباح محله التكليف. والأرواح لا تنفك عن الأشباح فى الصورة الخلقية ، غير أنها تعرج عنها بالتصفية والذكر ، حتى تترقى إلى عالم الأرواح ، فلا تشهد إلا الأرواح فى محل الأشباح ؛ وهذا من أعظم أسرار الربوبية ، التي يطلع عليها العارفون بالله ، فإذا أطلعهم الله على هذا المقام ؛ كوشفوا بأسرار الذات العلية ، وبعالم الأرواح الذي هو مظهر أرواح الأنبياء والرسل ، فلا يغيبون عن الله ساعة ، ولا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا عن مقام أرواح الأنبياء والأولياء. وفى هذا المقام قال الشيخ أبو العباس المرسى رضي الله عنه : لى ثلاثون سنة ، ما غاب عنى الحق طرفة عين. وقال أيضا : لو غاب عنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساعة ما عددت نفسى من المسلمين. وقال شيخ شيوخنا سيدى على الجمل العمراني رضي الله عنه : مما منّ الله به علىّ أنى ما ذكرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا خطر على قلبى إلا وجدتني بين يديه ... إلخ كلامه. نفعنا الله بهم.

وأهل هذا المقام موجودون فى كل زمان ، فإن القادر فى زمانهم هو القادر فى زماننا ، وفى قوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ ..) الآية ، إشارة إلى هذا ، أي : إن يشأ يذهبكم عن شهود أنفسكم ، ويأت بخلق جديد ، تشاهدون به أسرار ربكم ، وما ذلك على الله بعزيز. قال أبو المواهب التونسى رضي الله عنه : حقيقة الفناء محو واضمحلال ، وذهاب عنك وزوال. ه. فيبرزون من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح ، كما قال تعالى :

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١))

قلت : (تَبَعاً) : جمع تابع ، أو مصدر نعت به ؛ للمبالغة على حذف مضاف ، أي : كنا لكم ذا تبع ، و (مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) : من ، الأولى ؛ للبيان ، والثانية زائدة ، هذا المختار. و (مَحِيصٍ) : إما مصدر ، أو اسم مكان.

يقول الحق جل جلاله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ) أي : لأمر الله (جَمِيعاً) ، فيبرزون من قبورهم يوم القيامة حفاة عراة ، لفصل القضاء ، أو : برزوا لله على ظنهم ؛ فإنهم كانوا يرتكبون الفواحش خفية ، ويظنون أنها تخفى على الله ، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله عند أنفسهم. وإنما عبّر بالماضي ؛ لتحقق وقوعه. فيقول حينئذ (الضُّعَفاءُ) وهم : الأتباع ، لضعف رأيهم عندهم ، (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) وهم الرؤساء الذين استتبعوهم وغووهم : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ

٥٤

تَبَعاً) فى الكفر ، وتكذيب الرسل ، والإعراض عن نصحهم ، (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) أي : فهل أنتم دافعون عنا شيئا من عذاب الله؟.

(قالُوا) ، أي : رؤساؤهم ، فى جوابهم واعتذارهم : (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) أي : لو هدانا الله للإيمان ، ووفقنا إليه لهديناكم ، ولكن ضللنا فأضللناكم ، أي : اخترنا لكم ما اخترنا لأنفسنا ، ولو هدانا الله لطريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنيناه عنكم ، لكن سدّ دوننا طريق الخلاص ، (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) ، أي : مستو علينا الجزع والصبر ، (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) : من مهرب ومنجى ، ويحتمل أن يكون قوله : (سَواءٌ عَلَيْنا ..) إلخ ، من كلام الفريقين معا ، ويؤيده ما روى أنهم يقولون : تعالوا نجزع ، فيجزعون خمسمائة عام ، فلا ينفعهم ، فيقولون : تعالوا نصبر ، فيصبرون كذلك ، ثم يقولون : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ). نسأل الله العصمة بمنّه وكرمه.

الإشارة : إذا ترقى العارفون ، ومن تعلق بهم ، عن عالم الأشباح إلى عالم الأرواح ، وبرزوا لشهود الله فى كل شىء ، وقبل كل شىء ، وبعد كل شىء ، وعند كل شىء ، وتنزهوا فى حضرة الأسرار ، ورفعوا يوم القيامة مع المقربين الأبرار ، بقي ضعفاء اليقين ؛ الذين تعوقوا عن صحبتهم ، فى غم الحجاب ، وتعب الحس والخواطر ، مسجونين فى سجن الأكوان ، فيقولون لمن عوّقهم عن صحبة العارفين من أهل الرئاسة والجاه : إنا كنا لكم تبعا ، فهل تمنعون شيئا مما نحن فيه من غم الحجاب ، وسقوط الدرجة؟ فيقولون : لو هدانا الله لصحبتهم لهديناكم. فإذا نظروا يوم القيامة إلى ارتفاع درجاتهم ضجوا ، وفزعوا على ما فاتهم ، فلا ينفعهم ذلك ؛ فما لهم من محيص عن تخلفهم عن مقام المقربين. روى أن أهل عليين إذا أشرفوا على الأسفلين تشرق منازلهم من أنوار وجوههم. وسيأتى ـ إن شاء الله ـ الحديث عند قوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١).

ثم ذكر خطبة الشيطان على أهل النار ، فقال :

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢))

قلت : (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) : الاستثناء منقطع ، ويجوز الاتصال ، و (بِما أَشْرَكْتُمُونِ) : مصدرية ، أو موصولة اسمية ، و (مِنْ قَبْلُ) : يتعلق بأشركتمون ، وعلى الثاني : بكفرت.

__________________

(١) الآية ١٧ من سورة السجدة.

٥٥

يقول الحق جل جلاله : (وَقالَ الشَّيْطانُ) ، أي : إبليس الأقدم (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) أي : أمر الحساب ، وفرغ منه ، ودخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار. روى أنه ينصب له منبر من نار ، فيقوم خطيبا فى النار على أهل النار ، يعنى على الأشقياء من الثقلين ، فيقول فى خطبته : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ) ، أي : وعدا حقا أنجزه لكم ، وهو وعد البعث والجزاء ، (وَوَعَدْتُكُمْ) وعد الباطل ، وهو : ألّا بعث ولا حساب ، وإن كان واقعا شىء من ذلك فالأصنام تشفع لكم ، (فَأَخْلَفْتُكُمْ) ، أي : فظهر خلاف ما وعدتكم ، جعل تبين خلف وعده كالإخلاف منه ؛ مجازا. (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) ؛ من تسلط ، فألجئكم إلى الكفر والمعاصي ، (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) ؛ إلا دعائى إياكم إليها بتسويل وتزيين ، (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) ، وهو ليس من جنس التسلط ، لكنه تهكم بهم ، على طريقة قوله :

تحيّة بينهم ضرب وجيع (١).

ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا ، أي : ما تسلطت عليكم بالقهر ، لكن دعوتكم فأسرعتم إجابتى ، (فَلا تَلُومُونِي) ؛ فإنّ من اشتهر بالعداوة لا يلام على أمثال ذلك ، (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ؛ حيث أطعتمونى حين دعوتكم ، ولم تطيعوا ربكم لما دعاكم. ولا حجة للمعتزلة فى الآية على أن العبد يخلق أفعاله ؛ لأن كسب العبد مقدر فى ظاهر الأمر ، لقيام عالم الحكمة ، وهو رداء لعالم القدرة ، فالقدرة تبرز ، والحكمة تستر ، وهو ما يظهر من اختيار العبد ، ولا اختيار له فى الحقيقة ؛ قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) (٢) ، (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٣).

ثم قال لهم : (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) : بمغيثكم من العذاب ، (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ) : بمغيثي ، (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) ، أي : إنى كفرت اليوم بإشراككم إياى من قبل هذا اليوم فى دار الدنيا ، بمعنى : تبرأت منه واستنكرته ، كقوله تعالى : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) (٤). أو : إنى كفرت بالله الذي أشركتمونى معه فى طاعته من قبل ، حين امتنعت من السجود. والأول أظهر.

قال تعالى : (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ). ويحتمل أن يكون من تتمة خطبة الشيطان ، قال البيضاوي : وفى حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين ، وإيقاظ لهم ، حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم. ه.

الإشارة : ينبغى لك أيها العبد الصالح الناصح لنفسه أن تصغى بسمع قلبك إلى هذه المقالة ، التي تصدر من الشيطان عند فوات الأوان ، فتبادر إلى خلاص نفسك مادمت فى قيد حياتك ، قبل حلول رمسك (٥) ، قبل أن تزل

__________________

(١) عجز بيت أوله : وخيل قد دلفت ، لها نجيع.

(٢) من الآية ١١٢ من سورة الأنعام.

(٣) من الآية ٣٠ من سورة الإنسان ، ومن الآية ٢٩ من سورة التكوير.

(٤) من الآية ١٤ من سورة فاطر.

(٥) أي : دخول القبر.

٥٦

بك القدم ، حيث لا ينفعك الندم ، فتحاسب نفسك ، وتتدبر فى عواقب أمرك ، وتصحح عقائد توحيدك ، وتعمل جهدك فى طاعة ربك ، وتجتنب مواقع غرور الشيطان ، وتعتمد على فضل الكريم المنان ، وتجعل الموت نصب عينيك ، وما هو مستقبل تجعله حاصلا ، وما هو متوقع تجعله واقعا ؛ فكل ما هو آت قريب ، و (إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) (١). وفى الحكم : «لو أشرق نور اليقين فى قلبك لرأيت الآخرة أقرب من أن ترحل إليها ، ولرأيت محاسن الدنيا وكسفة الفناء ظاهرة عليها». وبالله التوفيق.

ثم شفع بأضداد من غرّهم الشيطان ، فقال :

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣))

يقول الحق جل جلاله : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا) ، أي : أدخلهم الله على أيدى الملائكة (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) ، فيدخلونها (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ؛ بأمره ، فيأذن للملائكة أن تدخلهم حين يقضى بينهم. (تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ) أي : تحييهم الملائكة ، أو الخدام ، حين يتلقونهم يسلمون عليهم ، ويهنؤنهم ، على ما فى الحديث.

الإشارة : فى ذكر هذه الآية بعد خطبة الشيطان تنبيه على وجه الخلاص منه ، حتى لا يكون من أهل خطبته ، وهو تصحيح الإيمان وتقوية مواده ، وهو ما ذكرنا قبل فى مواد طمأنينة أهل الإيمان. وإن أسعده الله بصحبة عارف رقّاه إلى شهود العيان ، فلا يكون للشيطان ولا لغيره عليه سلطان ، لتحقيق عبوديته ، وارتقائه إلى شهود عظمة ربوبيته ؛ قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (٢) ، وهم الذين رسخت فى قلوبهم شجرة الإيمان ، وارتفعت أغصانها إلى الرحمن ، الذي أشار إليها بقوله :

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ

__________________

(١) من الآية ١٣٤ من سورة الأنعام.

(٢) من الآية ٤٢ من سورة الحجر.

٥٧

(٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))

قلت : (كَلِمَةً طَيِّبَةً) : يجوز أن يكون مفعولا بمحذوف ، أي : جعل كلمة ، وتكون الجملة تفسيرية لضرب المثل ، وأن تكون (كَلِمَةً) : بدلا من (مَثَلاً) ، و (شجرة) : صفة لها ، أو خبرا عن مضمر ، أي : هى شجرة.

يقول الحق جل جلاله : (أَلَمْ تَرَ) يا محمد ، أو أيها السامع ، (كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) لأهل «لا إله إلا الله» ، وهم : أهل التوحيد ، الذين رسخ التوحيد فى قلوبهم ، وعبّروا عنه بألسنتهم. فمثال الكلمة الطيبة التي نطقوا بها ، ورسخ معناها فى قلوبهم ؛ (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) : كالنخلة مثلا ، (أَصْلُها ثابِتٌ) فى الأرض ، غائص بعروقه فيها ، (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) ؛ أي : أعلاها. أو يريد الجنس ، أي : فروعها وأفنانها فى السماء ، (تُؤْتِي أُكُلَها) : تعطى ما يؤكل من ثمرها (كُلَّ حِينٍ) وقّته الله لإثمارها ، فقيل : سنة ، وبه قال ابن عباس وجماعة من المفسرين والفقهاء ، واستدلوا بها على من حلف لا يكلم أخاه حينا لزمه سنة ، وعن ابن عباس أيضا والضحاك وغيرهما : (كُلَّ حِينٍ) ؛ أي : غدوة وعشية ، ومتى أريد جناها. قلت : وهذا هو الظاهر.

واختلف فى هذه الشجرة الطيبة ، التي ضرب الله بها المثل لكلمة الإخلاص ، فقيل : غير معينة ، وقيل : النخلة ، وبه قال الجمهور. قال الشطيبى : وقيل : جوزة الهند ، فإنها ثابتة الأصل ، متصلة النفع ، يكون طعمها أولا لبنا ، ثم عسلا ، ثم تنعقد طعاما ، ويصنع بلبنها ما يصنع بلبن المواشي ، ثم يكون كالخل ، ثم كالخمر ، ثم كالزيت ، كل هذا قبل عقد الطعم ، وأما النخلة فهى : ستة أشهر طلع رخص ، وستة أشهر رطب طيب ، فنفعه متصل. وقال أبو حنيفة : إنه ببلاد اليمن نوع من التمر ، يقال له : الباهين ، يطعم السنة كلها. ه. قلت : وقد ذكر ابن مقشب جوزة الهند ، ووصفها كما قال الشطيبى ، وقوله : «فى النخلة ستة أشهر ..» إلخ ، فيه نظر ، وصوابه : ثلاثة ، فإن المعاينة ترده.

والمشبه بهذه الشجرة : المؤمن الكامل الدائم نفعه ، المتصل علمه ، أوقاته معمورة بذكر الله ، أو تذكير عباد الله ، وحركاته وسكناته فى طاعة الله ، حيث أراد بها وجه الله ، فكل حين وساعة يصعد منه عمل إلى الله.

ثم قال تعالى : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ؛ لأن فى ضربها زيادة إيضاح وإفهام وتذكير ؛ فإنه تصوير للمعانى وتقريبها من الحس ، لتفهم سريعا.

ثم ذكر ضدها فقال : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) ؛ كلمة الكفر (كَشَجَرَةٍ) كمثل شجرة ؛ (خَبِيثَةٍ) ، كالحنظلة مثلا ، (اجْتُثَّتْ) : استؤصلت ، وأخذت جثتها ، وقلعت بالكلية (مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) ، أي : قطعت من فوق الأرض ؛ لأن عروقها قريبة منه ، (ما لَها مِنْ قَرارٍ) : استقرار. وهذا فى مقابلة قوله : (أَصْلُها ثابِتٌ). قال البيضاوي :

٥٨

واختلف فى الكلمة والشجرة ؛ ففسرت الكلمة الطيبة بكلمة التوحيد ـ أي : (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ، ودعوة الإسلام والقرآن ، والكلمة الخبيثة بالإشراك بالله تعالى ، والدعاء إلى الكفر ، وتكذيب الحق. ولعل المراد بهما ما يعم ذلك ، فالكلمة الطيبة : ما أعرب عن حق ، أو دعا إلى صلاح ، والكلمة الخبيثة : ما كان على خلاف ذلك. وفسرت الشجرة الطيبة بالنخلة ، وروى ذلك مرفوعا ، وبشجرة فى الجنة ، والخبيثة بالحنظلة ، ولعل المراد بهما أيضا ما يعم ذلك. ه.

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) وهو : لا إله إلا الله ، أو كل ما يثبت فى القلب ، ويتمكن فيه من الحق ، بالحجة الواضحة (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) مدة حياتهم ، فلا يزلون إذا افتتنوا فى حياتهم ، أو عند موتهم ، وهى حسن الخاتمة ، (وَفِي الْآخِرَةِ) عند السؤال ، فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم فى القبر ، وعند الموقف ، فلا تدهشهم أهوال القيامة. روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال : «ثمّ تعاد روحه فى جسده ، فيأتيه ملكان ، فيجلسانه فى قبره ، ويقولان له : من ربّك ، وما دينك ، ومن نبيّك؟ فيقول : ربى الله ، ودينى الإسلام ، ونبيى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فينادى مناد من السّماء : أن صدق عبدى. فذلك قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ)» (١). قلت : والقدرة صالحة لهذا كله. قال الغزالي : هو أشبه شىء بحال النائم.

(وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتقليد ، فلا يهتدون إلى الحق ، ولا يثبتون فى مواقف الفتن. (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) ؛ من تثبيت بعض ، وإضلال آخرين ، من غير اعتراض عليه ولا تعقيب لحكمه.

الإشارة : الكلمة الطيبة ، هى كلمة التوحيد ، والشجرة الطيبة هى شجرة الإيمان ، وأصلها هو : التوحيد الثابت فى القلب ، وفروعها : الفرائض والواجبات ، وأغصانها : السنن المؤكدات ، وأوراقها : المندوبات والمستحبات ، وأزهارها : الأحوال والمقامات ، وأذواقها : الوجدان وحلاوة المعاملات ، وانتهاء طيب أثمارها : العلوم وكشف أسرار الذات ، الذي هو مقام الإحسان ، وهى معرفة الشهود والعيان. فمن لم يبلغ هذا المقام لم يجن ثمرة شجرة إيمانه. ومن نقص شيئا من هذه الفروع نقص بقدرها من شجرة إيمانه ، إمّا من فروعها ، أو من أغصانها ، أو من ورقها ، أو من حلاوة أذواقها ، أو من عرف أزهارها ، أو من طيب ثمرتها. ومعلوم أن الشجرة إذا نبتت بنفسها فى الخلاء ، ولم تلقّح كانت ذكّارة ، تورق ولا تثمر ، فهى شجرة إيمان من لا شيخ له يصلح للتربية ، فإن الفروع والأوراق كثيرة ، والثمار ضعيفة ، أىّ ريح هاج عليها أسقطها. وراجع ما تقدم فى إشارة قوله تعالى : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) (٢). وبالله التوفيق.

__________________

(١) أخرجه بنحوه مطولا أبو داود فى (السّنة ، باب المسألة فى القبر) والحاكم فى المستدرك (١ / ٣٧) وصححه من حديث البراء بن عازب. وأصل الحديث فى الصحيحين.

(٢) من الآية ٣٥ من سورة المائدة.

٥٩

ثم ذكر وبال من أنكر هذه النعمة ـ أعنى نعمة الإيمان ـ فقال :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠))

يقول الحق جل جلاله : (أَلَمْ تَرَ) يا محمد (إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا) شكر (نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) ؛ بأن وضعوا الكفر مكان الشكر ، أو : بدلوا نفس النعمة كفرا ؛ فإنهم لما كفروها سلبت منهم ، فصاروا تاركين لها محصلين للكفر مكانها ؛ كأهل مكة ، خلقهم الله من نسل إسماعيل عليه‌السلام ، وأسكنهم حرمه ، وجعلهم خدّام بيته ، ووسّع عليهم أبواب رزقه ، وعطف عليهم قلوب خلقه ، وتمم شرفهم ببعثة نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكفروا ذلك ، فقحطوا ، وجاعوا حتى أكلوا الميتة ، وأسروا وقتلوا يوم بدر ، وصاروا كذلك مسلوبى النعمة ، موصوفين بالكفر ، وعن عمر بن الخطاب وعلىّ بن أبى طالب ـ رضى الله عنهما ـ : أنها نزلت فى الأفجرين من قريش : بنى المغيرة ، وبنى أمية ؛ فأمّا بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتّعوا إلى حين. (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ) : من أطاعهم فى الكفر والتبديل ، أي : أنزلوهم (دارَ الْبَوارِ) : دار الهلاك ، بحملهم على الكفر معهم. ثم فسرها بقوله : (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) : يحترقون فيها ، (وَبِئْسَ الْقَرارُ) ؛ وبئس المستقر جهنم.

ثم بيّن كفرهم ، فقال : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) : أشباها وأمثالا ، يعبدونها معه ، (لِيُضِلُّوا) (١) (عَنْ سَبِيلِهِ) ؛ عن طريق التوحيد ، أي : ليكون عاقبتهم الضلال أو الإضلال ، على القراءتين ، أي : ليضلوا فى أنفسهم ، أو ليضلوا غيرهم. وليس الضلال أو الإضلال كان غرضهم فى اتخاذ الأنداد ، ولكن لمّا كان نتيجته وعاقبته جعل كالغرض. (قُلْ تَمَتَّعُوا) بشهواتكم الدنيوية ، فإنها فانية ، أو بعبادتكم الأوثان ، فإنها من قبيل الهوى ، والأمر للتهديد. وفى التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب ؛ لإفضائه إلى المهدد به ، وأن الأمرين كائنان لا محالة ، فلا بد من وقوع تمتعهم ، ولا بد من إفضائهم إلى النار. ولذلك علقه بقوله : (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) ، وأن المخاطب ، لانهماكه فيه ، كالمأمور به من آمر مطاع. قاله البيضاوي.

الإشارة : ظهور أهل التربية فى زمان الغفلة والجهل نعمة عظيمة ، لكن لا يعرفها إلا من سقط عليها ، ومن أنكرها ، وسدّ بابها ، وعوّق الناس عن الدخول فى طريقها ، فقد بدل نعمة الله كفرا ، وأحلّ الناس ـ من تبعه ـ دار

__________________

(١) قرأ ابن كثير وأبو عمرو : بفتح الياء ، وقرأ الباقون بضمها ، من أضل. انظر : الإتحاف (٢ / ١٦٩).

٦٠