البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٩

يشكر ، سلب منها ولم يشعر ، والشكر : ألا يعصى الله بنعمه ، كما قال الجنيد رضى الله عنه. والله تعالى أعلم ومن جملة كفران النعم ، نقض العهد ، كما أبان ذلك بقوله :

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩))

قلت : (فهم لا يؤمنون) : جملة معطوفة على جملة الصلة ، والفاء للتنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعى تحقق المعطوف ، و (الذين عاهدت) : بدل بعض من (الذين كفروا) ، و (فشرد) : جواب (إما) ، والتشريد : تفريق على اضطراب.

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ) منزلة (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، تحقق كفرهم ، وسبق به القدر ، (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) أبدا ؛ لما سبق لهم من الشقاء. نزلت فى قوم مخصوصين ، وهم بنو قريظة ، (الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ) أي : أخذت عليهم العهد ألا يعاونوا عليك الكفار ، (ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ) أي : يخونون عهدك المرة بعد المرة ، فأعانوا المشركين بالسلاح يوم أحد ، وقالوا : نسينا ، ثم عاهدهم ، فنكثوا ومالؤوهم عليه يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف فى ملأ منهم إلى مكة ، فحالفوا المشركين على حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فخرج إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقتل مقاتلتهم وسبا ذراريهم ، (وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) شؤم الغدر وتبعته ، أو : لا يتقون الله فى ذلك الغدر ونصرته للمؤمنين وتسليطه إياهم عليهم.

قال تعالى لنبيه عليه الصلاة السلام : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ) أي : مهما تصادفهم وتظفر بهم (فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ) أي : فرّق عنك من يناصبك بسبب تنكيلهم وقتلهم ، أو نكّل بهم (مَنْ خَلْفَهُمْ) ؛ بأن تفعل بهم من النقمة ما يزجر غيرهم ؛ (لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي : لعل من خلفهم يتعظون فينزجروا عن حربك.

(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ) معاهدين (خِيانَةً) أي : نقض عهد بأمارات تلوح لك ، (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ) أي : فاطرح إليهم عهدهم (عَلى سَواءٍ) أي : على عدل وطريق قصد فى العداوة ، ولا تناجزهم بالحرب قبل العلم بالنبذ ، فإنه يكون خيانة منك ، أو على سواء فى العلم بنقض العهد ، فتستوي معهم فى العلم بنقض العهد ، (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) أي : لا يرضى فعلهم ، وهو تعليل للأمر بالنبذ والنهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال.

٣٤١

(وَلا يَحْسَبَنَ) ، يا محمد ، (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) قدرتنا ، ونجوا من نكالنا ؛ (إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي : لا يفوتون فى الدنيا والآخرة ، فلا يعجزون قدرتنا ، أو لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم ، بل الله محيط بهم أينما حلوا. والله تعالى أعلم.

الإشارة : شرف الإنسان وكماله فى خمسة أشياء : الإيمان بالله ، وبسائر ما يتوقف الإيمان عليه ، والوفاء بالعهود ، والوقوف مع الحدود ، والرضى بالموجود ، والصبر على المفقود. وذله وخسته فى خمسة أشياء : الكفر والجحود ، ونقض العهود ، وتعدى الحدود ، وعدم الرضى بالموجود ، والجزع على المفقود.

وقال القشيري فى قوله تعالى : (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ ...) الآية : أي : إن صادفت واحدا من هؤلاء الذين دأبهم نقض العهد ، فاجعلهم عبرة لمن يأتي بعدهم ، لئلا يسلكوا طريقهم ، فيستوجبوا عقوبتهم. كذلك من فسخ عقده مع الله بقلبه ، برجوعه إلى رخص التأويلات ، ونزوله إلى السكون مع العادات ، يجعله الله نكالا لمن بعده ، بحرمان ما كان خوّله وتنغيصه عليه. ثم قال عند قوله : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) : يريد ، إذا تحقّقت خيانة قوم منهم ، فصرّح بأن لا عهد بينك وبينهم ، فإذا حصلت الخيانة زال سمت الأمانة ، وخيانة كل أحد على ما يليق بحاله. ه.

ثم أمر بالاستعداد للحرب لمن نقض العهد ، فقال :

(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠))

يقول الحق جل جلاله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ) ، أي : لناقضى العهد ، أو لمطلق الكفار ، (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ، أي : ما قدرتم عليه من كل ما يتقوى به فى الحرب. وعن عقبة بن عامر ، قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول على المنبر : «ألا إنّ القوة الرّمى» (١) قالها ثلاثا ، ولعله عليه الصلاة والسلام خصه بالذكر ؛ لأنه أعظم القوى ، (وَ) أعدوا لهم أيضا (مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) أي : من الخيل المربوطة للجهاد ، وهو اسم للخيل التي تربط فى سبيل الله ، بمعنى مفعول ، أو مصدر ، أو جمع ربيط ؛ كفصيل وفصال.

__________________

(١) أخرجه مسلم فى (الإمارة ـ باب فضل الرمي) عن عقبة بن عامر رضى الله عنه.

٣٤٢

والمراد : الحث على استعداد الخيل العتاق التي تربط وتعلف بقصد الجهاد ، وهو من جملة القوة ، فهو من عطف الخاص على العام ، للاعتناء بأمر الخيل لما فيها من الإرهاب. ولذلك قال : (تُرْهِبُونَ بِهِ) أي : تخوفون بذلك الأعداء ، أو بما ذكر من الخيل المربوطة ، (عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ) ، يعنى : كفار مكة ، (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ) أي : من غيرهم من الكفرة ، كفارس والروم وسائر الكفرة ، (لا تَعْلَمُونَهُمُ) أي : لا تعرفونهم اليوم ، (اللهُ يَعْلَمُهُمْ) ، وسيمكنكم منهم ، فتقاتلونهم وتملكون ملكهم ، (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ) ، فى شأن الاستعداد وغيره ؛ مما يستعان به على الجهاد ، (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) جزاؤه ، (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) بتضييع عمل أو نقص أجر ، بل يضاعفه لكم أضعافا كثيرة ، بسبعمائة أو أكثر. والله تعالى أعلم.

الإشارة : وأعدوا ، لجهاد القواطع والعلائق التي تعوقكم عن الحضرة ، ما استطعتم من قوة ، وهو العزم على السير من غير التفات ، ومن رباط القلوب فى حضرة الحق ، ترهبون به عدو الله ، وهو الشيطان ، وعدوكم ، وهى النفس ، وآخرين من دونهم : الحظوظ واللحوظ وخفايا خدع النفوس ، لا تعلمونهم ، الله يعلمهم ؛ كالرياء والشرك الخفي ، فإنه يدب دبيب النمل ، وما تنفقوا من شىء يوف إليكم أضعافا مضاعفة ، بالعز الدائم والغنى الأكبر ، وأنتم لا تظلمون.

وقال الورتجبي : أعلم الله المؤمنين والعارفين استعداد قتل أعداء الله ، وسمى آلة القتال بقوة ، وتلك القوة قوة الإلهية ، التي لا ينالها العارف من الله إلا بخضوعه بين يديه ، بنعت الفناء فى جلاله ، فإذا كان كذلك يلبسه الله لباس عظمته ونور كبريائه وهيبته ، ويغريه إلى الدعاء عليهم ، ويجعله منبسطا ، حتى يقول فى سره : إلهى خذهم ، فيأخذهم بلحظة ، ويسقطهم صرعى بين يديه بعونه وكرمه ، ويسلى قلب وليه بتفريجه من شرور معارضيه ومنكريه ، وذلك سهم رمى نفوس الهمة عن كنانة الغيرة ، كما رمى نبى الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى منكريه حين قال : «شاهت الوجوه» ، وهذا الرمي من الله بقوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى).

سمعت أن ذا النون المصري رضى الله عنه كان فى غزو ، وغلب المشركون على المؤمنين ، فقيل له : لو دعوت الله ، فنزل عن دابته وسجد ، فهزم المشركون فى لحظة ، وأخذوا جميعا ، وأسروا ، وقتلوا.

وأيضا : وأعدوا : أي : اقتبسوا من الله قوة من قوى صفاته لنفوسكم حتى يقويكم فى محاربتها. قال أبو على الروذبارى ، فى قوله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ، فقال : القوة هى الثقة بالله ، قيل ظاهر الآية : إنه الرمي بسهام القسي. وفى الحقيقة : رمى سهام الليالى فى الغيب ؛ بالخضوع والاستكانة ، ورمى القلب إلى الحق ؛ معتمدا عليه ، راجعا إليه عما سواه. ه.

٣٤٣

ثم بيّن أن المعول على الله ونصرته ، لا على السلاح والآلات بقوله : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) ، أي : قواك بقوته الأزلية ، ونصرك بنصرته الأبدية ، ووفق المؤمنين بإعانتك على عدوك. ثم بيّن سبحانه أن نصرة المؤمنين لم تكن إلا بتأليفه بين قلوبهم ، وجمعها على محبة الله ومحبة رسوله ، بعد تباينها بتفرقة الهموم فى أودية الامتحان ، بقوله : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ). وقال القشيري : الإشارة بقوله : (تُرْهِبُونَ) : إلى أنه لا يجاهد على رجاء غنيمة ينالها ، أو إشفاء صدر عن قضية حقد ، بل قصده أن تكون كلمة الله هى العليا. ه.

ثم دلّ على الصلح لمصلحة ، فقال :

(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣))

يقول الحق جل جلاله : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ) أي : وإن مالوا للصلح (فَاجْنَحْ لَها) أي : فصالحهم ، ومل إلى المعاهدة معهم ، وتوكل على الله ؛ فلا تخف منهم أن يكونوا أبطنوا خداعا ؛ فإن الله يعصمك من مكرهم ؛ (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (١) ، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالهم ، (الْعَلِيمُ) بأحوالهم.

(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ) بعد الصلح (فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ) أي : فحسبك الله وكافيك شرهم ، (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ) أي : قواك ونصرك (بِنَصْرِهِ) ؛ تحقيقا ، (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) ؛ تشريفا ، أو (بِنَصْرِهِ) قدرة (وَبِالْمُؤْمِنِينَ) حكمة ، والقدرة والحكمة منه وإليه ، فلا دليل عليه للمعتزلة حيث نسبوا الفعل للعبد ، وقالوا : العطف يقتضى المغايرة.

(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) مع ما كان فيها فى زمن الجاهلية من المعصية والضغائن والتهالك على الانتقام ، حتى لا يكاد يأتلف فيهم قلبان ، ثم صاروا كنفس واحدة ، وهذا من معجزاته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال تعالى : (لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، فى إصلاح ما بينهم ، (ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) ؛ لتناهى عدواتهم إلى حد لو أنفق منفق فى إصلاح

__________________

(١) من الآية ٤٢ من سورة فاطر.

٣٤٤

ذات بينهم ما فى الأرض من الأموال لم يقدر على الألفة بينهم ، (وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) بقدرته البالغة ؛ فإنه المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء. (إِنَّهُ عَزِيزٌ) تام القدرة ، لا يعصى عليه ما يريده ، (حَكِيمٌ) يعلم كيف ينبغى أن يفعل ما يريده.

قيل : إن الآية نزلت فى الأوس والخزرج ، كان بينهم إحن وضغائن لا أمد لها ، ووقائع هلكت فيها ساداتهم ، فأنساهم الله ذلك ، وألفّ بينهم بالإسلام ، حتى تصادقوا وصاروا أنصار الدين. وبالله التوفيق.

الإشارة : وإن مالت النفس وجنودها إلى الصلح مع صاحبها ؛ بأن ألقت السلاح ، ومالت إلى فعل كل ما فيه خير وصلاح ، وعقدت الرجوع عن هواها ، والدءوب على طاعة مولاها ، فالواجب عقد الصلح معها ، وتصديقها فيما تأمر به أو تنهى عنه ، مما يرد عليها ، مع التوكل على مولاها ، فإن خدعت بعد ذلك ، أو رجعت إلى مألوفها ، فالله يكفى أمرها ، ويقوى صاحبها على ردها ، إما بسبب شيخ كامل ، أو أخ صالح ، فإن الصحبة فيها سر كبير ، لا سيما مع أهل الصفاء ، الذين صفت قلوبهم ، وألف الله بينهم بالمحبة والوداد ، وحسن الظن والاعتقاد ، وإما بسابق عناية ربانية وقوة إلهية. وبالله التوفيق.

ثم أمر نبيه بالاكتفاء بالله وعدم الالتفات إلى ما سواه ، فقال :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤))

قلت : (حسبك) : مبتدأ ، و (الله) : خبر ، ويصح العكس ، و (من اتبعك) : إما عطف على (الله) ، أي : كفاك الله والمؤمنون ، أو فى محل نصب على المفعول معه ، أو فى محل جر ؛ عطف على الضمير ، على مذهب الكوفيين ، أي : حسبك وحسب من اتبعك الله ، والأول : أصح.

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ) أي : كافيك الله ، فلا تلتفت إلى شىء سواه ، أي : لمّا مننت عليك بائتلاف قلوب المؤمنين فى نصرتك ، فلا تلتفت إليهم فى محل التوحيد ، فإنى حسبك وحدي بغير معاونة الخلق ، فينبغى أن تفرد القدم عن الحدوث فى سيرك منى إلىّ ، وأنا حسب المؤمنين عن كل ما دونى ، وإن كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا ، ولا ينبغى فى حقيقة التوحيد النظر إلى غيرى ، وإنما أيدتك بواسطة المؤمنين ، وذكرتهم معى ؛ تشريفا لأمتك ، وسترا لقدرتى ، وإظهارا لكمال حكمتى ، وإلا فقدرتى لا يفوتها شىء ، ولا تتوقف على شىء ؛ «جل حكم الأزل أن يضاف إلى العلل».

قال البيضاوي : نزلت الآية تأييدا فى غزوة بدر ، وقيل : أسلم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ، ثم أسلم عمر رضى الله عنه ، فنزلت. ولذلك قال ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ : نزلت فى إسلامه.

٣٤٥

الإشارة : ما خوطب به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاطب به ورثته الكرام ، من الاكتفاء بالله وعدم الالتفات إلى ما سواه ، وتصحيح عقد التوحيد ، والاعتماد على الكريم المجيد. والله تعالى أعلم.

ثم أمره بالتحريض على الجهاد ، فقال :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦))

قلت : التحريض : هو الحث على الشيء والمبالغة فى طلبه ، وهو من الحرض ، الذي هو الإشفاء على الهلاك.

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : حثهم (عَلَى الْقِتالِ) أي : الجهاد. ثم أمرهم بالصبر والثبات للعدو بقوله : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وهذا خبر بمعنى الأمر ، أي : يقاتل العشرون منكم المائتين ، والمائة الألف ، وليثبتوا لهم ، ولا يصح أن يكون خبرا محضا ؛ إذ لو كان خبرا محضا لما تخلف فى الواقع ، ولو فى جزئية ؛ إذ خبره تعالى لا يخلف.

قال الفخر الرازي : حسن هذا التكليف لما كان مسبوقا بقوله : (حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، فلما وعد المؤمنين بالكفاية والنصر كان هذا التكليف سهلا ؛ لأن من تكفل الله بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إذايته. ه.

وإنما كان القليل من المؤمنين يقاوم الكثير من الكفار (بِأَنَّهُمْ) ؛ بسبب أنهم (قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) ، أي : لأنهم جهلة بالله واليوم الآخر ، فلا يثبتون ثبات المؤمنين ، رجاء الثواب والترقي فى الدرجات ، قتلوا أو ماتوا ، بخلاف الكفار ؛ فلا يستحقون من الله إلا الهوان والخذلان.

ولمّا كلفهم بهذا فى أول الإسلام ، وشقّ ذلك عليهم ، خفف عنهم فقال : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) ؛ فلا يقاوم الواحد منكم العشرة ، ولا المائة الألف ، (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ

٣٤٦

وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ) ؛ أمرهم بمقاومة الواحد لاثنين. وقيل : كان فيهم قلة ، فلما كثروا خفف عنهم ، وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة ؛ للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد ، والضعف : ضعف البدن ، لا ضعف القلب.

قال بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ : لما نزل التخفيف ذهب من الصبر تسعة أعشار ، وبقي العشر. ولذلك قال تعالى هنا : (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) ، أي : بالنصر والمعونة ، فكيف لا يغلب من يقاومهم ولو كثر عدده؟.

الإشارة : ينبغى لأهل التذكير أن يحرضوا الناس على جهاد نفوسهم ، الذي هو الجهاد الأكبر ، وإنما كان أكبر ؛ لأن العدد الحسى يقابلك وتقابله ، بخلاف النفس فإنها جاء تحت الرماية خفية عدو حبيب ، فلا يتقدم لجهادها إلا الرجال ، فينبغى للشيوخ أن يحضوا المريدين على جهادها ، ويهونوا لهم شأنها ؛ فإنّ النفس لا يهول أمرها إلا قبل رمى اليد فيها ، فاذا رميت يدك فيها بالعزم على قتلها ضعفت ولانت ، وسهل علاجها ، وإذا خفت منها ، وسوّفت لها ، طالت عليك وملكتك. ولا بد فى جهادها من شيخ يريك مساوئها ، ويعينك بهمته على قتلها ، وإلّا بقيت فى العنت معها ، والشغل بمعاناتها حتى تموت بلا حصول نتيجة جهادها ، وهى المعرفة بسيدها وخالقها. والله تعالى أعلم.

ثم عاتبهم على أخذ الفداء من الأسارى ، فقال :

(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩))

يقول الحق جل جلاله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) يقبضها (حَتَّى يُثْخِنَ) أي : يبالغ (فِي الْأَرْضِ) ؛ بالقتل حتى يذل الكفر ويقل حزبه ، ويعز الإسلام ويستولى أهله. (تُرِيدُونَ) بقبض الأسارى (عَرَضَ الدُّنْيا) ؛ حطامها بأخذ الفداء منهم ، (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي : يريد لكم ثواب الآخرة ، الذي يدوم ويبقى ، أو يريد سبب نيل الآخرة من إعزاز دينه وقمع أعدائه ، (وَاللهُ عَزِيزٌ) يغلب أولياءه على أعدائه ، (حَكِيمٌ) يعلم ما يليق بكمال حالهم ويخصهم بها ، كما أمر بالإثخان ، ومنع من أخذ الفداء حين كانت الشوكة للمشركين ، وخيّر بينه وبين المنّ لما تحولت الحال ، وصارت الغلبة للمؤمنين.

روى أنه عليه الصلاة والسلام أتى يوم بدر بسبعين أسيرا ، فيهم العبّاس وعقيل بن أبى طالب. فاستأذن فيهم ؛ فقال أبو بكر رضى الله عنه : قومك وأهلك ، استبقهم ، لعلّ الله يتوب عليهم ، وخذ منهم فدية تقوّى بها أصحابك. وقال عمر

٣٤٧

رضى الله عنه : اضرب أعناقهم ، فإنهم أئمّة الكفر ، وإنّ الله أغناك عن الفداء ، فمكّنى من فلان ـ لنسيب له ـ ومكّن عليّا وحمزة من أخويهما ، فلنضرب أعناقهم ، فلم يهو ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال : «إنّ الله ليلين قلوب رجال حتّى تكون ألين من كل لين ، وإنّ الله ليشدّد قلوب رجال حتّى تكون أشدّ من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم ، قال : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) ، ومثلك يا عمر مثل نوح ، قال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً)» (٢). فخيّر أصحابه ، فأخذوا الفداء ، فنزلت ، فدخل عمر رضى الله عنه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإذا هو وأبو بكر يبكيان ، فقال : يا رسول الله : أخبرنى ، فإن أجد بكاء بكيت ، وإلا تباكيت؟ فقال : «أبكى على أصحابك فى أخذهم الفداء ، ولقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة» (٣) لشجرة قريبة.

والآية دليل على أن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ يجتهدون ، وإنه قد يكون الخطأ ، ولكن لا يقرون عليه. قاله البيضاوي. قال القشيري : أخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر منهم الفداء ، وكان ذلك جائزا لوجوب العصمة ، ولكن لو قتلهم كان أولى. ه. وقال ابن عطية : إنما توجه العتاب للصحابة على استبقاء الرجال دون قتلهم ، لا على الفداء ؛ لأن الله تعالى قد كان خيّرهم ، فاختاروا الفداء على أن يقتل منهم سبعين ، كما تقدم فى سورة آل عمران (٤). ثم قال : والنبي عليه الصلاة والسلام خارج عن ذلك الاستبقاء. انظر تمامه فى الحاشية.

فإن قلت : إذا كان الحق تعالى خيّرهم فكيف عاتبهم ، وهم لم يرتكبوا محظورا؟ فالجواب : أن العتاب تابع لعلو المقام ، فالخواص يعاتبون على المباح ، إن كان فعله مرجوحا ، والحق تعالى إنما عاتبهم على رغبتهم فى أمر دنيوى ، وهو الفداء ، حتى آثروا قتل أنفسهم على أخذه ، ويدل عليه قوله : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) ، وهذا إنما كان فى بعضهم ، وجلهم إنما اختاروا الفداء استبقاء لقرابة الرسول عليه الصلاة والسلام. والله تعالى أعلم.

ثم قال تعالى فى تمام عتابهم : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ) أي : لو لا حكم الله سبق إثباته فى اللوح المحفوظ ، وهو ألا يعاقب المخطئ فى اجتهاده ، أو أنه سيحل لكم الغنائم ، أو ما سبق فى الأزل من العفو عنكم ، (لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ) ؛ من الفداء أو من الأسارى ، (عَذابٌ عَظِيمٌ). روى أنه عليه الصلاة والسلام قال ، حين نزلت : «لو نزل العذاب ما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ» ؛ وذلك لأنه أيضا أشار بالإثخان.

__________________

(١) الآية ٣٦ من سورة إبراهيم.

(٢) الآية ٢٦ من سورة نوح.

(٣) أخرجه أحمد فى المسند (١ / ٣٨٣) والترمذي ببعض الاختصار فى (تفسير سورة الأنفال) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي فى (المغازي ، ٣ / ٢١) وكذلك أخرجه البيهقي فى الدلائل (٣ / ١٣٨) كلهم عن ابن مسعود. وأخرجه بنحوه مسلم فى (الجهاد ـ باب الإمداد بالملائكة) من حديث ابن عباس عن سيدنا عمر ـ رضى الله عن الجميع.

(٤) عند تفسير قوله تعالى : (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا) الآية ١٦٥.

٣٤٨

ثم أباح لهم الغنائم وأخذ الفداء فقال : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) من الكفار ، ومن جملته : الفدية ، فإنها من الغنائم ، (حَلالاً طَيِّباً) أي : أكلا حلالا ، وفائدته : إزاحة ما وقع فى نفوسهم بسبب تلك المعاتبة ، أو حرمتها على المتقدمين. روى أنه لما عاتبهم أمسكوا عنها حتى نزلت : (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ) ، ووصفه بالطيب ؛ تكسينا لقلوبهم ، وزيادة فى حليتها. وفي الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت خمسا لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلى : أحلّت لى الغنائم ، ونصرت بالرّعب مسيرة شهر ، وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا ، وأعطيت الشّفاعة ، وخصصت بجوامع الكلم» (١). أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

ثم قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) فى مخالفته ؛ (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : يغفر لكم ما فرط ، ويرحمكم بإباحة ما حرم على غيركم ؛ توسعة عليكم. والله تعالى أعلم.

الإشارة : ما ينبغى للفقير المتوجه أن يكون له أتباع يتصرف فيهم ويستفيد منهم ، عوضا عن الدنيا ، حتى يبالغ فى قتل نفسه وتموت ، ويأمن عليها الرجوع إلى وطنها من حب الرئاسة والجاه ، أو جمع المال ، والتمتع بالحظوظ ، فإن تعاطي ذلك قبل موت نفسه كان ذلك سبب طرده ، وتعجيل العقوبة له ، حتى إذا تداركه الله بلطفه ، وسبقت له عناية من ربه ، فيقال له حينئذ : لو لا كتاب من الله سبق لمسك فيما أخذت عذاب عظيم.

ثم بشّر الأسارى بخلف ما أخذ منهم من الفداء بأكثر منه ، فقال :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١))

قلت : (أسرى) : جميع أسير ، ويجمع على أسارى. وقرىء بهما ، و (خيرا مما) : اسم تفضيل ، وأصله : أخير ، فاستغنى عنه بخير ، وكذلك شر ؛ أصله : أشر ، قال فى الكافية :

وغالبا أغناهم خير وشر

عن قولهم : أخير منه وأشر.

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى) الذين أخذتم منهم الفداء : (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أي : إيمانا وإخلاصا يكون فى المستقبل ، (يُؤْتِكُمْ خَيْراً) أي : أفضل وأكثر (مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء.

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (أول كتاب التيمم) ومسلم فى (المساجد) من حديث جابر بن عبد الله ـ بلفظ : «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة» بدل : «وخصصت بجوامع الكلم» ، وقد جاءت هذه العبارة بنحوها فى رواية عند مسلم عن أبى هريرة ، وفيها : (فضلت على الأنبياء بست) وساق الخمس السابقة.

٣٤٩

روى أنها نزلت فى العباس رضى الله عنه ؛ كلّفه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يفدى نفسه ، وابني أخويه : عقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث ، فقال : يا محمد ؛ تركتنى أتكفف قريشا ما بقيت ، فقال له عليه الصلاة والسلام : وأين الذهب الذي دفعته لأمّ الفضل وقت خروجك ، وقلت لها : لا أدرى ما يصيبنى فى وجهي هذا ، فإن حدث بي حدث فهو لك ، ولعبد الله ، وعبيد الله والفضل ، وقثم ، قال له وما يدريك؟ قال : أخبرنى به ربى تعالى ، قال : فأشهد أنك صادق ، وأن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ، والله لم يطلع عليه أحد إلا الله ، ولقد دفعته إليها فى سواد اللّيل.

قال العباس : فأبدلني الله خيرا من ذلك ، أعطانى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المال الذي قدم من البحرين ما لم أقدر على حمله ، ولى الآن عشرون عبدا ، إن أدناهم يضرب ـ أي : يتجر ـ فى عشرين ألفا ، وأعطانى زمزم ، ما أحب أنّ لى بها جميع أموال أهل مكة ، وأنا أنتظر المغفرة من ربكم ، يعنى : الموعود بقوله تعالى : (يغفر لكم والله غفور رحيم) (١).

(وَإِنْ يُرِيدُوا) ؛ الأسارى (خِيانَتَكَ) ؛ بنقض ما عهدوك به ، (فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) ؛ بالكفر والمعاصي (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) وأمكنك من ناصيتهم ، فقبضوا وأسروا ببدر ، (وَاللهُ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شىء ، (حَكِيمٌ) فيما دبر وأمضى.

الإشارة : يقال للفقراء المتوجهين إلى الله ، الذين بذلوا أموالهم ومهجهم ، وقتلوا نفوسهم فى طلب محبوبهم : إن يعلم الله فى قلوبكم خيرا ، كصدق وإخلاص ، يؤتكم أفضل مما أخذ منكم ، من ذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس. وهو الغناء الأكبر ، والسر الأشهر ، الذي هو الفناء فى الله ، والغيبة عما سواه ، وثمرته : المشاهدة التي تصحبها المكالمة ، وهذا هو الإكسير والغنا الكبير ، فكل من باع نفسه فى طلب هذا فقد ربحت صفقته وزكت تجارته ، مع غفران الذنوب ، وتغطية المساويء والعيوب. وبالله التوفيق.

ثم بيّن فضائل المهاجرين والأنصار ، ومنزلة من آمن ولم يهاجر ، والذين هاجروا بعد الحديبية ، تتميما للتحريض على الجهاد ، فبدأ أولا بالمهاجرين والأنصار ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ

__________________

(١) أخرجه الحاكم فى (المستدرك ٣ / ٣٢٤) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي ـ والطبري فى تفسير الآية ، عن السيدة عائشة رضى الله عنها.

٣٥٠

حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا) أوطانهم فى الخروج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لنصرة الدين بالجهاد ، (وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ) فصرفوها فى الإعداد للجهاد ، كالكراع والسلاح ، وأنفقوها على المجاريح ، (وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ؛ بمباشرة القتال ، (وَالَّذِينَ آوَوْا) رسول الله ومن هاجر معه ، وواسوهم بأموالهم ، (وَنَصَرُوا) دين الله ورسوله ، (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فى التعاون والتناصر ، أو فى الميراث.

وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة ، دون الأقارب ، حتى نسخ بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) (١).

ثم ذكر من لم يهاجر فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) ؛ لا فى النصرة ، ولا فى الميراث ، (حَتَّى يُهاجِرُوا) إليكم ، (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ) على المشركين (فِي) إظهار (الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) أي : فواجب عليكم نصرهم وإعانتهم ، لئلا يستولى الكفر على الإيمان ، (إِلَّا عَلى قَوْمٍ) كان (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ) عهد و (مِيثاقٌ) ، فلا تنقضوا عهدهم بنصرهم ، فإن الخيانة ليست من شأن أهل الإيمان. (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا يخفى عليه من أوفى ومن نقض.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) فى الميراث. ويدل بمفهومه ، على منع التوارث والمؤازرة بينهم وبين المسلمين. (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أي : إلا تفعلوا ما أمرتم به من موالاة المؤمنين ونصرتهم ، أو نصرة من استنصر بكم ممن لم يهاجر ، (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ) ؛ باستيلاء المشركين على المؤمنين ، (وَفَسادٌ كَبِيرٌ) بإحلال المشركين أموال المؤمنين وفروجهم ، أو : إلّا تفعلوا ما أمرتم به من حفظ الميثاق ، تكن فتنة فى الأرض ، فلا يفى أحد بعهد أبدا ، وفساد كبير بنهب الأموال والأنفس.

الإشارة : أهل التجريد ، ظاهرا وباطنا ، هم الذين آمنوا وهاجروا حظوظهم ، وجاهدوا نفوسهم بسيوف المخالفة ، وآووا من نزل أو التجأ إليهم من إخوانهم أو غيرهم ، أو آووا أشياخهم وقاموا بأمورهم ، ونصروا الدين بالتذكير

__________________

(١) الآية ٦ من سورة الأحزاب.

٣٥١

والإرشاد والدلالة على الله ، أينما حلوا من البلاد ، أولئك بعضهم أولياء بعض فى العلوم والأسرار ، وكذلك فى الأموال. فقد قال بعض الصوفية : (الفقراء : لا رزق مقسوم ، ولا سر مكتوم). وهذا فى حق أهل الصفاء من المتحابين فى الله.

والذين آمنوا ولم يهاجروا هم أهل الأسباب من المنتسبين ، قد نهى الله عن موالاتهم فى علوم الأسرار وغوامض التوحيد ؛ لأنهم لا يطيقون ذلك ؛ لشغل فكرتهم بالأسباب أو بالعلوم الرسمية ، نعم ، إن وقعوا فى شبهة أو حيرة ، وجب نصرهم بما يزيل إشكالهم ، لئلا تقع بهم فتنة أو فساد كبير فى اعتقادهم. والله تعالى أعلم.

ثم أثنى على المهاجرين والأنصار ، فقال :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤))

قال البيضاوي : لما قسم المؤمنين ثلاثة أقسام ، ـ أي : مهاجرين ، وأنصار ، ومن آمن ولم يهاجر ـ بيّن أن الكاملين فى الإيمان منهم هم الذين حققوا إيمانهم ، بتحصيل مقتضاه من الهجرة ، والجهاد ، وبذل المال ، ونصرة الحق ، ووعد لهم الوعد الكريم ، فقال : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ؛ لا تبعة له ، ولا فتنة فيه. ثم ألحق بهم فى الأمرين من يلتحق بهم ويتسم بسمتهم فقال :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ...)

أي : من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار. ه.

ثم نسخ الميراث المتقدم ، فقال :

(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

يقول الحق جل جلاله (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) من قرابة النسب ، (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) فى التوارث من الأجانب ، وظاهره : توريث ذوى الأرحام ، كالخال والعمة وسائر ذوى الأرحام ، وبه قال أبو حنيفة ، ومنعه مالك ، ورأى أن الآية منسوخة بآية المواريث التي فى النساء ، أو يراد بالأولية : غير الميراث ، كالنصرة وغيرها. وقوله : (فِي كِتابِ اللهِ) أي : فى القرآن ، أو اللوح المحفوظ. (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) من أمر المواريث وغيرها ، أو عليم بحكمة إناطتها بنسبة الإسلام والمظاهرة أولا ، وبالقرابة ثانيا ، والله تعالى أعلم.

٣٥٢

الإشارة : الناس ثلاثة : عوام ، وخواص ، وخواص الخواص. فالعوام : هم الذين لا شيخ لهم يصلح للتربية. والخواص : هم الذين صحبوا شيخ التربية ، ولم ينهضوا إلى مقام التجريد. وخواص الخواص : هم الذين صحبوا شيخ التربية وتجردوا ظاهرا وباطنا ، خربوا ظواهرهم ، وعمّروا بواطنهم ، وهم الذين خاضوا بحار التوحيد ، وذاقوا أسرار التفريد. وهم الذين أشار المجذوب الى مقامهم بقوله :

يا قارئين علم التوحيد

هنا البحور إلىّ تغبى

هذا مقام أهل التجريد

الواقفين مع ربى

فأهل التجريد ، كالمهاجرين والأنصار ، وأهل الأسباب من أهل النسبة ، كمن لم يهاجر من الصحابة ، ومن تجرد بعد ودخل معهم ، التحق بهم. قال تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) ، ومن لا نسبة له كمن لا صحبة له ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق. وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد ، وآله وصحبه ، وسلّم تسليما ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين (١).

__________________

(١) كتب فى آخر المجلد الأول من النسخة الأصلية : هذا آخر السفر الأول من (البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد) ، ووافق الفراغ من تبييضه سادس عشر من جمادى الأولى ، سنة ست عشر ومائتين وألف ، يتلوه سورة التوبة بحول الله وقوته.

انتهى ، بحوله وقوته ، عشية يوم استخراجه من مبيضته ؛ الجمعة ثالث وعشرين من جمادى الأولى ، أيضا ، من تلك السنة المذكورة قبل. ونسأله الإعانة على التمام ، بجاه النبي ـ عليه‌السلام ـ صلى الله عليه ـ على مر الليالى والأيام.

٣٥٣
٣٥٤

سورة التّوبة (١)

(مدنية). ولها أسماء أخر : سورة براءة ؛ لتبرئها من المنافقين ، والمقشقشة ، أي : المبرئة من النفاق ، والبحوث ؛ لبحثها عن أحوال المنافقين ، والمبعثرة والمنقرة والمثيرة ، والحافرة ؛ لأنها بعثرت ونقرت وأثارت وحفرت عن أحوال المنافقين ، والمخزية والفاضحة ، والمنكلة ، والمشردة ، والمدمدمة ، وسورة العذاب ؛ لأنها أخزت المنافقين ، وفضحتهم ، ونكلتهم ، وشردتهم ، ودمدمت عليهم ، وذكرت ما أعد الله لهم من العذاب.

وآياتها : مائة وثلاثون ، وقيل : وتسع وعشرون. ومناسبتها : قوله : (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢) ، فذكر فى هذه السورة نقض ذلك الميثاق.

واتفقت المصاحف والقراء على ترك البسملة فى أولها ، فقال عثمان رضى الله عنه : أشبهت معانيها معانى الأنفال ، أي : لأن فى الأنفال ذكر العهود وفى براءة نبذها. وكانتا تدعى القرينتين فى زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلذلك قرنت بينهما ووضعتهما فى السبع الطوال (٣) ، وكان الصحابة قد اختلفوا : هل هما سورة واحدة أو سورتان؟ فتركت البسملة بينهما لذلك. وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه : البسملة أمان ، وبراءة نزلت بالسيف ، فلذلك لم تبدأ بالأمان. وقال البيضاوي : لما اختلف الصحابة فى أنهما سورة واحدة ، وهى سابعة السبع الطوال ، أو سورتان ، تركت بينهما فرجة ، ولم تكتب بسم الله. ه.

ثم ابتدأ بنقض عهود المشركين ، فقال :

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢))

قلت : (براءة) : خبر عن مضمر ، أي : هذه براءة ، و (من) : ابتدائية ، متعلقة بمحذوف ، أي : واصلة من الله ، و (إلى الذين) : متعلقة به أيضا ، أو مبتدأ لتخصيصها بالصفة ، و (إلى الذين) : خبر.

__________________

(١) بداية المجلد الثاني فى النسخة الأصلية.

(٢) من الآية ٧٢ من سورة الأنفال.

(٣) أخرجه أحمد فى المسند (١ / ٥٧) وأبو داود فى (الصلاة ، باب من جهر ببسم الله الرحمن الرحيم) والترمذي فى (التفسير ، سورة التوبة) والحاكم فى (٢ / ٢٢١) وصححه ووافقه الذهبي.

٣٥٥

يقول الحق جل جلاله : هذه (بَراءَةٌ) أي : تبرئة (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) واصلة (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، فقد تبرأ الله ورسوله من كل عهد كان بين المشركين والمسلمين ، لأنهم نكثوا أولا ، إلا أناسا منهم لم ينكثوا ، وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ، وسيأتى استثناؤهم. قال البيضاوي : وإنما علقت البراءة بالله وبرسوله ، والمعاهدة بالمسلمين ؛ للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم ، وإن كانت صادرة بإذن الله واتفاق الرسول ؛ فإنهما برئا منها. ه.

وقال ابن جزى : وإنما أسند العهد إلى المسلمين ؛ لأن فعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لازم للمسلمين ، وكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد عقد العهد مع المشركين إلى آجال محدودة ، فمنهم من وفّى ، فأمر الله أن يتم عهده إلى مدته ، ومنهم من نقض أو قارب النقض ، فجعل له أجل أربعة أشهر ، وبعدها لا يكون له عهد. ه. وإلى ذلك أشار بقوله : (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) آمنين لا يتعرض لكم أحد ، وبعدها لا عهد بينى وبينكم. وذكر الطبري : أنهم أسلموا كلهم فى هذه المدة ولم يسح أحد. ه.

وهذه الأربعة الأشهر : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، لأنها نزلت فى شوال ، وقيل : هى عشرون من ذى الحجة ، والمحرم ، وصفر ، وربيع الأول ، وعشر من الآخر ، لأن التبليغ كان يوم النحر ؛ لما روى (أنها لمّا نزلت أرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليا رضى الله عنه راكبا العضباء ليقرأها على أهل الموسم ، وكان قد بعث أبا بكر رضى الله عنه أميرا على الموسم ، فقيل : لو بعثت بها إلى أبى بكر؟ فقال : «لا يؤدّى عنّى إلا رجل منّى» فلمّا دنا علىّ رضى الله عنه سمع أبو بكر الرّغاء ، فوقف ، وقال : هذا رغاء ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فوقف ، فلمّا لحقه قال : أمير أو مأمور؟ قال : مأمور ، فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر رضى الله عنه ، وحدّثهم عن مناسكهم ، وقام علىّ ـ كرم الله وجهه ـ يوم النّحر ، عند جمرة العقبة ، فقال : يا أيها النّاس ، إنى رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليكم ، فقالوا : بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية من أول السورة ، ثم قال : أمرت بأربع : ألا يقرب البيت بعد هذا مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الجنّة إلا نفس مؤمنة ، وأن يتمّ إلى كلّ ذى عهد عهده.) (١).

ولعل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا يؤدى عنى إلا رجل منى» خاص بنقض العهود ؛ لأنه قد بعث كثيرا من الصحابة ليؤدوا عنه ، وكانت عادة العرب ألّا يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل منها. قاله البيضاوي مختصرا.

ثم قال تعالى لأهل الشرك : (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي : لا تفوتونه ، وإن أمهلكم ، (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) فى القتل والأسر فى الدنيا ، والعذاب المهين فى الآخرة.

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (الصلاة ـ باب ما يستر من العورة) ومسلم فى (الحج ـ باب لا يحج البيت مشرك) كلاهما من حديث أبى هريرة ، وليس فيه ذكر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا يؤدى عنى إلا رجل منى) ، وقد جاءت فى رواية عند أحمد فى المسند (١ / ٣) والترمذي فى (تفسير سورة التوبة).

٣٥٦

الإشارة : قد وقع التبرؤ من أهل الشرك مطلقا ، أما الشرك الجلى فقد تبرأ منه الإسلام والإيمان ، وأما الشرك الخفي فقد تبرأ منه مقام الإحسان ، ولا يدخل أحد مقام الإحسان حتى لا يعتمد على شىء ، ولا يستند إلى شىء ، إلا على من بيده ملكوت كل شىء ، فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب ، ويرفض النظر إلى العشائر والأصحاب ، حتى لا يبقى فى نظره إلا الكريم الوهاب ، فمن أصرّ على شركه الجلى أو الخفي فإن الله يمهل ولا يهمل ، فلا بد أن يلحقه وباله : إما خزى فى الدنيا ، أو عذاب فى الآخرة ، كلّ على ما يليق به.

وقال القشيري : إن قطع عنهم الوصلة فقد ضرب لهم مدة على وجه المهلة ، فأمّنهم فى الحال ؛ ليتأهبوا لتحمّل مقاساة البراءة فيما يستقبلونه فى المآل. والإشارة فيه : أنهم إن أقلعوا فى هذه المهلة عن الغىّ والضلال ، وجدوا فى المآل ما فقدوا من الوصال ، وإن أبوا إلا التمادي فى ترك الخدمة والحرمة ، انقطع ما بينه وبينهم من الوصلة. ه. والله تعالى أعلم.

ثم أمر بإظهار تلك البراءة للناس ، فقال :

(وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤))

قلت : (وأذان) : مبتدأ ، أو خبر ، على ما تقدم فى براءة ، وهو فعال بمعنى إفعال ؛ كالعطاء بمعنى الإعطاء ، أي : وإعلام من الله ورسوله واصل إلى الناس ، ورفع «رسوله» ؛ إما عطف على ضمير برىء ، أو على محل «إن» واسمها ، أو مبتدأ حذف خبره ، أي : ورسوله كذلك.

يقول الحق جل جلاله : (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) واصل إلى الناس ، يكون (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) وهو يوم النحر ؛ لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله ، ولأن الإعلام كان فيه. ولما روى أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقف يوم النحر ، عند الجمرات ، فى حجة الوداع ، فقال : «هذا يوم الحج الأكبر» (١) ، وقيل : يوم عرفه ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «الحج عرفة» (٢). ووصف الحج بالأكبر ؛ لأن العمرة تسمى الحج الأصغر.

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (الحج ـ باب الخطبة أيام منى) عن نافع عن ابن عمر.

(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٤ / ٣٠٩) وأبو داود فى (المناسك ، باب من لم يدرك عرفة) والترمذي فى (الحج ، باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج) ، كذلك أخرج الحديث النسائي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن يعمر.

٣٥٧

وذلك الإعلام بأنّ (اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) ـ عليه الصلاة والسلام ـ كذلك. قال البيضاوي : ولا تكرار ؛ فإن قوله : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ) : إخبار بثبوت البراءة ، وهذا إخبار بوجوب الإعلام بذلك ، ولذلك علقه بالناس ولم يخص بالمعاهدين. ه. (فَإِنْ تُبْتُمْ) يا معشر الكفار ورجعتم عن الشرك ، (فَهُوَ) أي : الرجوع (خَيْرٌ لَكُمْ) ، (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي : أعرضتم عن التوبة وأصررتم على الكفر (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) ؛ لا تفوتونه طلبا ، ولا تعجزونه هربا فى الدنيا ، (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فى الآخرة.

ولما أمر بنقض عهود الناكثين استثنى من لم ينقض فقال : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) أي : لكن الذين عاهدتم (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ، وهم بنو ضمرة وبنو كنانة ، (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) من شروط العهد ، ولم ينكثوا ، ولم يقتلوا منكم ، ولم يضروكم قط ، (وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً) أي : لم يعاونوا عليكم أحدا من أعدائكم ، (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى) تمام (مُدَّتِهِمْ) ، وكانت بقيت لهم من عهدهم تسعة أشهر. ولا تجروهم مجرى الناكثين ؛ (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ، وهو تعليل وتنبيه على أن إتمام عهدهم من باب التقوى. قاله البيضاوي.

الإشارة : من أعظم شؤم الشرك : أن الله ورسوله تبرآ من أهله مرتين : خاصة وعامة ، فيجب على العبد التخلص منه خفيا أو جليا ، ويستعين على ذلك بصحبة أهل التوحيد الخاص ، حتى يخلصوه من أنواع الشرك كلها ، فإن صدر منه شىء من ذلك فليبادر بالتوبة ، فإن تولى وأصر على شركه ، كان ذلك سبب هوانه وخزيه ، وبالله التوفيق.

ثم أمر بجهاد المشركين ، بعد الأربعة الأشهر التي أمهلهم فيها ، فقال :

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

يقول الحق جل جلاله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ) أي : انقضى الأشهر (الْحُرُمُ) وهى الأربعة التي أمهلهم فيها ، فمن قال : إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، فهى الحرم المعروفة ، زاد فيها شوال ، ونقص رجب ، وسميت حرما ؛ تغليبا للأكثر ، ومن قال : إنها ذو الحجة إلى ربيع الثاني ، فسميت حرما ؛ لحرمتها ومنع القتال فيها حينئذ. وغلط من قال : إنها الأشهر الحرم المعلومة ؛ لإخلاله بنظم الكلام ومخالفته للإجماع ؛ لأنه يقتضى بقاء حرمة الأشهر الحرم. انظر البيضاوي.

٣٥٨

فإذا انقضت الأربعة التي أمهلتهم فيها (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) الناكثين (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) من حل أو حرم ، (وَخُذُوهُمْ) أسارى ، ويقال للأسير : أخيذ ، (وَاحْصُرُوهُمْ) ؛ واحبسوهم ، (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) ؛ كل ممر وطريق ؛ لئلا ينبسطوا فى البلاد ، (فَإِنْ تابُوا) عن الشرك وآمنوا ، (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) ؛ تصديقا لتوبتهم وإيمانهم ؛ (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أي : فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشىء من ذلك.

وفيه دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله ، بل يقاتل ؛ كما فعل الصديق رضى الله عنه بأهل الردة. والآية : فى معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله ، ويقيموا الصّلاة ، ويؤتوا الزّكاة ...» الحديث (١).

(إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، هو تعليل لعدم التعرض لمن تاب ، أي : فخلوهم ؛ لأن الله قد غفر لهم ، ورحمهم بسبب توبتهم.

الإشارة : فإذا انقضت أيام الغفلة والبطالة التي احترقت النفس فيها ، فاقتلوا النفوس والقواطع والعلائق حيث وجدتموهم ، وخذوا أعداءكم من النفس والشيطان والهوى ، واحصروهم ، واقعدوا لهم كل مرصد يتعرضون فيه لكم ، فإن أذعنوا ، وانقادوا ، وألقوا السلاح ، فخلوا سبيلهم ، إن الله غفور رحيم.

ولما أمر بقتال المشركين وأخذهم أينما ثقفوا ، استثنى من أتى يطلب الأمان ، فقال :

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦))

قلت : «أحد» : فاعل بفعل يفسره : «استجارك».

يقول الحق جل جلاله : (وَإِنْ) أتاك (أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) المأمورين بالتعرض لهم ، حيثما وجدوا ، (اسْتَجارَكَ) ؛ يطلب جوارك ، ويستأمنك ، (فَأَجِرْهُ) أي : فأمنه ؛ (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ويتدبره ، ويطلع على حقيقة الأمر ، لعله يسلم ، (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي : موضع أمنه إن لم يسلم ، ولا تترك أحدا يتعرض له حتى يبلغ محل أمنه ؛ (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) أي : ذلك الأمر الذي أمرتك به بسبب أنهم قوم لا علم لهم بحقيقة الإيمان ، ولا ما تدعوهم إليه ، فلا بد من إيجارهم ، لعلهم يسمعون ويتدبرون ؛ فيكون ذلك سبب إيمانهم.

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (الاعتصام ـ باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ومسلم فى (الإيمان ـ باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله). من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.

٣٥٩

الإشارة : وإن استجارك ـ أيها العارف ـ أحد من عوام المسلمين ممن لم يدخل معكم بلاد الحقائق ، وأراد أن يسمع شيئا من علوم القوم ، فأجره حتى يسمع شيئا من علومهم وأسرارهم ، فلعل ذلك يكون سببا فى دخوله فى طريق القوم. ولا ينبغى للفقراء أن يطردوا من يأتيهم من العوام ، بل يتلطفوا معهم ، ويسمعوهم ما يليق بحالهم ؛ لأنّ العوام لا علم لهم بما للخواص ، فإنّ أطلعوا على ما خصهم الله به من العلوم دخلوا معهم ، إن سبق لهم شىء من الخصوصية.

وقال شيخ شيوخنا سيدى على الجمل رضى الله عنه : لا ينبغى لأهل الخصوصية أن يدخلوا بلد العموم إلا فى جوار أحد منهم ، وإلا أنكرته البلد ؛ لأن البلد أمّ تغير على غير أبنائها ، ولا ينبغى أيضا للعموم أن يدخلوا بلد الخصوص إلا فى جوار رجل منهم ، وإلا أنكرته البلد. ه. بالمعنى.

ثم استبعد الحق أن يكون للمشركين عهد مع المسلمين ، فقال :

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١))

قلت : (إلا الذين) : محله النصب على الاستثناء ، أو جر على البدل من «المشركين» ، أو رفع على الانقطاع ، أي : لكن الذين عاهدتم فما استقاموا لكم ، و (الإل) : القرابة والحلف ، وحذف الفعل فى قوله : (كيف وإن يظهروا عليكم) ؛ للعلم به بما تقدم ، أي : كيف يكون لهم عهد والحال أنهم إن يظهروا عليكم .. إلخ

يقول الحق جل جلاله ، فى استبعاد العهد من المشركين والوفاء به : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ)؟ مع شدة حقدهم وعداوتهم للرسول وللمسلمين ، مع ما تقدم لهم من النقض والخيانة فيه ، (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قيل : هم المستثنون قبل. وقال ابن إسحاق : هى قبائل بنى بكر ، كانوا

٣٦٠