الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

الشيخ محمّد السبزواري النجفي

الجديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمّد السبزواري النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٨

ذووهم أو ليمنّ هو عليهم (حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي لا يجوز له ذلك إلّا بعد أن يبالغ في قتل المشركين وقهرهم ، يأخذ الأسرى ليرتدع بهم غيرهم. وأثخن في الأرض : يعني غلّظ الحال بكثرة القتل وإيقاع الجرحى (تُرِيدُونَ) أيها المؤمنون ، والخطاب لهم وحدهم دون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي ترغبون في أسر أعدائكم لتأخذوا الفدية منهم منذ أول وقعة ـ في بدر ـ وقبل أن تثخنوا في الأرض وتخوضوا غمار حروب طاحنة ، محبّين (عَرَضَ الدُّنْيا) وهو مالها وما يعرض فيها مما هو زائل من مظاهرها الكثيرة (وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي يريد لكم ثواب الآخرة لا الحظّ العاجل من الدّنيا (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يغلب هو ولا يخذل أنصاره وهو (حَكِيمٌ) أفعاله دائما طبق الحكمة والصواب.

٦٨ ـ (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ ...) أي : لولا حكم أو قضاء سبق منه سبحانه وتعالى (لَمَسَّكُمْ) لأصابكم (فِيما) بسبب ما (أَخَذْتُمْ) من الأسرى (عَذابٌ عَظِيمٌ) وقد ورد في تعليل ذلك وجوه :

أولها : أنه سبحانه لولا ما مضى من حكمه بأن لا يعذّب قوما حتى يبيّن لهم ما ينبغي أن يتجنّبوه لعذّبكم بأخذ الأسرى وأخذ الفداء.

وثانيها : أنه لولا إباحته لكم أخذ الغنائم والفداء في سابق علمه وفي اللوح المحفوظ لعذّبكم بسبب أسرهم لأنكم استبحتم ذلك قبل تحليله.

وثالثها : أنه لو لا كتاب ، وهو القرآن الكريم ، آمنتم به فوجبت لكم المغفرة بفضله لكنّا عذّبناكم.

ورابعها : أن الكتاب الذي سبق هو قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ.)

٦٩ ـ (فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً ...) أي أبيح لكم أكل ما أخذتموه غنيمة من أموال الأعداء الذين قاتلوكم (وَاتَّقُوا اللهَ) بتجنّب المعاصي (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) متجاوز عن السيئات (رَحِيمٌ) يرأف بعباده.

٣٠١

أما الفاء في : فكلوا ، فقد دخلت للجزاء ، يعني : لقد أحللت لكم الغذاء بمالهم فكلوا. وحلالا طيبا : منصوب على الحال.

أما قصة القتل والأسر يوم بدر فتتلخّص بما يلي :

قتل يوم بدر من المشركين سبعون ، قتل منهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وحده سبعة وعشرين ، وقتل من أصحاب النبيّ (ص) تسعة رجال وقيل ثمانية ، وقيل أحد عشر وأسر من المشركين سبعون ، ولم يؤسر من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد. وقد قرن المسلمون الأسارى بالحبال وساقوهم إلى يثرب سيرا على أقدامهم. وليلة أسرهم بات النبيّ (ص) ساهرا لأنه كان يسمع أنين عمه العباس ، فأطلقوه من وثاقه فسكت فنام النبي (ص). وفي المدينة قال (ص) لأصحابه : إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم ، فقالوا : بل نأخذ الفداء نتقوّى به على أعدائنا. وكان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم ، وأقلّه ألف درهم. وأخذت قريش تبعث بالفداء وتستنقذ الأسرى. وفدت زينب بنت رسول الله (ص) زوجها أبا العاص بن الربيع بقلائد لها كانت خديجة أمّها عليهما‌السلام قد جهّزتها بها لأن أبا العاص ابن أخت خديجة (ع) فأطلقه رسول الله (ص) واشترط عليه أن يبعث إليه زينب وأن لا يمنعها من اللحوق به وقال : رحم الله خديجة ، هذه قلائد هي جهّزتها بها.

وقال أبو جعفر الباقر عليه‌السلام : كان الفداء يوم بدر كل رجل من المشركين بأربعين أوقية ، والأوقية أربعون مثقالا ، إلّا العباس فإن فداءه كان مائة أوقية ، وكان أخذ منه حين أسر عشرون أوقيّة ذهبا فقال النبي (ص) : ذلك غنيمة ، ففاد نفسك وابني أخيك نوفلا وعقيلا. فقال : ليس معي شيء. فقال : أين الذهب الذي سلّمته إلى أمّ الفضل وقلت : إن حدث بي حدث فهو لك وللفضل وعبد الله وقثم؟ فقال : من أخبرك بهذا؟ قال : الله تعالى. فقال : أشهد أنك رسول الله ، والله ما اطّلع على

٣٠٢

هذا أحد إلّا الله تعالى.

* * *

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١))

٧٠ ـ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ...) هذا خطاب للنبيّ (ص) وأمر أن يقول لأسرى بدر : (إِنْ يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) أي لو علم أن عندكم صلاحا ورغبة في الإيمان وصفاء نيّة (يُؤْتِكُمْ خَيْراً) أي أفضل (مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) من الفداء في الدّنيا (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم في الآخرة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعفو عن السيئات ويرحم عباده. ولا يخفى على ذوي الدربة أنه سبحانه ذكر الأيدي لأن من كان في قبضة المسلمين من الأسرى ، فهو بمنزلة من يكون بأيديهم بعد أن استولوا عليه. وهو كقولك : أصبح الأمر في قبضة يدي ، أي تحت تسلّطي وفي حوزتي.

وقد روي عن العباس بن عبد المطلب قوله : نزلت هذه الآية فيّ وفي أصحابي. كان معي عشرون أوقية ذهبا فأخذت منّي ، فأعطاني الله مكانها عشرين عبدا كلّ منهم يضرب بمال كثير ، وأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية ، وأعطاني زمزم وما أحبّ أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربّي.

٧١ ـ (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللهَ ...) أي إذا أراد الأسرى الذين أطلقتهم يا محمد ، أن يخونوا العهد معك وأن يعدّوا حربا عليك أو ينصروا عدوّك ، فقد خانوا الله ، بالتعدّي على سننه (مِنْ قَبْلُ) إذ خرجوا

٣٠٣

لقتالك في بدر مع المشركين ، فأشركوا بالله وأضافوا إليه الشريك وما لا يليق به (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ) أي فأمكنك منهم وسلّطك عليهم وجعلك تغلبهم وتأسرهم ، وسيفعل ذلك بهم إن عادوا إلى الخيانة (وَاللهُ عَلِيمٌ) بما يقولونه وما يضمرونه في نفوسهم (حَكِيمٌ) في فعله.

* * *

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣))

٧٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا ...) بهذه الآيات المباركات ختم الله سبحانه وتعالى قوله بوجوب موالاة المؤمنين والانقطاع عن موالاة الكافرين. فالذين آمنوا بالله ورسوله وبكل ما يجب الإيمان به ، وهاجروا من مكة إلى المدينة وتركوا وطنهم ، وجاهدوا فقاتلوا العدوّ وتحمّلوا المشاقّ ، وكان جهادهم (بِأَمْوالِهِمْ) التي بذلوها (وَأَنْفُسِهِمْ) التي أرخصوها (فِي سَبِيلِ اللهِ) طريق طاعته وإعزاز دينه ، (وَ) كذلك (الَّذِينَ آوَوْا) أي ضمّوا الرسول (ص) والمهاجرين إليهم بالمدينة وأنزلوهم في بيوتهم ، وأسكنوهم في منازلهم ، وهم الأنصار (وَنَصَرُوا) الرسول (ص) والمهاجرين معه على أعدائهم ، ف (أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ

٣٠٤

بَعْضٍ) أي بعضهم أولى بنصرة بعض وإن لم تربطهم قرابة نسب ، بل الموالاة في الدّين بحيث ينفذ أمان واحد منهم على سائر المسلمين. وقيل : بعضهم أولياء بعض في التوارث كما عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وغيرهم ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا) معكم إلى المدينة (ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) أي ليس لكم من ميراثهم شيء حتى يهاجروا إليكم ، فإن الميراث كان منقطعا في ذلك الوقت بين المهاجرين وغيرهم. وفي المجمع عن الإمام الباقر عليه‌السلام : أنهم كانوا يتوارثون بالمؤاخاة الأولى. وقيل إن المراد : ليس عليكم نصرتهم. والولاية لغة : عقد النّصرة للموافقة في الديانة. وقرأ حمزة والأعمش ويحيى بن وثّاب : ولايتهم بكسر الواو ، وقرأ الباقون بفتحها. والأصح فتحها لأن الولاية بالكسر معناها الإمارة (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ) طلبوا مساعدتكم على حرب أعدائهم من الكفار (فَعَلَيْكُمُ) فيجب عليكم (النَّصْرُ) لهم. أما في غير الدين فلا تجب عليكم نصرتهم. وقد استثنى سبحانه وجوب نصرهم فقال : (إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) يعني انصروهم في الدين ، إلّا إذا استعانوا بكم على قوم من المشركين يربطكم بهم عهد أو أمان يجب فيه الوفاء به فلا تنصروهم عليهم لأن ذلك نقض للعهد يأباه الإسلام (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لا تخفى عليه أعمالكم كائنا ما كانت.

٧٣ ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ...) أي أن الكافرين بعضهم ناصر بعض ، وبعضهم أولى بميراث بعض ، فلا تتعاطوا أمورهم ودعوهم وشأنهم واهتمّوا بشؤون أنفسكم (إِلَّا تَفْعَلُوهُ) أي إلّا تفعلوا ما أمرتم به في الآيتين السابقتين من التناصر والتعاون فيما بينكم ، ومن التبرؤ من الكفار والمشركين (تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أي : يحصل بلاء ومحنة على المؤمنين الذين لم يهاجروا خاصة ، فقد يميلوا إلى الضلال. والفساد الكبير : هو ضعف الإيمان ، أو الفتن والحروب وسفك الدماء. وقيل إن المراد بالفتنة : الكفر ، لأن المسلمين إذا والوا

٣٠٥

الكافرين تجرّأ الكافرون عليهم ودعوهم إلى اتّباع طريقتهم ، وهذا يوجب التبرؤ النهائيّ منهم. وقيل أيضا : معناه أنكم إذا لم تربطوا التوارث بالهجرة ، ولم تقطعوه بعدمها أدّى ذلك إلى فتنة واختلاف كلمة وفساد عظيم إذ يتقوّى بذلك الخارج على الجماعة. ثم عاد سبحانه يمتدح المهاجرين والأنصار ويثني عليهم فقال فيما يلي من ختام السورة المباركة :

* * *

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥))

٧٤ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا ...) أي الذين صدّقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بما جاء به من عند الله ، وأيقنوا بوجود الله ووحدانيته ، وتركوا ديارهم فرارا بدينهم مع رسول الله (ص) وحاربوا معه لينصروا دينه وشريعته (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) هم المصدّقون فعلا ، قولا وعملا ، وقد حقّقوا إيمانهم حتى برهنوا أنه إيمان حق. فهؤلاء (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي أعد الله لهم مغفرة : تجاوزا عن سيئاتهم ، ورزقا كريما : واسعا عظيما لا ينغّصه شيء من المكدّرات. وقيل : الرزق الكريم : هو هنا طعام الجنّة لأنه لا يتحوّل في الجوف إلى نجو بل يتحوّل ويتبخّر من الجسم كالمسك ريحا وعبيرا.

٧٥ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا ...) أي الذين آمنوا بعد فتح مكة ، وقيل هم الذين آمنوا بعد إيمانكم (وَهاجَرُوا) إلى النبيّ

٣٠٦

(ص) بعد هجرتكم الأولى (وَجاهَدُوا مَعَكُمْ) فقاتلوا الكفار والمشركين بجانبكم (فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) فهم من جملتكم إيمانا وهجرة وجهادا وحكما في الموالاة والميراث والنّصرة رغم تأخّر إيمانهم وهجرتهم (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) أي أن أهل القرابة بعضهم أحقّ بميراث بعضهم من غيرهم. وهذا ينسخ التوارث السابق بالمعاقدة والهجرة وسائر الأسباب كالمؤاخاة وغيرها ، وقد خطّ هذا الحكم (فِي كِتابِ اللهِ) أي في اللوح المحفوظ ، أو كما فصّل في القرآن لأبواب الإرث. وقوله هذا ، تبارك اسمه ، يدل على أن من كان أقرب إلى الميّت في النسب كان أولى بميراثه سواء كان ذا سهم أو غير ذي سهم ، أو عقبة أو غير ذي عقبة. ومن وافق مذهبنا في توريث ذوي الأرحام يستثني أصحاب الفرائض والعصبة من الآية مع أنه خلاف الظاهر منها (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) معناه ظاهر وقد مرّ تفسيره.

* * *

٣٠٧
٣٠٨

سورة التوبة

مدنية ، وهي مائة وتسع وعشرون آية.

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤))

١ ـ (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ ...) ختم سبحانه وتعالى سورة الأنفال بوجوب البراءة من المشركين ، ثم افتتح هذه السورة المباركة بأنه ورسوله بريئان منهم. والبراءة انقطاع العصمة ، أي أنه هو عزّ اسمه ورسوله قد رفعا الأمان وخرجا من عهود المشركين بهذه السورة التي تحمل خبر البراءة (إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ) يا محمد ويا أيّها المسلمون ، فتبرّأوا ممّن بينكم وبينهم عهود منهم فالله قد حرّم إعطاءهم العهود والوفاء لهم بها.

٣٠٩

وإن قيل كيف يجيز سبحانه نقض ما كان من عهود فجأة؟ فالجواب أن عهود هؤلاء كان يجوز نقضها من أوجه :

منها أن عهود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت مشروطة بالبقاء إلّا أن يرفعها الله سبحانه بالوحي.

ومنها أنه قد ظهر من المشركين خيانة ونقض ، فأمره الله بالنّبذ لهم على سواء.

كما أن منها ما له مدة تنتهي وينتقض العهد بانتهائها. وقد روي أنه (ص) قد شرط عليهم كلّ ذلك. وبعد هذه البراءة خاطب سبحانه المشركين بقوله :

٢ ـ (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ ...) أي سيروا فيها واقضوا حوائجكم بأمان لمدة (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) فإذا مضت المدة ولم تعلنوا الإسلام فقد برئت الذمة منكم وانقطعت عصمة دمائكم وأموالكم (وَ) مع ذلك (اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) أي لا تفوتونه ولا يعجز عنكم أينما كنتم في ملكه (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) أي مبعدهم ومهينهم. والأشهر الأربعة كان ابتداؤها يوم النّحر إلى العاشر من ربيع الثاني كما هو المرويّ عن الإمام الصادق عليه‌السلام ومجاهد ومحمد بن كعب القرظي ، وقيل إنها من أول شوال إلى آخر المحرّم لأن هذه الآية نزلت في شوال عن ابن عباس والزهري وغيرهما.

وقيل إن من كان له عهد من النبيّ (ص) إلى أكثر من أربعة أشهر حطّ عهده إليها ، ومن كان عهده إلى أقل منها رفع إليها.

ومما لا شك فيه عند أحد من المفسّرين ورواة الأخبار أنه لمّا نزلت براءة دفعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى أبي بكر ليبلّغها إلى الناس في الحج ، فانصرف بها حتى إذا بلغ ذا الحليفة بعث إليه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام على ناقته العضباء فردّه وأخذها منه ، فقال أبو بكر : هل نزل فيّ شيء؟ قال رسول الله (ص): لا يبلّغ إلّا أنا أو رجل منّي ، ثم بعث بها

٣١٠

عليّا وأمره أن ينبذ إلى كل ذي عهد عهده. وقد روى عاصم بن حميد عن أبي بصير عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : خطب عليّ عليه‌السلام الناس واخترط سيفه فقال : لا يطوفنّ بالبيت عريان ، ولا يحجّن البيت مشرك ، ومن كان له مدة فهو إلى مدته ، ومن لم يكن له مدة فمدته أربعة أشهر. وقد فعل ذلك عند جمرة العقبة ثم قرأ عليهم سورة براءة ، وقيل : قرأ عشر آيات أو ثلاث عشرة آية من أولها ، فقال المشركون قاتلهم الله : نحن نتبرّأ من عهدك وعهد ابن عمّك.

٣ ـ (وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ ...) أي وإعلام للناس من الله ورسوله في نداء يوجّهه إليهم (يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) يوم عرفة ، وقيل : يوم الوقوف (والحج الأصغر الذي ليس فيه وقوف ، أي العمرة) وقيل هو يوم النّحر كما روي عن الإمام الصادق عليه‌السلام وابن عباس وكثيرين ، وقيل أخيرا : عنى به حجّ المسلمين والمشركين معا لآخر مرّة. ولفظة : أذان معطوفة على : براءة التي هي خبر لمبتدأ محذوف تقديره : هذه الآيات براءة من الله ، وهي أذان منه ومن رسوله (أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي نازع عصمة عهودهم ، وقد حذف المضاف هنا (عهود) وأقيم المضاف إليه (الْمُشْرِكِينَ) مقامه ، وَكذلك (رَسُولِهِ) بريء منهم أيضا. وحسن ما ذكره صاحب المجمع من قولهم : إن البراءة الأولى لنقض العهد ، والبراءة الثانية لقطع الموالاة والإحسان ، وليس ذلك بتكرار. وقريء : رسوله ، بالفتح. فمن قرأه بالرفع فعلى أنه مبتدأ محذوف خبره إذ يدل عليه ما تقدّمه وتقديره : ورسوله أيضا بريء منهم. ومن قرأه بالفتح فعلى العطف على لفظة الجلالة مقدّرا : أن الله بريء من المشركين وأن رسوله بريء منهم أيضا (فَإِنْ تُبْتُمْ) أيها المشركون عن الشّرك في هذه المدة ووحّدتم الله وآمنتم به وبرسوله (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) من بقائكم على عنادكم وشرككم (وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) أي انصرفتم عن الإيمان وأقمتم على الكفر (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) لا تفوتونه ولا يعجز عن عقابكم في الدّنيا ، وإنما يمهلكم لتظهر لكم حجته (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي أخبرهم يا محمد

٣١١

بذلك. وقد استهزأ سبحانه بهم فأورد لفظ البشارة في مورد الإخبار عن العذاب الموجع في نار جهنّم.

٤ ـ (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ ...) استثنى سبحانه وتعالى من البراءة من كان بيده عهد من النبيّ (ص) ولم ينقضه ولم تنقض مدته ، وعنى بهم بني كنانة وبني ضمرة كما عن الفرّاء ، إذ بقي من أجلهم تسعة أشهر ولم يظاهروا على المؤمنين ولا نقضوا عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان (ص) قد صالح أهل البحرين وهجر وأيلة ودومة الجندل وغيرهم ولم ينبذ إليهم عهودهم ولا حاربهم حتى مضى لسبيله صلوات الله وسلامه عليه ووفى لهم بما صالحهم عليه عملا بقوله سبحانه : (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) أي لم يسقطوا من شروط عهودهم شيئا (وَلَمْ يُظاهِرُوا) أي لم يعاونوا (عَلَيْكُمْ) أيها المؤمنون (أَحَداً) من أعدائكم. هؤلاء (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) أي إلى انقضاء وقت عهودهم (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) المتجنّبين نقض العهود التي يعطونها.

* * *

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦))

٥ ـ (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ...) بدأ سبحانه بتفصيل ما يجري بعد انسلاخ : أي انقضاء الأشهر الحرم المعروفة عندهم التي حرّموا فيها القتال وهي : ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرّم ، ورجب ـ ثلاثة سرد ، وواحد

٣١٢

فرد ـ وقيل قصد بها الأشهر التي عنتها الآية الشريفة من يوم النحر حتى آخر المحرّم فأمهلهم خمسين يوما ، وقيل : بل هي : عشرون من ذي الحجة والمحرّم وصفر ، وشهر ربيع الأول وعشرة من ربيع الثاني ، وبعدها (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) وضعوا السيف فيهم (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) في أي مكان من الحلّ والحرم وفي الأشهر الحرم وغيرها. وهذا معناه نسخ لكل آية وردت في مهادنة المشركين ، فاقتلوهم أيها المؤمنون (وَخُذُوهُمْ) بالعنف والقتل (وَاحْصُرُوهُمْ) أي احبسوهم واسترقّوهم وامنعوهم دخول مكة والتصرف في سائر بلاد الإسلام (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) أي ارصدوهم في كل طريق وبكل مكان تحتملون مرورهم فيه ، وسدّوا عليهم الطّرق لقتلهم أو أسرهم (فَإِنْ تابُوا) أي رجعوا عن الكفر وندموا وانقادوا للدّين (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) أي رضوا وقبلوا بذلك وعملوه (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) أطلقوهم يتصرّفون كأحدكم في البلاد المسلمة ، لهم ما لكم وعليهم ما عليكم. وقيل : دعوهم يحجّوا البيت (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يعفو عمّا سلف ويرحم عباده. واستدلّوا بهذه الآية على أن تارك الصلاة عمدا يجب قتله ، لأنه تعالى أوجب الامتناع عن قتل المشركين إذا تابوا وأقاموا الصلاة ، وإذا لم يقيموها وجب قتلهم.

٦ ـ (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ...) أي إذا طلب منك يا محمد أحد من المشركين أمانا من القتل وأن تجيره منه وتحفظه في جوارك (فَأَجِرْهُ) فأمّنه (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) فيصغي لدعوتك ويتدبّر آيات القرآن الكريم ، لأن كلام الله فيه الأدلّة القاطعة ، واحفظه في كنفك حتى يتيسّر له ذلك (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) أي أوصله إلى حيث يأمن عند قومه ، فإذا أسلم يكون قد نال خير الدارين ، وإذا أصرّ على كفره فلا تغدر به ولا تقتله وليكن آمنا على نفسه وماله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) يعني أن هذا الأمان منحناهم إياه بسبب أنهم قوم لا يعلمون الإيمان ولا يفقهون الدلائل ، فخذهم بحلمك عسى أن يتدبّروا ويعلموا.

* * *

٣١٣

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠))

٧ ـ (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ...) أي كيف يكون لهم عهد محترم عند الله وعند رسوله وهم أهل غدر ونقض ولا يضمرون الوفاء. والجملة وردت على التعجّب وأنه سبحانه كيف يأمر بالكفّ عن دمائهم مع ما هم عليه (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فلهم عهد لأنهم لم يخونوك ولا أضمروا الغدر بك. وعن ابن عباس أن المقصود بهم قريش ، وقيل : هم أهل مكة حين عاهدهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الحديبية فلم يستقيموا وأعانوا بني بكر على خزاعة فضرب لهم رسول الله (ص) بعد الفتح أربعة أشهر فإمّا أن يسلموا وإمّا أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا ، فأسلموا قبل مضي الوقت. وقيل إنه سبحانه عنى قبائل كثيرة. (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) أي فما ثبتوا لكم على العهد فاثبتوا لهم وكونوا باقين عليه ما بقوا (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الذين يتجنّبون نكث العهود والمحافظة على الأوامر والنواهي.

٣١٤

٨ ـ (كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا ...) أي كيف يكون لهم عهد ، وكيف لا تقتلونهم ـ وهنا حذف هذا تقديره ـ وهم إذا ظهروا : أي علوا عليكم وغلبوكم ، لا يرقبوا : لا يحافظوا ولا يراعوا فيكم إلّا : أي عهدا ، قال الشاعر :

وجدناهم كاذبا إلّهم

وذو الإلّ والعهد لا يكذب

وقيل إن الإلّ هو القرابة و «الذّمّة» العهد ، قال حسان :

لعمرك إنّ إلّك من قريش

كإلّ السّقب من رأل النعام

فأين تذهبون وحالهم معكم هكذا وهم (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) أي يتكلّمون كلام الموالين المحبّين لترضوا عنهم (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) ترفض كل شيء إلّا عداوتكم (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) ممعنون في الشّرك والعناد والتمرد والكفر.

٩ ـ (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً ...) يعني أنهم أعرضوا عن حجج الله تعالى وبيّناته ودلائله ومنعوا الناس من الإيمان راضين بيسير ممّا نالوه من الدنيا. والاشتراء هو استبدال السلعة بالمال أو بغيرها وعكسه البيع. وقد نزلت هذه الآية الشريفة بقوم من العرب جمعهم أبو سفيان على الطعام ليؤجج صدورهم بعداوة النبيّ (ص) وقيل : إنها في اليهود الذين كانوا يقبضون الرّشى من عوام اليهود لقاء الحكم بالباطل (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي بئس الحكم حكمهم ذاك.

١٠ ـ (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ...) مرّ تفسيره في الآية السابقة وقد كرّر تأكيدا لصفاتهم الرديئة. وقيل إن الأول في صفة الناكثين للعهود ، والثاني في صفة المشترين بآيات الله ثمنا قليلا (أُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) أي المتجاوزون الحدّ في كفرهم وسيرتهم ومعاملاتهم.

* * *

٣١٥

(فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥))

١١ ـ (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ ...) أي إذا ندموا وأقلعوا عمّا هم فيه من الشّرك ونكث العهود ، وأسلموا وقبلوا بإقامة الصلاة (وَآتَوُا الزَّكاةَ) فعلوها وصرفوها في وجوه البرّ «ف» هم (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) عاملوهم كما تعاملوا إخوانكم من المؤمنين (وَ) نحن (نُفَصِّلُ الْآياتِ) نبيّنها ونوضحها ونظهر ما تعني كلّ واحدة منها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ذلك ويتفهّمونه ، لا للمعاندين والجهلة.

١٢ ـ (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ ...) أي إذا نقضوا عهدهم وما أوثقوا به أنفسهم من بعد أن أعطوا تلك المواثيق (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) أي قدحوا فيه وذمّوه وعابوه (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) أي رؤساء الكفر وقد أورد سبحانه ذكرهم لأنهم هم الضالّون المضلّون لأتباعهم. وعن ابن عباس وقتادة أنهم رؤساء قريش مثل الحرث بن هشام وأبي سفيان ، وعكرمة بن أبي جهل

٣١٦

وغيرهم. وعن حذيفة بن اليمان أنه لم يأت أهل هذه الآية بعد. وقرأ عليّ عليه‌السلام هذه الآية يوم البصرة ثم قال : أما والله لقد عهد إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال لي : يا عليّ لتقاتلنّ الفئة الناكثة ، والفئة الباغية ، والفئة المارقة (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) أي لا يحفظون عهدهم وقسمهم لأن اليمين هو القسم. وقد قرئ : لا إيمان لهم ، بالكسر ، أي إذا آمنوا إنسانا لا يفون به ، وأنهم كافرون لا إيمان لهم ، والأول أقرب للصواب لأن الكلام عن العهود والمواثيق كما لا يخفى على الحاذق. فقاتلوا هؤلاء الكفرة (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) أي لكي يمتنعوا عن الكفر وينهوه من صدورهم بقتالكم إياهم لينجلي لهم الحق. أما كيف قال سبحانه : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) ، ثم قال : إنهم لا أيمان لهم ، ويكف أثبتها ونفاها في آية واحدة ، فذلك أنه أثبت أيمانهم وما حلفوا به وعقدوا العزم عليه ، ثم نفى الأيمان بعد ذلك لأنهم لم يتمسّكوا بها.

١٣ ـ (أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ...) هذا استفهام يراد به التحضيض ـ والألف للاستفهام ـ أي هلّا تقاتلون ناكثي الأيمان وناقضي العهود ، وهم اليهود الذين خرجوا مع الأحزاب (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) من المدينة كما أخرجه كفّار مكة من مكة المكرّمة (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بنقض العهود وبالقتال (أَتَخْشَوْنَهُمْ) أي أتخافونهم وتحذرون أن يصيبكم ما تكرهون بقتالهم؟ وهو استفهام أراد به سبحانه تشجيع المؤمنين على جهادهم ، وهو في منتهى البلاغة والفصاحة لأنه جمع بين السؤال والاستهجان والتقريع والتشجيع (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) أجدر بالخوف من المؤاخذة والأخذ بالعقاب بسبب ترك أمره (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إذا كنتم مصدّقين بما جاء من عنده وبثوابه وعقابه.

١٤ ـ (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ...) هذا أمر منه سبحانه للمؤمنين بقتال المشركين ، ووعد لهم بالنصر عليهم وبشارة بالظفر لأنه جعل جواب الأمر بالقتال والطلب ، جوابا للطلب بأن يعذّبهم بأيدي المؤمنين قتلا وأسرا (وَيُخْزِهِمْ) أي يذلّهم ويبعدهم من رحمته (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ) يعني :

٣١٧

يعينكم عليهم (وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) أي يذهب الغيظ المستكنّ في صدور بعض المؤمنين ممّن نالتهم أذيّة الكفار كبني خزاعة الّذين بيّت عليهم بنو بكر وباغتوهم كما عن مجاهد والسدّي ، وهم كانوا حلفاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله.

١٥ ـ (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ...) أي يزيل ما كان فيها من الكدر والحزن لكثرة ما نالهم من الأذى والهوان. ويلاحظ أنه سبحانه بعد أن جعل الأفعال كلها في الآية معطوفة على جواب الطلب ومجزومة به من جهة ، وجعلها كلّها حثّا على قتلهم وقتالهم من جهة ثانية ، قد استأنف الكلام فقال : (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) أي يقبل التوبة ممّن يتوب منهم رحمة منه وكرما (وَاللهُ عَلِيمٌ) بتوبة من يتوب (حَكِيمٌ) في الأمر بقتالهم إذا نكثوا ، وبقبول توبة من تاب ، لأن أفعاله صواب كلها .. وقد قرئ : يتوب بالفتح شاذّا وعلّلوا ذلك بأنه إذا نصب فالتوبة داخلة في جواب الشرط ، وإذا رفع فهو استئناف وتقديره في النّصب : إن تقاتلوهم تكن كل هذه الأشياء التي أحدها التوبة من الله على من يشاء. والاستئناف والرفع أصحّ كما لا يخفى.

* * *

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦) ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))

٣١٨

١٦ ـ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ ...) أي : أظننتم وزعمتم أيها المؤمنون أن تهملوا فلا تكلّفون بالجهاد في سبيل الله؟ وأم : حرف عطف يعطف به الاستفهام. و (أَمْ حَسِبْتُمْ) معطوف على ما تقدّم. (وَلَمَّا يَعْلَمِ) نفي للعلم مع تقريب لوقوعه. ولو قال : ولم يعلم لكان نفيا للعلم بعد الإطماع بوقوعه. يعني : أتظّنون أن تتركوا هكذا ولمّا يظهر ما علم الله منكم؟ فذكر نفي العلم وهو يريد نفي المعلوم تأكيدا للنفي. وهو سبحانه عالم بما يكون قبل أن كان ، وبما لا يكون لو كان كيف يكون. ولمّا يعلم الله (الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) فامتثلوا الأمر وقاتلوا الكفار (وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) هذه الجملة معطوفة على سابقتها ، أي : ولم يعلم الله سبحانه الذين لم يتخذوا سواه وسوى رسوله وسوى المؤمنين أولياء وبطانة. والوليجة لغة : هو الدخيلة في القوم من غيرهم. ولكنه هنا البطانة ، ووليجة الإنسان من يختص بدخيلة أمره دون سائر الناس. فهو سبحانه وتعالى يريد أن يظهر ما يعلمه ممّن لا يوالي إلّا الله ورسوله والمؤمنين (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) عارف بأعمالكم ، عالم بها ، وهو يثيب ويجازي عليها.

١٧ ـ (ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ ...) أي لا ينبغي لمن أشرك بالله تعالى أن يشرف على عمارة مساجده وأمكنة عبادته ، بل هذا حقّ للمسلمين دون غيرهم. فكيف يفعلون ذلك (شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) يعني حال كونهم يشهدون ويعترفون بكفرهم بالله وبقدسية مساجده. وقد فسّروا العمارة مرّة بالدخول إليها والنزول بها كمن يعمر مجلس فلان أي يغشاه ، ومرة بإصلاحها وترميمها ، وأخرى بأن يكونوا من أهلها وروّادها. فعلى كل حال لا ينبغي للمشركين أن يكونوا أهل المسجد الحرام بكل هذه المعاني. أما شهادتهم على أنفسهم بالكفر ـ كما جاء في المجمع ـ فهو أنك إذا سألت اليهوديّ : ما أنت؟ يقول : أنا يهودي ، والنصرانيّ يقول : أنا نصراني ، ومثلهما المشرك. وقيل كلامهم وسلوكهم يدلّان على كفرهم ، كقولهم في التلبية : لبّيك لا شريك لك إلّا شريكا هو

٣١٩

لك تملكه وما ملك. فجميع أحوالهم تشهد بكفرهم (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) أي بطلت لأنها وقعت على خلاف الحق والصواب وهم لا يستحقون ثوابا عليها ، بل يعذّبون (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ) أي مقيمون إلى الأبد.

١٨ ـ (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ...) أي لا يعمر المساجد بالمعنى الذي ذكرناه في الآية السابقة إلّا الموحّد المؤمن بالله (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي يوم القيامة. ولفظة : إنّما ، تستعمل لإثبات المذكور ونفي ما عداه ، فإذا لا يقوم بعمران المساجد والطاعات إلّا من أقرّ بالوحدانية والبعث (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) بحدودهما وأصولهما (وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ) ولم يخف غيره أحدا من الخلق (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) فعن ابن عباس والحسن أنّ (فَعَسى) من الله واجبة. ومعنى ذلك أنّ من فعل ذلك فهو من المهتدين إلى الجنّة ورضوان الله تعالى بما أوجب له الله عزوجل.

* * *

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢))

١٩ ـ (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ...) هو استفهام

٣٢٠