الشيخ الحسن بن أبي الحسن الديلمي
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٢
ISBN: 4-5503-75-2
الصفحات: ٥٣٢
ولا يمتنع عليه فيغلبه ، ولا يفوته السريع منها فيسبقه ، ولا يحتاج إلى ذي مال فيرزقه ، خضعت الأشياء له فذلت (١) مستكينة لعظمته ، لاتستطيع الهرب من سلطانه إلى غيرهفتمتنع من نفعه وضره ، ولا كفؤله فيكافئه ، ولانظيرله (٢) فيساويه.
هو المفني لها بعد وجودها ، حتى يصيرموجودها كمفقودها ، وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها ، بأعجب من إنشائها واختراعها ، وكيف ولو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها ، وما كان من مراحها (٣) وسائمها ، وأصناف أسناخها وأجناسها ، ومتبلدة اممهاو اكياسها ، على احداث بعوضة ماقدرت على احداثها ، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها ، ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت ، وعجزت قواها وتناهت ، ورجعت خاسئة حسيرة ، عارفة بأنها مقهورة ، مقرة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضعف عن إفنائها.
وأنه يعود سبحانه بعد فناء الدنيا وحده لاشيء معه ، كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ، بلاوقت ولا مكان ، ولا حين ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون والساعات ، فلا شيء الا الواحد القهار ، الذي إليه مصير جميع الاُمور.
بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها ، وبغير امتناع منها كان فناؤها ، ولوقدرت على الامتناع لدام بقاؤها ، لم يتكاءده (٤) صنع شيء منها [ إذ ] (٥) صنعه ، ولم يؤده منها خلق ما برأه وخلقه ، ولم يكونها لتشديد سلطان ، ولا لخوف من زوال ونقصان ، ولا للاستعانة بها على ند مكاثر ، ولا للاحتراز بها من ضد مثاور ، ولا للازدياد بها في ملكه ، ولا لمكاثرة شريك في شركه ، ولا لوحشة كانت منه (٦) فأراد أن يستأنس إليها.
ثم هو يفنيها بعد تكوينها ، لالسأم دخل عليه في تصريفها وتدبيرها ، ولا لراحة واصلة إليه ، ولا لثقل شيء منها عليه ، لايمله طول بقائها فيدعوه إلى سرعة افنائها ، لكنه
__________________
١ ـ في النهج : وذلت.
٢ ـ ليس في النهج.
٣ ـ في الأصل : مراحمها ، وما أثبتناه من النهج.
٤ ـ في وصفه تعالى « لابتكاءده صنع شيء كان » أي لايشق عليه « مجمع البحرين ٣ : ١٣٥ ».
٥ ـ أثبتناه من النهج.
٦ ـ في الأصل : منها ، وما أثبتناه من النهج.
سبحانه دبرها بلطفه ، وأمسكها بأمره ، وأتقنها بقدرته ، ثم يعيدها بعد الفناء من غيرحاجة منه إليها ، ولا أستعانة (١) بشيء منها عليها (٢) ، ولا لانصراف من حال وحشة إلى حال استئناس ، ولا من حال جهل وعمى إلى [ حال ] (٣) علم والتماس ، ولا من فقر وحاجة إلى غنى وكَثرة ، ولا من ذل وضعة إلى عز وقدرة.
* * *
__________________
١ ـ في الأصل : ثم لا لاستعانة ، وما أثبتناه من النهج.
٢ ـ في الأصل : عليه ، وما أثبتناه من النهج.
٣ ـ أثبتناه من النهج.
ومن خطبة له في المعنى (١) :
الحمد للّه المتجلي لخلقه بخلقه ، والظاهر لقلوبهم بحجته ، خلق الخلق من غير روية ، إذ كانت الرويات لاتليق إلآ بذوي الضمائر ، وليس بذي ضمير في نفسه ، خرق علمه باطن غيب السترات ، وأحاط بغموض عقائد السريرات.
وأشهد أن لا إله اللّه وحده لا شريك له ، الأول فلا شيء قبله ، [ و ] (٢) الآخر لا نهاية له ، لاتقع القلوب له على ، غاية ، ولا تعقد القلوب منه على كيفية ، لاتناله ألتجزئة والتبعيض ، ولا تحيط به الأبصار والقلوب (٣) ، بطن خفيات الامور ، ودلت عليه أعلام الظهور ، وامتنع على عين البصير ، فلا عين من لم يره تنكره ، ولاقلب من اثبته يبصره ، سبق في العلو فلا شيء أعلى منه ، وقرب في الدنو فلا شيء أقرب منه ، فلا أستعلاؤه باعده عن شيء من خلقه ، ولا قربه ساواهم في المكان به ، لم يطلع العقول على تحديد صفته ، ولم يحجبها عن واجب معرفته ، فهو الذي تشهد له اعلام الوجود على اقرارقلب ذي الجحود ، تعالى اللّه عما يقول المشبهون به والجاحدون له علوا كبيراً (٤).
* * *
__________________
١ ـ رواها الشريف الرضي في نهج البلاغة ١ : ٢٠٦ / ١٠٤ ، إلى : عقائد السريرات.
٢ ـ أثبتناه من النهج.
٣ ـ نهج البلاغة ١ : ٨١ / ١٤٦ ، من : وأشهد أن لا إله إلا اللّه.
٤ ـ نهج ألبلاغة ١ : ٩٤ / ٤٨ ، من : بطن خفيات الاُمور.
ومن خطبة له في التوحيد عليه السلام :
الحمد للّه الدال على وجوده بخلقه ، وبمحدث خلقه على ، أزليته ، وباشتباهم على أن لا شبه له ، لا تشتمله (١) ألمشاعر ، ولا تحجبه السواتر ، لافتراق الصانع والمصنوع ، والحاد والمحدود ، والرب والمربوب.
الأحد لا بتأويل عدد ، والخالق لا بمعنى حركة ونصب ، والسميع لا بأداة ، والبصير لابتفريق الة ، والشاهد لابمماسة ، والبائن لابتراخي مسافة ، والظا هر لابرؤية ، والباطن لا بلطافة ، بان من الأشياء بالقهر لها والقدرة عليها ، وبانت الأشياء منه بالخضوع له والرجوع إليه.
من وصفه فقد حده ، ومن حده فقد عده ، ومن عده فقد أبطل ازله ، ومن قال : (كيف) فقد استوصفه ، ومن قال : (أين) فقد حَيّزه ، عالم إذ لا معلوم ، ورب إذلا مربوب ، وقادر إذ لا مقدور.
منها : قد طلع طالع ، ولمع لامع ، ولاح لائح ، واعتدل مائل ، واستبدل اللّه بقوم قوماً ، وبيوم يوماً وانتظرنا الغِيَر انتظار المجدب المطر ، وانما الأئمة قوام اللّه على خلقه ، وعرفاؤه على عباده ، لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ، ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه.
إن اللّه خصكم بالاسلام واستخلصكم له ، وذلك لأنه اسم سلامة وجماع كرامة ، اصطفى اللّه تعالى منهجه وبين حججه ، من ظاهر علم وباطن حكم ، لا تفنى غرائبه ، ولا تنقضي عجائبه ، فيه مرابيع النعم ومصابيح الظلم ، لاتفتح الخيرات إلا بفاتحهم (٢) ، ولا تكشف الظلمات إلا بمصابحهم (٣) ، قد أحمى حماه وأرعى مرعاه ، فيه شفاء المشتفي وكفاية المكتفي (٤).
__________________
١ ـ في النهج : لاتستلمه.
٢ ـ في النهج : بمفاتيحه.
٣ ـ في النهج : بمصابيحه.
٤ ـ نهج البلاغة ٢ : ٥٣ / ١٤٨.
ومن كلام له في المعنى :
قاله لذعلب اليماني ، وقد سأله : هل رأيت ربك؟ فقال. أفأعبد من (١) لا أرى؟! قال : وكيف تراه ، قال : لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الايمان ، قريب من الأشياء غير ملامس ، بعيد منها غير مباين متكلم لا بروية ، مريد لا بهمة ، صانع لا بجارحة ، لطيف لايوصف بالخفاء ، كبير لا يوصف بالجفاء ، بصيرلا يوصف بالحاسة ، رحيم لايوصف بالرقة ، تعنو الوجوه لعظمته ، وتوجل (٢) القلوب منمخافته (٣).
الذي (٤) لم يسبق له حال حالا ، فيكون أولا قبل أن يكون اخرا ، ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطناً كل مسمى بالوحدة غيره قليل ، وكل عزيز غيره ذليل ، وكل قوي غيره ضعيف ، وكل مالك غيره مملوك ، وكل عالم غيره متعلم ، وكل قادرغيره يقدر ويعجز ، وكل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات ويصمه كبيرها ويذهب عنه ما بعد منها ، وكل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان ولطيف الأجسام ، وكل ظاهرغيره غير باطن ، وكل باطن غيره غير ظاهر ، لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان ، ولا تخوف من عواقب زمان ، ولا استعانة على ند مثاور ، ولا شريك مكاثر (٥) ، ولا ضد منافر ، ولكن خلائق مربوبون وعباد داخرون ، لم يحلل في الاشياء فيقال : هو فيها كائن ، ولم ينأ عنها فيقال : هو منها بائن ، لم يؤده خلق ما ابتدأ ، ولا تدبير ماذرأ ، ولاوقف به عجز عما خلق ، ولا ولجت عليه شبهة فيما قدر وقضى ، بل قضاء متقن ، وعلم محكم ، وأمر مبرم ، المأمول مع النقم ، المرهوب مع النعم (٦).
__________________
١ ـ في النهج : ما.
٢ ـ في النهج : وتجب.
٣ ـ نهج البلاغة ٢ : ١٢٠ / ١٧٤.
٤ ـ في النهج : الحمد لله الذي.
٥ ـ في النهج : مكابر.
٦ ـ نهج البلاغة ١ : ١٠٧ / ٦٢. وفيه من : الذي لم يسبق.
ومن كلام له عليه السلام في التوحيد :
عن مقدام (١) بن شريح بن هانىء ، عن أبيه قال : إن أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليهالسلام فقال : يا أمير المؤمنين ، أتقول ان اللّه واحد؟ قال : فحمل الناس عليه وقالوا : يا أعرابي ، أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب!؟ فقال أميرالمؤمنين عليهالسلام : « دعوه ، فإن الذي يريده الأعرابي هوالذي نريده من القوم ».
[ ثم ] (٢) قال : « يا أعرابي ، إن القول في أن اللّه واحد ، على أربعة أقسام :
فوجهان منها لايجوزان على اللّه تعالى ، ووجهان يثبتان فيه.
فأما اللذان لايجوزان عليه : فقول القائل : واحد ، يقصد به باب الاعداد ، فهذا ما لا يجوز ، لأن مالا ثاني له لايدخل في باب الم لاعداد ، أما ترى أنه كفر من قال : ثالث ثلاثة! وقول القائل : هو واحد ، يريد به النوع من الجنس ، فهذا مالا يجوز ، لأنه تشبيه ، جل ربنا عن ذلك وتعالى.
وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه : فقول القائل : هو واحد ، يريد به ليس له في الأشياء شبه ولا مثل ، كذلك اللّه ربنا. وقول القائل : انه تعالى واحد ، يريد أنه أحدي المعنى ، يعني أنه لاينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم ، كذلك اللّه ربنا عزوجل » (٣).
وروى أن رجلا قال له : يا أمير المؤمنين بماذا عرفت ربك؟ قال : « بفسخ العزم ونقض الهم ، لما ان هممت فحال بيني وبين همي ، وعزمت فخالف القضاء عزمي ، علمت أن المدبر لي غيري ».
قال : فبماذا شكرت نعماءه؟ قال : نظرت إلى بلاء قد صرفه عني وابلى به غيري ، وإحسان شملني به ، فعلمت أنه قد أباه علي فشكرته ».
قال : فبماذا أحببت لقاءه؟ قال : « رآيتة قد اختار لي دين ملائكته ورسله ،
__________________
١ ـ في الأصل : مقداد ، وما أثبتناه هو ألصواب ، وهو المقدام بن شريح بن هانىء بن يزيد الحارثيالكوفي ، روى عن أبيه ، وعنه اسرائيل. « تهذيب التهذيب ١٠ : ٢٨٧ / ٥٠٤ ، تقريب التهذيب ٢ : ٢٧٢ / ١٣٤٩ ».
٢ ـ أثبتناه من التوحيد.
٣ ـ رواه الصدوق في التوحيد ٨٣ : ٣ ، والخصال ٢ : ١ ، ومعاني الأخبار٥ : ٢.
فعلمت أن الذي أكرمني بهذا ليس ينساني فأحبيت لقاءه » (١).
ومن خطبه له عليه السلام في التوحيد :
الحمد للّه الذي لاتدركه الشواهد ، ولا تحويه المشاهد ، ولا تراه النواظر ، ولاتحجبه السواتر ، الدال على قدمه بحدوث خلقه ، وبحدوث خلقه على وجود ، ، وباشباههم على أن لا شبه له ، الذي صدق في ميعاده ، وارتفع عن ظلم عباده ، وقام بالقسط في خلقه ، وعدل عليهم في حكمه ، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليته ، وبما وسمها به من العجز على قدرته ، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه.
واحد لابعدد ، ودائم لا بأمد ، وقائم لابعمد ، تتلقاه الأذهان لابمشاعرة ، وتشهدله المرائي لابمحاضرة ، لم تحط به الاوهام ، بلى تجلى لها ، وبها امتنع منها ، وإليها حاكمها ، ليس بذي كبرامتدت به النهايات فكبرته تجسيماً ، ولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيداً ، بل كبرشأناً وعظم سلطاناً.
وأشهد أن محمداً عبده المصطفى ، وأمينه الرضي صلى اللّه عليه [ واله ] وسلم ، أرسله بوجوب الحجج ، وظهور الفلج ، وإيضاح المنهج ، فبلغ الرسالة صادعا بها ، وحمل على المحجة دالاً عليها ، وأقام اعلام الاهتداء ومنار الضياء ، وجعل امراس الاسلام متينة ، وعرى الإيمان وثيقة (٢).
وقال عليهالسلام :
من عبداللّه تعالى بالوهم ان يكون صورة أوجسماً فقد كفر ، ومن عبد الاسم دون المعنى فقد عبد غير اللّه ، ومن عبد المعنى دون الإسم فقد دل على غائب ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد إثنين ، ومن عبد المعنى بوقوع الإسم عليه ، يعقد به قلبه ، وينطق به لسانه ، فذلك في ديني حقاً ودين آبائي.
يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه ورضوانه ، أبو محمد الحسن بن أبي الحسن الديلمي ، أعانه اللّه على طاعته ، وتغمده برأفته ورحمته ، وحشره مع أئمته : إن ذات اللّه تعالى معروفة بالعلم ، غيرمدركة بالإحاطة ، ولا مرئية بالأبصار ، فهي ثابتة في العقول من غير حد ولا إحاطة ولا حلول ، قد حجب سبحانه الخلق أن يعرفوا له كنه ذات ، ودلهم
__________________
١ ـ رواه الصدوق في التوحيد : ٢٨٨ / ٦.
٢ ـ نهج ألبلاغة ٢ : ١٣٧ / ١٨٠.
عليه بآياته ودلالاته ، فالعقول تثبته ، وقلوب المؤمنين مطمئنة به غير شاكة فيه ولا منكرة له.
واني لأعجب ممن يستدل بصفات المخلوق على صفة الخالق ، وكيف يصح الاستدلال بصفات من له مثل ، على صفات من لا مثل له ولا نظير!؟
واللهّ تعالى يصدق هذا القول بقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) (١)
واعلم أن حقيقة المعرفة عقد الضميرفي القلب ، بإخراج ذات اللّه عن كل موهوم ومهجوس ومحسوس ، وطرق الحق واضحة ، وعلاماته لائحة ، وعيون القلوب مفتوحة ، ولكن أعماها غشاوة الهوى ، وضعف البصائر ، وجماد القرائح ، وترك الطلب ، ولو استشعروا الخوف قوموا به العوج ، وسلكوا الطريق الابلج.
ودواء القلوب وجلاؤها في خمسة أشياء : قراءة القرآن المجيد بالتدبر ، وخلاء البطن ، وقيام الليل ، والتضرع في السحر ، ومجالسة الصالحين. وأعظم مقامات العارفين : القيام بالأوامر ، والثقة بالمضمون ، ومراعاة الأسرار بالسلامة ، والتخلي من الدنيا ، فإذا حصلت هذه الصفات ، ضاقت على صاحبها الأرض بما رحبت ، كما قال اللّه : ( ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم ) (٢) ومن ألزم نفسه آداب الكتاب ، وسنة نبينا محمد صلىاللهعليهوآله ، وسنن الأئمة من أهل بيته عليهمالسلام ، نور اللّه قلبه بنور الايمان ، ومكن له بالبرهان ، وجعل على وجهه وأفعاله شاهد الحق. ولا مقام أشرف من متابعة اللّه الحبيب واحبائه من أنبيائه ، وائمته من أوليائه ، في أوامرهم ونواهيهم ، ومن ادعى المحبة لهم وهو على خلاف ذلك ، فانما يستهزىء بنفسه ويغمزها.
* * *
__________________
١ ـ الشورى ٤٢ : ١١.
٢ ـ التوبة ٩ : ١١٨.
ومن كلام الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام في التوحيد :
رواه عنه محمد بن زيد الطبري ، قال : كنت قائما عند علي بن موسى الرضا عليهماالسلام بخراسان ، وحوله جماعة من بني هاشم وغيرهم ، وهو يتكلم في توحيد اللّه تعالى ، فقال :
اول عبادة الله معرفته ، وأصل معرفته توحيده ، ونظام توحيده نفي التحديد عنه ، لشهادة العقول بأن كل محدود مخلوق ، وشهادة كل مخلوق أن له خالقاً ليس بمخلوق ، الممتنع من الحدث هو القديم في الأزل ، ليس اللّه عبد من نعت ذاته ، ولا إياه وحد من اكتنهه ، ولا حققه من مثَّله ، ولا به صدق من نهّاه ، ولا [ صمد ] (١) صمده من أشار إليه بشيء من الحواس ، ولا إياه عنى من شبّهه ، ولا له عرف من بَعَّضه ، ولا إياه أراد من توهمه ، كل معروف بنفسه مصنوع ، (٢) وكل قائم في سواه معلول.
بصنع اللّه يستدل عليه ، وبالعقول تعتقد معرفته سبحانه ، وبالفطرة تثبت حجته ، خلق الخلق بينه وبينهم حجابُ مباينته اياهم ومفارقتهم له ، وابتداؤه لهم دليلهم على أن لا ابتداء له ، لعجز كل مبتدأ منهم عن ابتداء مثله ، فاسماؤه تعالى تعبير ، وأفعاله سبحانه تفهيم ، قد جهل اللّه سبحانه من حده ، وقد تعداه من اشتمله ، وقدأخطأه من اكتنهه (٣).
من قال : (كيف) فقد شبهه ، ومن قال : (أين) فقد حصره ، ومن قال : (فيم) فقد وعاه ، ومن قال : (علام) فقد شبهه ، ومن قال : (متى) فقد وقته (٤) ، ومن قال : (لم) فقد علله (٥) ، ومن قال : (فيم ) فقد ضمنه ، ومن قال : (إلام ) فقد نهاه ، ومن قال : (حَتّام ) فقد غياه ، ومن غياه فقد جَزّأه ، ومن جَزَّأه فقد ألحد فيه.
لا يتغير اللّه تعالى بتغاير المخلوق ، ولا يتحدد بتحديد المحدود ، واحد لا بتأويل عدد ، ظاهر لابتأويل مباشرة ، متجلِ لا باستهلال رؤية ، باطن لابمزايلة ، قريب
__________________
١ ـ أثبتناه من أمالي المفيد.
٢ ـ في الأصل : موضوع ، وما أثبتناه من أمالي المفيد.
٣ ـ في الأصل : اكتنفه ، وما أثبتناه من أمالي المفيد.
٤ ـ في الأصل زيادة مكررة : ومن قال فيم فقد وعاه.
٥ ـ في الأصل زيادة مكررة : ومن قال متى فقد وقته.
لا بمداناة ، لطيف لا بتجسيم ، موجود لا عن عدم ، فاعل لا باضطرار ، مقدر لا بفكر ، مدبرلا بعزيمة ، شاءِ لا بهمة ، مدرك لابحاسة ، سميع لابآلة ، بصير لابأداة ، لا تصحبه الأوقات ، ولا تضمه الأماكن ، ولا تأخذه السِّنات ، ولا تحده الصفات ، ولا تقيده الأدوات.
سبق الأوقات كونُه ، والعدَم وجودُه ، والابتداءَ أزله ، وبمشابهته بين الأشياء عالم أن لا شبه له ، وبمضادّته بين الأضداد علم أن لاضد له ، وبمقارنته بين الأمور عرف أن لاقرين له ، ضاد النور بالظلمة ، والظل بالحرور ، مؤلف بين متدانياتها (١) ، مفرق بين متبايناتها ، بتفريقها دل على مفرقها ، وبتأليفها دل على مؤلفها.
قال سبحانه : ( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ) (٢).
له معنى الربوبية إذ لا مربوب ، وحقيقة الالهية إذ لا مألوه ، ومعنى العالم إذ لامعلوم ، ليس منذ خلق استحق معنى الخالق ، ولا من حيث احدث استفاد معنى المحدث ، لا تنائيه (منذ) ولاتدنيه (قد) ولا تحجبه (لعل) ولا توقته (متى) ولا تشتمله (حين ) ولا تقاربه (مع ) ، كلما في الخلق من اثرغير (٣) موجود به ، وكل ما أمكن فيه ممتنع من صانعه ، لاتجري عليه الحركة والسكون ، وكيف يجري عليه ما هو اجراه! أويعود فيه ما هو أبداه!؟ إذاً لتفاوتت دلالته ، وامتنع من الأزل معناه ، ولما كان البارىء ، غير المبرأ (٤) ولو وجد له وراء لوجد له أمام ، ولو التمس له التمام لزمه النقصان ، كيف يستحق الأزل من لايمتنع من الحدث!؟ وكيف ينشىء الأشياء من لايمتنع من الإنشاء!؟ لو تعلقت به المعاني لقامت فيه اية المصنوع ، ولتحول من كونه دالاً إلى كونه مدلولاً عليه ، ليس في محال القول حجة ، ولا في المسألة عنه جواب ، لا إله إلاّ هو العلي العظيم (٥).
__________________
١ ـ في الأصل : متعاقباتها ، وما أثبتناه من أمالي المفيد.
٢ ـ الذاريات ٥١ : ٤٩.
٣ ـ في الأصل : عين ، وما أثبتناه من أمالي المفيد.
٤ ـ في الأصل : المبري ، وما أثبتناه من أمالي الطوسي.
٥ ـ رواه المفيد في أماليه : ٢٥٣ / ٣ ، ٤ والطوسي في أماليه ١ : ٢٢.
تفسير سورة الإخلاص
( قل هواللّه أحد ) معناه أنه غيرمبعض ، ولا مُجَزّأ ، ولا موهم ، ولا توجد عليه الزيادة والنقصان.
( اللّه الصمد ) عني بالصمد السيد المطاع الذي ينتهي إليه السؤدد ، وهوالذي تَصَمَّد على الخلائق ، وتَصمد الخلائق إليه.
( لم يلد ) كما قالت اليهود لعنهم اللّه : عزير بن الله.
( ولم يولد ) كما قالت النصارى لعنهم اللّه : المسيح الله.
( ولم يكن له كفواً أحد ) أي ليس له ضد ، ولاند ، ولاشريك ، ولا شبه ، ولامعين ، ولا ظهير ، ولا نصير ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
* * *
خطبة بليغة عن مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام ، ليس فيها ألف (١) :
« حمدت من عظمت مِنَّتُه ، وسبغت نعمته ، وتمت كلمته ، وسبقت رحمته ، ونفذت مشيئته ، وفالحت حجته ، حمد مْقِرٍ بربوبية ، متخضع لعبوديته ، مؤمن بتوحيده ، ووحّدته توحيد عبد مذعن بطاعته (٢) ، متيقن يقين عبد لمليك ليس له شريك في ملكه ، ولم يكن له ولي في صنعه ، عجز عن وصفه من يصفه ، وضلّ عن نعته من يعرفه ، قرب فبعد ، وبعد فقرب ، مجيب دعوة من يدعوه ويرزقه ويحبوه ، ذو لطف خفي ، وبطش قوي ، ورحمة موسعة ، وعقوبة موجعة ، رحمته جنة عريضة مونقة ، وغضبهُ نقمة ممدودة موبقة.
وشهدت ببعث محمد عبده ورسوله ونبيه وحبيبه وخليله ، بعثه من خير عنصر ، وحين فترة ، رحمةً لعببده ، ومنةً لمزيده ، وختم به نبوته ، ووضح به حجته ، فوعظ ونصح ، وبلَّغ وكدح ، رؤوف بكل عبد مؤمن ، سخي رضي زكي ، عليه رحمة وتسليم وتكريم ، من رب غفور رحيم قريب مجيب.
وَصّيتكم ـ معشرمن حضرني ـ بوصية ربكم ، وذَكَّرتكم سنة نبيكم ، فعليكم برهبة ورغبة تسكن قلوبكم ، وخشية تجري دموعكم ، قبل يوم عظيم مهول يلهيكم ويبكيكم ، يوم يفوز فيه من ثقل وزن حسنته وخف وزن سيئته ، وليكن مسألتكم مسألة ذل وخضوع وخشوع ، ومسكنة وندم ورجوع ، فليغتنم كل منكم صحته قبل سقمه ، وشبيبته قبل هرمه ، وسعته قبل فقره ، وفرغته قبل شغله ، وحضره قبل سفره ، قبل يهرم ويمرض ويمل ويسقم ، ويمله طبيبه ، ويعرض عنه حبيبه ، وينقطع منه عمره ، ويتغير عقله وسمعه وبصره ، ثم يصبح ويمسي وهو موعوك وجسمه منهوك ، وحُدِيَت نفسه ، وبكت عليه عرسه ، ويتم منه ولده ، وتفرق عنه جمعه وعدده ، وقسم جمعه ، وبسط عليه حنوطه ، وشدّ منه ذقنه ، وغسل وقمص وعمم ، وودع وسلم ،
__________________
١ ـ ذكر الكنجي الشافعي في كفاية الطالب : ٣٩٣ ، بسنده عن أبي صالح ، قال : جلس جماعة من أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآلهوسلم يتذاكرون فتذاكروا الحروف وأجمعوا ان الألف اكثردخولاً في ألكلام من سائر الحروف ، فقام مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام ، فخطب هذهالخطبة على البديهة فقال : ...
٢ ـ كذا في الأصل ، وفي مواضع اُخر وهومخالف لشرط الخطبة ، ولم يرد المقطع الأخير فيشرح النهج لابن أبي الحديد وكفاية الطالب وكتزالعمال ومصباح الكفعمي ، فتأمل.
وحمل في سرير ، وصُلي عليه بتكبير ، ونقل من دور مزخرفة ، وقصور مشيدة ، وحجر منضدة ، وفرش ممهدة ، فجعل في ضريح ملحود ، وضيق مسدو فى بلبنٍ جلمود ، وهيل عليه عفره ، وحثي عليه مدره ، ومحي منه اثره ، ونسي خبره ، ورجع عنه وليده وصفيه وحبيبه وقريبه ونسيبه ، فهو حشو قبره ، ورهين سعيه ، يسعى في جسمه دود قبره ، ويسيل صديده من منخره وجسمه ، ويسحن (١) تربه لحمه ، وينشف دمه ، ويرم عظمه ، فيرتهن بيوم حشره ، حتى ينفخ في صوره ، وينشر من قبره ، فلا ينتصر بقبيلة وعشيرة ، وحصلت سريرة صدره ، وجيء بكل نبي وشهيد وصديق ونطيق ، وقعد للفصل عليم بعبيده خبير بصير. فحينئذ يلجمه عرقه ، ويحرقه قلقه ، وتغزرعبرته ، وتكثر حسرته ، وتكبر صرعته ، حجته غيرمقبولة ، نشرت صحيفته ، وتبينت جريمته ، ونظر في سوء عمله ، فشهدت عينه بنظره ، ويده بلمسه ، وفرجه بمسه ، ورجله بخطوه ، ويهلكه منكرونكير ، وكشف له حيث يصير ، فسلسله وغلغله ملكه بصفد من حديد ، وسيق يسحب وحده فورد جهنم بكرب شديد ، وغم جديد ، في يد ملك عتيد ، فظل يعذب في جحيم ، ويسقى من حميم ، يشوى به وجهه ، وينسلخ منه جلده ، بعد نضجه (٢) جديد.
فمن زحزح عن عقوبة ربه ، وسكن حضرة فردوس ، وتقلب في نعيم ، وسقي من تسنيم ، ومزج له بزنجبيل ، وضُمِّخ بمسك وعنبر ، مستديم للملك مقيم في سرور محبور ، وعيش مشكور ، يشرب من خمور ، في روض مغدق ، ليس يصدع عن شربه.
ليس تكون هذه إلاّ منزلة من خشي ربه ، وحزن نفسه ، وتلك عقوبة من عصى منشئه وربه ، وسولت له نفسه معصيته ودينه (٣) ، ذلك قول فصل ، وحكم عدل ، خير قصص قص ، [ ووعظ نص ، تنزيل من حكيم حميد ، نزل به روح قدس مبين على قلب نبي مهتد رشيد ] (٤) صلت عليه رسل سفرة مكرمون بررة ، ورب كل مربوب ، وعلى درسه ذوي طهر غيرمسلوب ، وعلى كل مؤمن ومؤمنة ، والسلام » (٥).
__________________
١ ـ سحنت الحجر : كسرته (الصحاح ٥ : ٢١٣٣).
٢ ـ كذا في الأصل : ولعل الصواب ما في الشرح الحديدي : ويعود جلده بعد نضجه كجلد جديد.
٣ ـ كذا ، ولعل الصواب : وذنبه.
٤ ـ أثبتناه من شرح نهج البلاغة.
٥ ـ وردت الخطبة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٩ : ١٤٠ ، وكفاية الطالب : ٣٩٣ ، ومصباح الكفعمي : ٧٤١ ، وكنزالعمال ١٦ : ٢٠٨ / ٤٤٢٣٤.
يقول العبد الفقير أبومحمد الحسن بن أبي الحسن بن محمد ألديلمي ، أعانه اللّه على طاعته ، وأمده اللّه برأفته ورحمته ، ممل هذه الخطب المتقدمة : اني وجدت كلما تبليغة في توحيد اللّه وتمجيده ـ جل وعز ـ فأضفت إليها ما سنح من فتوح اللّه تعالى في خاطري ، فأحببت إثبات ذلك ، وهي :
إن نفي العلل عن اللّه تعالى ، يشهد له بحدث خلقه ، وإخراجه له من العدم ، إذ العلل لا تحل إلا معلولاً ، ولايكون المعلول إلا محدثا ، للزوم صفات الحدث فيه ، والقديم سبحانه وتعالى لا تحل فيه الصفات لسبب ، لأن السبب لازم للمتوقع الزيادة ، والخائف النقص من غيره ، الفقير إلى الموجد ذلك فيه ، الذي باتحاده يجد ما يتوقع.
والقديم هو الغني الحميد ، الذي لا وقت له ، ولا حال من احلها كان ، ولا كانت له صفة من احل الحال ، والأحوال لا تجوز عليه ، ولايدخل تحت الصفة والدوائر ، ولا عليه حجب وسواتر ، ولا ساعات وشعاثر ، ولا حاجة به إلى الكون ، إذ وجوده كفقده ، لم يأنس به ، ولم يستوحش لفقده ، ولا فقد عليه ، ومرجع كل شيء إليه ، كما هو المبدىء المعيد ، الفعال لما يريد ، أزلي أبدي ، أزلي القدرة والعلم والحكم والنظر والإحاطة ، أزلي الوجود والبقاء ، مستحق لها بحقائقها ، وله الشأن الأعظم ، والجد المتعالي ، والعلو المنيع ، والإمتناع القاهر ، والسلطان الغالب ، والغلبة النافذة ، والقوة الذي (١) لايعجز ، إذ لافترة ولا مانع ، و (لاثم ) (٢) ليس لمراده دافع ، ولا يستصعب عليه شيء أراده ، ولا به إلى ما أراد تكوينه وطر ، إذ هو الغني غاية كل غاية ، متفضل بما فطر ، من غير قضاء وطر ، فطر ما فطر ، وعنصر العناصر ، لإظهار قدرته وملكه ، وإظهار جوده وطوله وإحسانه ، وفيض الكرم الباهر ، والجود الفائض ، وهو الجواد الفياض ، وليعرفوه ولا يجهلوه ، ولم يك قط مجهولاً ، ولا علمهم به محيط.
لايقدر أحد قط حقيقة قدره ، إذ قدره لايقدر ، ووصفه لايقرر ، وهوالقديرالأقدر ، المتعزز عن كون مع أزل له مقرر ، المتعالي عن مدبرمعه دَبَّر ، قدر الكون بتقديره ، حتى أخرجه إلى التكوين بتدبيره ، وليس للتقدير والتدبير فكر ولا خاطر ، ولا حدوث عزم ، ولا يضمر في إرادة ، ولايهم في مشيئته ، ولا روية في فعل ، ولا غلبة فوت ، عزَّ أن يستصعب عليه شيء أراده ، أيفوته شيء طلبه!؟ قدّم وأخّر حسب حكمته وهو المقدم
__________________
١ ـ كذا والظاهر أن الصواب : التي.
٢ ـ كذا ، والظاهر زيادتها.
المؤخر ، وجعل الإوقات والفضاء وألجو والمكَان حاجة الكون ومستقر العالم ، وشاء الكون وشاء وقته كل كائن ، فهو موجوده على ما يشاء ويريده من أفعاله سبحانه ، وحسن افعال خلقه لا قبيح افعالهم ، ولا يكون إلآ كذلك ، ولا خروج للشيء عنه بغلبة ، وذلك كمال الملك ، وتمام الحكم ، وإبرام ألأمر ، وكل غيب عنه شهادة ، وهو المفيد ولا يتوقع إفادة ، ومزيد ولا يتوقع زيادة ، ومحدث ولا عليه حدث ، مخترع ولا كذلك غيره ، ومبدع ولا معه بديع ، بل هو بديع السماوات والأرض وما بينهما وما خرج عنهما ، وصانع لابآلة ، وخالق لا بمباشرة ، وسميع بصير لابأداة ، علا عن الخصماء والأنداد ، وتقدس عن الأمثال والأضداد ، وجلّ عن الصاحبة والأولاد ، حكمته لا كحكمة الحكماء ، سبحانه ما أقدره وأيسر القدرة عليه! وما أعزه وأعز من اعتمد عليه! وذكره واستسلم إليه! إذ العزة له وهو العزيز بعزته تعالى عن المثل والشبه ، إذ الشبه ذل ونقص ، وهو العزيز الأجل ذوالجلال والاكرام ، قمع بعزته وجلاله عزة كل متكبر جبار ، لايتغير أبدا ، ولايفاوت في صفاته الذاتية ، ولا يحيط له بحقيقة ذات ، إذ الحقيقة والمائية (١) لايقع إلا على المحدودات ، وهو سبحانه محدثها ، وهو على كمال تعجز عن وصفه الألباب ، وتندحض الافهام والأوهام عن درك صفاته ، العزيز الأعز ذي المفاخر ، الذي افتخر بفخره كل فاخر ، اتضعت (٢) بقدرته وقوته كل ذي قدرة وقوّة ، وتاه كل ذي كمال وجلال في كماله وجلاله ، وخضعت الرقاب لعظمته وسلطانه ، وذل كل متجبر لجبروته وكبريائه ، لم يجبر الخلق على ما كلفهم ، بل جبل القلوب على فطرة معرفته.
سبق المكان فلا مكان ، لأنه سبحانه كان ولا مكان ، ثم خلق المكان ، فهوعلى ما كان قبل خلق المكان ، وهو القريب بلا التصاق ، والبعيد من غير افتراق ، حاضركل خاطر ، ومخطرصحيح كل خاطر ، ومشاهد كل شاهد وغائب ، مدرك كل فوت ، ومؤنس كل أنيس ، وأعلى من كل عال ، وهوعلى كل شيء عال علوه على ما تحت التحت كعلوه على ما فوق الفوق ، صفاته لاتستشعر بالمشاعر ، وأوصافه لا تكيف بتكيف ، وهو الشيء لا كالأشياء ، ثابت لايزول ، وقائم لايحول ، سبق القبل فلاقبل
__________________
١ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : والماهية.
٢ ـ كذا ، ولعل الصواب : اتضع.
والبَعد فلا بَعد ، تقدم العدَم وجودُه ، والكونَ أزلُه ، قيوم بلا غاية ، دائم بلا نهاية ، ذوالنور الأكبر ، والفخر الأفخر ، والظهور الأظهر ، والطهور الأزهر ، مدهرالدهور ، ومدبر الاُمور ، باعث من في القبور ، وجاعل الظل والحرور ، ذواللطف اللطيف ، والعلم المطيف ، والنور المتلالي ، والكبرياء المتعالي ، الذي لايسأم من طلب إليه ، ولا يتبرم من حاجة الملح عليه ، إذ لايجوز عليه الملال ، إذ لاشغل له بشيء عن شيء ، ولا آلة ولا فكر ولامباشرة ، مدور الأفلاك ، ومملك الأملاك ، لايضع شيئاً على مثال ، صنعه موقوف على مراده ، وأمره نافذ في عباده ، لايسعه علم عالم ، ووسع هو كل شيء علما ، وأحاط بكل شيء خبرا ، كلما ينسب إليه ـ سبحانه ـ فهو المتفرد بمعناه ، إذ يستحيل أن يشاركه أحد في شيء ، لا إله الاّ إياه ، سبحانه ما أعلمه! وفي العلم ما أحلمه! وفي القدرة على الخلق ما ألطفه! له المشية فهم (١) مع سعة العفو والصفح عنهم ، لهم به لطف خفي ونظر حفي ، حليم كريم مهول ، وينتقم ممن يشاء عدلاً منه فلم يظلم أحدا ، ولم يجر في حكمه أبدا.
فله الحمد على ما ألهم ، وله الشكرعلى ما وفق وفَهّم ، وعلى ماجاد وأنعم ، وله المن على ما قض وأبرم ، وعلى ما أخَّر وقدٌم ، وله الثناء والمجد الأعظم ، نحمده سبحانه حمدأ لا يماثل ، ونسأله أن يوفقنا لحمد يرضاه وشكر يهواه ، لايشوبه عارض ، وأن يعيننا على حمده وشكره ، فإننا نعجز عن بلوغ أمده وقدره ، ونكل عن إحصاء عدده ووصفه.
اللهم ألهمنا محامدك ، ووفقنا لصفاء خدمتك ، واكشف لنا عن حقائق معرفتك ، وواصلنا بصاف من تمجيدك ووظائف تحميدك ، وانلنا من خزائن مزيدك ، وصَف لنا الأواني ، وكمل لنا منك الأماني ، وحقق لنا المعاني ، ورضٌنا بما تُقَدِّر مما هو فاَنٍ ، وارزقنا سريرة نقية ، والات طاهرة نقية ، وعافية وفية ، وعاقبة مرضية ، ونعمة كفية ، وعهودا وفية ، وعيشة هنية ، وحيطة من كل البرية ، وأقبِل بنا عليك بالكلية ، واعصمنا من الزيغ والهوية ، ومن كل مارق غوية ، وكل قواطع منسية ، يا بارىء البرية ، وقاضي القضية ، ومجزل العطية ، ورافع السماوات المبنية ،
__________________
١ ـ كذا والظاهر أن الصواب : فيهم.
وماهد الأرض المدحية ، صلى الله على محمد سيد البرية ، وعلى اله الأئمهَ الراضين المرضية ، بأفضل صلواتك وأتمّ تحياتك وبركاتك.
* * *
دليل آخر على حدوث العالم وقدم محدثه :
ومما يستدل به على محدث العالم ، أنا نجد الأجسام مشتركة في كونها أجساماً ، هي مع ذلك مفترقة في اُمور أُخر : كونها تراباً وماءً وهواءً وناراً ، فلا يخلو هذا في الإفتراق في الصور والصفات اما أن يكون لأمر من ألاُمور اقتضى ذلك أولا لأمر ، فإن كان لالأمر ، لم تكن الأجسام بأن تفترق أولى من أن لا تفترق ، ولم يكن بعضها بكونه أرضاً وِبعضها هواءً أو ماءً بأولى من العكس ، فثبت أنه لابد من أمر أقتضى افتراقها ، ولإيصح أن يكون ذلك ألامر هو كونها أجسامآَ لأنها مشتركة في ذلك ، فكان يجب أن تشترك فيصفة واحدة ، أو يكون كل بعض منها على جميع هذه الصفات المتصلات ، فلابد أن يكون الأمر المقتضي لأمر إنما هوغيرها ، ولا يصح أن يكون مثلها ولا من جنسها ، ثم لايخلو أن يكون موجباً أو مختاراً ، فإن كان موجباً فلم اوجب النار كونها ناراً ، دون أن يوجب للماء أن يكون ناراً ، وللأرض أن تكون هواءً؟ وكيف يصح وجود صورمتضادة ولا موجب لها؟ وفي فساد هذا دلالة على أنه مختاراً ، وإذا ثبت ذلك فهو المحدِث القديم ، الذي ألا يجوز أن يكون محدِثا إلا وهو حي قادر.
دليل آخر :
ومما يستدل به على أنه لابد للعالم من محدث ، ما تجد فيه [ من ] (١) إحكام الصنعة وإتقان التدبير ، فلو جازأن يتفق ذلك لابمحدث أحدثه ، لجاز أن يجتمع ألواح وقار ومسامير وتتألف سفينة بغير جامع ولا مؤلف ، ثم تعبر بالناس في البحر بغيرمعبر ولامدبّر ، فلما كان ذلك ممتنعاً في العقل ، كان ذلك في العالم أشد امتناعاً وأبعد وقوعاً.
دليل آخر :
ومما يستدل به على وجود المدبر الصانع ، أمر الفيل وأصحابه ، الذين أخبر الله تعالى عنهم وعما أصابهم ، مما ليس لملحد في تخريج الوجوه له حيلة ، ولايكون ذلك إلاّ من الصانع سبحانه ، وليس إلى إنكاره سبيل لاشتهاره وقرب عهده ، فلأنه يجوز أن يقوم
__________________
١ ـ أثبتناه لضرورة السياق.
رجل فيقول للناس في وجوههم ويتلوعليهم : ( ألم تركيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) (١) ويقص عليهم قصتهم ، وهم مع ذلك لم يروا هذا ولم يصح عندهم ، وليس من الطبائع التي يذكرها الملحدة ما يوجب قصة أصحاب الفيل ، ولا علم في العادات مثله ، ولا يقعمن الآثار العلوية والسفلية نظيره ، وهو أن يجيء طير كثير في منقار كل واحد حجر ، فيرسله على كل واحد من الوف كثيرة ، فيهلكهم دون العالمين ، هذا مالا يكون إلا من صانع حكيم قادر عليهم ، ولا يصح أن يكون إلا رب العالمين.
أبيات في التوحيد :
يا من يجل بأن أراه بناظري |
|
ويعز عن أوصاف كنه الخاطر |
لوكنت تدركك العلوم تقدراً |
|
وتفكراً وتوهماً للخاطر |
ما كنت معبوداً قديماً دائماَ |
|
حيأَ ولا صمداً وملجأحائر (٢) |
وبما وكيف ترى وتعلم في الورى |
|
عظم العظيم وسرقهرالقاهر |
لكن عظمت بأن تحاط جلالة |
|
أبداً فسبحان القديم الآخر |
* * *
__________________
١ ـ الفيل ١٠٥ : ١.
٢ ـ في الأصل : الحائر ، والوزن الشعري يقتضي ما في المتن.
يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه ورضوانه ، أبو محمد الحسن بن أبي الحسن الديلمي ، أعانه اللّه على طاعته ، وتغمده برأفته ورحمته :
اني حيث اثبت المعارف صدر الكتاب ، لوجوب تقدمها على جميع العلوم ، اقتضت الحال ارداف ذلك بذكر فضل العلم وأهله ، ولم ألتزم ذكرسند أحاديثها ، لشهرتها في كتبها المصنفة المروية عن مشايخنا ـ رحمهم اللّه تعالى ـ بأسانيدهم لها ، وأشير عند ذكر كل حديث مذكور أو أدب مسطور ، إلى كتابه المحفوظ منه المنقول عنه ، إلاّ ماشذ عني من ذلك ، فلم أذكرإلا فص القول دون ذكركتابه والراوي له.
فمن ذلك ما حفظته من كتاب كنز الفوائد إملاء الشيخ الفقيه أبي الفتح محمدابن علي الكراجكي رحمه اللّه تعالى :
عن النبي صلىاللهعليهوآله قال : « من خرج يطلب باباً من أبواب العلم ، ليردبه ضالاً إلى هدى ، أو باطلاً إلى حق ، كان عمله كعبادة أربعين يوماً ».
وقال عليه واله السلام : « لساعة من العالم متكئاً على فراشه ينظر في علمه ، خير من عبادة ثلاثين عاماً ».
وقال عليه واله السلام : « إذا استرذل اللّه عبداً ، حظر عليه العلم ».
وقال النبي صلىاللهعليهوآله : « ما أهدى أخ إلى أخيه هدية أفضل من كلمة حكمة ، يزيده الله بها هدى ، أويرده عن ردى ».
وقال صلىاللهعليهوآله : « ما أخذ اللّه الميثاق على الخلق أن يتعلموا ، حتى أخذ على العلماء أن يعلموا ».
وروى أمير المؤمنين عليهالسلام ، عن النبي صلىاللهعليهوآله ، أنه قال : « من طلب العلم للّه ، لم يصب منه باباً إلا ازداد (١) في نفسه ذلاً ، وفي الله تواضعاً ، وللّه خوفاً ، وفي الدين اجتهاداً ، فذلك الذي ينتفع بالعلم فليتعلمه ، ومن طلب العلم للدنيا ، والمنزلة عند الناس ، والحظة عند السلطان ، لم يصب منه باباً إلآ ازداد في نفسه عظمة ، وعلى الناس استطالة ، وباللهّ اغتراراً ، وفي الدين محقاً ، فذلك الذي لم ينتفع بالعلم فليكف عنه (٢) الحجة عليه والندامة والخزي يوم القيامة ».
__________________
١ ـ في الأصل : أزاد وما أثبتناه هو الصواب.
٢ ـ في الأصل : عند ، وما أثبتناه هو الصواب.