الاعجاز العلمي في القرآن

الدكتور السيد الجميلي

الاعجاز العلمي في القرآن

المؤلف:

الدكتور السيد الجميلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ١١٠

ستختلف من بعضها إلى بعضها ، فهناك تسيير لبعض الجبال ، وهناك ظاهرة نسف للبعض الآخر (١) فهل يا ترى التسير والنسف ظاهرة واحدة ، أم أن هاتين ظاهرتان مختلفتان؟؟!! الواقع الذي عليه أغلب الآراء أن التسيير الذي تطيعه الجبال فتسير سيرا حقيقيا غير النسف التي تبس فيه الجبال بسّا ؛ فتكون هباء منبثا.

واتحادهما يقتضي حمل أحدهما على المجاز ، بينما يظل الآخر محمول على الحقيقة ، والمجاز يقتضي قرينة لتدل عليه في نفس الكلام. ولكن الآيات المذكورة في النسف مفقود فيها القرينة.

إذن فالتسيير والنسف على حقيقتهما ، وهما ظاهرتان تنزلان بالجبال ، إما على التعاقب فيسير الجبل ثم ينسف ، وأما على التقسيم : فيسير بعض الجبال وينسف البعض الآخر ، ولا ثالث لهذين الاحتمالين (٢).

لكن الاحتمال الأول تمنع منه آية سورة النبأ : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) إذ الجبال بعد أن انتهى بها التسيير إلى أن تفنى وتكون سرابا لا يمكن أن يلحق بها نسف ، وقد انعدمت بالفعل ، فلم يبقى إلا الاحتمال الثاني ، ويتعين أن يكون الفناء عن طريق التسيير خاصا ببعض الجبال ، والفناء عن طريق النسف خاصا بالبعض الآخر ، وهذا يقتضي أن تكون الجبال صنفين : أحدهما يقبل بفطرته التي فطره الله عليها أن ينسف بعد

__________________

(١) لقوله تعالى : (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) ونسف الجبال ورد بصريح النص القرآني في قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) أه.

(٢) الاسلام في عصر العلم للأستاذ محمد أحمد الغمراوي إعداد الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني ط. دار الكتب الحديثة ص ٣١٤ بتصرف.

١٠١

أن يصير بالرجفة كثيبا مهيلا ، والآخر يقبل بفطرته أن يسير حتى يصير سرابا.

ولا بد في هذا الصنف من التغيير حتى يمهد للتسيير كما مهد للنسف في الأول بالانهيار ، إذ كل من الصنفين في حالته الدنيوية راس راسخ ، لا بد وأن تكوينه منذ البداية محكوم عليه بالنسف والتسيير ، وهذا لا يمكن أن يستعصى على القدرة المنشئة له.

والذي يتأمل آيتي المعارج والقارعة ، يرى الدليل والبرهان على صدق وصحة هذا الاستنباط (١).

قال تعالى في سورة المعارج : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) (٢). لكن آية سورة القارعة تزيد وصفا للعهن في قوله تعالى : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ ، وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٣) والعهن هو الصوف (٤).

قال الأستاذ الغمراوي : العهن هو الصوف المصبوغ ، فالآية الكريمة يقول إن الجبال يوم القارعة تكون كالصوف المصبوغ المنفوش ، فإن لكل من هذه الكلمات الثلاث دلالتها ، فالصوف من التماسك ما ليس في الرمل الذي يكون في الكثيب المهيل ، والذي لا شك فيه أن الجبال التي تصير

__________________

(١) السابق بتصرف.

(٢) المعارج (٧٠ / ٩).

(٣) القارعة (١٠١ / ٥).

(٤) عند قتادة ومجاهد ، وهو المختار عند الإمام الطبري في تفسيره (٢٩ / ٤٦) لكن بعضهم قيّد ذلك بالمصبوغ أو بالأحمر أو بذي الألوان ، كما أورد ذلك ابن منظور في اللسان (١٧ / ١٧٠) والقرطبي (١٨ / ٢٨٤) وما بعدها.

١٠٢

بالرجفة كثيبا مهيلا غير الجبال التي تصير كالصوف في تكوينها وطبيعتها ، وفيما تصير إليه يوم الرجفة ، وإذا كان انهيال الأولى يهيؤها للنسف ، فتفكك الثانية حتى تكون كالصوف يهيؤها للسير بالتسيير الذي تصير به سرابا (١).

في قوله تعالى (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) وقوله أيضا : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) مقصود بها الجبال الملونة ، لا مطلق الجبال ، وهذا يحل لنا الإشكال الناجم عن المعنى المتبادر إلى الذهن من فهم الجبال على إطلاقها في هذا النص وغيره من نصوص الآيات السابقة.

والجبال يوم القيامة بين يدي الساعة ينتهي أمرها إلى الزوال ، ولكن ليست جميعا في زوالها تكون على وتيرة واحدة أو بطريق واحدة فبعضها يصير كثيبا مهيلا ، والبعض يصير كالعهن ، والآخر يكون كالعهن المنفوش (٢).

__________________

(١) الإسلام في عصر العلم ، للأستاذ محمد أحمد الغمراوي ، إعداد الأستاذ الدكتور أحمد عبد السلام الكرداني ص ٣١٥ بتصرف.

(٢) المرجع السابق بتصرف.

١٠٣

رأي الشيخ محمّد عبده ومناقشته

في قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) (١). فسر الشيخ محمد عبده قوله تعالى (بَناها) بأن الحق سبحانه وتعالى جعل كل كوكب من الكواكب من الكون بمثابة لبنة من بناء سقف أو قبة أو جدران تحيط بك ، ثم شد هذه الكواكب بعضها إلى بعض بتأثير الجاذبية الأرضية أو ما يماثلها من الجاذبيات الأخرى ، كما تربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع بينهما مما تتماسك به.

وهذا التفسير العلمي الدقيق نال قبولا واستحسانا من جماهير المتخصصين في العلوم الكونية والفلكيات (٢).

ولم يكن رأي الشيخ محمد عبده هذا مجرد ظنون ، أو محض تخييلات ولكنها حقائق علمية (٣) وصل إليها الإمام محمد عبده باطلاعه على

__________________

(١) النازعات (٧٩ / ٢٧).

(٢) المصدر السابق بتصرف وزيادة.

(٣) من ثم وجب على الذي يتعرض لربط هذه المستحدثات العلمية المعاصرة بإشارات القرآن الكريم أن يتحقق ويتيقن من صحتها ، وثبوتها ، وإجماع جمهرة المتخصصين عليها.

١٠٤

المستحدثات العلمية وتوفره على هذا الجانب الحيوي من العلوم الفلكية ولا سيما اليقينية التي قطع العلم بحقيقتها.

وفي قوله سبحانه وتعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) استفهام تقريع وتوبيخ ، والمقصود منه ، والمراد به أن يقول : هل أنتم يا معشر المشركين أشق وأصعب خلقا ، أم خلق السماء العظيمة البديعة؟؟ (١).

وقد نبههم على أمر يعلم بالمشاهدة ، وذلك لأن خلق الإنسان على صغره وضعفه ، إذا أضيف إلى خلق السماء على عظمها وعظم أحوالها يسير ، وإذا كان كذلك فإعادتهم سهلة فكيف ينكرون ذلك؟ كقوله عالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (٢).

وقال تعالى أيضا : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ) يس. وقوله تعالى (بَناها) مفسر بقوله عز من قائل : (رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها) (٣).

عود إلى رأي الإمام محمد عبده رحمه‌الله عنه عن الجاذبية العامة وأثرها في بناء السماء مما نبه الله عليه وأشار إليه في آيات التنزيل ، إذ أن كلا منها يدل على جانب من مميزاتها لله فيه آية تهدي إليه سبحانه وتعالى (٤).

__________________

(١) راجع تفسير الشيخ الصابوني بتصرف (٣٠ / ١٦٨٥).

(٢) انظر التفسير الكبير للفخر الرازي (٣١ / ٤٣).

(٣) ومعنى هذه الآية الشريفة : أي جعلها عالية البناء ، بعيدة الفناء ، مستوية الأرجاء ، مكللة الكواكب في الليلة الظلماء. راجع ابن كثير (٤ / ٤٦٨) بتصرف.

(٤) الإسلام في عصر العلم ص ٣٦٦ بتصرف.

١٠٥

وقد أوضح جل شأنه الفرق بين الجاذبية السماوية العامة ، وبين الجاذبية الأرضية ، ولا يمكن أن يصل إلى لطائف الإشارات ، ودقائق المعاني إلا أرباب الفصاحة والبيان. والذي يتأمل قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (١) وقوله : (رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) (٢).

ففي قوله تعالى (بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) في خلق السماء ورفعها لطيفة علمية دقيقة إذ أنه لو قال (بغير عمد) فحسب ، لكان

هذا نفيا مطلقا للعمد ، مرئية وغير مرئية ، والنفي المطلق يخالف الواقع الذي علم الله أنه سيهدي إليه خلقه وعباده بعد حين ، فكان من الإعجاز الدقيق أن يقيد الله نفي العمد في الخلق والرفع بقوله (ترونها) والضمير المنصوب في (ترونها) يرجع أولا إلى أقرب مذكور وهو (عمد) فيكون المعنى (بغير عمد مرئية) أو (بعمد غير مرئية) أي بعمد من فطرتها وتكوينها ألا ترى للنظر (٣).

لكن الضمير إذا أعيد إلى السماء كان المعنى أن السماء ترونها مخلوقة مرفوعة بغير عمد ، وتكون العمد هي ما يعهده الناس في أبنية الأرض ، كما أن نفيها بهذا المعنى عن السماء المرفوعة أيضا أمر عجيب لا يقدر عليه إلا الله ، وكلا الوجهين مفهوم من التعبير القرآني ، وإن كان الأولى في اللغة هو الوجه الأول الذي يحوي الإعجاز العلمي ، إذن فالوجهان

__________________

(١) لقمان (٣١ / ١٠).

(٢) الرعد (١٣ / ٢).

(٣) السابق ص ٣٦٧ بتصرف وزيادة. والمعروف أن الفعل المضارع في اللغة العربية يشمل الحال والمستقبل ، أو هو حال مستمر ، لأن البشر أجمعين مخاطبون به في كل عصر ومصر.

١٠٦

كلاهما مرادان بالتعبير الكريم إذ لا مانع من أحدهما (١) ، والإمام الزمخشري (٢) فهم المعنيين على التخيير ، وإن أعطى الأولوية للمعنى المستفاد من جعل (ترونها) صفة للعمد ، أي بغير عمد مرئية ، يعني أن عمدها لا ترى وهي إمساكها بقدرته. ولكن الفخر الرازي فرضي فقط بالرأي الثاني فقال : إنه رفع السماء بغير عمد ترونها أي لها عمد في الحقيقة إلا أن تلك العمد «هي قدرة الله تعالى وحفظه وتدبيره وإبقاؤه إياها في الحيز الحالي ، وأنهم ـ يقصد الناس ـ لا يرون ذلك التدبير ولا يعرفون كيفية ذلك الإمساك (٣).

وإذا رجعنا إلى رأي إمام المفسرين المعاصرين الشيخ محمد عبده في تفسير قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) (٤).

قال الشيخ محمد عبده : البناء ضم الأجزاء المتفرقة بعضها إلى بعض مع ربطها بما يمسكها حتى يتكون منها بنية واحدة ، وهكذا صنع الله بالكواكب ، وصنع كلا منها على نسبة من الآخر مع ما يمسك كلا في مداره ، حتى كان منها عالم واحد في النظر ، وسمي باسم واحد هو السماء التي تعلونا ، فقوله «صنع كلا منها على نسبة من الآخر» إشارة إلى تقدير نسب المسافات ثم الكتل ، وكنّى عن الحركة والجاذبية بقوله : «مع ما يمسك كلا في مداره» لكنه صرح بها في تفسير قوله تعالى : (وَالسَّماءِ

__________________

(١) الإسلام في عصر العلم ص ٣٦٧ بتصرف.

(٢) انظر الكشاف (٣ / ٢٣٠) ط. دار المعرفة. بتصرف.

(٣) راجع التفسير الكبير للفخر الرازي (٢٥ / ١٤٤) بتصرف.

(٤) النازعات (٧٩ / ٢٧).

١٠٧

وَما بَناها) (١) إذ يقول : «وأنت إنما تتصور عند سماعك لفظ السماء ، هذا الكون الذي فوقك ، فيه الشمس والقمر وسائر الكواكب تجري في مجاريها وتتحرك في مداراتها. هذا هو السماء وقد بناه الله أي رفعه وجعل كل كوكب من الكواكب منه بمنزلة لبنة من بناء سقف أو قبة أو جدران تحيط به ، وتشد هذه الكواكب بعضها إلى بعض برباط الجاذبية العامة كما تربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع بينهما مما تتماسك به» أه.

__________________

(١) الشمس (٩١ / ٥). قال المفسرون : «ما» اسم موصول بمعنى «من» أي والسماء ومن بناها ، والمراد به الله رب العالمين. راجع تفسير الشيخ الصابوني (٣٠ / ١٧٣٥).

١٠٨

فهرس الكتاب

إهداء.................................................................... صفحة ٥

مقدّمة.......................................................................... ٨

ثمّ استوى إلى السّماء وهي دخان................................................. ١٥

الفتق والرتق للسّماوات والأرض................................................... ١٧

خلق السّماوات والأرض......................................................... ١٩

سبع سماوات................................................................... ٢١

منازل القمر.................................................................... ٢٢

نقص الأرض من أطرافها........................................................ ٢٥

مرج البحرين يلتقيان............................................................ ٢٧

أنواع الجبال.................................................................... ٢٩

كرويّة الأرض.................................................................. ٣٠

بروج السّماء................................................................... ٣١

الشمس تجري لمستقرّ لها......................................................... ٣٢

والأرض بعد ذلك دحاها........................................................ ٣٥

تنبّؤ القرآن الكريم بوسائل المواصلات الحديثة....................................... ٣٦

وإذا العشار عطّلت............................................................. ٣٧

الغوّاصات والمتفجّرات........................................................... ٣٨

مستحدثات علميّة سبق إليها القرآن الكريم........................................ ٤١

لا يغرب عنه مثقال ذرّة.......................................................... ٤٢

الذي يصعد في السّماء.......................................................... ٤٤

السّنة الشمسيّة والسّنة القمريّة................................................... ٤٥

الرّياح لواقح وبشرى............................................................. ٤٧

١٠٩

رحمة الله في الليل والنهار.................................................. صفحة ٤٨

يخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحيّ......................................... ٥٢

وذكّرهم بأيّام الله............................................................... ٥٥

مواقع النّجوم................................................................... ٥٧

اتّساع الكون باستمرار.......................................................... ٦٠

توازن الكرة الأرضيّة............................................................. ٦٤

الحياة على الكواكب الأخرى..................................................... ٦٨

سرعة دوران الجبال.............................................................. ٧٣

في كلّ شيء له آية............................................................. ٧٦

عجائب المملكة الحيوانيّة......................................................... ٧٨

الغرائب في عالم النّبات.......................................................... ٧٩

ـ التزواج في المملكة النباتية....................................................... ٨٤

ـ النباتات المائية................................................................. ٨٦

ـ النباتات المتوحشة.............................................................. ٨٦

المملكة الحيوانيّة والمملكة النباتيّة سرّ جمال هذه المعمورة............................... ٨٨

اللؤلؤ والمرجان.................................................................. ٩٥

حال الجبال يوم القيامة.......................................................... ٩٧

رأي الشيخ محمّد عبده ومناقشته................................................ ١٠٤

١١٠