الكشّاف - ج ٣

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٣

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٠

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)(٧٠)

لم تلحق علامة التأنيث بفعل العاقبة ، لأنّ تأنيثها غير حقيقى ، ولأنّ المعنى : كيف كان آخر أمرهم؟ وأراد بالمجرمين : الكافرين ، وإنما عبر عن الكفر بلفظ الإجرام ليكون لطفا للمسلمين في ترك الجرائم وتخوّف عاقبتها ألا ترى إلى قوله (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) وقوله : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا). (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) لأنهم لم يتبعوك ، ولم يسلموا فيسلموا وهم قومه قريش ، كقوله تعالى (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً). (فِي ضَيْقٍ) في حرج صدر من مكرهم وكيدهم لك ، ولا تبال بذلك فإن الله يعصمك من الناس. يقال : ضاق الشيء ضيقا وضيقا ، بالفتح والكسر. وقد قرئ بهما. والضيق أيضا : تخفيف الضيق. قال الله تعالى (ضَيِّقاً حَرَجاً) قرئ مخففا ومثقلا ويجوز أن يراد في أمر ضيق من مكرهم.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ)(٧٢)

استعجلوا العذاب الموعود فقيل لهم (عَسى أَنْ يَكُونَ) ردفكم بعضه وهو عذاب يوم بدر فزيدت اللام للتأكيد كالباء في (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) أو ضمن معنى فعل يتعدى باللام نحو : دنا لكم وأزف لكم ، ومعناه : وتبعكم ولحقكم ، وقد عدى. بمن قال :

فلمّا ردفنا من عمير وصحبه

تولّوا سراعا والمنيّة تعنق (١)

يعنى : دنونا من عمير ، وقرأ الأعرج : ردف لكم ، بوزن ذهب ، وهما لغتان ، والكسر أفصح. وعسى ولعل وسوف ـ في وعد الملوك ووعيدهم ـ يدل على صدق الأمر وجدّه وما لا مجال للشكّ بعده ، وإنما يعنون بذلك : إظهار وقارهم وأنهم لا يعجلون بالانتقام ، لإدلالهم بقهرهم وغلبتهم ووثوقهم أنّ عدوّهم لا يفوتهم ، وأن الرمزة إلى الأغراض كافية من جهتهم ، فعلى ذلك جرى وعد الله ووعيده.

__________________

(١) ردف كتبع يتعدى بنفسه ، وضمن هنا معنى الدنو فعدى بمن ، وأعنق الفرس : سار سيرا سريعا سهلا. والعنق : اسم منه يقول : فلما دنونا من عمير وأصحابه للحرب أدبروا مسرعين ، والحال أن الموت يسرع خلفهم من جهتنا. شبه المنية بالأسد على طريق المكنية ، فأثبت لها العنق تخييلا ، كأنهم كانوا تبعوهم برمي النبال. ويجوز أنه استعار المنية لنفسه وقومه على طريق التصريح ، أى : ونحن نسرع خلفهم ، فذكر العنق تجريد ، لأنه يلائم المشبه.

٣٨١

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ)(٧٣)

الفضل والفاضلة : الإفضال. ولفلان فواضل في قومه وفضول. ومعناه : أنه مفضل عليهم بتأخير العقوبة ، وأنه لا يعاجلهم بها ، وأكثرهم لا يعرفون حق النعمة فيه ولا يشكرونه ، ولكنهم بجهلهم يستعجلون وقوع العقاب : وهم قريش.

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ)(٧٤)

قرئ تكنّ. يقال : كننت الشيء وأكننته : إذا سترته وأخفيته ، يعنى : أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم ، وهو معاقبهم على ذلك بما يستوجبونه.

(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٧٥)

سمى الشيء الذي يغيب ويخفى : غائبة وخافية ، فكانت التاء فيهما بمنزلتها في العافية والعاقبة. ونظائرهما : النطيحة ، والرمية ، والذبيحة : في أنها أسماء غير صفات. ويجوز أن يكونا صفتين وتاؤهما للمبالغة ، كالراوية في قولهم : ويل للشاعر من رواية السوء ، كأنه قال : وما من شيء شديد الغيبوبة والخفاء إلا وقد علمه الله وأحاط به وأثبته في اللوح. المبين: الظاهر البين لمن ينظر فيه من الملائكة.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(٧٧)

قد اختلفوا في المسيح فتحزبوا فيه أحزابا ، ووقع بينهم التناكر في أشياء كثيرة حتى لعن بعضهم بعضا ، وقد نزل القرآن ببيان ما اختلفوا فيه لو أنصفوا وأخذوا به وأسلموا ، يريد ؛ اليهود والنصارى (لِلْمُؤْمِنِينَ) لمن أنصف منهم وآمن ، أى : من بنى إسرائيل. أو منهم ومن غيرهم.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)(٧٨)

(بَيْنَهُمْ) بين من آمن بالقرآن ومن كفر به. فإن قلت : ما معنى يقضى بحكمه؟ ولا يقال : زيد يضرب بضربه ويمنع بمنعه؟ قلت : معناه بما يحكم به وهو عدله ، لأنه لا يقضى إلا بالعدل ، فسمى المحكوم به حكما. أو أراد بحكمته ـ وتدل عليه قراءة من قرأ بحكمه ـ : جمع حكمة. (وَهُوَ الْعَزِيزُ) فلا يردّ قضاؤه (الْعَلِيمُ) بمن يقضى له وبمن يقضى عليه ، أو العزيز في انتقامه من المبطلين ، العليم بالفصل بينهم وبين المحقين.

٣٨٢

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ)(٨١)

أمره بالتوكل على الله وقلة المبالاة بأعداء الدين ، وعلل التوكل بأنه على الحق الأبلج الذي لا يتعلق به الشكّ والظنّ. وفيه بيان أنّ صاحب الحق حقيق بالوثوق بصنع الله وبنصرته. وأن مثله لا يخذل. فإن قلت : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) يشبه أن يكون تعليلا آخر للتوكل ، فما وجه ذلك؟ قلت :؟ وجهه أن الأمر بالتوكل جعل مسببا عما كان يغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة المشركين وأهل الكتاب : من ترك اتباعه وتشييع ذلك بالأذى والعداوة ، فلاءم ذلك أن يعلل توكل متوكل مثله ، بأن اتباعهم أمر قد يئس منه ، فلم يبق إلا الاستنصار عليهم لعداوتهم واستكفاء شرورهم وأذاهم ، وشبهوا بالموتى وهم أحياء صحاح الحواس ، لأنهم إذا سمعوا ما يتلى عليهم من آيات الله ـ فكانوا أقماع القول لا تعيه آذانهم وكان سماعهم كلا سماع ـ : كانت حالهم ـ لانتفاء جدوى السماع ـ : كحال الموتى الذين فقدوا مصحح السماع ؛ وكذلك تشبيههم بالصمّ الذين ينعق بهم فلا يسمعون. وشبهوا بالعمى حيث يضلون الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع ذلك عنهم ، وأن يجعلهم هداة بصراء إلا الله عز وجل. فإن قلت : ما معنى قوله (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ)؟ قلت : هو تأكيد لحال الأصم ، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن يولى عنه مدبرا كان أبعد عن إدراك صوته. وقرئ : ولا يسمع الصمّ ، وما أنت بهاد العمى ، على الأصل. وتهدى العمى. وعن ابن مسعود : وما أن تهدى العمى ، وهداه عن الضلال. كقولك : سقاه عن العيمة (١) أى : أبعده عنها بالسقى ، وأبعده عن الضلال بالهدى (إِنْ تُسْمِعُ) أى ما يجدى إسماعك إلا على الذين علم الله أنهم يؤمنون بآياته ، أى : يصدقون بها (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أى مخلصون من قوله (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) يعنى : جعله سالما لله خالصا له.

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ)(٨٢)

سمى معنى القول ومؤداه بالقول ، وهو ما وعدوا من قيام الساعة والعذاب ، ووقوعه :

حصوله. والمراد : مشارفة الساعة وظهور أشراطها وحين لا تنفع التوبة. ودابة الأرض:

__________________

(١) قوله «سقاه عن العيمة» هي شهوة اللبن كما في الصحاح. (ع)

٣٨٣

الجساسة. جاء في الحديث : أنّ طولها ستون ذراعا ، لا يدركها طالب ، ولا يفوتها هارب(١). وروى : لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان. وعن ابن جريج في وصفها : رأس ثور ، وعين خنزير ، وأذن فيل ، وقرن إبل ، وعنق نعامة ، وصدر أسد ، ولون نمر ، وخاصرة هرّ ، وذنب كبش ، وخف بعير. وما بين المفصلين : اثنا عشر ذراعا بذراع آدم عليه السلام. وروى : لا تخرج إلا رأسها ، ورأسها يبلغ أعنان السماء (٢) ، أو يبلغ السحاب. وعن أبى هريرة : فيها من كل لون ، وما بين قرنيها فرسخ للراكب. وعن الحسن رضى الله عنه : لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام. وعن على رضى الله عنه : أنها تخرج ثلاثة أيام ، والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه سئل : من أين تخرج الدابة؟ فقال «من أعظم المساجد حرمة على الله (٣)» يعنى المسجد الحرام. وروى : أنها تخرج ثلاث خرجات : تخرج بأقصى اليمن ثم تتكمن ، ثم تخرج بالبادية ثم تتكمن دهرا طويلا ، فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله ، فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بنى مخزوم عن يمين الخارج من المسجد ، فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة. وقيل : تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية بلسان ذلق (٤) فتقول (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) يعنى أن الناس كانوا لا يوقنون بخروجي ، لأنّ خروجها من الآيات ، وتقول : ألا لعنة الله على الظالمين. وعن السدى : تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام. وعن ابن عمر رضى الله عنه : تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ، ثم تستقبل المشرق ، ثم الشام ثم اليمن فتفعل مثل ذلك. وروى : تخرج من أجياد (٥). وروى : بينا عيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون ، إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل ، وينشق الصفا مما يلي المسعى ، فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتضرب المؤمن في مسجده ، أو فيما بين عينيه بعصا موسى عليه السلام ، فتنكت نكتة

__________________

(١) أخرجه الثعلبي من حديث حذيفة دون قوله «وهي الجساسة» وسيأتى بعضه للحاكم وغيره في الذي بعده.

(٢) قوله «ورأسها يبلغ أعنان السماء» في الصحاح «أعنان السماء» : صفائحها وما اعترض من أقطارها ، كأنه جمع عنن. والعامة تقول : عنان السماء. (ع)

(٣) أخرجه الطبري من طريق ربعي عن حذيفة بن اليمان : «ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقلت يا رسول الله ، من أين تخرج؟ فقال : من أعظم المساجد حرمة على الله ... الحديث» وروى الحاكم والبيهقي في الشعب وإسحاق في مسنده وابن مردويه من حديث أبى الطفيل عن حذيفة عن أسيد رفعه قال «يكون للدابة ثلاث خرجات ـ إلى أن قال : بينما الناس في أعظم المساجد حرمة وخيرها وأكرمها : المسجد الحرام ، لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام ... الحديث وفيه : ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب. ولا يفوتها هارب» وفي الباب عن ابن عباس : أخرجه ابن مردويه مطولا.

(٤) قوله «بلسان ذلق» أى طلق ، كما في الصحاح. (ع)

(٥) قوله «تخرج من أجياد» جبل بمكة ، سمى بذلك لموضع خيل تبع ، وسمى «قعيقعان» لموضع سلاحه. (ع)

٣٨٤

بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه أو فتترك وجهه كأنه كوكب درّى ، وتكتب بين عينيه : مؤمن : وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه ، فتفشو النكتة حتى يسودّ لها وجهه وتكتب بين عينيه : كافر. وروى : فتجلو وجه المؤمن بالعصا وتحطم أنف الكافر بالخاتم ، ثم تقول لهم : يا فلان ، أنت من أهل الجنة. ويا فلان ، أنت من أهل النار. وقرئ : تكلمهم ، من الكلم وهو الجرح. والمراد به : الوسم بالعصا والخاتم. ويجوز أن يكون تكلمهم من الكلم أيضا ، على معنى التكثير. يقال : فلان مكلم ، أى مجرّح. ويجوز أن يستدل بالتخفيف على أنّ المراد بالتكليم : التجريح ، كما فسر : لنحرقنه ، بقراءة علىّ رضى الله عنه : لنحرقنه ، وأن يستدل بقراءة أبىّ : تنبئهم. وبقراءة ابن مسعود : تكلمهم بأنّ الناس ، على أنه من الكلام. والقراءة بإن مكسورة : حكاية لقول الدابة ، إما لأنّ الكلام بمعنى القول. أو بإضمار القول ، أى : تقول الدابة ذلك. أو هي حكاية لقوله تعالى عند ذلك. فإن قلت : إذا كانت حكاية لقول الدابة فكيف تقول بآياتنا قلت : قولها حكاية لقول الله تعالى. أو على معنى بآيات ربنا. أو لاختصاصها بالله وأثرتها عنده ، وأنها من خواص خلقه : أضافت آيات الله إلى نفسها ، كما يقول بعض خاصة الملك : خيلنا وبلادنا ، وإنما هي خيل مولاه وبلاده. ومن قرأ بالفتح فعلى حذف الجار ، أى : تكلمهم بأن.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ)(٨٣)

(فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس أوّ لهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار. وهذه عبارة عن كثرة العدد وتباعد أطرافه ، كما وصفت جنود سليمان بذلك. وكذلك قوله (فَوْجاً) فإن الفوج الجماعة الكثيرة. ومنه قوله تعالى (يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) وعن ابن عباس رضى الله عنهما : أبو جهل والوليد بن المغيرة ، وشيبة بن ربيعة : يساقون بين يدي أهل مكة ، وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار. فإن قلت : أى فرق بين من الأولى والثانية؟ قلت : الأولى للتبعيض ، والثانية للتبيين ، كقوله (مِنَ الْأَوْثانِ).

(حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ)(٨٥)

الواو للحال ، كأنه قال : أكذبتم بها بادىء الرأى من غير فكر ولا نظر يؤدى إلى إحاطة العلم بكنهها ، وأنها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب. أو للعطف ، أى : أجحدتموها ومع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتحققها وتبصرها ، فإن المكتوب إليه قد يجحد أن يكون الكتاب من عند من كتبه ، ولا يدع مع ذلك أن يقرأه ويتفهم مضامينه ويحيط بمعانيه (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

٣٨٥

بها للتبكيت لا غير. وذلك أنهم لم يعملوا إلا التكذيب ، فلا يقدرون أن يكذبوا ويقولوا قد صدّقنا بها وليس إلا التصديق بها أو التكذيب. ومثاله أن تقول لراعيك ـ وقد عرفته رويعي سوء ـ : أتأكل نعمى ، أم ما ذا تعمل بها؟ فتجعل ما تبتدئ به وتجعله أصل كلامك وأساسه هو الذي صحّ عندك من أكله وفساده ، وترمى بقولك : أم ما ذا تعمل بها ، مع علمك أنه لا يعمل بها إلا الأكل ، لتبهته (١) وتعلمه علمك بأنه لا يجيء منه إلا أكلها ، وأنه لا يقدر أن يدعى الحفظ والإصلاح ، لما شهر من خلاف ذلك. أو أراد : أما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات الله ، أم ما ذا كنتم تعملون من غير ذلك؟ يعنى أنه لم يكن لهم عمل غيره ، كأنهم لم يخلقوا إلا للكفر والمعصية ، وإنما خلقوا للإيمان والطاعة : يخاطبون بهذا قبل كبهم في النار ثم يكبون فيها ، وذلك قوله (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) يريد أن العذاب الموعود يغشاهم بسبب ظلمهم. وهو التكذيب بآيات الله ، فيشغلهم عن النطق والاعتذار ، كقوله تعالى (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ).

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٨٦)

جعل الإبصار للنهار وهو لأهله. فإن قلت : ما للتقابل لم يراع في قوله (لِيَسْكُنُوا) و (مُبْصِراً) حيث كان أحدهما علة والآخر حالا؟ قلت : هو مراعى من حيث المعنى ، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف ، لأن معنى مبصرا : ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب.

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)(٨٧)

فإن قلت : لم قيل (فَفَزِعَ) دون فيفزع؟ قلت : لنكتة وهي الإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة ، واقع على أهل السماوات والأرض ، لأنّ الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به. والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة ، قالوا : هم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ـ عليهم السلام. وقيل : الشهداء. وعن الضحاك : الحور ، وخزنة النار ، وحملة العرش. وعن جابر : منهم موسى عليه السلام ، لأنه صعق مرّة. ومثله قوله تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ). وقرئ : أتوه. وأتاه. ودخرين ، فالجمع

__________________

(١) قوله «لتبهته» أى تدهشه وتحيره (ع)

٣٨٦

على المعنى والتوحيد على اللفظ. والداخر والدخر : الصاغر. وقيل : مع الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية. ويجوز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له.

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٩٠)

(جامِدَةً) من جمد في مكانه إذا لم يبرح. تجمع الجبال فتسير كما تسير الريح السحاب ، فإذا نظر إليها الناظر حسبها واقفه ثابتة في مكان واحد (وَهِيَ تَمُرُّ) مرّا حثيثا كما يمر السحاب. وهكذا الأجرام العظام المتكاثرة العدد : إذا تحرّكت لا تكاد تتبين حركتها ، كما قال النابغة في صفة جيش :

بأرعن مثل الطّود تحسب أنّهم

وقوف لحاج والرّكاب تهملج (١)

(صُنْعَ اللهِ) من المصادر المؤكدة ، كقوله (وَعَدَ اللهُ). و (صِبْغَةَ اللهِ) إلا أن مؤكدة محذوف ، وهو الناصب ليوم ينفخ ، والمعنى : ويوم ينفخ في الصور وكان كيت وكيت أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين ، ثم قال : صنع الله ، يريد به : الإثابة والمعاقبة. وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب ، حيث قال : صنع الله (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) يعنى أنّ مقابلته الحسنة بالثواب والسيئة بالعقاب : من جملة إحكامه للأشياء وإتقانه لها ، وإجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد وبما يستوجبون عليه ، فيكافئهم على حسب ذلك. ثم لخص ذلك بقوله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) إلى آخر الآيتين ، فانظر إلى بلاغة هذا الكلام ، وحسن نظمه وترتيبه ، ومكانة إضماده ، ورصانة تفسيره ، (٢) وأخذ بعضه بحجزة بعض ، كأنما أفرغ إفراغا واحدا ولأمر مّا أعجز القوى وأخرس الشقاشق (٣). ونحو هذا المصدر إذا جاء عقيب

__________________

(١) للنابغة. والأرعن : الجبل العالي. والطود : الجبل العظيم ، فاستعار الأرعن للجيش ، ثم شبهه بالطود ليفيد المبالغة في الكثرة. والحاج : اسم جمع واحده حاجة. والركاب : المطي لا واحد له من لفظه. والهملجة : السير الرهو السهل ، فارسى معرب. والهملاج : السريع. يقول : حاربنا العدو يجيش عظيم ، تظنهم واقفين لحاجة لكثرتهم ، والحال أن ركابهم تسرع السير.

(٢) قوله «ومكانة إضماده ورصانة تفسيره» الذي في الصحاح «ضمد الجرح ، يضمده ضمدا» : شده بعصابة وفيه «الرصين» المحكم الثابت. وقد رصن ـ بالضم ـ رصانة. (ع)

(٣) قوله «وأخرس الشقاشق» في الصحاح «شقشق الفحل شقشقة» : هدر. وإذا قالوا للخطيب : ذو شقشقة ، فإنما يشبه بالفحل. (ع)

٣٨٧

كلام ، جاء كالشاهد بصحته والمنادى على سداده ، وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما قد كان. ألا ترى إلى قوله : (صُنْعَ اللهِ) ، و (صِبْغَةَ اللهِ) ، و (وَعَدَ اللهُ) ، و (فِطْرَتَ اللهِ) : بعد ما وسمها بإضافتها إليه بسمة التعظيم ، كيف تلاها بقوله (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) ، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) ، لا يخلف الله الميعاد (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) وقرئ : تفعلون ، على الخطاب. (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) يريد الإضعاف وأنّ العمل يتقضى والثواب يدوم ، وشتان ما بين فعل العبد وفعل السيد. وقيل : فله خير منها ، أى : له خير حاصل من جهتها وهو الجنة. وعن ابن عباس ، الحسنة كلمة الشهادة. وقرئ : (يَوْمَئِذٍ) مفتوحا مع الإضافة ، لأنه أضيف إلى غير متمكن. ومنصوبا مع تنوين فزع. فإن قلت : ما الفرق بين الفزعين؟ قلت : الفزع الأوّل : هو ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع وهول يفجأ ، من رعب وهيبة ، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به ، كما يدخل الرجل على الملك بصدر هياب وقلب وجاب (١) وإن كانت ساعة إعزاز وتكرمة وإحسان وتولية. وأمّا الثاني : فالخوف من العذاب. فإن قلت : فمن قرأ (مِنْ فَزَعٍ) بالتنوين ما معناه؟ قلت : يحتمل معنيين. من فزع واحد وهو خوف العقاب ، وأمّا ما يلحق الإنسان من التهيب والرعب لما يرى من الأهوال والعظائم ، فلا يخلون منه ، لأنّ البشرية تقتضي ذلك. وفي الأخبار والآثار ما يدل عليه. ومن فزع شديد مفرط الشدّة لا يكتنهه الوصف : وهو خوف النار. أمن : يعدى بالجار وبنفسه ، كقوله تعالى (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ). وقيل : السيئة : الإشراك. يعبر عن الجملة بالوجه والرأس والرقبة ، فكأنه قيل : فكبوا في النار ، كقوله تعالى (فَكُبْكِبُوا فِيها) ويجوز أن يكون ذكر الوجوه إيذانا بأنهم يكبون على وجوههم فيها منكوسين (هَلْ تُجْزَوْنَ) يجوز فيه الالتفات وحكاية ما يقال لهم عند الكب بإضمار القول.

(إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٩٣)

أمر رسوله بأن يقول (أُمِرْتُ) أن أخص الله وحده بالعبادة ، ولا أتخذ له شريكا كما فعلت قريش ، وأن أكون من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) من التلاوة أو التلوّ كقوله (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ). والبلدة : مكة حرسها الله تعالى : اختصها من بين سائر.

__________________

(١) قوله «وقلب وجاب» في الصحاح «وجب القلب وجيبا» : اضطرب. (ع)

٣٨٨

البلاد بإضافة اسمه إليها ، لأنها أحبّ بلاده إليه ، وأكرمها عليه ، وأعظمها عنده. وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج في مهاجره ، فلما بلغ الحزورة (١) استقبلها بوجهه الكريم فقال : «إنى أعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله. ولو لا أن أهلك أخرجونى ما خرجت» (٢) وأشار إليها إشارة تعظيم لها وتقريب ، دالا على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه. ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص وصفها ، فأجزل بذلك قسمها في الشرف والعلو ، ووصفها بأنها محرّمة لا ينتهك حرمتها إلا ظالم مضادّ لربه (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها (٣) ، ولا ينفر صيدها. واللاجئ إليها آمن. وجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخولها تحتهما. وفي ذلك إشارة إلى أن ملكا ملك مثل هذه البلدة عظيم الشأن قد ملكها وملك إليها كل شيء (٤) : اللهم بارك لنا في سكناها ، وآمنا فيها شرّ كل ذى شرّ ، ولا تنقلنا من جوار بيتك إلا إلى دار رحمتك. وقرئ : التي حرّمها. واتل عليهم هذا القرآن : عن أبىّ وأن أتل : عن ابن مسعود. (فَمَنِ اهْتَدى) باتباعه إياى فيما أنا بصدده من توحيد الله ونفى الأنداد عنه ، والدخول في الملة الحنيفية ، واتباع ما أنزل علىّ من الوحى ، فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إلىّ (وَمَنْ ضَلَ) ولم يتبعني فلا علىّ ، وما أنا إلا رسول منذر ، وما على الرسول

__________________

(١) قوله «فلما بلغ الحزورة» هي تل صغير كما في الصحاح. (ع)

(٢) أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وابن أبى شيبة والدارمي وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى والبيهقي في الدلائل. كلهم من رواية الزهري عن أبى سلمة عن عبد الله بن عدى بن الخيار قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على الحزورة وهو يقول : والله إنك لخير أرض الله إلى الله وأحب أرض الله إلى الله. ولو لا أنى أخرجت منك ما خرجت» هكذا رواه عقيل ويونس وشعيب وصالح بن كيسان عنه. ورواه ابن أخى الزهري عن عمه عن محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عدى بن الخيار : أخرجه الطبراني. وصححه الدارقطني لوجهين. ورواه النسائي وإسحاق والبزار والبيهقي في الدلائل من رواية معمر عن الزهري عن أبى سلمة عن أبى هريرة. ولفظه للبيهقي «ولو لا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت» قال البزار : تفرديه معمر هكذا. وقال البيهقي : وهم فيه معمر وقال الترمذي : رواه محمد بن عمر بن أبى سلمة عن أبى سلمة عن أبى هريرة. وقول الزهري عن أبى سلمة عن عبد الله بن عدى أصح. وقال البيهقي أيضا : ورواية محمد بن عمرو وهم. وفي الباب عن ابن عباس. أخرجه الترمذي من رواية ابن خثيم عن سعيد بن جبير وأبى الطفيل جميعا فيه نحو «ما أطيبك من يلد وأحبك إلىّ. ولو لا أن قومي أخرجونى منك ما سكنت غيرك».

(٣) قوله «لا يختلى خلاها ... الخ» : أى لا يجز حشيشها ، ولا يقطع شجرها. (ع)

(٤) قال محمود : «المراد بالبلدة مكة وإضافة اسم الله تعالى إليها لتشريفها وذكر تحريمها ، لأنه أخص أوصافها وأسنده إلى ذاته تأكيدا لشرفها ثم قال : (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) ، فجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخول هذه البلدة المعظمة. وفي ذلك إشارة إلى أن ملكا قد ملك هذه البلدة المكرمة وملك إليها كل شيء إنه لعظيم الشأن» قال أحمد : وتحت قوله (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) : فائدة أخرى سوى ذلك ، وهي أنه لما أضاف اسمه إلى البلدة المخصوصة تشريفا لها ، أتبع ذلك إضافة كل شيء سواها إلى ملكه ، قطعا لتوهم اختصاص ملكه بالبلدة المشار إليها ، وتنبيها على أن الاضافة الأولى إنما قصد بها التشريف ، لا لأنها ملك الله تعالى خاصة ، والله أعلم.

٣٨٩

إلا البلاغ. ثم أمره أن يحمد الله على ما خوّله من نعمة النبوّة التي لا توازيها نعمة ، وأن يهدّد أعداءه بما سيريهم الله من آياته التي تلجئهم إلى المعرفة ، والإقرار بأنها آيات الله. وذلك حين لا تنفعهم المعرفة. يعنى في الآخرة. عن الحسن وعن الكلبي : الدخان ، وانشقاق القمر. وما حلّ بهم من نقمات الله في الدنيا. وقيل : هو كقوله (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) الآية وكل عمل يعملونه ، فالله عالم به غير غافل عنه لأنّ ، الغفلة والسهو لا يجوزان على عالم الذات (١) ، وهو من وراء جزاء العاملين. قرئ : تعملون ، بالتاء والياء.

عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. «من قرأ طس سليمان : كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق سليمان وكذب به وهود وشعيب وصالح وإبراهيم ، ويخرج من قبره وهو ينادى لا إله إلا الله» (٢).

__________________

(١) قال محمود : «لأن العالم بالذات لا يجوز عليه الغفلة» قال أحمد : قد سبق له جحد صفة العلم ، وإيهام أن سلبها داخل في تنزيه الله تعالى ، لأنه يجعل استحالة الغفلة عليه معللة بأنه عالم بالذات لا بعلم ، والحق أن استحالة الغفلة عليه تعالى ، لأن علمه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، بل هو علم قديم أزلى عام التعليق بجميع الواجبات والممكنات والممتنعات ، ولا يتوقف تنزيهه تعالى على تعطيل صفاته وكماله وجلاله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

(٢) أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.

٣٩٠

سورة القصص

مكية ، [إلا من آية ٥٢ إلى غاية آية ٥٥ فمدنية ، وآية ٨٥ فبالجحفة أثناء الهجرة] وآياتها ٨٨ [نزلت بعد النمل]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٣)

(مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ) مفعول نتلو ، أى : نتلو عليك بعض خبرهما (بِالْحَقِ) محقين ، كقوله تنبت بالدهن (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) لمن سبق في علمنا أنه يؤمن ، لأنّ التلاوة إنما تنفع هؤلاء دون غيرهم.

(إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)(٤)

(إِنَّ فِرْعَوْنَ) جملة مستأنفة كالتفسير للمجمل ، كأن قائلا قال : وكيف كان نبؤهما فقال : إنّ فرعون (عَلا فِي الْأَرْضِ) يعنى أرض مملكته قد طغى فيها وجاوز الحدّ في الظلم والعسف (شِيَعاً) فرقا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه ، لا يملك أحد منهم أن يلوى عنقه. قال الأعشى :

وبلدة يرهب الجوّاب دلجتها

حتّي تراه عليها يبتغى الشّيعا (١)

__________________

(١) وبلدة يرهب الجواب دلجتها

حتى تراه عليها يبتغى الشيعا

كلفت مجهولها نفسي وشايعنى

همى عليها إذا ما آلها لمعا

بذات لوث عفرناة إذا عثرت

فالتعس أولى لها من أن يقال لعا

للأعشى ، أى : ورب مفازة يخاف الجواب : أى كثير السير ، من جبت الأرض : قطعتها بالسير. والدلجة ، من دلج وأدلج بوزن افتعل ، وأدلج بوزن أكرم : إذا سار ليلا والدلجة : ساعة من الليل ، أى : يخاف المعتاد على السير من سيرها ليلا حتى يطلب الجماعات المساعدين له على سيرها ، كلفت نفسي سير المجهول منها ، وعاوننى عزمي على سيرها وقت لمعان آلها ، وهو السراب الذي يرى عند شدة الحر كأنه ماء ، مع أن سير الهاجرة أشد من سير ـ

٣٩١

أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته. أو أصنافا في استخدامه يتسخر صنفا في بناء وصنفا في حرث وصنفا في حفر ، ومن لم يستعمله ضرب عليه الجزية. أو فرقا مختلفة قد أغرى بينهم العداوة ، وهم بنو إسرائيل والقبط. والطائفة المستضعفة : بنو إسرائيل. وسبب ذبح الأبناء : أنّ كاهنا قال له : يولد مولود في بنى إسرائيل يذهب ملكك على يده. وفيه دليل بين على ثخانة حمق فرعون ، فإنه إن صدق الكاهن لم يدفع القتل الكائن ، وإن كذب فما وجه القتل؟ و (يَسْتَضْعِفُ) حال من الضمير في (وَجَعَلَ) أو صفة لشيعا. أو كلام مستأنف. و (يُذَبِّحُ) بدل من يستضعف. وقوله (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) بيان أنّ القتل ما كان إلا فعل المفسدين فحسب ، لأنه فعل لا طائل تحته ، صدق الكاهن أو كذب.

(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ)(٦)

فإن قلت : علام عطف قوله (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَ) وعطفه على (نَتْلُوا) و (يَسْتَضْعِفُ) غير سديد؟ قلت : هي جملة معطوفة على قوله (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) لأنها نظيرة «تلك» في وقوعها تفسيرا لنبأ موسى وفرعون ، واقتصاصا له. (وَنُرِيدُ) : حكاية حال ماضية. ويجوز أن يكون حالا من يستضعف ، أى يستضعفهم فرعون ، ونحن نريد أن نمنّ عليهم. فإن قلت : كيف يجتمع استضعافهم وإرادة الله المنة عليهم؟ وإذا أراد الله شيئا كان ولم يتوقف إلى وقت آخر ، قلت : لما كانت منة الله بخلاصهم من فرعون قريبة الوقوع ، جعلت إرادة وقوعها كأنها مقارنة لاستضعافهم (أَئِمَّةً) مقدّمين في الدين والدنيا ، يطأ الناس أعقابهم. وعن ابن عباس رضى الله عنهما : قادة يقتدى بهم في الخير. وعن مجاهد رضى الله عنه : دعاة إلى الخير ، وعن قتادة رضى الله عنه : ولاة ، كقوله تعالى (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً). (الْوارِثِينَ) يرثون فرعون وقومه ملكهم وكل ما كان لهم. مكن له : إذا جعل له مكانا يقعد عليه أو يرقد ، فوطأه ومهده ونظيره : أرّض له. ومعنى التمكين لهم في الأرض وهي أرض مصر والشام : أن يجعلها بحيث لا تنبو بهم ولا تغث (١) عليهم ، كما كانت في أيام الجبابرة ، وينفذ أمرهم ، ويطلق أيديهم ويسلطهم.

__________________

ـ الليل ، ثم قال مع ناقة صاحبة قوة ، ويطلق اللوث على الضعف أيضا ، فهو من الأضداد ، عفرناة : غليظة ، ويقال للعائر : لعا لك ، دعاء له بالانتعاش. وتعسا له : دعاء عليه بالسقوط ، يريد أنها لا تعثر ، ولو عثرت فالدعاء عليها أحق بها من الدعاء لها.

(١) قوله «ولا تغث عليهم» أى : ولا تفسد وتردؤ. أفاده الصحاح. (ع)

٣٩٢

وقرئ : ويرى فرعون وهامان وجنودهما ، أى : يرون (مِنْهُمْ ما) حذروه : من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم.

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)(٧)

اليم : البحر. قيل : هو نيل مصر. فإن قلت : ما المراد بالخوفين حتى أوجب أحدهما ونهى عن الآخر؟ قلت : أما الأوّل فالخوف عليه من القتل ، لأنه كان إذا صاح خافت أن يسمع الجيران صوته فينموا عليه. وأما الثاني ، فالخوف عليه من الغرق ومن الضياع ومن الوقوع في يد بعض العيون المبثوثة من قبل فرعون في تطلب الولدان ، وغير ذلك من المخاوف. فإن قلت : ما الفرق بين الخوف والحزن؟ قلت : الخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع. والحزن : غم يلحقه لواقع وهو فراقه والإخطار به ، فنهيت عنهما جميعا ، وأو منت بالوحي إليها ، ووعدت ما يسليها ويطامن قلبها ويملؤها غبطة وسرورا : وهو ردّه إليها وجعله من المرسلين. وروى : أنه ذبح في طلب موسى عليه السلام تسعون ألف وليد. وروى : أنها حين أقربت وضربها الطلق وكانت بعض القوابل الموكلات بحبالى بنى إسرائيل مصافية لها ، فقالت لها : لينفعني حبك اليوم ، فعالجتها ، فلما وقع إلى الأرض هالها نور بين عينيه ، وارتعش كل مفصل منها ، ودخل حبه قلبها ، ثم قالت : ما جئتك إلا لأقبل مولودك وأخبر فرعون ، ولكنى وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله فاحفظيه ، فلما خرجت جاء عيون فرعون ، فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور (١) ، لم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها ، فطلبوا فلم يلقوا شيئا ، فخرجوا وهي لا تدرى مكانه ، فسمعت بكاءه من التنور ، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما ، فلما ألح فرعون في طلب الولدان أوحى الله إليها فألقته في اليم. وقد روى أنها أرضعته ثلاثة أشهر في تابوت من بردي (٢) مطلى بالقار من داخله.

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ)(٨)

__________________

(١) قوله «ووضعته في تنور مسجور» في الصحاح «التنور» : الذي يخبر فيه. وفيه أيضا. سجرت التنور سجرا ، إذا حميته. (ع)

(٢) قوله «تابوت من بردي مطلى بالقار» في الصحاح «البردي» بالفتح : نبات معروف ، فلينظر. (ع)

٣٩٣

اللام في (لِيَكُونَ) هي لام كى التي معناها التعليل ، كقولك : جئتك لتكرمنى سواء بسواء ولكن معنى التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة ، لأنه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوّا وحزنا ، ولكن : المحبة والتبني ، غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته ، شبه بالداعي الذي يفعل الفاعل الفعل لأجله ، وهو الإكرام الذي هو نتيجة المجيء ، والتأدب الذي هو ثمرة الضرب في قولك : ضربته ليتأدّب. وتحريره : أن هذه اللام حكمها حكم الأسد ، حيث استعيرت لما يشبه التعليل ، كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد. وقرئ : وحزنا وهما لغتان : كالعدم والعدم (كانُوا خاطِئِينَ) في كل شيء ، فليس خطؤهم في تربية عدّوهم ببدع منهم. أو كانوا مذنبين مجرمين ، فعاقبهم الله بأن ربى عدوّهم ـ ومن هو سبب هلاكهم ـ على أيديهم. وقرئ : خاطين ، تخفيف خاطئين ، أو خاطين الصواب إلى الخطأ.

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(٩)

روى أنهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه ، فلم يقدروا عليه ، فعالجوا كسره فأعياهم ، فدنت آسية فرأت في جوف التابوت نورا ، فعالجته ففتحته ، فإذا بصبىّ نوره بين عينيه وهو يمصّ إبهامه لبنا فأحبوه ، وكانت لفرعون بنت برصاء ، وقالت له الأطباء : لا تبرأ إلا من ، قبل البحر ، يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه ، فلطخت البرصاء برصها بريقه فبرأت (١). وقيل لما نظرت إلى وجهه برأت ، فقالت : إن هذه لنسمة مباركة ، فهذا أحد ما عطفهم عليه ، فقال الغواة من قومه : هو الصبى الذي نحذر منه ، فأذن لنا في قتله ، فهمّ بذلك فقالت آسية (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) فقال فرعون : لك لا لي. وروى في حديث : «لو قال هو قرّة عين لي كما هو لك ، لهداه الله كما هداها (٢)» وهذا على سبيل الفرض والتقدير ، أى : لو كان غير مطبوع على قلبه كآسية لقال مثل قولها ، ولأسلم كما أسلمت : هذا ـ إن صح الحديث ـ تأويله ، والله أعلم بصحته. وروى أنها قالت له : لعله من قوم آخرين ليس من بنى إسرائيل. قرّة عين : خبر مبتدإ محذوف ولا يقوى أن تجعله مبتدأ و (لا تَقْتُلُوهُ) خبرا ، ولو نصب لكان أقوى. وقراءة ابن مسعود

__________________

(١) قوله «فبرأت» في الصحاح : برئت من المرض برءا بالضم. وأهل الحجاز يقولون : برأت من المرض برءا بالفتح. وأصبح فلان بارئا من مرضه (ع)

(٢) هذا طرف من حديث الفتون الطويل. وقد ذكرنا في طه أن النسائي أخرجه من حديث ابن عباس وفيه فأتت فرعون فقالت : قرة عين لي ولك فقال فرعون : يكون لك فأما أنا فلا حاجة لي فيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يحلف به ، لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها ولكن الله حرمه ذلك».

٣٩٤

رضى الله عنه دليل على أنه خبر ، قرأ : لا تقتلوه قرّة عين لي ولك ، بتقديم (لا تَقْتُلُوهُ). (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) فإنّ فيه مخايل اليمن ودلائل النفع لأهله ، وذلك لما عاينت من النور وارتضاع الإبهام وبرء البرصاء ، ولعلها توسمت في سيماه النجابة المؤذنة بكونه نفاعا. رأو نتبناه ، فإنه أهل للتبنى ، ولأن يكون ولدا لبعض الملوك. فإن قلت : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حال ، فما ذو حالها؟ قلت : ذو حالها آل فرعون. وتقدير الكلام : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا ، وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه. وقوله : إن فرعون ... الآية : جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه ، مؤكدة لمعنى خطئهم. وما أحسن نظم هذا الكلام عند المرتاض بعلم محاسن النظم.

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)(١١)

(فارِغاً) صفرا من العقل. والمعنى : أنها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون طار عقلها لما دهمها من فرط الجزع والدهش. ونحوه قوله تعالى (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أى جوّف لا عقول فيها ومنه بيت حسان :

ألا أبلغ أبا سفيان عنّى

فأنت مجوّف نخب هواء (١)

وذلك أنّ القلوب مراكز العقول. ألا ترى إلى قوله (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) ويدل عليه قراءة من قرأ : فرغا. وقرئ : قرعا ، أى خاليا من قولهم : أعوذ بالله من صفر الإناء وقرع الفناء (٢). وفرغا ، من قولهم : دماؤهم بينهم فرغ ، أى هدر ، يعنى : بطل قلبها وذهب ، وبقيت لا قلب لها من شدّة ما ورد عليها (لَتُبْدِي بِهِ) لتصحر (٣) به. والضمير لموسى والمراد بأمره وقصته ، وأنه ولدها (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) بإلهام الصبر ، كما يربط على الشيء المنفلت ليقرّ ويطمئن (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) من المصدقين بوعد الله ، وهو قوله (إِنَّا

__________________

(١) تقدم شرح هذا الشاهد ضمن أبيات في الجزء الثاني صفحة ٥٦٣ فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٢) قوله «من صفر الإناء وقرع الفناء» صفر الإناء : خلوه ، مصدر : صفر الشيء بالكسر ، أى : خلا. وقرع الفناء : خلوه من الغاشية ، مصدر قرع بالكسر ، أى : خلا. (ع)

(٣) قوله «لتصحر به» في الصحاح : أصحر الرجل ، أى : خرج إلى الصحراء والمراد هنا تجهر به ولا تكتم أمره (ع)

٣٩٥

رَادُّوهُ إِلَيْكِ) ويجوز : وأصبح فؤادها فارغا من الهم ، حين سمعت أن فرعون عطف عليه وتبناه إن كادت لتبدي بأنه ولدها ، لأنها لم تملك نفسها فرحا وسرورا بما سمعت ، لو لا أنا طامنا قلبها وسكنّا قلقه الذي حدث به من شدّة الفرح والابتهاج ، لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لا بتبني فرعون وتعطفه. وقرئ : مؤسى ، بالهمزة : جعلت الضمة في جارة الواو ـ وهي الميم ـ كأنها فيها ، فهمزت كما تهمز واو وجوه (قُصِّيهِ) اتبعى أثره وتتبعى خبره. وقرئ فبصرت بالكسر ـ يقال بصرت به عن جنب وعن جنابة ، بمعنى : عن بعد. وقرئ : عن جانب ، وعن جنب. والجنب : الجانب. يقال : قعد إلى جنبه وإلى جانبه ، أى: نظرت إليه مزورة متجانفة مخاتلة (١). وهم لا يحسون بأنها أخته ، وكان اسمها مريم.

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(١٣)

التحريم : استعارة للمنع ؛ لأنّ من حرم عليه الشيء فقد منعه. ألا ترى إلى قولهم : محظور. وحجر ، وذلك لأن الله منعه أن يرضع ثديا ، فكان لا يقبل ثدي مرضع قط ، حتى أهمهم ذلك. والمراضع : جمع مرضع ، وهي المرأة التي ترضع. أو جمع مرضع ، وهو موضع الرضاع يعنى الثدي أو الرضاع (مِنْ قَبْلُ) من قبل قصصها أثره. روى أنها لما قالت (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) قال هامان : إنها لتعرفه وتعرف أهله ، فقالت : إنما أردت وهم للملك ناصحون (٢) والنصح : إخلاص العمل من شائب الفساد ، فانطلقت إلى أمها بأمرهم ، فجاءت بها والصبىّ على يد فرعون يعلله شفقة عليه وهو يبكى يطلب الرضاع ، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها ، فقال لها فرعون : ومن أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ قالت : إنى امرأة طيبة الريح طيبة اللبن ، لا أوتى بصبى إلا قبلني ، فدفعه إليها وأجرى عليها ، وذهبت به إلى بيتها ، وأنجز الله وعده في الردّ ، فعندها ثبت واستقرّ في علمها أن سيكون نبيا. وذلك قوله (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) يريد. وليثبت علمها ويتمكن. فإن قلت : كيف حل لها أن تأخذ الأجر على إرضاع ولدها؟

__________________

(١) قوله «متجانفة مخاتلة» متجانفة : أى مائلة. ومخاتلة : أى مخادعة. أفاده الصحاح. (ع)

(٢) قال محمود : «إنهم اتهموها لما قالت (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) بمعرفة موسى عليه السلام ، فقالت إنما أردت وهم للملك فرعون ناصحون ، فخلصت من التهمة» قال أحمد : أوردت هذه التورية استحسانا لفطنتها ، ولكونها من بيت النبوة ، وأخت النبي ، فحقيق لها ذلك.

٣٩٦

قلت : ما كانت تأخذه على أنه أجر على الرضاع ، ولكنه مال حربىّ كانت تأخذه على وجه الاستباحة. وقوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) داخل تحت علمها. المعنى : لتعلم أن وعد الله حق ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أنه حق فيرتابون. ويشبه التعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى ، فجزعت وأصبح فؤادها فارغا يروى أنها حين ألقت التابوت في اليم جاءها الشيطان فقال لها : يا أم موسى ، كرهت أن يقتل فرعون موسى فتؤجرى ، ثم ذهبت فتوليت قتله ، فلما أتاها الخبر بأن فرعون أصابه قالت : وقع في يد العدوّ ، فنسيت وعد الله. ويجوز أن يتعلق (وَلكِنَ) بقوله (وَلِتَعْلَمَ) ومعناه : أن الرّد إنما كان لهذا الغرض الديني ، وهو علمها بصدق وعد الله. ولكنّ الأكثر لا يعلمون بأن هذا هو الغرض الأصلى الذي ما سواه تبع له : من قرّة العين وذهاب الحزن.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)(١٤)

(وَاسْتَوى) واعتدل وتمّ استحكامه ، وبلغ المبلغ الذي لا يزاد عليه ، كما قال لقيط :

واستحملوا أمركم لله درّكمو

شزر المريرة لا قحما ولا ضرعا (١)

وذلك أربعون سنة : ويروى : أنه لم يبعث نبىّ إلا على رأس أربعين سنة (٢). العلم. التوراة. والحكم : السنة. وحكمة الأنبياء : سنتهم. قال الله تعالى (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ

__________________

(١) للقيط. وروى : واستحكموا. والشزر : القتل الشديد ، والشيء الشديد ، فهو مصدر أو وصف ، والمريرة من المرة وهي القوة. والمرير : الحبل المحكم الفتل. والقحم : الشيخ الهرم يعتريه خرق وخرف. والضرع : اللين الذليل ، من الضراعة وهي الذلة والخضوع ، يقول : قلدوا أمر خلافتكم رجلا محكم العزيمة قوى الهمة ، لا هرما مختل الرأى ولا ضعيفا ، ولله دركم : جملة اعتراضية ، أى : لله خيركم وصالح عملكم. وقيل : هذا البيت ملفق مما رواه أبو العباس المبرد في كامله ، ومنه :

فقلدوا أمركم لله دركم

رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

ما زال يحلب هذا الدهر أشطره

يكون متبعا طورا ومتبعا

حتى استمرت على شزر مريرته

مستحكم الرأى لا قحما ولا ضرعا

ورحب الذراع : طويل الباع واسع الصدر ، أى : شجاع جواد ، واضطلع بكذا : قوى عليه واشتد ، من الضلاعة وهي القوة واحتمال الثقيل ، وشطرت الناقة شطرا : حلبت شطر لبنها وتركت شطره ، أى : نصفه وما هنا مستعار منه ، أى : جربت الدهر ومرت بى ضروبه من خير وشر ، فاكتسبت منه ما يصح به رائي. والأشطر : جمع شطر بدل من الدهر. ويجوز أن حلب يتعدى إلى مفعولين ولو بالتضمين. ومتبع الأول : اسم مفعول ، والثاني : اسم فاعل ، أى : تارة تابع ، وتارة متبوع. واستمرت مريرته : قوى عزمه واستحكم أمره على شزر ، أى قوة وصدق همة ،

(٢) لم أجده.

٣٩٧

مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) وقيل : معناه أتيناه سيرة الحكماء العلماء ، وسمتهم قبل البعث ، فكان لا يفعل فعلا يستجهل فيه.

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ)(١٧)

المدينة : مصر. وقيل : مدينة منف من أرض مصر. وحين غفلتهم : ما بين العشاءين. وقيل : وقت القائلة. وقيل : يوم عيد لهم هم مشتغلون فيه بلهوهم. وقيل : لما شبّ وعقل أخذ يتكلم بالحق وينكر عليهم ، فأخافوه ، فلا يدخل قرية إلا على تغفل. وقرأ سيبويه : فاستعانه (مِنْ شِيعَتِهِ) ممن شايعه على دينه من بنى إسرائيل. وقيل : هو السامرىّ (مِنْ عَدُوِّهِ) من مخالفيه من القبط ، وهو فاتون ، وكان يتسخر الاسرائيلى لحمل الحطب إلى مطبخ فرعون. والوكز : الدفع بأطراف الأصابع. وقيل : بجمع الكف. وقرأ ابن مسعود : فلكزه. باللام (فَقَضى عَلَيْهِ) فقتله. فإن قلت : لم جعل قتل الكافر من عمل الشيطان وسماه ظلما لنفسه واستغفر منه؟ قلت : لأنه قتله قبل أن يؤذن له في القتل ، فكان ذنبا يستغفر منه. عن ابن جريج : ليس لنبي أن يقتل ما لم يؤمر (بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف ، تقديره : أقسم بإنعامك علىّ بالمغفرة لأتوبنّ (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (١) وأن يكون استعطافا ، كأنه قال : رب اعصمني بحق ما أنعمت علىّ من المغفرة ، فلن أكون ـ إن عصمتني ـ ظهيرا للمجرمين. وأراد بمظاهرة المجرمين : إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته وتكثيره سواده حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد ، وكان يسمى ابن فرعون. وإما مظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم ، كمظاهرة الإسرائيلى المؤدية إلى القتل الذي لم يحل له. وعن ابن عباس : لم يستثن فابتلى به مرّة أخرى. يعنى : لم يقل : (فَلَنْ أَكُونَ) إن شاء الله. وهذا نحو قوله (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وعن عطاء : أنّ رجلا قال له : إنّ أخى يضرب بقلمه ولا يعدو رزقه. قال : فمن الرأس ، يعنى

__________________

(١) قوله تعالى (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) قال أحمد : لقد تبرأ من عظيم ، لأن ظهير المجرمين شريكهم فيما هم بصدده. ويروى : أنه يقال يوم القيامة : أين الظلمة وأعوان الظلمة ، فيؤتى بهم حتى بمن لاق لهم ليقة أو برى لهم قلما فيجعلون في تابوت من حديد ويلقى بهم في النار.

٣٩٨

من يكتب له؟ قال : خالد بن عبد الله القسري : قال فأين قول موسى؟ وتلا هذه الآية. وفي الحديث : «ينادى مناد يوم القيامة : أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة ، حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما ، فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى به في جهنم» (١) وقيل معناه. بما أنعمت علىّ من القوّة ، فلن أستعملها إلا في مظاهرة أوليائك وأهل طاعتك والإيمان بك. ولا أدع قبطيا يغلب أحدا من بنى إسرائيل.

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ)(١٩)

(يَتَرَقَّبُ) المكروه وهو الاستقادة منه ، أو الإخبار وما يقال فيه ، ووصف الإسرائيلى بالغىّ ، لأنه كان سبب قتل رجل ، وهو يقاتل اخر. وقرئ : يبطش ، بالضم. والذي هو عدوّ لهما : القبطي ؛ لأنه ليس على دينهما ، ولأن القبط كانوا أعداء بنى إسرائيل. والجبار : الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم ، لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن : وقيل : المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله ، ولما قال هذا : أفشى على موسى فانتشر الحديث في المدينة ورقى إلى فرعون ، وهموا بقتله.

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ)(٢٠)

قيل : الرجل : مؤمن آل فرعون ، وكان ابن عم فرعون ، و (يَسْعى) يجوز ارتفاعه وصفا لرجل ، وانتصابه حالا عنه ، لأنه قد تخصص بأن وصف بقوله (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) وإذا جعل صلة لجاء ، لم يجز في (يَسْعى) إلا الوصف. والائتمار : التشاور. يقال : الرجلان يتآمران ويأتمران ، لأن كل واحد منهما يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمر. والمعنى : يتشاورون بسببك (لَكَ) بيان ، وليس بصلة الناصحين.

(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٢١)

__________________

(١) ذكره صاحب الفردوس من حديث أبى هريرة.

٣٩٩

(يَتَرَقَّبُ) التعرّض له في الطريق. أو أن يلحق.

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ)(٢٢)

(تِلْقاءَ مَدْيَنَ) قصدها ونحوها. ومدين : قرية شعيب عليه السلام ، سميت بمدين بن إبراهيم ، ولم تكن في سلطان فرعون ، وبينها وبين مصر مسيرة ثمان ، وكان موسى لا يعرف إليها الطريق قال ابن عباس : خرج وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه. و (سَواءَ السَّبِيلِ) وسطه ومعظم نهجه. وقيل : خرج حافيا لا يعيش إلا بورق الشجر ، فما وصل حتى سقط خف قدمه. وقيل : جاءه ملك على فرس بيده عنزة ، فانطلق به إلى مدين.

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)(٢٧) (قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ)(٢٨)

(ماءَ مَدْيَنَ) ماءهم الذي يستقون منه ، وكان بئرا فيما روى. ووروده : مجيئه والوصول إليه (وَجَدَ عَلَيْهِ) وجد فوق شفيره ومستقاه (أُمَّةً) جماعة كثيفة العدد (مِنَ النَّاسِ) من أناس مختلفين (مِنْ دُونِهِمُ) في مكان أسفل من مكانهم. والذود : الطرد والدفع وإنما كانتا تذودان ، لأنّ على الماء من هو أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي. وقيل : كانتا تكرهان المزاحمة على الماء. وقيل : لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ، وقيل : تذودان عن وجوههما نظر الناظر لتسترهما (ما خَطْبُكُما) ما شأنكما. وحقيقته : ما مخطوبكما ، أى : مطلوبكما من الذياد ، فسمى المخطوب خطبا ،

٤٠٠