الكشّاف - ج ٣

محمود بن عمر الزمخشري

الكشّاف - ج ٣

المؤلف:

محمود بن عمر الزمخشري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٢٠

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سورة مريم

مكية [إلا آيتي ٥٨ و ٧١ فمدنيتان]

وآياتها ٩٨ [نزلت بعد سورة فاطر]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا)(٣)

(كهيعص) قرأ بفتح الهاء (١) وكسر الياء حمزة ، وبكسرهما عاصم ، وبضمهما الحسن. وقرأ الحسن (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) أى : هذا المتلوّ من القرآن ذكر رحمة ربك. وقرئ : ذكر ، على الأمر (٢). راعى سنة الله في إخفاء دعوته ، لأنّ الجهر والإخفاء عند الله سيان ، فكان الإخفاء أولى ، لأنه أبعد من الرياء وأدخل في الإخلاص. وعن الحسن : نداء لا رياء فيه ، أو أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في إبان الكبرة والشيخوخة (٣). أو أسره من مواليه الذين خافهم. أو خفت صوته لضعفه وهرمه ، كما جاء في صفة الشيخ : صوته خفات ، وسمعه تارات.

__________________

(١) قوله «كهيعص قرأ بفتح الهاء» عبارة النسفي. قرأ على ويحيى بكسر الهاء والياء ، ونافع بين الفتح والكسر ، وإلى الفتح أقرب. وأبو عمرو بكسر الهاء وفتح الياء. وحمزة بعكسه. وغيرهم بفتحهما. (ع)

(٢) قوله «وقرأ الحسن (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) أى هذا الخ» يحتاج إلى تحرير ، فان الرفع قراءة الجمهور. وقوله «ذكر على الأمر» أى و (رَحْمَةِ رَبِّكَ) بالنصب. (ع)

(٣) قوله «في إبان الكبرة والشيخوخة» في الصحاح : الكبر في السن ، والاسم الكبرة بالفتح. وفيه أيضا : شاخ الرجل يشيخ شيخا بالتحريك : جاء على أصله ، وشيخوخة اه وليس فيه شيوخة. وفيه أيضا : إبان الشيء بالكسر والتشديد : وقته وأوانه. (ع)

٣

واختلف في سنّ زكريا عليه السلام ، فقيل : ستون ، وخمس وستون ، وسبعون ، وخمس وسبعون ، وخمس وثمانون.

(قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (٤)

قرئ (وَهَنَ) بالحركات الثلاث ، وإنما ذكر العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه ، فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته ، ولأنه أشد ما فيه وأصلبه ، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن. ووحده لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية ، وقصده إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ، ولو جمع لكان قصدا إلى معنى آخر ، وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها. إدغام السين في الشين عن أبى عمرو. شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته وانتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ ، باشتعال النار ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس : اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأس زكريا ، فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة. توسل إلى الله بما سلف له من الاستجابة. وعن بعضهم أن محتاجا سأله وقال : أنا الذي أحسنت إلىّ وقت كذا. فقال : مرحبا بمن توسل بنا إلينا ، وقضى حاجته.

(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)

كان مواليه ـ وهم عصبته إخوته وبنو عمه ـ شرار بنى إسرائيل ، فخافهم على الدين أن يغيروه ويبدّلوه ، وأن لا يحسنوا الخلافة على أمته ، فطلب عقبا من صلبه صالحا يقتدى به في إحياء الدين ويرتسم مراسمه فيه (مِنْ وَرائِي) بعد موتى. وقرأ ابن كثير : من وراي ، بالقصر ، وهذا الظرف لا يتعلق بخِفْتُ لفساد المعنى ، ولكن بمحذوف. أو بمعنى الولاية في الموالي : أى خفت فعل الموالي وهو تبديلهم وسوء خلافتهم من ورائي. أو خفت الذين يلون الأمر من ورائي. وقرأ عثمان ومحمد بن على وعلى بن الحسين رضى الله عنهم. خفت الموالي من ورائي ، وهذا على معنيين ، أحدهما : أن يكون (وَرائِي) بمعنى خلفي وبعدي ، فيتعلق الظرف بالموالي : أى قلوا وعجزوا عن إقامة أمر الدين ، فسأل ربه تقويتهم ومظاهرتهم بولىّ يرزقه. والثاني : أن يكون

٤

بمعنى قدامى ، فيتعلق بخِفْتُ ، ويريد أنهم خفوا قدامه ودرجوا ولم يبق منهم من به تقوّ واعتضاد (مِنْ لَدُنْكَ) تأكيد لكونه وليا مرضيا ، بكونه مضافا إلى الله تعالى وصادرا من عنده ، وإلا ـ فهب لي وليا يرثني ـ كاف ، أو أراد اختراعا منك بلا سبب لأنى وامرأتى لا نصلح للولادة (يَرِثُنِي وَيَرِثُ) الجزم جواب الدعاء ، والرفع صفة. ونحوه (رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) وعن ابن عباس والجحدري : يرثنى وارث آل يعقوب ، نصب على الحال. وعن الجحدري : أو يرث ، على تصغير وارث ، وقال : غليم صغير. وعن على رضى الله عنه وجماعة : وارث من آل يعقوب : أى يرثني به وارث ، ويسمى التجريد في علم البيان ، والمراد بالإرث إرث الشرع والعلم ، لأنّ الأنبياء لا تورّث المال. وقيل يرثني الحبورة وكان حبرا ، ويرث من آل يعقوب الملك. يقال : ورثته وورثت منه لغتان. وقيل «من» للتبعيض لا للتعدية ، لأنّ آل يعقوب لم يكونوا كلهم أنبياء ولا علماء ، وكان زكريا عليه السلام من نسل يعقوب بن إسحاق. وقيل : هو يعقوب بن ماتان أخو زكريا. وقيل : يعقوب هذا وعمران أبو مريم أخوان من نسل سليمان بن داود.

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا)(٧)

(سَمِيًّا) لم يسمّ أحد بيحيى قبله ، وهذا شاهد على أنّ الأسامى السنع جديرة بالأثرة ، وإياها كانت العرب تنتحى في التسمية لكونها أنبه وأنوه وأنزه عن النبز ، حتى قال القائل في مدح قوم :

سنع الأسامى مسبلى أزر

حمر تمس الأرض بالهدب (١)

وقال رؤبة للنسابة البكري ـ وقد سأله عن نسبه ـ : أنا ابن العجاج ، فقال : قصرت وعرفت. وقيل : مثلا وشبيها عن مجاهد ، كقوله (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) وإنما قيل للمثل «سمىّ» لأنّ كل متشاكلين يسمى كل واحد منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير ، فكل واحد منهما سمىّ لصاحبه ، ونحو «يحيى» في أسمائهم «يعمر ، ويعيش» إن كانت التسمية عربية ، وقد سموا بيموت أيضا ، وهو يموت ابن المزرع ، قالوا : لم يكن له مثل في أنه لم يعص ولم يهم بمعصية قط ، وأنه ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر ، وأنه كان حصورا.

__________________

(١) يقال سنع الرجل كظرف ، فهو سنيع أى جميل ، وأسنع ، والمرأة سنعاء ، وسنع جمع أسنع : أى أسماؤهم حسنة ، فهي أنبه وأنوه وأنزه عن النبز ، والحمر : صفة الأزر ، وتمس : صفة أخرى لها. وهدب الشيء : طرفه ، والمناسب للمعنى أن المراد به الجمع ، ويمكن أن يكون ضمنه مفردا كقفل ، وجمعا كفلك. ويجوز أنه اسم جمع ، ولذلك جاء في واحده هدية. ومس الأرض بالأطراف : كناية عن طولها ، بل عن غناهم وثروتهم اللازم له ذلك.

٥

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) (٨)

أى كانت على صفة العقر حين أنا شاب وكهل ، فما رزقت الولد لاختلال أحد السببين ، أفحين اختل السبيان جميعا أرزقه؟ فإن قلت : لم طلب أو لا وهو وامرأته على صفة العتىّ والعقر (١) ، فلما أسعف بطلبته استبعدوا واستعجب؟ قلت : ليجاب بما أجيب به ، فيزداد المؤمنون إيقانا ويرتدع المبطلون ، وإلا فمعتقد زكريا أولا وآخرا كان على منهاج واحد : في أنّ الله غنى عن الأسباب ، أى بلغت عتيا : وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام كالعود القاحل (٢). يقال : عتا العود وعسا من أجل الكبر والطعن في السن العالية. أو بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا. وقرأ ابن وثاب وحمزة والكسائي بكسر العين ، وكذلك صليا ، وابن مسعود بفتحهما (٣) فيهما. وقرأ أبىّ ومجاهد : عسيا (٤).

(قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً)(٩)

(كَذلِكَ) الكاف رفع ، أى الأمر كذلك تصديق له ، ثم ابتدأ (قالَ رَبُّكَ) أو نصب بقال ، وذلك إشارة إلى مبهم يفسره (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ونحوه (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ) وقرأ الحسن : وهو على هين ، ولا يخرج هذا إلا على الوجه الأول : أى الأمر كما قلت ، وهو على ذلك يهون على. ووجه آخر : وهو أن يشار بذلك إلى ما تقدم من وعد الله ، لا إلى قول زكريا. و «قال» محذوف في كلتا القراءتين : أى قال هو علىّ هين قال وهو علىّ هين ، وإن شئت لم تنوه ، لأن الله هو المخاطب ، والمعنى أنه قال ذلك ووعده

__________________

(١) قال محمود : «ان قلت لم طلب أو لا وهو وامرأته على صفة العتي ... الخ» قال أحمد : وفيما أجاب به نظر ، لأنه التزم أن زكريا استبعد ما وعده الله عز وجل بوقوعه ، ولا يجوز للنبي النطق بما لا يسوغ ، لمثل هذه الفائدة التي عينها الزمخشري ويمكن حصولها بدونه ، فالظاهر في الجواب ـ والله أعلم ـ أن طلبة زكريا إنما كانت ولدا من حيث الجملة ، وبحسب ذلك أجيب ، وليس في الاجابة ما يدل على أنه يولد له وهو هرم ، ولا أنه من زوجته وهي عاقر ، فاحتمل عنده أن يكون الموعود وهما بهذه الحالة ، واحتمل أن تعاد لهما قوتهما وشبابهما ، كما فعل الله ذلك لغيرهما. أو أن يكون الولد من غير زوجته العاقر ، فاستبعد الولد منهما وهما بحالهما ، فاستخبر أيكون وهما كذلك ، فقيل : كذلك ، أى : يكون الولد وأنتما كذلك ، فقد انصرف الإيعاد إلى عين الموعود فزال الاشكال ، والله أعلم.

(٢) قوله «كالعود القاحل» أى اليابس ، كذا في الصحاح. (ع)

(٣) قوله «بفتحهما» لعله بفتحها. (ع)

(٤) قوله «عسيا» في الصحاح : عسى الشيخ يعسو عسيا : ولى وكبر ، مثل عتا. (ع)

٦

وقوله الحق (شَيْئاً) لأن المعدوم ليس بشيء. أو شيئا يعتدّ به (١) ، كقولهم : عجبت من لا شيء ، وقوله :

إذا رأى غير شيء ظنّه رجلا (٢)

وقرأ الأعمش والكسائي وابن وثاب : خلقناك.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا)(١٠)

أى اجعل لي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به. قال : علامتك أن تمنع الكلام فلا تطيقه ، وأنت سليم الجوارح سوىّ الخلق ، ما بك خرس ولا بكم. دل ذكر الليالي هنا ، والأيام في آل عمران ، على أن المنع من الكلام استمر به ثلاثة أيام ولياليهن.

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا)(١١)

أوحى : أشار عن مجاهد ، ويشهد له (إِلَّا رَمْزاً). وعن ابن عباس : كتب لهم على الأرض (سَبِّحُوا) صلوا ، أو على الظاهر ، وأن : هي المفسرة.

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)(١٢)

أى خذ التوراة بحد واستظهار بالتوفيق والتأييد (الْحُكْمَ) الحكمة. ومنه :

واحكم كحكم فتاة الحي (٣)

__________________

(١) قال محمود : «إنما قيل ذلك لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئا يعتد به ... الخ» قال أحمد : قسر أولا على ظاهر النفي الصرف وهو الحق ، لأن المعدوم ليس شيئا قطعا ، خلافا للمعتزلة في قولهم : إن المعدوم الممكن شيء.

ومن ثم كافح الزمخشري عن البقاء على التفسير الأول إلى الثاني بوجه من التأويل يلائم معتقد المعتزلة. فجعل المنفي الشيئية المعتد بها ، وإن كانت الشيئية المطلقة ثابتة عنده للمعدوم ، والحق بقاء الظاهر في نصابه.

(٢) وضاقت الأرض حتى كان هاربهم

إذا رأى غير شيء ظنه رجلا

يقول : وضاقت الأرض على أعدائنا ، لأن كل مسلك يريدونه يظنون أحدا منا فيه فيرجعون ، فاستعير الضيق الحسى لذلك على طريق التصريح ، حتى كان الهارب منهم إذا رأى غير شيء ظنه رجلا منا ، فيرجع خوفا ، والشيء هو الموجود وغيره هو المعدوم ، ولكن استعير للشيء الحقير التافه لعدم الاعتداد بكل على طريق التصريح ، وذلك ليصح وقوع الرؤية عليه.

(٣) واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت

إلى حمام سراع وارد الثمد

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا ونصفه فقد

فحبسوه فألفوه كما وجدت

ستا وستين لم تنقص ولم تزد

للنابغة واسمه زياد ، يخاطب النعمان بن المنذر ، والفتاة : زرقاء اليمامة التي يضرب بها المثل في حدة البصر ، نظرت إلى حمام مسرع إلى الماء فقالت : ليت الحمام ليه. إلى حمامتيه. ونصفه قديه. ثم الحمام مية. فوقع في شبكة ـ

٧

يقال حكم حكما كحلم ، وهو الفهم للتوراة والفقه في الدين عن ابن عباس. وقيل : دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبى فقال : ما للعب خلقنا ، عن الضحاك. وعن معمر : العقل ، وقيل النبوّة ، لأنّ الله أحكم عقله في صباه وأوحى إليه.

(وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا)(١٤)

(حَناناً) رحمة لأبويه وغيرهما ، وتعطفا وشفقة. أنشد سيبويه :

وقالت حنان ما أتى بك هاهنا

أذو نسب أم أنت بالحي عارف (١)

وقيل : حنانا من الله عليه. وحنّ : في معنى ارتاح واشتاق ، ثم استعمل في العطف والرأفة ، وقيل لله «حنان» كما قيل «رحيم» على سبيل الاستعارة. والزكاة : الطهارة ، وقيل الصدقة ، أى : يتعطف على الناس ويتصدّق عليهم :

(وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)(١٥)

__________________

ـ صياد ، فوجدوه ستا وستين حمامة ، ونصفه ثلاثة وثلاثون ، فإذا ضم الكل إلى حمامتها صار مائة ، والحمام : كل ذى طوق من الطيور. وسراع : جمع سريع ، وصفه به لأنه جمع في المعنى ، وبوارد لأنه مفرد في اللفظ. ويروى «شراع» بالشين المشالة جمع شارع. والثمد : الماء القليل. وروى الحمام ونصفه بالرفع ، على إهمال ليتما. وبالنصب على إعمالها ، لأن «ما» زائدة لا كافة ، وإلا وجب الإهمال. وروى «أو نصفه» فأو بمعنى الواو ، والكلام على تقدير مضاف ، لأنها تمنت أن يكون هذا الحمام ومقدار نصفه لها. وإلى حمامتنا : متعلق بمحذوف ، أى : منضما إليها. وقد : اسم بمعنى حسب ، أضيفت إلى ياء المتكلم بغير نون الوقاية ، كما يقال : حسبي : ويحتمل أن الياء حرف إطلاق ، فلا إضافة ولكنها متعينة في كلام زرقاء ، والهاء فيه للسكت ، وهو يرجح الاضافة في كلام النابغة ، والفاء فيه زائدة لتحسين اللفظ كفاء فقط ، وكلاهما بمعنى انته ، وكأنها فاء الجواب ، أى : إذا بلغت هذا الحد فانته كما أفاده السعد في مطوله ، وحبسوه ينبغي تشديده ليسلم الشعر من الخبل ، وهو نوع من الزحاف يقبح دخوله هنا.

ويروى «حسبوه» بتقديم السين على الباء.

(١) وأحدث عهد من أمينة نظرة

على جانب العلياء إذ أنا واقف

فقالت حنان ما أتى بك هاهنا

أذو نسب أم أنت بالحي عارف

لمنذر بن درهم الكلبي ، يقول : وأقرب عهد : أى لقاء ورؤية لأمينة محبوبتى تصغير آمنة ، هو نظرة منى لها بجانب تلك البقعة ، إذ أنا واقف هناك : أى حين وقوفي بها. وفيه إشعار بأنه كان واقفا يترقب رؤيتها ، فلما رأته هي قالت له : حنان أى أمرى حنان ورحمة لك ، وهو من المواضع التي يجب فيها حذف المبتدأ لنيابة الخبر عن الفعل ، لأنه مصدر محول عن النصب. وقولها «ما أتى بك هاهنا» استفهام تعجبي. أذو نسب : أى أأنت ذو نسب أم أنت عارف بهذا الحي؟ ويجوز أن «أذو نسب» بدل من ما الاستقامية : أى الذي حملك على المجيء هنا أو الذي ذلك عليه صاحب قرابة من الحي أى معرفتك به؟ ويجوز أن الاستفهام حقيقى حكته على لسان غيرها ، لتلقنه الجواب بقولها : أذو نسب ... الخ ، مع معرفتها سبب مجيئه وهو حبها ، ربما يسأله أحد من أهلها فيجيبه بأحد هذين الجوابين.

٨

سلم الله عليه في هذه الأحوال ، قال ابن عيينة : إنها أوحش المواطن.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا)(١٧)

(إِذِ) بدل من (مَرْيَمَ) بدل الاشتمال ، لأنّ الأحيان مشتملة على ما فيها. وفيه أنّ المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا ، لوقوع هذه القصة العجيبة فيه. والانتباذ : الاعتزال والانفراد ، تخلت للعبادة في مكان مما يلي شرقى بيت المقدس ، أو من دارها معتزلة عن الناس. وقيل : قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو بشيء يسترها ، وكان موضعها المسجد ، فإذا حاضت تحوّلت إلى بيت خالتها ، فإذا طهرت عادت إلى المسجد ، فبينما هي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمى شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سوىّ الخلق ، لم ينتقص من الصورة الآدمية شيئا. أو حسن الصورة مستوى الخلق ، وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ، ولو بدا لها في الصورة الملكية لنفرت ولم تقدر على استماع كلامه. ودلّ على عفافها وورعها أنها تعوّذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن ، وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها وسبرا لعفتها. وقيل : كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه ، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها الباب ، فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلى رأسها ، فانفجر السقف لها فخرجت فجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك. وقيل : قام بين يديها في صورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس. وقيل : إنّ النصارى اتخذت المشرق قبلة لانتباذ مريم مكانا شرقيا. الروح : جبريل ، لأنّ الدين يحيا به وبوحيه. أو سماه الله روحه على المجاز محبة له وتقريبا ، كما تقول لحبيبك : أنت روحي. وقرأ أبو حيوة : روحنا ، بالفتح ، لأنه سبب لما فيه روح العباد ، وإصابة الرّوح عند الله الذي هو عدّة المقرّبين في قوله (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ) أو لأنه من المقرّبين وهم الموعودون بالروح ، أى : مقرّبنا وذا روحنا.

(قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا)(١٨)

أرادت إن كان يرجى منك أن تتقى الله وتخشاه وتحفل بالاستعاذة به ، فإنى عائدة به منك كقوله تعالى (بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

(قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩)

٩

أى إنما أنا رسول من استعذت به (لِأَهَبَ لَكِ) لأكون سببا في هبة الغلام بالنفخ في الدرع (١). وفي بعض المصاحف : إنما أنا رسول ربك أمرنى أن أهب لك. أو هي حكاية لقول الله تعالى.

(قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا)(٢١)

جعل المسّ عبارة عن النكاح الحلال ، لأنه كناية عنه ، كقوله تعالى (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ* أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) والزنا ليس كذلك ، إنما يقال فيه : فجر بها وخبث بها وما أشبه ذلك ، وليس بقمن أن تراعى فيه الكنايات والآداب. والبغىّ : الفاجرة التي تبغى الرجال ، وهي فعول عند المبرد «بغوى» فأدغمت الواو في الياء. وقال ابن جنى في كتاب التمام : هي فعيل ، ولو كانت فعولا لقيل «بغوّ» كما قيل : فلان نهوّ عن المنكر (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً) تعليل معلله محذوف أى : ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك. أو هو معطوف على تعليل مضمر ، أى لنبين به قدرتنا ولنجعله آية. ونحوه : (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) وقوله (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ). (مَقْضِيًّا) مقدّرا مسطورا في اللوح لا بدّ لك من جريه عليك. أو كان أمرا حقيقا بأن يكون ويقضى لكونه آية ورحمة. والمراد بالآية : العبرة والبرهان على قدرة الله ، وبالرحمة : الشرائع والألطاف ، وما كان سببا في قوّة الاعتقاد والتوصل إلى الطاعة والعمل الصالح. فهو جدير بالتكوين.

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا)(٢٢)

عن ابن عباس : فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها ، فوصلت النفخة إلى بطنها فحملت. وقيل : كانت مدّة الحمل ستة أشهر. وعن عطاء وأبى العالية والضحاك : سبعة أشهر. وقيل : ثمانية ، ولم يعش مولود وضع لثمانية إلا عيسى. وقيل : ثلاث ساعات. وقيل : حملته في ساعة ، وصوّر في ساعة ، ووضعته في ساعة ، حين زالت الشمس من يومها. وعن ابن عباس : كانت مدة الحمل ساعة واحدة ، كما حملته نبذته. وقيل : حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة. وقيل : بنت عشر ، وقد كانت حاضت حيضتين قبل أن تحمل. وقالوا : ما من

__________________

(١) قوله «في الدرع» في الصحاح «درع المرأة» قميصها. (ع)

١٠

مولود إلا يستهلّ غيره (١) (فَانْتَبَذَتْ بِهِ) أى اعتزلت وهو في بطنها ، كقوله :

تدوس بنا الجماحم والتّريبا (٢)

أى تدوس الجماجم ونحن على ظهورها ، ونحوه قوله تعالى (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) أى تنبت ودهنها فيها : الجار والمجرور في موضع الحال (قَصِيًّا) بعيدا من أهلها وراء الجبل. وقيل : أقصى الدار. وقيل : كانت سميت لابن عم لها اسمه يوسف ، فلما قيل : حملت من الزنا ، خاف عليها قتل الملك ، فهرب بها فلما كان ببعض الطريق حدّثته نفسه بأن يقتلها ، فأتاه جبريل فقال : إنه من روح القدس فلا تقتلها ، فتركها.

(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا)(٢٣)

(فَأَجاءَهَا) أجاء : منقول من جاء ، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء. ألا تراك تقول : جئت المكان وأجاءنيه زيد ، كما تقول : بلغته وأبلغنيه. ونظيره «آتى» حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء ، ولم تقل : أتيت المكان وآتانيه فلان. قرأ ابن كثير في رواية (الْمَخاضُ) بالكسر. يقال : مخضت الحامل مخاضا ومخاضا ، وهو تمخض الولد في بطنها (٣). طلبت الجذع لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة ، وكان جذع نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمرة ولا خضرة ، وكان الوقت شتاء ، والتعريف لا يخلو : إمّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة كتعريف النجم والصعق ، كأن تلك الصحراء كان فيها جذع نخلة متعالم عند الناس ، فإذا قيل : جذع النخلة فهم منه ذلك دون غيره من جذوع النخل. وإمّا أن يكون تعريف الجنس ، أى : جذع هذه الشجرة خاصة ، كأن الله تعالى إنما أرشدها إلى النخلة ليطعمها منها الرطب الذي هو حرسة النفساء الموافقة لها ، ولأن النخلة أقل شيء صبرا على البرد ، وثمارها إنما هي من جمارها ، فلموافقتها لها مع جمع الآيات فيها اختارها لها وألجأها إليها. قرئ (مِتُ) بالضم والكسر. يقال : مات يموت ومات يمات. النسىّ : ما من حقه أن يطرح وينسى ، كخرقة الطامث ونحوها ، كالذبح : اسم ما من شأنه أن يذبح في قوله تعالى (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) وعن

__________________

(١) قوله «ما من مولود إلا يستهل غيره» في الصحاح «استهل الصبى» أى صاح عند الولادة. (ع)

(٢) تقدم شرح هذا الشاهد بصفحة ١٣٨ من الجزء الأول فراجعه إن شئت اه مصححه.

(٣) قوله «وهو تمخض الولد في بطنها» في الصحاح «تمخض اللبن واستمخض» أى تحرك في الممخضة ، وكذلك الولد إذا تحرك في بطن الحامل. (ع)

١١

يونس : العرب إذا ارتحلوا عن الدار قالوا : انظروا أنساءكم ، أى : الشيء اليسير نحو العصا والقدح والشظاظ (١). تمنت لو كانت شيئا تافها لا يؤبه له ، من شأنه وحقه أن ينسى في العادة وقد نسى وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو حقه ، وذلك لما لحقها من فرط الحياء والتشوّر (٢) من الناس على حكم العادة البشرية ، لا كراهة لحكم الله ، أو لشدّة التكليف عليها إذا بهتوها (٣) وهي عارفة ببراءة الساحة وبضدّ ما قرفت به ، من اختصاص الله إياها بغاية الإجلال والإكرام لأنه مقام دحض قلما تثبت عليه الأقدام : أن تعرف اغتباطك بأمر عظيم وفضل باهر تستحق به المدح وتستوجب التعظيم ، ثم تراه عند الناس لجهلهم به عيبا يعاب به ويعنف بسببه ، أو لخوفها على الناس أن يعصوا الله بسببها. وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة وحفص (نَسْياً) بالفتح. قال الفراء : هما لغتان كالوتر والوتر ، والجسر والجسر. ويجوز أن يكون مسمى بالمصدر. كالحمل. وقرأ محمد بن كعب القرظي «نسأ» بالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ، ينسؤه أهله لقلته ونزارته. وقرأ الأعمش (مَنْسِيًّا) بالكسر على الإتباع ، كالمغيرة والمنخر.

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) (٢٤)

(مِنْ تَحْتِها) هو جبريل عليه السلام. قيل : كان يقبل الولد كالقابلة. وقيل : هو عيسى ، وهي قراءة عاصم وأبى عمرو. وقيل (تَحْتِها) أسفل من مكانها ، كقوله (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وقيل : كان أسفل منها تحت الأكمة ، فصاح بها (أَلَّا تَحْزَنِي) وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص (مِنْ تَحْتِها) وفي ناداها ضمير الملك أو عيسى. وعن قتادة : الضمير في تحتها للنخلة. وقرأ زرّ وعلقمة : فخاطبها من تحتها.

سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السرىّ فقال : «هو الجدول (٤)». قال لبيد :

__________________

(١) قوله «والشظاظ» في الصحاح «الشظاظ» العود الذي يدخل في عروة الجوالق. وفيه «الجوالق» وعاء : (ع)

(٢) قوله «من فرط الحيا والتشور من الناس» خوف إظهار العورة. أفاده الصحاح. (ع)

(٣) قوله «إذا بهتوها وهي عارفة ... الخ» اتهموها بما ليس فيها. وقرفت : اتهمت. (ع)

(٤) أخرجه الطبراني في الصغير وابن عدى من رواية أبى سنان سعيد بن سنان عن أبى إسحاق عن البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم. في قوله تعالى (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) قال : السرى النهر. قال الطبراني لم يرفعه عن أبى إسحاق إلا أبو سنان رواه عنه معاوية بن يحيى وهو ضعيف وأخرجه عند الرزاق عن الثوري عن أبى إسحاق عن البراء موقوفا ، وكذا ذكره البخاري تعليقا عن وكيع عن إسرائيل عن أبى إسحاق. ورواه ابن مردويه من طريق آدم عن إسرائيل كذلك. وأخرجه الحاكم من وجه آخر عن أبى إسحاق موقوفا. وفي الباب عن ابن عمر رضى الله عنهما قال «إن السرى الذي قال الله تعالى لمريم : نهر أخرجه الله لتشرب منه ، أخرجه الطبراني وأبو نعيم في الحلية في ترجمة عكرمة عن ابن عمر. ورواية عن أيوب بن نهيك ، ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة.

١٢

فتوسّطا عرض السّري فصدّعا

مسجورة متجاورا قلّامها (١)

وقيل : هو من السرو (٢). والمراد : عيسى. وعن الحسن : كان والله عبدا سريا. فإن قلت. ما كان حزنها لفقد الطعام والشراب حتى تسلى بالسرى والرطب؟ قلت : لم تقع التسلية بهما من حيث أنهما طعام وشراب ، ولكن من حيث أنهما معجزتان تريان الناس أنها من أهل العصمة والبعد من الريبة ، وأن مثلها مما قرفوها به بمعزل ، وأن لها أمورا إلهية خارجة عن العادات خارقة لما ألفوا واعتادوا ، حتى يتبين لهم أنّ ولادها من غير فحل ليس ببدع من شأنها.

(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)(٢٦)

(تُساقِطْ) فيه تسع قراآت : تساقط ، بإدغام التاء. وتتساقط ، بإظهار التاءين. وتساقط ، بطرح الثانية. ويساقط ، بالياء وإدغام التاء. وتساقط ، وتسقط ، ويسقط ، وتسقط ، ويسقط : التاء للنخلة ، والياء للجذع. ورطبا تمييز أو مفعول على حسب القراءة. وعن المبرد : جواز انتصابه بهزّى وليس بذاك. والباء في (بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) صلة للتأكيد ، كقوله تعالى (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) أو على معنى : افعلي الهزّ به ، كقوله :

يجرح في عراقيبها نصلى (٣)

قالوا : التمر للنفساء عادة من ذلك الوقت ، وكذلك التحنيك ، وقالوا : كان من العجوة. وقيل : ما للنفساء خير من الرطب ، ولا للمريض خير من العسل ، وقيل : إذا عسر ولادها لم

__________________

(١) فمضى وقدمها وكانت عادة

منه إذا هي عردت أقدامها

فتوسطا عرض السرى فصدعا

مسجورة متجاورا قلامها

للبيد من معلقته ، يصف حمارا وحشيا بأنه مضى خلف أتانه نحو الماء وقدمها أمامه. وأقدامها : اسم كان ، وألحقه التاء لاكتساب الأقدام التأنيث من الضمير المضاف إليه. وقيل : لأنه بمعنى التقدمة التي هي مصدر قدمها المضاعف كالتقديم. وعادة خبر كان. و «إذا هي عردت» بالتضعيف أى تأخرت وجبنت ، فتوسطا : أى الحمار والأتان ، عرض السرى : أى ناحية النهر الصغير وجانبه ، فصدعا : أى شقا عينا مسجورة مملوءة ، وكان المقام للاضمار ، فأظهر ليتأتى الوصف. أو للتجربة ، أو العين من النهر ، وليست هي هو وهذا أوجه. والقلام ـ كرمان ـ : القاقلى ، وقيل مطلق النبات ، وتجاوزه : كناية عن كثرته.

(٢) قوله «وقيل هو من السرو» في الصحاح «السرو» سخاء في مروءة. (ع)

(٣) تقدم شرح هذا الشاهد بالجزء الثاني صفحة ٥٧٨ فراجعه إن شئت اه مصححه.

١٣

يكن لها خير من الرطب. عن طلحة بن سليمان (جَنِيًّا) بكسر الجيم للإتباع ، أى جمعنا لك في السرىّ والرطب فائدتين ، إحداهما : الأكل والشرب ، والثانية سلوة الصدر ، لكونهما معجزتين ، وهو معنى قوله (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً) أى وطيبي نفسا ولا تغتمي وارفضى عنك ما أحزنك وأهمك. وقرئ : (وَقَرِّي) بالكسر لغة نجد (فَإِمَّا تَرَيِنَ) بالهمز : ابن الرومي. عن أبى عمرو : وهذا من لغة من يقول : لبأت بالحج ، وحلأت السويق (١) ، وذلك لتآخ بين الهمز وحرف اللين في الإبدال (صَوْماً) صمتا. وفي مصحف عبد الله : صمتا. وعن أنس بن مالك مثله. وقيل : صياما ، إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت (٢) ، لأنه نسخ في أمته ، أمرها الله بأن تنذر الصوم لئلا تشرع مع البشر المنهمين لها في الكلام لمعنيين ، أحدهما : أن عيسى صلوات الله عليه يكفيها الكلام بما يبرئ به ساحتها. والثاني : كراهة مجادلة السفهاء ومناقلتهم. وفيه أن السكوت عن السفيه واجب. ومن أذل الناس : سفيه لم يجد مسافها. قيل : أخبرتهم بأنها نذرت الصوم بالإشارة. وقيل : سوغ لها ذلك بالنطق (إِنْسِيًّا) أى أكلم الملائكة دون الإنس

(فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا)(٢٨)

الفرىّ : البديع ، وهو من فرى الجلد (يا أُخْتَ هارُونَ) كان أخاها من أبيها من أمثل بنى إسرائيل. وقيل : هو أخو موسى صلوات الله عليهما. وعن النبي صلى الله عليه وسلم : «إنما عنوا هرون النبىّ (٣)» وكانت من أعقابه في طبقة الإخوة ، بينها وبينه ألف سنة وأكثر. وعن السدى : كانت من أولاده ، وإنما قيل : يا أخت هرون ، كما يقال يا أخا همدان ، أى : يا واحدا منهم. وقيل : رجل صالح أو طالح في زمانها ، شبهوها به ، أى : كنت عندنا مثله في الصلاح ، أو شتموها به ، ولم ترد إخوة النسب ، ذكر أن هرون الصالح تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمى

__________________

(١) قوله «يقول لبأت بالحج وحلأت السويق» والكثير : لبيت بالحج ، وحليت السويق ، أى : جعلته حلوا. (ع)

(٢) لم أره هكذا وأخرج عبد الرزاق من حديث جابر بلفظ «لا صمت يوم إلى الليل» وفيه حزام بن عثمان وهو ضعيف ولأبى داود من حديث على مثله. وقد تقدم في تفسير النساء.

(٣) لم أجده هكذا إلا عند الثعلبي بغير سند ورواه الطبري عن السدى. قوله وليس بصحيح. فان عند مسلم والنسائي والترمذي عن المغيرة بن شعبة. قال «بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا لي : أرأيتم شيئا يقرءونه (يا أُخْتَ هارُونَ) وبين موسى وعيسى ما شاء الله من السنين فلم أدر ما أجيبهم فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم هلا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قبلهم» وروى الطبري من طريق ابن سيرين «نبئت أن كعبا قال إن قوله تعالى (يا أُخْتَ هارُونَ) ليس بهارون أخى موسى فقالت له عائشة «كذبت. فقال لها يا أم المؤمنين إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قال فهو أعلم وإلا فأنا أجد بينهما ستمائة سنة».

١٤

هرون تبركا به وباسمه ، فقالوا : كنا نشبهك بهرون هذا. وقرأ عمر بن لجاء التيمي (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) وقيل احتمل يوسف النجار مريم وابنها إلى غار ، فلبثوا فيه أربعين يوما حتى تعلت من نفاسها (١) ، ثم جاءت تحمله فكلمها عيسى في الطريق فقال : يا أماه ، أبشرى فإنى عبد الله ومسيحه ، فلما دخلت به على قومها وهم أهل بيت صالحون تباكوا وقالوا ذلك. وقيل : هموا برجمها حتى تكلم عيسى عليه السلام. فتركوها.

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا)(٢٩)

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) أى هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه. وقيل : كان المستنطق لعيسى زكريا عليه السلام. وعن السدى : لما أشارت إليه غضبوا وقالوا : لسخريتها بنا أشدّ علينا من زناها. وروى أنه كان يرضع ، فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه ، واتكأ على يساره وأشار بسبابته. وقيل : كلمهم بذلك ، ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان (كانَ) لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه وبعيده ، وهو هاهنا لقريبه خاصة ، والدال عليه مبنى الكلام ، وأنه مسوق للتعجب. ووجه آخر : أن يكون (نُكَلِّمُ) حكاية حال ماضية ، أى : كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس صبيا في المهد فيما سلف من الزمان حتى نكلم هذا.

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)(٣٣)

أنطقه الله أوّلا بأنه عبد الله ردا لقول النصارى (الْكِتابَ) هو الإنجيل. واختلفوا في نبوّته ، فقيل : أعطيها في طفوليته : أكمل الله عقله ، واستنبأه طفلا نظرا في ظاهر الآية.

وقيل : معناه إنّ ذلك سبق في قضائه. أو جعل الآتي لا محالة كأنه قد وجد (مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نفاعا حيث كنت (٢)» وقيل : معلما للخير.

__________________

(١) قوله «حتى تعلت من نفاسها» في الصحاح «تعلى» أى علا في مهلة. وتعلت المرأة من نفاسها : أى سلمت ، وتعلى الرجل من علته. (ع)

(٢) أخرجه أبو نعيم في الحلية في ترجمة يونس بن عبيد عن الحسن عن أبى هريرة بهذا وأتم منه. وقال تفرد به هشيم عن يونس وعنه شعيب بن محمد الكوفي ورواه ابن مردويه من هذا الوجه.

١٥

وقرئ (وَبَرًّا) عن أبى نهيك ، جعل ذاته برا لفرط بره. أو نصبه بفعل في معنى أوصانى وهو كلفنى ، لأن أوصانى بالصلاة وكلفنيها واحد (وَالسَّلامُ عَلَيَ) قيل : أدخل لام التعريف لتعرفه بالذكر قبله ، كقولك : جاءنا رجل ، فكان من فعل الرجل كذا. والمعنى : ذلك السلام الموجه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجه إلىّ. والصحيح أن يكون هذا التعريف تعريضا باللعنة على متهمى مريم عليها السلام وأعدائها من اليهود. وتحقيقه أن اللام للجنس ، فإذا قال : وجنس السلام علىّ خاصة فقد عرض بأن ضدّه عليكم. ونظيره قوله تعالى (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) يعنى أنّ العذاب على من كذب وتولى ، وكان المقام مقام منا كرة وعناد ، فهو مئنة لنحو هذا من التعريض.

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ)(٣٤)

قرأ عاصم وابن عامر (قَوْلَ الْحَقِ) بالنصب. وعن ابن مسعود : قال الحق ، وقال الله ـ وعن الحسن : قول الحق ، بضم القاف ، وكذلك في الأنعام (قَوْلُهُ الْحَقُ) والقول والقال والقول بمعنى واحد ، كالرهب والرهب والرهب. وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر ، أو بدل ، أو خبر مبتدأ محذوف. وأما انتصابه فعلى المدح إن فسر بكلمة الله ، وعلى أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة إن أريد قول الثبات والصدق ، كقولك : هو عبد الله حقا. والحق لا الباطل ، وإنما قيل لعيسى «كلمة الله» و «قول الحق» لأنه لم يولد إلا بكلمة الله وحدها ، وهي قوله (كُنْ) من غير واسطة أب ، تسمية للسبب باسم السبب ، كما سمى العشب بالسماء ، والشحم بالنداء ويحتمل إذا أريد بقول الحق عيسى ، أن يكون الحق اسم الله عزّ وجل ، وأن يكون بمعنى الثبات والصدق ، ويعضده قوله (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أى أمره حق يقين وهم فيه شاكون (يَمْتَرُونَ) يشكون. والمرية : الشك. أو يتمارون : يتلاحون (١) ، قالت اليهود : ساحر كذاب ، وقالت النصارى : ابن الله وثالث ثلاثة. وقرأ على بن أبى طالب رضى الله عنه : تمترون ، على الخطاب. وعن أبىّ بن كعب : قول الحق الذي كان الناس فيه يمترون.

(ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(٣٥)

كذب النصارى وبكتهم بالدلالة على انتفاء الولد عنه ، وأنه مما لا يتأتى ولا يتصور في العقول وليس بمقدور عليه ، إذ من المحال غير المستقيم أن تكون ذاته كذات من ينشأ منه

__________________

(١) قوله «يتلاحون» التلاحي بمعنى التنازع كما في الصحاح. وعبارة النسفي : أو يختلفون ، من المراء ، فقالت اليهود ... الخ. (ع)

١٦

الولد ، ثم بين إحالة ذلك بأن من إذا أراد شيئا من الأجناس كلها أوجده بكن ، كان منزها من شبه الحيوان الوالد. والقول هاهنا مجاز ، ومعناه : أنّ إرادته للشيء يتبعها كونه لا محالة من غير توقف ، فشبه ذلك بأمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور الممتثل.

(وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)(٣٦)

قرأ المدنيون وأبو عمرو بفتح أن. ومعناه : ولأنه ربى وربكم فاعبدوه ، كقوله (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) والأستار وأبو عبيد بالكسر على الابتداء. وفي حرف أبىّ : إن الله ، بالكسر بغير واو ، وبأن الله ، أى : بسبب ذلك (١) فاعبدوه.

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ)(٣٧)

(الْأَحْزابُ) اليهود والنصارى عن الكلبي. وقيل النصارى لتحزبهم ثلاث فرق : نسطورية ويعقوبية وملكانية. وعن الحسن : الذين تحزبوا على الأنبياء لما قص عليهم قصة عيسى اختلفوا فيه من بين الناس (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) أى من شهودهم هول الحساب والجزاء في يوم القيامة أو من مكان الشهود فيه وهو الموقف. أو من وقت الشهود ، أو من شهادة ذلك اليوم عليهم ، وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وسوء الأعمال. أو من مكان الشهادة أو وقتها. وقيل : هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه.

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ)(٤٠)

لا يوصف الله تعالى بالتعجب وإنما المراد أن أسماعهم وأبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجب منهما بعد ما كانوا صما وعميا في الدنيا. وقيل : معناه التهديد بما سيسمعون ويبصرون مما يسوءهم ويصدع قلوبهم. أوقع الظاهر أعنى الظالمين موقع الضمير : إشعارا بأن لا ظلم أشد من ظلمهم ، حيث أغفلوا الاستماع والنظر حين يجدى عليهم ويسعدهم. والمراد بالضلال المبين : إغفال النظر والاستماع (قُضِيَ الْأَمْرُ) فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار. وعن النبي صلى

__________________

(١) قوله «وبأن الله أى بسبب ذلك» لعله : أى بأن الله. ويمكن أنه عطف على أن الله ، ويكون في حرف أبى القراءتان. (ع) (٢ ـ كشاف ـ ٣)

١٧

الله عليه وسلم أنه سئل عنه أى عن قضاء الأمر فقال : «حين يذبح الكبش والفريقان ينظران» (١) وإذ بدل من يوم الحسرة. أو منصوب بالحسرة (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) متعلق بقوله في ضلال مبين عن الحسن. وأنذرهم : اعتراض. أو هو متعلق بأنذرهم ، أى : وأنذرهم على هذه الحال غافلين غير مؤمنين. يحتمل أنه يميتهم ويخرب ديارهم ، وأنه يفنى أجسادهم ويفنى الأرض ويذهب بها.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا)(٤٥)

الصدّيق : من أبنية المبالغة. ونظيره الضحيك والنطيق. والمراد ، فرط صدقه وكثرة ما صدّق به من غيوب الله وآياته وكتبه ورسله ، وكان الرجحان والغلبة في هذا التصديق للكتب والرسل أى : كان مصدقا بجميع الأنبياء وكتبهم ، وكان نبيا في نفسه ، كقوله تعالى (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) أو كان بليغا في الصدق ، لأن ملاك أمر النبوة الصدق ، ومصدق الله بآياته ومعجزاته حرىّ أن يكون كذلك ، وهذه الجملة وقعت اعتراضا بين المبدل منه وبدله ، أعنى إبراهيم. و (إِذْ قالَ) نحو قولك : رأيت زيدا ، ونعم الرجل أخاك. ويجوز أن يتعلق إذ بكان أو بصديقا نبيا ، أى : كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات. والمراد بذكر الرسول إياه وقصته في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس ويبلغه إياهم ، كقوله (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ) وإلا فالله عز وجل هو ذاكره ومورده في تنزيله. التاء في (يا أَبَتِ) عوض من ياء الإضافة ، ولا يقال يا أبتى ، لئلا يجمع بين العوض والمعوض منه. وقيل : يا أبتا ، لكون الألف بدلا من الياء ، وشبه ذلك سيبويه بأينق ، وتعويض الياء فيه عن الواو الساقطة. انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم والارتكاب الشنيع

__________________

(١) لم أجده هكذا. وفي الصحيحين عن أبى سعيد الخدري مرفوعا «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح ـ الحديث» وفيه وكلهم قد رآه فيذبح. ثم يقول يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت» ثم قرأ (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) الآية وأخرجاه عن ابن عمر نحوه دون قراءة الآية. وفي الباب عن أبى هريرة عند ابن حبان والحاكم والنسائي. وأخرجه البخاري دون ذكر الذبح. وأخرجه أبو يعلى والبزار من حديث أنس. وفي آخره «فيأمن هؤلاء. وينقطع رجاء هؤلاء».

١٨

الذي عصا فيه أمر العقلاء وانسلخ عن قضية التمييز ، ومن الغباوة التي ليس بعدها غباوة : كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق ، وساقه أرشق مساق (١) ، مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن ، منتصحا في ذلك بنصيحة ربه عز وعلا ، حدّث أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «أوحى الله إلى إبراهيم عليه السلام : إنك خليلي ، حسن خلقك ولو مع الكفار ، تدخل مداخل الأبرار (٢) ، فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه : أظله تحت عرشي ، وأسكنه حظيرة القدس ، وأدنيه من جواري. وذلك أنه طلب منه أو لا العلة في خطئه طلب منبه على تماديه ، موقظ لإفراطه وتناهيه ، لأن المعبود لو كان حيا مميزا ، سميعا بصيرا ، مقتدرا على الثواب والعقاب ، نافعا ضارا ، إلا أنه بعض الخلق : لاستخفّ عقل من أهله للعبادة ووصفه بالربوبية ، ولسجل عليه بالغىّ المبين والظلم العظيم وإن كان أشرف الخلق وأعلاهم منزلة كالملائكة والنبيين. قال الله تعالى (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) وذلك أن العبادة هي غاية التعظيم ، فلا تحق إلا لمن له غاية الإنعام : وهو الخالق الرزاق ، المحيي المميت ، المثيب المعاقب ، الذي منه أصول النعم وفروعها. فإذا وجهت إلى غيره ـ وتعالى علوا كبيرا أن تكون هذه الصفة لغيره ـ لم يكن إلا ظلما وعتوا وغيا وكفرا وجحودا ، وخروجا عن الصحيح النير إلى الفاسد المظلم ، فما ظنك بمن وجه عبادته إلى جماد ليس به حس ولا شعور؟ فلا يسمع ـ يا عابده ـ ذكرك له وثناءك عليه ، ولا يرى هيآت خضوعك وخشوعك له ، فضلا أن يغنى عنك بأن تستدفعه بلاء فيدفعه ، أو تسنح لك حاجة فيكفيكها. ثم ثنى بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا ، فلم يسم أباه بالجهل المفرط ، ولا نفسه بالعلم الفائق ، ولكنه قال : إن معى طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك ، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي فلا تستنكف ، وهب أنى وإياك في مسير وعندي معرفة بالهداية دونك ، فاتبعنى أنجك من أن تضل وتتيه. ثم ثلث بتثبيطه ونهيه عما كان عليه : بأن الشيطان ـ الذي استعصى على ربك الرحمن الذي جميع ما عندك من النعم من عنده ، وهو عدوّك الذي لا يريد بك إلا كل هلاك وخزى ونكال وعدوّ أبيك آدم وأبناء جنسك كلهم ـ هو الذي ورّطك في هذه الضلالة وأمرك بها وزينها لك ، فأنت إن حققت النظر عابد الشيطان ، إلا أن إبراهيم عليه السلام لإمعانه في الإخلاص ولارتقاء همته في الربانية لم يذكر من جنايتي الشيطان

__________________

(١) قوله «في أحسن اتساق وساقه أرشق» في الصحاح «الاتساق» الانتظام. وفيه أيضا «رجل رشيق» أى حسن القد لطيفه. (ع)

(٢) أخرجه الطبراني في الأوسط وابن عدى ، والحكيم الترمذي في النوادر من حديث أبى هريرة وفيه مؤمل ابن عبد الرحمن الثقفي عن أبى أمية بن يعلى الثقفي وهما ضعيفان

١٩

إلا التي تختص منهما برب العزة من عصيانه واستكباره ، ولم يلتفت إلى ذكر معاداته لآدم وذرّيته كأن النظر في عظم ما ارتكب من ذلك غمر فكره وأطبق على ذهنه. ثم ربع بتخويفه سوء العاقبة وبما يجره (١) ما هو فيه من التبعة والوبال ، ولم يخل ذلك من حسن الأدب ، حيث لم يصرح بأن العقاب لا حق له وأن العذاب لا صق به ، ولكنه قال : أخاف أن يمسك عذاب ، فذكر الخوف والمس ونكر العذاب ، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب ، وذلك أن رضوان الله أكبر من الثواب نفسه ، وسماه الله تعالى المشهود له (٢) بالفوز العظيم حيث قال (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) فكذلك ولاية الشيطان التي هي معارضة رضوان الله ، أكبر من العذاب نفسه وأعظم ، وصدّر كل نصيحة من النصائح الأربع بقوله (يا أَبَتِ) توسلا إليه واستعطافا. ف (ما) في (ما لا يَسْمَعُ) و (ما لَمْ يَأْتِكَ) يجوز أن تكون موصولة وموصوفة ، والمفعول في (لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ) منسى غير منوي ، كقولك : ليس به استماع ولا إبصار (شَيْئاً) يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكون في موضع المصدر ، أى : شيئا من الغناء ، ويجوز أن يقدر نحوه مع الفعلين السابقين. والثاني : أن يكون مفعولا به من قولهم : أغن عنى وجهك (إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) فيه تجدد العلم عنده.

(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا)(٤٦)

لما أطلعه على سماجة صورة أمره ، وهدم مذهبه بالحجج القاطعة ، وناصحه المناصحة العجيبة مع تلك الملاطفات ، أقبل عليه الشيخ بفظاظة الكفر وغلظة العناد ، فناداه باسمه ، ولم يقابل (يا أَبَتِ) بيا بنىّ ، وقدّم الخبر على المبتدأ في قوله (أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) لأنه كان أهمّ عنده وهو عنده أعنى ، وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته ، وأن آلهته ، ما ينبغي أن يرغب عنها أحد. وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه (لَأَرْجُمَنَّكَ) لأرمينك بلساني ، يريد الشتم والذمّ ، ومنه (الرَّجِيمِ) المرمىّ باللعن. أو لأقتلنك ، من رجم الزاني. أو لأطردنك رميا بالحجارة. وأصل الرجم : الرمي بالرجام (٣) (مَلِيًّا) زمانا طويلا من الملاوة : أو مليا بالذهاب عنى

__________________

(١) قوله «وبما يجره» لعله وما يجره ، فيكون عطفا على سوء العاقبة. (ع)

(٢) قوله «وسماه الله تعالى المشهود له» لعله «مشهود له بأن رضوانه أكبر من الثواب» فليحرر. (ع)

(٣) قوله «وأصل الرجم الرمي بالرجام» أى الحجارة الضخام ، كذا في الصحاح. (ع)

٢٠