وليد الكعبة

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي

وليد الكعبة

المؤلف:

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: انتشارات المكتبة الحيدريّة
المطبعة: شريعت
الطبعة: ١
ISBN: 964-8163-92-8
الصفحات: ٤٩٥

والشيخ المفيد مَن عَرَفته الاُمّة بالنقد والتمحيص ، وأنّه كيف كان يردّ الأخبار لأدنى علّةٍ في أسانيدها أو متونها ، ويتردّد في مفادها ، يعرف ذلك كلّه مَن سَبَرَ كتبه ورسائله ومسائله.

أو هل تراه ـ مع ذلك ـ يعدل عن خطّته القويمة ، فيرمى القول على عواهنه (١) بذكر الواهيات على سبيل الجزم بها ، لا سيّما في كتاب (الإرشاد) الذي قصد فيه إعلاء ذكر آل محمد صلّى الله عليه وآله والتنويه بفضلهم وإمامتهم وتقدّمهم فيهما.

فهل يذكر فيه إلّا ما هو مسلّم بين الفريقين ، أو الملأ الشيعي على الأقلّ؟!

وتبع الشيخ الأجلّ معاصره النّسابة ، نجم الدين ، الشريف أبو الحسن ، عليّ ابن أبي الغنائم محمّد ، ويعرف بابن الصوفي ، ابن عليّ بن محمد بن محمد بن أحمد بن علي بن محمّد الصوفي بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام ، المنتقل من البصرة إلى الموصل سنة (٤٢٣ ه) والموجود بعد سنة (٤٤١ ه) ، قال في (المَجدي) : «وَوَلَدَت ـ يعني فاطمة بنت أسد ـ علياً عليه السّلام في الكعبة ، وما وُلِدَ قبلَهُ أحدٌ فيها» (٢).

والنّسابة العمري هذا ـ ذكر رضيّ الدين السيّد ابن طاووس في (الإقبال) ـ أنّه أفضل علماء الأنساب في زمانه ، وهو يروي عن الشيخ الصدوق ، ويروي عنه غير واحد.

وكتاب (المَجدي) له ، معوّلٌ عليه لدى كافّة الأصحاب ، وسكن إليه عامّة النسّابين ، فما يرويه فيه حجّة في مفاده.

روى شيخنا المفيد ، وشيخنا الشهيد في مزاريهما ، والسيد ابن طاووس في (مصباح الزائر) في لفظ الزيارة الذي علّمه الإمام الصادقُ عليه السّلام محمّد بن

__________________

(١) ألقى الكلام على عواهنه : لم يتدبره. لسان العرب ـ عهن ـ ١٣ : ٢٩٧.

(٢) المجدي : ١١.

٦١

مسلم الثقةَ الجليل لأمير المؤمنين عليه السّلام ، في يوم مولد النبيّ صلّى الله عليه وآله في السابع عشر من ربيع الأوّل ما نصّة : «السلام عليك يا مَن وُلِدَ في الكعبة ، وزوّج في السماء بسيّدة النساء ...».

ثمّ قال بعد سرد فضائل جمّة له عليه السّلام : «السلام على المخصوص بالطاهرة التقيّة ابنة المختار ، المولد في البيت ذي الأستار ...» (١).

وفي زيارة لأمير المؤمنين عليه السّلام اُخرى مطلقة ، ذكرها السيّد ابن طاوس في (مصباح الزائر) أوّلها بعد التكبيرات الأربع والثلاثين : «سلامُ الله وسلامُ ملائكته المقرّبين ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده المخلصين» ، ما لفظه : «السلام على المولود في الكعبة ، المزوّج في السماء» (٢).

لقد علم النياقد الباحثون أنّ المغزى من إنشاء ألفاظ الزيارات المخصوصة منها والمطلقة ، وتلاوتها في المشاهد المقدّسة ، حيث المحاشد والمجتمعات العامّة ، ليس إلّا الإشادة بذكر أئمّة الدين ، والتنويه بفضائلهم ، والتذكير بمزاياهم ، وإشهار أمرهم ، وإحياء ذكرهم.

وإنّما أنهوها إلى الشيعة لتتلوها آناء الليل وأطراف النهار في المواسم ، وبين زَرافات المترادفين إلى مراقد أئمّة الدين عليهم السّلام فيقف مَن يتلوها أو يسمعها على مقامهم الرفيع ، ومحلّهم من الشرف ، ومتبوّءهم من الخطر ، فتُخبتَ قلوبهم ، وتثلج صدورهم ، ويلفت النائي عنهم إلى ما حووه من المجد المؤثّل (٣) ، والكرامة على الله ، والزّلفة منه ، فتكون فيها دعايةٌ إلى ولائهم ، واحتجاجٌ

__________________

(١) في بحار الأنوار ١٠٠ : ٣٧٤ عن المزارين ، والإقبال : ٦٠٨ ، ومصباح الزائر : ١٠٦ ، والمزار الكبير (لابن المشهدي) : ٢٦٧ و ٢٧١ (مخطوط).

(٢) مصباح الزائر : ١٠٦ ، وبحار الأنوار ١٠٠ : ٣٠١ ـ ٣٠٢ عنه.

(٣) تأثّل لشيء : تأصّل وتعظّم. القاموس المحيط ـ أثل ـ ٣ : ٣٣٧.

٦٢

لإمامتهم ، وإصحار (١) بتقدّمهم للأمر ، وهداية إليهم ، وإرشاد إلى سلوك خطّتهم.

فهل يكون ذلك كلّه إلّا بسرد ما هو المشهور الدائر بين حَمَلَة الحديث المقبول لدى الأُمّة حمعاء ، المطردّ عند أهب السير والأثريين.

ولو عداه ذلك لكان غميزةً في أئمّة الهدى بالتعليم بالسّفاسف ، وفي شيعتهم بالتبجّح بالواهيات ، وفي المذهب بابتنائه على شفا جُرفٍ هارٍ.

وممّا يقرّب من هذا نظمُ السيّد الحميري ، المتوفّى سنة (١٧٩ ه) كما نصّ به القاضيّ التستريّ في (المجالس) ذلك ، على ما جاء في (المناقب) لابن شهر آشوب ، وابن الفتّال الشهيد في (روضة الواعظين) قال :

وَلَدَتهُ في حرم الإله وأمنهِ

والبيت حيثُ فناؤه والمسجدُ

بيضاءُ طاهرةُ الثياب كريمةٌ

طابَتْ وطابَ وليدُها والمولدُ

في ليلةٍ غابَـت نحوسُ نُجومها

وبَدَتْ مع القمرِ المنيرِ الأسْعُدُ

ما لُفّ في خِرَقِ القوابلِ مثلُهُ

إلّا ابنُ آمنةَ النبيِّ محمّدُ(٢)

وله :

طِبْتَ كَهْلاً وغُلاماً

ورَضيعاً وجَنينا

ولدى المِيثاقِ طِيناً

يومَ كان الخَلْقُ طِينا

وببَطْنِ البيتِ مولُو

داً وفي الرَمْلِ دَفينا

كنتَ مأمُوناً وَجيهاً

عندَ ذي العرش مَكينا

في حِجابِ النُور طُهْراً(٣)

طَيّباً للطاهِرينا

عندَ ساق العَرْش مَعْ طـٰ

ـه تؤمُّ الساجِدينا (٤)

__________________

(١) أصحر بالأمر : أظهره. أساس البلاغة ـ صحر ـ : ٢٤٩.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٢ : ١٧٥ ، وروضة الواعظين : ٨١ ، وأعيان الشيعة ١ : ٣٢٤.

(٣) في المناقب : حياً.

(٤) مناقب ابن شهر آشوب ٢ : ١٧٦.

٦٣

 

فلم يكن التنويهُ هذه المأثره الجليلة في القرن الثاني من مثل السيّد الحميريّ الذي كان يسيرُ بشعره الركبانُ ، إلّا بعد ما نالتْ من الشهرة والثبوت حظوةً وافيةً ، فإنّه في جهاده ونضاله مع أعداء أهل بيت الوحي بحجاجه المتواصل ، ونظمه البديع ، لم يكن بالذي يفضحُ نفسه ، ولا الذي كان يصبو إلى ولائهم بالتشبّث بالواهيات ، أو ما لا تعرفه الناس ، أو لا تعترف به.

فما كان يُصْحِرُ به يجبُ في شريعة المناظرة أن يكون حقيقةً ثابتةً لدى مناوئيه في الأنضواء إلى عترة الوحي وسُلالة النبوّة ، وهم السواد الأعظم يومذاك ، ملأوا الفضاء صخباً وطنيناً في الانحياز عن أولئك الأئمّة ، وكلانوا ينكرون ما يسعهم إنكاره من فضائلهم غير ما تضافر به النقلُ ، وتواترت الأسانيدٌ في نقله.

فلم يدع بقوّته لهم منتدَحاً لدحضه ، وما كانت الشيعة يومئذٍ تحتجّ عليهم إلّا بما هذا سبيله.

ولذلك إنّا نعدّ نظم السيّد الحميريّ هذا أثبت لمفاده من أسانيد متساندة.

وسيوافيك أنّ حديث الولادة هذا كان كما وصفناه في القرون الأُولى ، وإن لم يَعُد أن يكون كذلك فيما بعدها وإلى العصر الحاضر.

وممّن نظّم القصّة محمد بن منصور السّرخسي كما في (مناقب ابن شهر آشوب) وفي شرح نهج البلاغة الموسوم بـ (منهاج البراعة) للعلّامة الكبير الحاج ميرزا حبيب الخوئي ، قال :

ولدتْهُ منجبةٌ وكان وٍلادُها

في جوف كعبة أفضل الأكنان (١)

وسقاه ريقتَهُ النبيُّ ويالها

من شربةٍ تُغني عن الألبانِ

__________________

(١) الأكنان : جمع كِنّ وهو ما كنّ وستر من الحر والبرد. مجمع البحرين ـ كنن ـ ٦ : ٣٠٢.

٦٤

حتّى ترعرعَ سَيّداً سَنَداً رِضاً

أسداً شديدَ القلب غيرَ جَبان

عَبَدَ الإلهَ مع النبيّ وإنّهُ

قد كانَ بعدُ يُعَدّ في الصبيانِ (١)

وهذا أحدُ الشعراء القدماء من مادحي أهل البيت النبويّ الطاهر قبل القرن السادس.

والقول في نظمه هذه المنقبة الجليلة يقربُ ممّا أسمعنا كه في شعر السيّد الحميري.

فإنّ صاحب الحجّة لا يستهين الغَميزة فيما يقول : مهما بلغ من الخلاعة وعدم الاكتراث ، ورمي القول على عواهنه في المعاني الشعريّة ، فإذا كان شعره قصيصياً يربو بنفسه عن القذف والرمي بالإفك ، فهو لم يَصُغ تلك المدحةَ في قالب الشعر حتّى حسبها كما هيَ كذلك ، متضافرةَ الإسناد ، موصولة الطُرُقِ ، في كلّ جيل ، عند المؤالفِ والمخالف.

ويقربُ من هذا ما جاء في داليةٍ كبرى علويةٍ ، كلّها مديحٌ واحتجاجٌ ، لشاعر أهل البيت عليهم السّلام ، الفاضل البارع علاءُ الدين ، الشيخ عليّ الشفهيني الحلّيّ ، المتوفّى في حدود السبعمائة بالحلّة ودُفن بها ، قال :

أمْ هَلْ ترىٰ في العالَمينَ بأسرهم

بَشَراً سِواه بيت مكّةَ يُولَدُ؟

في ليلةٍ جبريلُ جاءَ بها مع الـ

ـمَلَك (٢) المقدّس حولَه يتعبّدُ

فلقد علا شَرَفاً بذاك كما بِهِ

شَرَفاً علا كلَّ (٣) البقاع المسجدُ (٤)

__________________

(١) مناقب ابن شهر آشوب ٢ : ١٧٥ ، ومنهاج البراعة ١ : ٢١٨.

(٢) في الغدير : مع الملأ.

(٣) في الغدير :

فلقد سما مجداً عليُّ كما علا

شرفاً به دون البقاع المسجدُ

(٤) أخرج القصيدة كاملة في الغدير ٦ : ٣٦٠ عن عدّة نسخ خطيّة.

٦٥

وإنّك تراه كيف يترسّل في سرد الفضيلة كما يترسل الإنسان في أيّ حكم ثابت ، ويجدّ في القضاء كما يفعله العالم بالقضيّة المحيط بأطرافها شؤونها ، وقد دحر عنها أيّ وصمةٍ تعتريها ، أو شائنةٍ تضرب على يده الحكم ، وتصرف قلبه عن الإخبات بها.

وهل يكون ذلك مع آحاد الأخبار التي لا يعرفها إلّا رواتها؟!

وممّا يدرأ عن الحديث إسفافه إلى صفّ الآحاد ما قاله العلّامة الأكبر ثقة الإسلام النوريّ رواية الأخبار ونيقد السِيَر وعَلَم الإحاطة في (اللؤلؤ والمرجان) : «إنّ هذه الفضيلة الباهرة جاءت في أخبار غير محصورة ، ومنصوصٌ بها في كلمات العلماء ، وفي ضمن الخطب والأشعار في جميع الأعصار ، وهي من خصائص الإمام عليه السّلام لم يشاركه فيها نبيّ أو وصيّ ، ولا يبعد كونها من ضروريات مذهب الإمامية ، ولم تزل الشيعة تفتخر بها» (١)

ومهما حملنا قوله : إنّها «جاءت في أخبار غير محصورة» على المبالغة ، فإنّ أقلّ مراتبه أن تكون متواترة.

أضف إليها نصوص العلماء والخطباء والشعراء التي أو عزوا إليها ، فإنّها لا تقلّ عن أن يكون كلّ منها رواية ، فهي معاضدة لذلك التواتر.

أو أنّ منها ينشأ تواتر آخر ، بضميمة تواصلها في كلّ العصور كما صرّح به.

وعلى العلّات فإنّ الجميع لا يعدو أن يكون متواتراً ، ولمكانها من التحقّق لم تزل الشيعة تفتخر بها ، واحتمل أن تكون من ضروريات مذهبهم.

* * *

__________________

(١) الؤلؤ والمرجان : ١٦٣. فارسي.

٦٦

حديث الولادة الشريفة مشهور بين الاُمّة :

إنّ أيسر ما يسع الباحاث إثباته هو شهرةُ هذا النبأ العظيم.

بنصوص أئمّة الحديث بذلك ، من ناحية.

وبتداول ذكره في الكتب ، من ناحية اُخرى.

وبالتسالم على روايته واطّراد أسانيده ، من جهة ثالثة.

ولها شواهد أُخرى لعلّك تقف عليها في غضون هذه الرسالة إن شاء الله.

قال العلّامة المجدّد للمذهب في القرن الثاني عشر شيخنا المجلسيّ ، المتوفّى ينة (١١١٠ ه) في (جلاء العيون) : «إنّ ولادته عليه السّلا في البيت ، يوم الجمعة الثالث عشر من رجب ، سنة ثلاثين من عام الفيل ، مشهورةٌ بين المحدّثين والمؤرّخين من الخاصّة والعامّة» (١).

وفي (تحفة السلاطين) للمولى محمود بن محمّد عليّ بن محمّد باقر : «إنّ حديث ولادته عليه السّلام في البيت يوم انشقّ جداره لفاطمة بنت أسد فدخلته مشهور ، كالشمس في رائعة النهار» (٢).

ثمّ ذكر شيئاً من أحاديث الباب.

وفي (تحفة المجالس) تأليف السلطان محمد بن تاج الدين حسن : «إنّ الأقرب إلى الصواب أنّه عليه السّلام ولد في الكعبة».

وفي الباب أخبار كثيرة ذكر بعضها ، ثمّ قال : «وفي الأخبار أنّه لم يكن شرف الولادة في البيت لأيّ أحد قبلَه ولا بعدَه» (٣).

__________________

(١) جلاء العيون ١ : ٢٣٢. فارسي.

(٢) تحفة السلاطين ، الجزء الثاني. فارسي.

(٣) تحفة المجالس : ٦٤. فارسي.

٦٧

وقد عرفت في إثبات تواتر الحديثعن بعض العلماء أنّه نقله جلّ أصحاب التاريخ ، والمشهور بين العامّة والخاصّة أنّه ولد بين العمودين على البلاطة الحمراء.

هذه كلمات ثمينة من مهرة الفنّ ، لا سيّما الكلمة الاُولى التي جاء بها إمام من أئمّة الفقه والحديث ، وأحد مجدّدي المذهب في القرون الإسلامية ألا وهو العلّامة الأكبر محمّد باقر المجلسيّ قدس سرّه أولّ الغائصين في بحار الأخبار ، وأولاهم وأبصر هم بالأحاديث والسير ، وهو يقول بملء فَمِهِ : «إنّ الحديث مشهورٌ بين العامّة والخاصّة من المحدّثين والمؤرّخين» (١).

أفلا تحدوك هذه الشهرة الطائلة بين الاُمّة جمعاء إلى الإخبات به ، على حين أنّ شهرةً كهذه لا يبارحها التواتر في الأسانيد

وإليك ما قاله أحد أسباط هذا الإمام النَيْقَد من أوتاد العلم وعمد المذهب ، ألا وهو : أبو الحسن بن المولى محمد الطاهر بن الشيخ عبد الحميد بن الشيخ موسى بن عليّ بن محمد بن الشيخ معتوق بن عبد الحميد العامليّ النباطيّ الأصبهانيّ ، المتوفّى في عَشْرِ الأربعين بعد سنة (١١٠٠ ه) في كتابه القيّم (ضياء العالمين) عند بحثه عن مولد الإمام عليه السلام ، قال«إنّ الولادة في البيت كانت مشهورة في الصدر الاوّل ، بحيث لم يكن إنكارها ، مع أنّهم ـ يعني أهل الخلاف ـ أنكروها أيضاً أخيراً» (٢).

و (ضياء العالمين) أثبتُ كتابٍ في الإمامة ، ومن أبسط ما أًلّف فيها ، وهو الطراز الأوّل بين لِداته (٣) ، ومن عليةِ كتب الإمامية ، لم يثبت مصنّفه فيه إلّا الحجج الدامغة لتكون مفحمةً للخصم.

__________________

(١) جلاء العيون : ٢٣٢.

(٢) ضياء العالمين ج ٢ (مخطوط).

(٣) أي مثيلاته ، اُنظر الألفاظ الكتابية : ١٥٨.

٦٨

فهذه الخطّة هي بمفردها كافيةُ في أن لا يذكر فيه مؤلّفه إلّا الحقائق الناصعة. لو قطعنا النظر عن عظمة صاحبه التي دون مدها منقطع الوصف والبيان.

ولقد سلك هذا المسلك بإيراد الحديث مرسلاً له إرسال المسلّم في كتب معقودة للحجاج وإيراد المسلّمات فيها جماعة ، منهم :

جمال الملّة والدين ، آية الله في العالمين ، عَلَم الشيعة ومرجعها الفذّ ، أبو منصور ، الحسن بن يوسف بن عليّ بن المطهّر ، العلّامة الحلّي قدس سرّه المتوفّى سنة (٧٢٦ ه) في كتاب (كشف الحقّ) و (كشف اليقين).

فذكر فيهما محلّ الولادة الميمونة وهي الكعبة ، ويومها وهو الجمعة في الثالث عشر من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل ، مع النصّ بأنّه لم يولد أحدٌ سواه فيها قبلَه ولا بعدَه.

وأردف ذلك في الأوّل بفضائل جمّة يأتي ذكرها إن شاء الله ، وذكر أنّه كان عمر النبيّ صلّى الله عليه وآله عندئذ ثلاثين سنة (١).

وكذلك الوزير الشعيد ، بهاء الدين ، أبو الحسن ، عليّ بن عيسى الأربليّ ، المتوفّى سنة (٦٩٢ ه) في (كشف الغمّة) الذي فرغ منه سنة (٦٨٧ ه) فقد وافق العلّامة في يوم المولد وشهره وسنته ، وقال : «ولم يولد في البيت أحدٌ سواه قبلَه ولا بعدَه ، وهي فضيلةٌ خصّة الله بها إجلالاً له وإعلاءً لرُتبته ، وإظهاراً لتكرُمته».

وروى في سنة الولادة أنّها سنة ثمان وعشرين من عام الفيل ، قال : «والأوّل عندنا أصحّ» (٢).

ومثله الشيخ الثقة الثبت أبو عليّ ، محمد بن الحسن بن عليّ بن أحمد ، الحافظ الواعظ الفارسيّ الشهيد النّيسابوري ، ويعرف بـ (ابن الفتّال) من علماء المائة

__________________

(١) نهج الحقّ وكشف الصدق : ٢٣٢ ، وكشف اليقين : ٥.

(٢) كشف الغمّة ١ : ٥٩.

٦٩

السادسة ، ويروي عن شيخ الطائفة أبي جعفر الطوسيّ ، ف كتابه (روضة الواعظين) فذكر الولادة موافقاً للأربلي في جميع الخصوصيات (١).

ومنهم الحافظ الثقة رشيد الدين محمّد بن عليّ بن شهر آشوب السّرويّ المازندرانيّ ، المتوفّى سنة (٥٨٨ ه) فإنّه قال في (مناقبه) بعد أن روى أحاديث في مولد الإمام عليه السّلام : «فالولد الطاهر من الطاهر ولد في الموضع الطاهر ، فأين توجه هذه الكرامة لغيره؟

فأشرف البقاع الحرمُ ، وأشرف الحرم المسجدُ ، وأشرف بقاع المسجد الكعبةُ ، ولم يولد فيها مولودٌ سواه ، فالمولودُ فيها يكون في غاية الشرف.

وليس المولود في سيّد الأيام يوم الجمعة ، في الشهر الحرام ، في البيت الحرام سوى أمير المؤمنين عليه السّلام» (٢).

ومن أُولئك العلماء الأعاظم شمس الدين ، أبو الحسين ، يحيى ين الحسن بن الحسين بن عليّ بن محمّد الأسدي الحلّي الرّبعي المعروف بـ (ابن بطريق) ، المتوفّى سنة (٦٠٠ ه) في شعبان ، في كتابه (العمدة) فقد جزم فيه بولادته عليه السّلام في البيت يوم الجمعة في الثالث عشر من رجب سنة ثلاثين من عام الفيل.

قال : «ولم يولد قبلَه ولا بعدَه مولودٌ في بيت الله سواه» (٣).

ومنهم العلّامة الشيخ عليّ بن محمّد بن يونس البياضيّ العاملي ، في كتابه (الصراط المستقيم) ذلك الكتاب الضخم الفخم الحافل بالحجج النيرّة ، قال بعد تمام القول عن أمير المؤمنين عليه السّلام وإمامته ومناقبة : «تتمّة : لمّا انتهت بي الحال إلى هذا المقال ، أحببتُ أن أُنوّر كتابي بتواريخ هذه الأقيال (٤)،

__________________

(١) روضة الواعظين : ٧٦.

(٢) مناقب ابن شهر آشوب ٢ : ١٧٥.

(٣) العمدة : ٣٤.

(٤) جميع قَيل ، وهو الملك النافذ القول والأمر. لسان العرب ـ قول ـ ١١ : ٥٧٦.

٧٠

ومناصع مواليدهم (١) ، ومواضع قبورهم ، فاخترت ما ارتجزه السيّد الحسيب النسيب ، ذو المجد السديد ، السيّد حسين بن شمس الحسيني» وذكر الاُرجوزة ومنها في تاريخ :

ومولدُ الوصيّ أيضاً في الحرم

بكعبة الله العليّ في الكرم

من بعد عامِ الفيلِ في الحساب

عشر وعشرين بلا ارتيابِ (٢)

والبياضيّ من علماء القرن التاسع ، وصاحب الاُرجوة من معاصريه.

ومنهم العلّامة عماد الدين ، الحسن بن عليّ بن محمّد بن الحسن ، الطبرسيّ الآمليّ صاحب (الكامل البهائي) و (أسرار الإمامة) وغيرهما ، من علماء القرن السابع في كتابه (تحفة الأبرار) فذكر ولادته عليه السّلام في جوف الكعبة ، محدّدةً بتاريخ اليوم والاُسبوع والشهر والسنة ، كما فصّله ابن البطريق.

ونفى أن يكون في البيت مولودٌ سواه من غير ترديد ، وذلك أنّ فاطمة بنت أسد قصدت الطواف بالبيت ففجأها الطَلقُ ، ولم يسعها الرجعة ، ويمَّمت الكعبة ، ففتح لها بابها بأمر من ربّ الدار ، حتّى دخلتها فارتج البابُ ، ووُلِدَ هنالك ، طاهراً مطهّراً ، فمكثت فيها ثلاثة أيام ثمّ خرجت إلى بيتها (٣).

__________________

(١) أثبتناه من المصدر ، وفي الاصل ومناصه ومواليد.

(٢) الصراط المستقيم ٢ : ٢١٥.

(٣) تحفة الأبرار : الباب الرابع الفصل الثاني.

نجد سرد هذه الحقائق مشفوعاً بالتقرير في ترجمة هذه ـ التحفة ـ إلى العربية للشيخ عليّ بن يوسف بن منصور ، النجفيّ صاحب (مختصر تأويل الآيات الباهرة في فضائل العترة الطاهرة) من علماء القرن العاشر ، ونسبة الكتاب إليه مذكورة في (الذريعة إلى مصنّفات الشيعة) ٣ : ٤٠٥ ، وفي حرف الميم منها ، وفي كتاب (إحياء الداثر في مآثر القرن العاشر). هامش المطبوع.

٧١

وقال القاضيّ السعيد الشهيد سنة (١٠١٩ ه) السيّد نور الله الحسيني المرعشيّ التّستري ، حين طفق ويُنازل ويُناضل القاضي روزبهان (١) في الحقيقة البارزة في كتابه (إحقاق الحق) : «إنّ الفضيلة والكرامة في أنّ باب الكعبة كان مقفلاً ، لمّا خارج الكعبة انفتح لها الباب بإذن الله تعالى ، وهتف بها هاتف بالدخول.

وعلى تقدير صحّة تولّد حكيم بن حزام قبل الإسلام في وسط بيت الله الحرام فإنّما كان بحسب الاتفاق كما يتّفق بسقوط الطفل من المرأة ، والعجل من البقرة في الطريق وغيره.

وعلى أنّ الكلام في تشرّف الكعبة بولادته فيها ، لا في تشرّفه بولادته في الكعبة».

ثم أنشد قول العارف لطف الله النيشابوري الفارسي :

طواف خانهء كعبه از آن شد بر همه واجب

كه آنجا در وجود آمد على بن ابي طالب

فهذه الكتب الثمينة المبنية على الحجاج والنضال ، لا سيّما كتب العلّامة والقاضي التستريّ ، وابن البطريق ، لم يتوخّ مؤلّفوها سرد الواقائع التاريخية من أينما حصلت ، وإنّما قصدوافيها إلزام الخصوم بالحجج النيّرة ، فهل يمكنهم إذن أن يستر سلوا بإيرا ما توسّع بنقله القالة من دون تثبّت؟

__________________

(١) فضل الله بن روزبهان بن فضل الله الخنجي الإصفهاني ، المعروف بباشا ، كان من أعاظم علماء المعقول والمنقول ، حنفي الفروع أشعري الاُصول ، متعصّباً لأهل مذهبه وطريقته ، متصلباً في عداوة أولياء الله وأحبّته. الضوء اللامع ٦ : ١٧١ ، وروضات الجنات ٦ : ١٧ / ٥٥٣.

٧٢

لا ، ولكن شريعة الحقّ والدين تلزمهم بإثبات الشائع الذائع المتلقّى عند الفريقين بالقبول ، المشهور نقله ، الثابت إسناده ، بحيث لا يدع للمتعنّت وليجةً إلى إنكاره ، وإلّا لعاد ما يذكره ثلماً في بيانه ، وفتَاً في عضد برهانه.

فمن الواجب إذن أن يكون هذا الجواب ممّا يخضع له الخصم ، ولا يتقاعس عن الإخبات به الأولياء ، لمكان شهرة النقل له.

وما ذكره القاضيّ في ولادة حكيم بن حزام أصفق فيه معه البحّاثة عبد الرحمن الصفوري الشافعي في (نزهة المجالس) قال : «ورأيت في (الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة) بمكّة شرّفها الله تعالى لأبي الحسن المالكي : نّ علياً رضي الله عنه ولدته اُمّه بجوف الكعبة شرّفها الله ، وهي فضيلةٌ خصّة الله تعالى بها ، ذلك أنّ فاطمة بنت أسد رضي الله عنها أصابها شدّة الطلق ، فأدخها أبو طالب الكعبة ، فطلقت طلقةً فولدته يوم الجمعة في رجب سنة ثلاثين من عام الفيل ، بعد تزوّج النبيّ صلّى الله عليه وآله خديجة بثلاث سنين ، وأمّا حكيم بن حزام (١) فولدته اُمّه في الكعبة ، إتفاقاً لا قصداً» (٢).

هذا على تقدير صحّة النقل بذلك ، فهو أمرٌ اتفاقيٌّ تقع أمثاله لكثير ممّن لا أهميّة له في دين أو دنياً ، ولا أثر له إلّا تلويث بمخاضٍ يجب إزالته ، إن كان من المحالّ المحترمة كالكعبة وشبهها.

وأين هو من قصّة أمير المؤمنين علي عليه السّلام التي هي من الاُمور القصدية من المهيمن الأعلى جلّت عظمته.

__________________

(١) في نزهة المجالس : عمرو بن حزم ، والصحيح ما أثبتناه. اُنظر : جمهرة أنساب العرب : ١٢١ وتهذيب الكمال ٧ : ١٧٠ / ١٤٥٤ ، والإصابة ٢ : ٣٢ / ١٦٩٥ ، وتهذيب التهذيب ٢ : ٤٤٦ / ٧٧٥ ، والمستدرك ٣ : ٤٨٣.

(٢) نزهة المجالس ٢ : ٢٠٤ ، والفصول المهمة : ٣٠.

٧٣

روي الوزير السعيد الأربليّ في (كشف الغمة) عن كتاب (بشارة المصطفى) مرفوعاً إلى يزيد بن قَعنَب ، قال :

كنتُ جالساً مع العبّاس بن عبد المطلب رضي الله عنه وفريق من بني عبد العزّى ، بإزاء بيت الله الحرام ، إذ أقبلت فاطمة بنت أسد اُمّ أمير المؤمنين عليه السّلام ، وكانت حاملاً به لتسعة أشهر ، وقد أخذ ها الطلقُ فقالت :

يا ربّ ، إنّي مؤمنةٌ بك وبما جاء من عندك من رسلٍ وكتبٍ ، وإنّي مصدّقة بكلام جدّي إبراهيم الخليل ، وأنّه بني البيت العتيق ، فبحقّ الذي بني هذا البيت ، وبحقّ المولود الذي في بطني إلّا ما يسرّت عَلَيَّ ولادتي.

قال يزيد بن قَعْنَب : فرأيتُ البيت قد انشقّ عن ظهره ، ودخلت فاطمة فيه وغابت عن أبصارنا ، وعادَ إلى حاله ، والتزقَ الحائط ، فرُمْنا أن ينفتح لنا قفلُ الباب فلم ينفتح ، فعلمنا أنّ ذلك من أمر الله عزّ وجل.

ثمّ خرجت في اليوم الرابع وعلى يدها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

ثمّ قالت :

إنّي فٌضّلتُ على من تقدّمني من النساء ، لأنّ آسية بنت مزاحم عبدت الله سرّاً في موضع لا يُحبُّ الله أن يعبَد فيه إلّا اضطراراً.

وأنّ مريم بنت عمران هزّت النخلة اليابسة بيدها حتّى أكلت منها رُطباً جنيّاً.

وإنّي دخلت بيت الله الحرام ، فأكلت من ثمار الجنّة وأرزقها ، فلمّا أردت أن أخرج هتف بي هاتف وقال :

«يا فاطمة سميّة عليّاً فهو عليٌّ ، والله العليّ الأعلى يقول : شققتُ اسمه من اسمي ، وأدّبته بأدبي ، وأوقفته على غامض علمي ، وهو الذي يكسّر الأصنام في بيتي ، وهو الذي يؤذّن فوق ظعهر بتي ، ويقدّسني ويمجّدني ، فطوبى لمن أحبّه وأطاعه ، وويلٌ لمن أبغضه وعصاه».

٧٤

قال : فولدت علياً ولرسول الله صلّى الله عليه وآلهه ثلاثون سنة ، وأحبّه رسول الله صلّى الله عليه وآله حبّاً شديداً ، وقال لها : «اجعلي مهده بقرب فراشي».

وكان صلّى الله عليه وآله يلي أكثر تربيته ، وكان يطهّر عليّاً في وقت غسله ، ويوجره (١) اللبنَ عند شربه ، ويحرّك مهده عند نومه ، ويُناغيه في يقظته ، ويحمله على صدره ورقبته ، ويقول : «هذا أخي ، ووليّ ، وناصري ، وصفيّي ، وذخري ، وكهفي ، وصهري ، ووصيّي ، وزوج كريمتي ، وأميني على وصيّتي ، وخليفتي».

وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله بحمله دائماً ويطوف به جبال مكّة وشعابها وأوديتها وفجاجها.

صلّى الله على الحامل والمجمول وآلهما (٢).

ورواه ابن الفتّال في (روضة الواعظين) عن يويد بن قَعنب مثله ـ إلى قوله ـ : وويلٌ لمن أبغضه وعصاه (٣).

وفي (كشف اليقين) لآية الله العلّامة الحلّي ، و (كشف الحقّ) عن (بشارة المصطفى) عن يزيد بن قَعنَب ، مثله (إلى قوله ـ : وأوديتها (٤).

وفي (الإرشاد) لأبي محمد الحسن بن أبي الحسن محمّد الديلمي عن البشارة أيضاً مثله (٥).

وروى مختصراً منه لأمير محمّد صالح بن عبد الله الحسينيّ الترمذي ، الآتي ذكره ، في (مناقبه) عن يزيد بن قَعنَب (٦).

__________________

(١) أوجره اللبن : جعله في وسط حلقه. لسان العرب ـ وجر ـ ٥ : ٢٧٩.

(٢) كشف الغمة ١ : ٦٠ ، وبشارة المصطفى : ٧.

(٣) روضة الواعظين : ٧٦.

(٤) كشف اليقين : ٥ ، ونهج الحق وكشف الصدق : ٢٣٣.

(٥) إرشاد القلوب : ٢١١.

(٦) مناقب مرتضوي : ٨٧ ، ط. بومباي ، (١٣٢١ ه).

٧٥

ورواه رئيس المحدّثين الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن موسى بن بابوية القمّي ، المتوفّى سنة (٣٨١ ه) في الأمالي) و (علل الشرائع) و (معاني الأخبار) عن عليّ بن أحمد بن موسى الدّقاق رضي الله عنه ، محمّد بن سنان ، عن المفضّل بن عمر ، عن ثابت بن دينار ، وعن سعيد بن جبير ، قال : قال يزيد بن قَعنَب ... وذكر الحديث مثله.

وفي نسخته بعض التغيير أو عزنا إلى المهمّ منه في محلّه ، وأنهاه إلى قوله : وويلٌ لمن أبغضه وعصاه ... (١).

ورواه شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في (أماليه) عن أبي الحسن محمّد بن أحمد بن الحسن بن شاذان ، عن أحمد بن محمّد بن أيّوب ، عن عمر بن الحسن القاضي ، عن عبد الله بن محمد ، عن أبيه حبيبة ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزّهري ، عن عائشة.

وعن محمّد بن أحمد بن شاذان ، عن سهل بن أحمد ، عن أحمد بن عمر الربيعي ، عن زكريا بن يحيى ، عن أبي داود ، عن شعبة ، عن قَتادة ، عن أنس بن مالك ، عن العباس بن عبد المطلب.

قال الشيخ : وحدّثني إبراهيم بن عليّ ، بإسناده عن أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليهم السّلام ، عن آبائه عليهم السّلام قال :

كان العبّاس بن عبد المطلب ويزيد بن قَعنَب جالسين ما بين فريق بني هاشم إلى فريق عبد العزّي بإزاء بيت الله الحرام ، إذ أتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أُمّ أمير المؤمنين عليه السّلام ، وكانت حاملاً بأمير المؤمنين عليه السّلام لتسعة أشهر ، وكان يوم التمام.

__________________

(١) الأمالي ١١٤ / ٩ ، وعلل الشرائع ١ : ١٣٥ / ٣ ، ومعاني الأخبار ٦٢ / ١٠.

٧٦

قال : فوقفت بإزاء البيت الحرام ، وقد أخذها الطلق ، فرمت بطرفها نحو السماء ، وقالت :

أي ربّ ، إنّي مؤمنة بك وبما جاء به من عندك الرسول ، بكلّ نبيّ من أنبيائك ، وبكلّ كتاب أنزلت ، وإنّي مصدّقةٌ بكلام جدّي إبراهيم الخليل ، وأنّه بنى البيت العتيق ، فأسألك بحقّ هذا البيت ومّن بناه ، وبهذا المولود الذي في أحشائي ، الذي يكلّمني ويؤنسني بحديثه ، وأنا موقنةٌ أنّه إحدى آياتك ودلائلك ، لمّا يسّرت عليّ ولادتي.

قال العبّاس بن عبد المطلّب ، ويزيد بن قَعنَب : لمّا تكلّمت فاطمة بنت أسد ودعت بهذا الدعاء ، ورأينا البيت قد انفتحَ من ظهره ، ودخلت فاطمة فيه وغابت ليصل إليها بعض نسائنا فلم ينفتح الباب ، فعلمنا أنّ ذلك أمرٌ من الله تعالى ، وبقيت فاطمة في البيت ثلاثة أيام.

قال : وأهل مكّة يتحدّثون بذلك في أفواه السكك ، وتتحدّث المخدّرات في خدورهنّ.

قال : فلمّا كان بعد ثلاثة أيام انفتحَ البيتُ من الموضع الذي كانت دخلت فيه فخرجت فاطمة وعليّ على يديها ، ثمّ قالت :

معاشر الناس ، إنّ الله عزّ وجل اختارني من خلقه ، وفضّلني على المختارات ممّن مضى قبلي.

وقد اختار الله آسية بنت زاحم ، فإنّها عبدت الله سرّاً في موضع لا يحبّ أن يعبد الله فيه إلّا اضظراراً.

ومريم بنت عمران حيث هانت ويسّرت عليها ولادة عيسى ، فهزّت الجذع اليابس من النخلة في فلاة من الأرض حتّى تساقط عليها رطبّاً جنياً.

٧٧

وإن الله تعالى اختارني وفضّلني عليهما ، وعلى كلّ من مضى قبلي من نساء العالمين ، لأنّي ولدتُ في بيته العتيق ، وبقيتُ فيه ثلاثة أيام ، آكلُ من ثمار الجنة وأرزاقها.

فلما أردتُ أن أخرج وولدي على يدي هَتَفَ بي هاتفٌ وقال :

يا فاطمة ، سميّه عليّاً ، فأنا العليُّ الأعلى ، وإنّي خلقتهُ من قدرتي وعزّتي وجلالي ، وقسط عدلي ، واشتققتُ اسمه من اسمي ، وأدّبته بأدبي ، وفوّضت إليه أمري ، ووقّفته على غامض علمي ، ووُلِدَ في بيتي ، وهو أوّل مَن يؤذّن فوق بيتي ، ويكسّر الأصنام ، ويرميها على وجهها ، ويعظّمني ويمجّدني ويهلّلني ، وهو الإمام بعد حبيبي ونبيّي وخيرتي من خلقتي محمّد رسولي ، ووصيّه ، فطوبى لمن أحبّه ونصره ، والويلُ لمن عصاه وخذله ، وجحد حقّه.

قال : فلمّا رآه أبو طالب سُرّ ، وقال علي عليه السّلام : «السلام عليك يا أبه ، ورحمة الله وبركاته».

قال : ثم دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فلمّا دخل اهتزّ له أمير المؤمنين عليه السّلام ، وضحك في وجهه ، وقال : «السلام عليك يا رسول الله ، ورحمة الله وبركاته».

قال : ثمّ تنحنحَ بإذن الله تعالى وقال : (بسم الله الرحمن الرحيم * قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ) (١)» ـ إلى آخر الآيات ـ.

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : «قد أفلحوا بك ، وقرأ تمام الآيات إلى قوله : (أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِردَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (٢)».

__________________

(١) سورة المؤمنون : ١ ـ ٢.

(٢) سورة المؤمنون : ١٠ ـ ١١.

٧٨

فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله : أنت ـ والل ـ أميرهم ، تميرهم من علمك فيمتارون ، وأنت ـ والله ـ دليلُهم ، وبك يهتدون.

ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لفاطمة : اذهبي إلى عمّه حمزة ، فبشّريه به.

فقالت : فإذا خرجت أنا فمن يروّيه؟

قال : أنا اُروّيه.

فقالت : فاطمة : أنت تروّيه؟

قال : نعم ، فوضع رسول الله صلّى الله عليه وآله لسانه في فيه ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً.

قال : فلمّا رجعت فاطمة بنت أسد رأت نوراً قد ارتفع من عليّ إلى عنان السماء.

قال : ثمّ شدّته وقمّطته بقماط فَبَتَرَ القماط ، قال : فأخذت فاطمة قماطاً جيّداً ، فشدّته به ، فبتر القماط ، ثمّ جعلته قماطين فبترهما ، فجعلته ثلاثة فبترها ، فجعلت أربعة أقمطة من رِقّ مصر لصلابته فبترها ، فجعلته خمسة أقمط ديباج لصلابته فبترها كلّها ، فجعلته سنّةً من ديابج وواحداً من الأدم ، فتمطّى فيها فقطعها كلّها بإذن الله.

ثمّ قا ل : بعد ذلك : «يا اُمّه ، لا تشدّي يدي ، فإنّي أحتاج إلى أن اُبصبص (١) لربّي بإصبعي».

قال : فقال أبو طالب عند ذلك : إنه سيكون له شأنٌ ونبأ.

فلمّا كان من غدٍ دخل رسول الله صلّى الله عليه وآله على فاطمة فلمّا بصر عليّ عليه السّلام برسول الله صلّى الله عليه وآله سلّم عليه ، وضحك في وجهه ، وأشار إليه أن خُذني إليك واسقني ممّا سقيتني بالأمس.

__________________

(١) البصبصة : هي أن ترفع سبابتيك إلى السماء وتحركّهما وتدعو. مجمع البحرين ـ بصبص ـ ٤ : ١٦٤.

٧٩

قال : فخذه رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقالت فاطمة : عرفه ربّ الكعبة.

إلى أن قال : فلمّا كان اليوم الثالث ـ وكان العاشر من ذي الحجة ـ أذّن أبو طالب في الناس أذاناً جامعاً ، وقال : هَلمّوا إلى وليمة ابني عليٍّ.

قال : ونحر ثلاثمائة من الإبل ، وألف رأس من البقر والغنم ، واتخذ وليمةً عظيمةً ، وقال : معاشر الناس ألا مَن أراد من طعام عليٍّ ولدي فهلُمّوا وطوفوا بالبيت سبعاً ، وادخلوا وسلّموا على ولدي عليٍّ ، فإنّ الله شرّفه.

ولفعل أبي طالب شرّف يوم النحر (١).

وفي (المناقب) لابن شهر آشوب : وفي رواية شُعبة ، عن قَتَادة ، عن أنس ، عن العباس بن عبد المطلّب.

وفي رواية الحسن بن محبوب ، عن الصادق عليه السّلام ، والحديث مختصر.

أنّه انفتح البيت من ظهره ، ودخلن فاطمة فيه ، ثمّ عادت الفتحة والتصقت ، وبقيت فيه ثلاثة أيام ، فأكلت من ثمار الجنّة ، فلمّا خرجن ، قال : عليّ عليه السّلام : «عليك السلام يا أبه ، ورحمة الله وبركاته». ثم تنحنح وقال : (بسم الله الرحمن الرحيم * قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)» الآيات.

فقال رسول الله : قد أفلحوا بك ، أنتَ ـ والله ـ أميرهم ، تُميرهم من علمك فيمتارون ، وأنتَ ـ والله ـ دليلهم ، وبك ـ واله ـ يهتدون. ووضع رسول الله صلّى الله عليه وآله لسانه في فيه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً.

قال : فسمّي ذلك اليوم : يوم التروية.

فلمّا كان من غده وبصر عليّ برسول الله سلّم عليه ، وضحك في وجهه ، وجعل يُشير إليه ، فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقالت فاطمة : «عَرَفَه».

فسمّي ذلك اليوم عرفة.

__________________

(١) أمالي الطوسي ٢ : ٣١٧.

٨٠