الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٨

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ٢٨

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٥٧

وكما الامتنان في وضع الأرض وسواها خصهما : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) فليكن الأنام هو الانس والجان ، فتعميمه لغيرهما غير فصيح ، كما اختصاصه بالانس غير صحيح ، وما دامت تعمه وغيره لغويا وسواه فلتكن ، وإلا فلما ذا لم يأت باسم الإنسان لو كان هو المخصوص كما في خلقه من صلصال كالفخار؟ : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ).

ويا لوضع الأرض لنا مهادا وقرارا ، من نعمة سابغة لا ندركها ، اللهم إلا حين يثير زلزال ، أو يحير طوفان ، أو يثور بركان ، فقد نشعر ونفكر في مدى عظيم النعمة لوضع الأرض لنا قرارا ، وجعل هذه المجنونة الفرار لنا ذلولا ، فما هي إلا هباءة سائحة سابحة في بحار الأجواء الواسعة لو لا وضعها العادل في حركاتها وبركاتها لساخت بأهلها الى دركاتها : «وعدل حركتها بالراسيات من جلاميدها وذوات الشناخيب الشم من صياخيد فسكنت على حركاتها من أن تميد بأهلها أو أن تسنح بحملها ...».

فهي محمولة بعمد لا ترونها ، في جادة فضائية ، جادّة في سيرها ، لو لا رحمة الرحمان لا نكفأ بنا الى الأعماق فلم يبق منا باق ، فسبحان الذي جعل الأرض للأنام :

(فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ. وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) :

الفاكهة ما تطيب به النفس وتستأنس من المأكول ، واختصت بما تثمره نبات الأرض ، كما الفكاهة حديث ذوي الانس.

واختصاص النخل بالذكر بين سائر الفاكهة ، لأنها قوت على كونها فاكهة ، ومن أفضل القوت وأفضل الفاكهة ، في حالتي اليبوسة والطراوة ، في حين أن سائر الفاكهة ليست قوتا إلا قليلا كالعنب والجوز ، كما وأن الحب ـ الشامل لسائر الحبوب ـ هي أفضل من النخل ومن الفاكهة ، فمثلث النعيم هذا يختلف في زواياها ، من الأدنى الى الأرقى : فاكهة ـ نخل ـ حب ، على أن للأولين

٢١

فضلهما من حيث الفاكهة ، فلا تفكّه في الحب إلا القوت ، ومن الصعب الاكتفاء بالقوت بلا فاكهة ، كما من المحال المعاكسة : الاكتفاء بالفاكهة دون قوت ، اللهم إلا في النخل التي تجمعها ، لفترة غير بعيدة من الزمن.

وبعد هذه يأتي دور الريحان ، النابتات ذوات الروائح الطيبة الريحانية ، التي تصاحب القوت والفاكهة ، وقد تكون الفاكهة ريحانا ، كما القوت قد تكون ريحانا.

ومن فضل النخل أنها ذات الأكمام : جمع الكمّ ـ ضما وكسرا ـ : ما تغطي الثمرة ، كما الكم ما يغطي اليدين ، والكمة ما يغطي الرأس ، فالثمرة المكمومة : المحفوظة عن الفضاء وغباراتها وتأثيراتها ، انها أبعد من الفساد ، ثم وفي أكمام النخل من ليفها ولحاها فوائد ، حتى وفي نواتها أكل للإنسان وسائر الحيوان.

كما وأن في عصف الحب : ورقه وتبنه ، فيها فوائد جمة ، أكلا وسواه.

فهذه وتلك طرف من نعم الرحمان على الإنس والجان :

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) :

وترى أية منة على الجان في أن خلق الله الإنسان وعلمه البيان ، مهما كانت المنة تشملهم في تعليم القرآن وسواه من النعيم المعدودة مسبقا؟.

الجواب : لو لا الإنسان وتعليمه البيان لما استطاع الجان أن يتعلموا القرآن فانه نزل على رسول الانس ، ومن ثم وبواسطته إلى رسل الجان فإليهم ، فخلق الإنسان وتعليمه البيان والقرآن نعمة كبيرة على الجان : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) :

وهي آية عديمة النظير ، تتكرر في هذه السورة فقط إحدى وثلاثين مرة ، في طيات ذكريات النعم التي منحها الإنس والجان ، تلقي على السورة كلها لونا

٢٢

من الشعرية المنثورة ، رغم أن القرآن ليس شعرا ، بل ولا نثرا فيما نعرف ، إنه كلام الله خارجا عن الشعر والنثر في ألفاظه ، كما هو خارج عما عرفه الإنسان في معانيه.

والاستفهام في الآية بالنسبة للثقلين للتنديد والتخجيل ، وبالنسبة لآلاء الرب للتجليل ، فآلاء الرب ونعمه ظاهرة فيها ربوبيته ، باهرة رحمته ، إلا النعم التي نبدلها نحن نقما وكفرا : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) (١٤ : ٢٨) (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢ : ٢١١).

إن تكذيب النعمة دركات ، كما وأن تصديقها درجات : جوانح وجوارح وأعمالا ، والدرك الأسفل من تكذيبها أن تشارك فيه الثلاث : قولا وقلبا وقالبا ، والدرج الأعلى من تصديقها مثلث التصديق ، وبينهما في كل منهما متوسطات.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ. وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

إن خلق الإنس والجان هو النعمة القمة لهما ، كأصل للقاعدة لسائر النعم التي تتواتر لهما ، فما هو صلصال ، وما هو مارج من نار؟

الصلصال هو الطين اليابس المنتن الذي يتردد منه الصوت إذا وطئ : (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (١٥ : ٢٨) : طين أسود منتن (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) (٣٧ : ١١) : شديد الثبوت ، فطين الإنسان صلصال من حماء مسنون لازب : طين أسود نتن لازق كالفخار : الطين المطبوخ بالنار : الخزف ، وهذا هو مخمر الطين وخالصه ، كما الإنسان هو خالص الكون الترابي ، وهذا يرمي إلى صنع أول إنسان ، فإن نسله ليسوا من هكذا طين : والترتيب الخلقي أنه كان ترابا ، ثم طينا ، ثم حمأ مسنونا لازبا ، ثم صلصالا كالفخار.

(وَخَلَقَ الْجَانَّ) أصل الجان ، دون الأنسال الذرية المخلوقة من إنساله :

٢٣

(أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ) (١٨ : ٥٠) .. خلقه (مِنْ مارِجٍ) : قلق مازج (مِنْ نارٍ .. وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (٣٢ : ٧) فالمرج أصله الخلط والمزج ، من مرج ، والمرج هو القلق والاضطراب من مرج :

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (٥٠ : ٥) ، والهرج والمرج بمعنى ، ومرجه هو المرج ، سكنت ازدواجا للكلام ، فالمارج من نار هو القلق منها (١) : اللهيب المنطلق عنها المازج ، الخليط من نار : خليط من مختلف لهيبها بألوانها : أحمر وأصفر وأخضر (٢) وعلّه الى سائر ألوانها التي اكتشف العلم عن سبحة منها ، أم ماذا! وخليط بسموم ، لأنه مخلوق (مِنْ نارِ السَّمُومِ) :

التي تلتهب من سمّ قوي ، إذا فأصل الجن من مارج : قلق مازج ، من نار السموم (٣) : السم الفاتك عند اشتعاله ، وعلّه مختلف السمّ أو قويه أم ماذا.

وترى لو خلق الجان من النور بدلا عن النار ، أو خلق الإنسان من تراب طيب بدلا عن الصلصال كالفخار ، أما كان أحسن آلاء وأقل بلاء؟ فكيف يمتنّ الله على الإنسان والجان في خلقهما مما خلقا؟!.

الجواب : أنه أعلم بما خلق ومما خلق ، فلو لا النار لم يكن الجان جانا وإنما ملكا ، ولو لا الصلصال الحمأ المسنون اللازب لم يكن الإنسان إنسانا وإنما كائنا آخر ، فخلق كلّ كما هو الآن ـ بما يحملان من إعدادات واستعدادات ـ

__________________

(١) في الحديث عنه (ص) : كيف أنتم إذا مرج الدين فظهرت الرغبة واختلف الاخوان وحرق البيت العتيق ، وفي آخر عنه (ص) : كيف أنت إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم.

(٢) الدر المنثور ٦ : ١٤١ عن مجاهد في (مارِجٍ مِنْ نارٍ) قال : اللهب الأصفر والأخضر الذي يعلوا النار إذا أوقدت ، وعن سعيد بن جبير : الخضرة التي تقطع من النار السوداء الذي يكون بين النار وبين الدخان.

(٣) إنما فسرنا المارج بالمعنيين ، لأنه لو أريد أحدهما فحسب لجيء بأحدهما فحسب : خليط أو قلق ، فذكر المارج دليل على قصدهما معا ، ولأنه عني منه القلق وهو لازم ، فلا يعني من مزجه المتعدي ، حتى يفسر بنار مزجت غيرها بشيء ، وإنما لازمه الذي هو الانمزاج.

٢٤

محصور في المادتين ليس إلا ، فمن عظيم آلاءه للإنسان أنه خلقه من طين نتن فجعله في أحسن تقويم ، وللجان أنه خلقه من نار السموم ، وجعله يتلو الإنسان في التقويم!. (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟.

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) :

فمن آلاء الرحمان ربوبيته الوحيدة للمشرقين والمغربين ، فإن كثرتها فوضى تضاد : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) كما أن ثبات الشارقات والغاربات دمار للكائنات.

ثم المشرقان والمغربان هنا تجمعان مشرق الشمس والقمر ومغربهما : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) (٢٦ : ٢٨) ومشرق الشمس ومغربها ، مع مشرق سائر الشوارق ومغربها ، ومشرق كلّ مع زميله : الجهة الفرعية شمالا وجنوبا ، ومغرب كلّ كذلك ، وأعلى المشارق والمغارب صيفا وأدناهما شتاء ، في غاية ارتفاع الشمس وانخفاضها : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) (٧٠ : ٤٠) (١) فآيات المشرق والمغرب تتجاوب ، إفرادا وتثنية وجمعا ، دون تنافر وتناحر.

ثم من آلاء الرب في مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما أن الفصول الأربعة مترتبة عليهما ، وتتبعه تقلب الهواء وتنوعها ، وما يليها من مطر وشجر ونبات.

كما وأن من الآلاء الأربع رباعية التدبير ، وما إليها من آلاء في المشرقين والمغربين نحن نجهلها ، لو اختل شيء منها لاختلت الحياة أو استحالت أو حولت مماتا.

__________________

(١) راجع تفسير الآية (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) المعارج ج ٢٩ ص ١٤٠. وفي كتاب الاحتجاج عن أمير المؤمنين (ع) حديث طويل وفيه : وأما قوله (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) فان مشرق الشتاء على حده ومشرق الصيف على حده. أما تعرف ذلك من قرب الشمس وبعدها ، وأما قوله : (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) فان لها ثلاثة وستين برجا تطلع كل يوم من برج وتغيب في برج فلا تعود اليه إلا من قابل في ذلك اليوم.

٢٥

(مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) :

المرج هو القلق وهو الإرسال ، وهو المزج (١) وهنا الإرسال والمزج ، فلو كان أحدهما المقصود لجيء به ، لا المرج الجامع لهما ، مرج الإرسال التقاء دون مزج وتداخل ، ومرج اللقاء دون تفاعل ، اللهم إلا في غير بغي.

ومن البحرين الممزوجين بحر الأرض وبحر السماء ، إذ يمزج من أبخرة الأرض بمياه السماء وبخاراتها ، كما يمزج من مياه السماء ببحار الأرض ، وقد يروى عن علي عليه السلام (٢) كما ومنهما بحر العذب والملح الأرضيين ، وقد يجمعهما : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) (٢٥ : ٥٣) حجر محجور عن بصر العين وبصيرة العلم وحتى الآن ، حجر حاجز بينهما عن التباغي رغم التلاقي : (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) (٢٧ : ٦١).

وترى ما هو هذا الحجر الحاجز البرزخ في البحرين الأرضيين؟ ليس لنا أن نهرف بما لا نعرف! إلا أن البرزخ توحي بأنه ليس من العذب الفرات ولا الملح الأجاج ، وإنما برزخ بين الماءين ، فهل هو ماء بعد؟ قد يكون! ولكنه محجور عن الرؤية ، فليكن أخف من المياه التي نعرفها ، مختلفة عنها تراكيبه ، بجزئياته ، فرقته ودقته بحيث لا يرى!.

__________________

(١) الإرسال من معانيها الثانوية كما يقال : مرج الدابة يمرجها إذا أرسلها ترعى في المرج : المرعى.

والمزج هو معناها الأصيل وليس هنا القلق ، من المكسور العين ، وهنا هي من المفتوح العين ، إضافة الى كونه لازما والمرج هنا متعد.

(٢) قرب الاسناد للحميري عنه (ع) في آية المرج واللؤلؤ والمرجان : من السماء ومن ماء البحر ، وتتمة الحديث تأتي.

٢٦

ثم الحاجز بين الأرضي والسماوي أن يبغيا هو تقدير الرحمان ، المحجور عن الإنس والجان! وأما الحاجز بين البحر الأرضي والأنهار فليس محجورا لا عن البصائر ولا الأبصار ، فإنه علو الأنهار على البحار واختلاف أماكنها.

فقد مرج البحرين : أرسلهما طاميين ، وأمارهما مائعين ، فهما يلتقيان بمقاربة مقارفة المرج المزج ، وليست بالمزج ، وإنما ضمّن المرج هنا معنى المزج لأنهما أرسلا رسلهما الرامي إلى مزجهما ، الواقع بدوافعه تماما لو لا الحجر المحجور ، والبرزخ الحاجز ، الذي يمنعهما عن الانخراط ، ويصد كلا منهما عن الانفراط ، فلا يبغي أحدهما على الآخر فيقلبه إلى صفته ، أو ينقصه عن حدته ، لا الملح الأجاج على العذب الفرات ، ولا العذب على الملح الأجاج ، اللهم إلا في مرج المزج غير الباغي ، كما يمزج ماء البحار بمياه الأنهار ، بعد ما يصبح بخارا وأمطارا ، ويمزج مياه العيون والأنهار بمياه البحار إذ تصب فيها ، ولكنه مرج ومزج بحساب وميزان ، إذ يأخذ كل قدر ما يعطي ، دون بخس في المكيال ولا إخسار في الميزان ، وهذا أيضا من الحاجز بينهما ، كما الحاجز بين مياه البحر والأنهار ، إلا أنه حجر غير محجور.

ولو لا الحاجز بين البحرين : بين العذب والمالح في البحر ، وبين البحار المالحة والأنهار العذبة ، وبين التفاعلات عبر التبدلات ، لبحر الأرض والسماء ، لولاه لتعطلت الحياة أو استحالت ، فالملح الأجاج الذي يغمر ثلاثة أرباع الكرة الأرضية ضرورة لتطهيرها بجوها وإفساحها المجال للحياة من حيوان البحر وسواه ، والعذب المدخر في مخازن الأرض ، والساري في مساريها ، والكائن في البحار أيضا كعروق أو أنهار (١) ضرورة للشرب والإنبات ، كل على قدره.

__________________

(١) كدجلة تدخل البحر فتشقه فتجري خلاله فراسخ لا يتغير طعمها ، وكما تجعل دجلة البحر بحرين ، كذلك هو وسائر البحر بحران ، الأولان مالحان ، والآخران مالح هو المالحان ، وعذب هو دجلة.

٢٧

والبحران ـ كما أشرنا ـ يعمان ماءي الأرض جمعاء ، سواء مياه البحار بعضهما مع بعض أو ماءي بحر واحد ، أو البحار والأنهار في الأرض ، أو ما يتبدل بخارا من البحار فإلى الأنهار ، ومن الأنهار تسيل إلى البحار ، إلا أن الحجر المحجور لا يساعد بحري البحار والأنهار أرضا ، فإن الحاجز بينهما محسوس هو علو الأنهار واختلاف أمكنتها عن أماكن البحار ، وأما البحر الواحد المتواجد فيه الماءان دون مزج فلا حاجز بينهما ملموسا ، ويتلوه الحاجز المانع عن تغلب أحدهما على الآخر في غير الواحد ، كما في الأمطار من البخار ، والأنهار السائلة في البحار ، فرغم المرج المزج لا تغلب للبعض على البعض.

وترى كيف يعبر عن البحر الواحد الحاوي للماءين بالبحرين؟ لأن أهم شروط التعدد اختلاف المائين ، وقد يكون بحران في مكانين وماءهما من سنخ واحد ، فأحرى أن يكون بحران وهناك ماءان وإن في مكان واحد.

ففي مرج البحرين ، أي بحرين ، وبأي مرج ، إرسالا ومزجا ، وفي جعل برزخ بينهما ، أي برزخ ، ان فيها آلاء من الرحمان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) :

ترى أن اللؤلؤ والمرجان اللذين تجمعهما الحلية البحرية ، هما يخرجان من العذب الفرات كما من الملح الأجاج؟ والمعروف خروج اللؤلؤ من المالح! تجيبك الآية نفسها : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا) واخرى نظيرتها : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ..) (٣٥ : ١٢) وما هي قيمة العرف الهارف غير العارف ، بجنب الخلّاق العليم! ولقد عرف العلم أخيرا نكر ذلك العرف

٢٨

الخاطئ مصدقا القرآن في خروج اللؤلؤ والمرجان من البحرين : عذبا ومالحا (١) وكما يخرج من أحدهما : المالح ، بسبب العذب : بحر السماء.

وهما ، ولا سيما اللؤلؤ أفخر حلية تلبس ، وهي من لباس الجنة : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) (٣٥ : ٣٣) وهي من أجمل الجمال إذ الغلمان المخلدون بها يشبّهون : (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) (٧٦ : ١٩).

وترى ما هو أصل اللؤلؤ والمرجان وكيف يخرجان؟ انهما أعجب حيوانين بحريين وأجملهما! فاللؤلؤ حيوان صغير ، يهبط إلى أعماق البحر ، لتقيه من الأخطار ، وهو داخل صدفة من المواد الجيرية ، ويختلف عن سائر الكائنات الحية في تركيبه وطريقة معيشته ، فله شبكة دقيقة كشبكة الصياد ، عجيبة النسج ، تكون كمصفاة تسمح بدخول الماء والهواء والغذاء الى جوفه ، وتحول بين الرمال والحصى وغيرها ، وتحت الشبكة أفواه الحيوان ، ولكل فم أربع شفاه ، فإذا دخلت ذرة رمل ، أو قطعة حصى ، أو حيوان ضار عنوة الى الصدفة ، سارع الحيوان الى إفراز مادة لزجة يغطيها بها ، ثم تتجمد مكونة لؤلؤة! وعلى حسب حجم الذرة التي وصلت يختلف حجم اللؤلؤ» (٢).

«ولها صنوف عدة ، فأجمل نوع منها ما يتكون في الحيوانات الرخوة الصدفية التي تعيش في البحار الحارة ، والحيوان موجود داخل محارتين منطبقتين على بعضهما ، ويوجد منها نحو ثلاثين نوعا .. واللؤلؤ اللطيف الشكل ، الجميل الماء هو ما يسمى باللؤلؤ الحر أو الصافي ، ذو قيمة تجارية هائلة ، وأغلاه ما كان

__________________

(١) تفسير الجواهر ج ٢٤ ص ٢٦ ينقل عن مجلة «السياسة الاسبوعية» المصرية ٢٧ رمضان ١٣٤٤ ه‍. ١ أبريل ١٩٢٦ ما يلي : «يتكون اللؤلؤ في أنواع كثيرة من الحيوانات الصدفية أو المحاربة التي تعيش في الماء العذب أو في الماء الملح ، وكانت لآلئ الماء العذب شهيرة عند الرومانيين ، وهي تستخرج حتى الآن من بعض جهات في أميركا والصين وغيرها ..».

(٢) نقلا عن كتاب «الله يتجلى في عصر العلم».

٢٩

جميل الماء ، كروي الشكل ، وتختلف ألوانه من : أبيض ورمادي ووردي وأخضر وأصفر وأسود وأزرق» (١).

ومن أروع ألوان تكون اللؤلؤ ما يروى عن علي عليه السلام البحران هما : «من السماء ومن ماء البحر ، فإذا أمطرت فتحت الأصداف أفواهها في البحر فيقع فيها من ماء المطر فتخلق اللؤلؤة الصغيرة من القطرة الصغيرة ، واللؤلؤة الكبيرة من القطرة الكبيرة» (٢) إذا ف (يَخْرُجُ مِنْهُمَا) تعم الخروج من كل واحد منهما كما في بحري الأرض ، والخروج من أحدهما بسبب الآخر كما من ماء البحر بسبب ماء السماء ، ف «من» هنا تعم السببية والنشوية التبعيضية.

ثم اللؤلؤ لؤلؤان ، ما يصنعه الرحمن دون صنع من الإنسان وما يصنعه أو يولده الإنسان بفضل العلم الذي منحه الله (٣) فهذه أيضا من منن الرحمان أن أخرج له اللؤلؤ في مختلف الألوان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

«والمرجان يعيش في البحار على أعماق تتراوح بين خمسة أمتار وثلاثمائة

__________________

(١) ينقله الطنطاوي عن مجلة السياسة الاسبوعية.

(٢) قرب الاسناد للحميري عنه (ع) في الآية «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ».

(٣) فاللؤلؤ المولد أن يدخل في كل من المحار هنة صغيرة كالتي تدخل في الخلقية ، ولكنه بحاجة الى زمان طويل كالذي تقتضيه الخلقي ، لذلك يدخلون في جوف المحار هنة كبيرة تتكون حولها اللؤلؤ سريعا على مقدار كبر حجمها.

«واللؤلؤ الصناعي اكتشفه رجل فرنسي (١٦٥ م) : جاكون ، كان يغسل نوعا من السمك في ماء عذب فرأى في غالته لمعانا كلمعان اللؤلؤ حين يجف ، فخطر له أن يطلي به خرزا من الزجاج بعد مزجه بشيء من الشمع حتى يلصق بالزجاج ، ففعل وصنع أول لولوة صناعية في التاريخ ، فاشتهرت لآليه وأقبلت عليها الغواني في ذلك العصر ، ومصدر هذه المادة نوع من السمك يسمى (البينوس لوسيدوس) وفي انكلترا يستخرجونه من قشر سمك (الرنكة) فهذه الأسماك تغسل بالماء العذب غسلا لطيفا حتى تنظف من الملح والقدر ثم تحك الحراشف التي على بطنها بقفا سكين فترسب المادة اللؤلؤة في الماء ، وإذا أريد حفظها في الماء أضيف له شيء من (الامونيا) حتى لا يتطرق الفساد إليها سريعا ...» (تفسير الجواهر ج ٢٤ ص ٧٠ ـ ٧٢).

٣٠

متر ، وهو حيوان صغير يبني مع الآلاف من رفاقه مساكن هي أشبه بأغصان الأشجار ، ثم تتكامل حتى تكون منها جزائر ، وإذا اجتمعت جزائر عاشت فيها المرجانات آمنة مطمئنة ، ولو رأيت شجر المرجان لرأيته كظباء الصحراء ، له فروع غبراء ، أو برتقالية صفراء ، أو قرنفلية حمراء أو زرقاء تتلاعب بها الأمواج ، وتعبث الريح بأغصانها ، فكيف إذا تصبح صخرات مكونات للجزائر المرجانية؟ سبحان الخلاق العظيم!.

وجزيرة واحدة من تلك الجزائر المرجانية تبلغ فراسخ عدة ، تتكسر على جوانبها الناصعة البيضاء ، أمواج المحيط (١).

«إن حيوانة المرجانة تثبت نفسها بطرفها الأسفل بصخر أو عشب ، وتفتح فمها التي في أعلى جسمها ، محاطة بعدد من الزوائد يستعملها في غذاءها ، فإذا لمست هذه الزوائد فريسة ـ وكثيرا ما تكون من الأحياء الدقيقة كبراغيث الماء ـ أصيبت بالشلل حالا ، والتصقت بها ، فتنكمش الزوائد وتنحي نحو الفم ، حيث تدخل الفريسة الى الداخل بقناة ضيقة تشبه مريء الإنسان .. ويتكاثر هذا الحيوان بخروج خلايا تناسلية منه ، يتم بها إخصاب البويضات ، حيث يتكون الجنين الذي يلجأ الى صخرة أو عشب يلتصق به ويكوّن حياة منفردة ، شأنه في ذلك شأن الحيوان الأصلي.

ويتكاثر أيضا بطريقة اخرى هي التزرّر ، وتبقى الأزرار الناتجة متحدة مع الأفراد التي تزررت منها ، وهكذا تتكون شجرة المرجان التي تكون ذات ساق سميكة ، تأخذ في الدقة نحو الفروع التي تبلغ غاية الدقة في نهايتها ، ويبلغ طول الشجرة المرجانية ثلاثين سنتيمترا ، ثم الجزر المرجانية ـ المسبق ذكرها ـ بتعاون المرجانات» (٢).

__________________

(١) تفسير الجواهر ٢٤ ص ٢٦ ، نقلا عن بعض المصادر.

(٢) في كتاب : الله يتجلى في عصر العلم.

٣١

هكذا يخرج اللؤلؤ والمرجان من البحرين ، وهما أفخر ما يتزين به الإنس والجان : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)! فلو لا الجان يشارك الإنسان في التزين باللؤلؤ والمرجان ، لم يصح هكذا امتنان.

ومن باب الجري والتأويل ، قد يشمل البحران واللؤلؤ والمرجان ، بحري النبوة والامامة ، بحري عذب فرات ، لا ملح ولا أجاج (١) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) :

الجوار : الجواري ـ جمع الجارية ، تشمل الجاريات المنشآت في البحر كلها على مدار الزمن وتقدم الصنع ، وهي لله (وَلَهُ الْجَوارِ) رغم انها من منشآت الخلق! ولأن المنشئ لها من منشآت الله ، وكذلك آلاتها وأدواتها ومحركاتها الرياحية والبترولية والكهربائية وسواها ، فهل يتواجد شيء في الكون ليس من منشآت الرحمن (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ : ١٤٢ ، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ. بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) قال : علي وفاطمة (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) قال : النبي (ص) (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) قال : الحسن والحسين ، وأخرجه أيضا عن انس بن مالك.

أقول : فقد اتصل بحر النبوة بفاطمة الصديقة بنت النبي (ص) ، ببحر الامامة علي (ع) ، بحران ملتئمان متلاقيان ، بينهما برزخ الرسالة القدسية المحمدية ، إذ اتصل بحر الامامة والنبوة روحانيا مسبقا ، ان تربى علي في حجر النبي وفي جو الوحي والتنزيل ، ثم اكتمل الاتصال الروحاني بوصلة جسمانية في زواج علي بفاطمة ، والنبي هو البرزخ بين البحرين إذ جمع الولاية والنبوة ، وعلي له الولاية دون النبوة والوحي ، وفاطمة هي بضعة النبوة ، دون الرسالة والامامة ، والخارج منهما : اللؤلؤ والمرجان : الحسنان هما مجمع الولاية روحانيا ، والنبوة نسبيا.

٣٢

فجواري البحر من آيات الرحمان ورحماته : (وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ. إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٤٢ : ٣٣) أو إن يشأ يغير البترول ، أو أيا من المحروقات فيظللن رواكد على ظهره ، أو يغير الماء ، أو يثير الريح المجنونة ، أو يخل بشيء مما له دخل في جريانها ، فيظللن في ضلال بأصحابها رواكد على ظهره.

فالله هو المسخر لنا الفلك : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) (١٤ : ٣٢) (يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) (١٧ : ٦٦) (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) (٣١ : ٣١) فمن ذا الذي يحفظها في خضمّ البحر وثبج الموج إلا الرحمان ، ومن ذا الذي يقرها على سطحه المتماوج ، ويجريها بالرياح المتهايج إلا الرحمان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) : كهذه المنشآت للإنس والجان ، التي تحمل رحمات من الرحمان.

فلو لا أن هناك في البحر منشآت للجان كما للإنسان ، أو أنهم يركبون منشآت الإنسان لم تكن هي من آلاء الرب لهما فكيف كان عليهم الامتنان؟! فالجان إذا شركاء الإنسان في منشآت البحر كالأعلام : الآثار المعلمة التي تدل الضلال من قريب أو بعيد ، فكما النجوم هدى سماوية في ظلمات البر والبحر ، كذلك هذه المنشآت فإنها كالأعلام : أعلام البحر وجباله ، كجبال البر وأعلامه.

فقد كانت الجواري ولا تزال من أعظم النعم وأوفر المنن ، التي يسرت أسباب الحياة ، وهي من يسر الناقلات : البرية والجوية ، تكليفا ، ومن أكثرها حملا وتخفيفا عن أثقال الحياة.

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) :

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها) : من ذوي العقول جنا وإنسا أمّن ذا؟ «من عليها» ترى

(الفرقان ـ ٣)

٣٣

أنهم من على الجوار المسبق ذكرها؟ والفناء يعمهم ومن لا يركب الجوار! اللهم إلا الأولوية بالفناء في خضم البحر المتلاطم ، إلا أن كلهم لا يفنون عليه إلا قلة ، فلا تعني الفناء هذه إلا عموم الفناء فلا تخص من على الجوار! أم من على الأرض (١)؟ ولا يخص الفناء أهل الأرض ، ف (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٢٨ : ٨٨) (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٣٩ : ٦٨)! اللهم إلا لأنهم هم المخاطبون ، ولا سيما معشر الجن والإنس ، إلا أن خطابات القرآن ، غير المختص بالإنس والجان ، تشمل كافة من يصلحون للخطاب من عقلاء الأرض والسماء ، أم كل من على الدنيا ، الجامعة للأرض وجواريها ومجاريها الجامحة لزيناتها وشهواتها ورغباتها؟ : (وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها) ومن (أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ ... وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (١٠ : ٧) قد يكونون هم المعنيين أجمع ، أو هم من المعنيين ، فغيرهم من المتقين المتبنين الحياة على مرضاة الله ، مطمئنين بالله لا سواه ، عائشين مع الله لا سواه ، إنهم باقون مع الله لا يفنون ، وقد توحي له (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) لا «ربك» ولا «وجه الله» ولا «الله» فلا تعني البقاء بين الفانين هنا ذات الله فقط ، وإنما الربانيون أيضا ، المخصوصون بربوبيته وكرامته ، وكما أضيف الرب الى أخصهم وأكرمهم «ربك» : فإنه الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم أول العابدين ، وآخر المرسلين.

فأهل الله العارفون بالله ، الباغون مرضاة الله ، هؤلاء هم الباقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة ، وأهل اللهو هم الفانون الهالكون ، وهم أحياء يمشون ويأكلون كما تأكل الأنعام.

فليس وجه الرب وجها عضويا لذاته المقدسة ، فلا أحد يقول به ، ولا من المشبهة المجسمة ، الذين يثبتون لله سبحانه أبعاضا مؤلفة ، وأعضاء مصرّفة :

__________________

(١) القمي في تفسيره قال قال من على وجه الأرض.

٣٤

أن وجه الله هكذا يبقى ، وسائره يبطل ويفنى ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

ثم الوجه الجسداني ليس ذا الجلال ولا الإكرام ، لأنه ذليل فان كسائر الأعضاء ، ومهان دان كسائر من عليها!.

وإنما «وجه ربك» جهة الربوبية ووجهتها ، الظاهرة في المربوبين الربانيين ، الباهرة في أولياء الله المكرمين ، فإنها باقية ببقاء الله وهم عند الله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) (٧ : ٢٠٦) فالذين هم عند الله ، وليسوا عند أنفسهم ورغباتهم ، وإنما عند ربك ، تحت ظله وفي رعايته ، إنهم باقون قدر ما هم عند ربك ، وفانون قدر ما هم عند أنفسهم : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) (١٦ : ٩٦) (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٤٢ : ٣٦) (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) (٧٣ : ٢٠).

فهنا آيتا الفناء والهلاك تتجاوبان ، أن الفناء لمن عليها : ضمير تأنيث تضمر الكائنات كل الكائنات إلا وجه ربك ، والهلاك يشمل كل شيء إلا وجهه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فلا باقي إلا وجه الله : ذاته بربوبيته : الكائنة من ذاته ، والكامنة في البعض من مخلوقاته ، ربوبية رحيمية روحانية ، الذين يتوجه بهم إلى الله ، وتتواجد فيهم مرضات الله وتربياته ، لا ذاته وصفاته! فهم ـ إذا ـ «أنبياءه وحججه الذين بهم يتوجه إلى الله عز وجل وإلى دينه ومعرفته» (١)

__________________

(١) عيون أخبار الرضا (ع) في باب ما جاء عن الرضا (ع) يسأل عن الخبر الذي رووه : ان ثواب لا إله إلا الله النظر الى وجه الله تعالى؟ فقال : من وصف الله عز وجل بوجه كالوجوه فقد كفر ، ولكن وجه الله أنبياءه ... وقال الله عز وجل (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) وقال عز وجل : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فالنظر الى أنبياء الله تعالى ورسله وحججه (ع) في درجاتهم ثواب عظيم للمؤمنين يوم القيامة ، وقد قال النبي (ص): «من أبغض أهل بيتي وعترتي لم يرني ولم أره يوم القيامة» ، وفي تفسير القمي عن علي بن الحسين (ع) «نحن الوجه الذي يؤتى الله منه».

٣٥

و «إذا أفنى الله الأشياء ، أفنى الصور والهجاء ، لا ينقطع ولا يزال من لم يزل عالما» (١) : بالله ، عائشا مع الله : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٣٩ : ٦٨) فهم ممن شاء الله بقاءهم ، ولم يرض فناءهم لأنهم منه! ف «إنما يهلك من ليس منه».

فليس الفناء ـ إذا ـ مستقبلا : يوم القيامة ، بل (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) في أي زمان أو مكان وبأي كيان ، منذ الخلق حتى الفناء ويوم الإحياء مرة اخرى لأنهم ليسوا منه ، (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) : ما يتوجه به إلى الله : ذوات قديسة ربانية ، فهم باقون ، لأنهم منه ، وهم عند الله (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ)!.

وفي وجهه تعالى وجوه عدة ، معروفة من قرائنها المقرونة بها : من الوجهة سمتا للاتجاه : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (٢ : ٢٧٢) ومن وجه الربوبية كما هنا ، والوجه هو ما يواجه به الشيء ويواجه به الشيء ، فإذا أصبح المتوجه إلى الله ، يواجه معرفته ومرضاته بكيانه كله ، أصبح كله وجها لله ، وواجهه الله بخاصة رحماته ومكرماته ، وجها بوجه ، فكما أنه أصبح وجها لله ، يكون الله له وجها يواجهه برحمته وحنانه.

ووجه الرب هذا ، هو ذو الجلال ، لأنه من ذي الجلال ، وهو ذو الإكرام ، فانه تعالى يكرم المتوجهين اليه ، العائشين مرضاته ، فبقاء وجه الرب من أعظم آلاءه ، وفناء سائر الوجوه على بعض الوجوه كذلك من آلاءه ، ان كان فناء الكون ، أو فناء الكيان ، بقصر أو باختيار ، فلو لا الفناء الموت لم تعرف قيمة الحياة ، ولازداد الطائشون طيشا ، ولو لا الفناء في الله لم يكن بقاء بالله ، ولو لا

__________________

(١) الاحتجاج للطبرسي عن أمير المؤمنين (ع) حديث طويل وفيه : وأما قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) فالمراد : كل شيء هالك إلا دينه ، لأن من المحال أن يهلك الله كل شيء ويبقى الوجه ، هو أجل وأعظم من ذلك ، وإنما يهلك من ليس منه ، ألا ترى أنه قال : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ففصل بين خلقه ووجهه.

٣٦

فناء من عليها ، المطمئنين بالحياة الدنيا ، الراضين عنها ، لم يكن لبقاء وجه الله من جلال ولا إكرام ، مهما كان الفناء الأخير من بلاءه دون آلاءه ، ولكنها من وجهة اخرى من آلاءه ، لمن جانبها ، فالفناء دركات ودرجات ، والبقاء بالله درجات (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟!.

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

السؤال هو الحاجة التي تحرص النفس عليها ، فالسؤال التماسها ممن يستجيبها ، سواء أكان بلسان الذات ، فالممكنات كلها فقيرة الذات إلى الله ، أم بلسان الصفات فكذلك الأمر ، أم بلسان الحال ، فكل تشهد أن كونها في مثلث الكيان دون سؤال ، ودون إجابة ، إنه من المحال ، أم بلسان المقال ، فقد يجاب إذا توفرت شروط الإجابة ، وقد لا يجاب إذا لم تتوفر : (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) (١٤ : ٣٤) لا (كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) فالأسئلة الحالية والذاتية والصفاتية مستجابة على أية حال ، ولو لم يخطر للسائل ببال ، كمن لا يعرفون الله ، أو لا يوحدونه ، أو الغافلون عنه ، أو الذين قد يسألون ما يضرهم ، وقد لا يسألون ما ينفعهم ، فهو يعطيهم ما يصلحهم استجابة لمثلث السؤال بلا إدراك للسائل فيه ولا مقال ، فهو وحده المجيب ، وسائله لا يخيب ، وما سأل أحد غير الله ، إلا حرم سؤله عند الله ، وماذا يملك من دون الله ، حتى يسألونهم من دون الله؟!

(يَسْئَلُهُ مَنْ) فما ذا يسألونه؟ ومتى؟ وما هو دليل الإجابة وليست في الآية؟ ومن هم السائلون؟.

إن السؤال لا يختص كائنا دون سواه ، إن كان يشمل كافة الطلبات والحاجات ، وقد جيء هنا ب «من» إما تدليلا على أن الكائن أيا كان لا يخلو عن شعور ، كيف لا و : (إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ

٣٧

تَسْبِيحَهُمْ) (١٧ : ٤٤) أو أن «من» لتشريف الكائنات العاقلة ـ كالملائكة والإنس والجان ـ على سواها.

ثم وكل يسأل ما يحتاجه ويصلحه هو أو سواه أيضا ، وإلا فلا إجابة.

وقد يسأل أهل السماوات ـ فيما يسألون ـ لأهل الأرض ، من الجنة والناس ، وإلا لم يكن في سؤالهم آلاء للأنس والجان ، فلم يصح عليهما فيه الامتنان ، وممن نعرفهم في أهل السماوات ، السائلين لأهل الأرض الملائكة : (وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ (٤٢ : ٥) (.. لِلَّذِينَ آمَنُوا) (٤٠ : ٧٠) ومن بين السائلين من لا يسأله أمرا سواه ، فالعارف لا يسأله إلا إياه ليزداد معرفة بالله ، فكل يسأل على حد شاكلته ومعرفته مناه : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

وبما أن الأسئلة هذه منوطة بيوم الدنيا ، فلا إجابة يوم الآخرة إلا بما قدمت كل نفس في الاولى ، فهم يجازون هنا لك دون سؤال ، وإنما حسب الأقوال فالأحوال فالأعمال ، فالسؤال إذا تختص هنا : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) : شأن الإجابة وسواها من شؤن الربوبية للأولى دون الاخرى : «من إحداث بديع لم يكن» (١) فإنه بديع في شأنه خلقا وأفعالا على غير مثال واحتذاء أمثال ، إنما يبدع بدعا : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢ : ١١٧) دون حاجة إلى زمن ، أو استعانة بمثال سابق.

ثم «ومن شأنه أن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويرفع قوما ويضع آخرين ويجيب داعيا» (٢) أو أن يفعل ما يشاء عدلا أو فضلا ، ولا يشغله شأن عن شأن : شأن الرحمة الرحمانية والرحيمية.

__________________

(١) اصول الكافي عن أمير المؤمنين (ع) في خطبة له «الحمد لله الذي لا يموت ولا تنقضي عجائبه لأنه كل يوم في شأن من احداث بديع لم يكن.

(٢) الدر المنثور ٦ : ١٤٦ ، أخرجه الحفاظ عن أبي الدرداء عن النبي (ص) في آية الشأن.

٣٨

(يَسْئَلُهُ .. كُلَّ يَوْمٍ ..) هل هو كل نهار؟ أم هو بليله؟ أم ماذا؟

إنه كل آن : كل وحدة زمنية عن كل وحدة حركية ، لأصغر ذرة من مادة ، علّها أقل بكثير من الوحدة الالكترونية ٠٠٠ ، ٥٠ / ١ ثانية في حسابنا ، فكل يوم هنا هو كل وحدة زمنية لا تنقسم (١).

ولا يعني السؤال والإجابة في كل يوم ، أن الله تعالى : المسؤول المجيب ـ هو أيضا بذاته في كل يوم ، وإنما الزمان والمكان ظرف فعله ، لا ذاته ، فقد كان إذ لا «كان» ولا زمان ولا مكان ، وسوف يبقى ويكون إذ يفني كل «كان» وكل زمان ومكان ، وهو الآن كما سيكون وكما كان ، خارجا عن الزمان والمكان ، فلا يشمله زمان ولا مكان ، كما لا يشغله شأن عن شأن.

ثم السؤال هذا في موقف الامتنان هو دليل الإجابة وإلا فلا امتنان.

وأخيرا للشأن هنا وجهتان : للأولى ، كما يسأله فيها من في السماوات ومن في الأرض كل يوم هو في شأن .. وللأخرى أو هو أشمل هو شأن الربوبية الشاملة كل شيء ، في أي زمان أو مكان ، تجريدا للأخرى عن السؤال : «كلّ يوم ، كما كان في الاولى ، مع سؤال «كلّ يوم».

ف «كل يوم» : آن أو ما زاد او نقص ، دهر أو سواه ، «هو في شأن» غير ما كان في غيره ، فلا تكرار في فعله ، ولا عادة ولا تقليد ، ولا مسايرة أو تسيير ، وإنما اختيارا وإبداعا ، فليس الله ليبقى دون شأن ، لا تنقطع رحمته ما كان هنا لك مرحوم ، فقد كان إذ لا كان ، فكان شأنه إذ ذاك ما كان ، ثم

__________________

(١) لقد تحدثنا عن معنى «يوم» في عدة مجالات ، إنه الزمان أيا كان ، ويتبع القرائن في تحديده ، فشأن الخلق والتدبير يشمل أقل وحدة زمنية ، لأنه من أمر الله «وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ» «أَوْ هُوَ أَقْرَبُ» ومن الأقرب أدنى حركة لأصغر مادة لم نعرفها حتى الآن.

٣٩

لا يخلو أي يوم ـ منذ الخلقة ـ من شأنه أيا كان.

فلله تعالى ، شأنه يوم الدنيا ويوم الدين ، ولا يشغله شأن عن شأن ، ولا يتبع أهواء خلقه في أي من شأنه (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض) (٢٣ : ٧١) وإنما يحكم ما يشاء كما يشاء ويفعل ما يريد كما يريد : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢١ : ٢٣).

ففي سماحهم لسؤاله تعالى آلاء ، ولإجابته ما يصلح من سؤال آلاء ، ولرجوع الرحمتين إلى الانس والجان آلاء (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إنه تعالى ليس له هكذا شأن في اليوم العصيب ، والهول الرهيب ، وإنما شأنه الفراغ للأنس والجان ، للمسائلة الحساب ، ومن ثم الثواب والعقاب.

وترى إذا لم يفرغ للثقلين يعيى عن الحساب ، أو يخطأ في الحساب ، ولا يشغله شأن عن شأن؟

الجواب : أن فراغه للحساب حقيقة ومبالغة ، حقيقة لأنه فرغ عن شأن النشأة الاولى لشأن الاخرى وليس إلا الحساب وما يخلفه ، ومبالغة إذ يعني : سنعيد لكم ونفعل فعل من يتفرغ للعمل من غير تفجيع فيه ولا اشتغال بغيره عنه ، فالعامد لشيء مع غيره ربما قصر فيه أو أخطأ ، والفارغ له لا يقصر ولا يخطأ ، فقد دللنا هنا بذلك على المبالغة للمسائلة الحساب ـ دون عذوب عنه ولا نقصان أو نسيان ـ من الجهة التي نتعودها ، ليقع الزجر بأبلغ الألفاظ وأدلّ الكلام على معنى الإيعاد تقريبا للتصور عن صورة مذهلة مزلزلة للعذاب ، تسحق كيان مصورها سحقا ، وتمحقه محقا ، كيف أن الذي لا يشغله شأن عن شأن ، سيفرغ لكم أيها الثقلان؟! والثقلان هما الانس والجان من الثقل : الثقل ، مما يوحي أنهما الأفضلان

٤٠