الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٥٦

ذلك وحتى تحققت رؤياه بتأويلها (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا ..) (١٠٠).

أترى انه قصها على اخوته ، خلافا لصالحه وعصيانا لأمر والده الحنون فحسده إخوته؟ كلّا! فإنما ملامح الحب اللّامحة منه ليوسف وأخيه ، الراجحة على إخوته ، هي التي حرضتهم على ما حسدوه وافتعلوه (إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا ..) دون تصريحة أو اشارة ، أنه يرأسنا كلنا بما رأى من رؤيا أوّلها أبونا ، أم رؤيا غيرها.

ولكنما التورات تخطأ هنا خطأ ثانيا إذ تصرح أنه قصّه على اخوته (١) ثم تعكس امر المواجهة ، فلأبيه الانتهار ، وليس هنا للإخوة أمر ، وعلّهم وافقوا أباهم في تكذيبه ، فلم يأخذوا رؤياه بعين الإعتبار! اللهم إلّا رؤيا أخرى هي الأولى ، تذكرها ما هيه ثم قول الإخوة «ألعلك تملك علينا ملكا أم تتسلط علينا تسلطا؟ وازدادوا ايضا بغضا من أجل أحلامه ومن اجل كلامه»؟! (قالَ يا بُنَيَّ) هذا التصغير دليل انه صغير ولمّا يبلغ الحلم خلاف ما تقصه التورات انه ابن سبعة عشر ، ووفاقا لآيات تالية في نفس السورة (.. هذا غُلامٌ ..) ـ (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً ... وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها ..) ثم إنه لمحة لا تجاه الأب الحنون وجاه هذا الولد الصغير ، الكبير الكبير في محتده ، المحسود بين إخوته من قصته ، ومثل هذه الرؤيا ليست رؤيا الطفولات للأطفال ، وإنما رؤيا البطولات للرجال الأبطال ، مما يخطط رسم حياته المنيرة منذ الطفولة حتى الرجولة ، محسودة بين

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

٢١

الإخوة ، محاطة بحيطة رحيمة.

(قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ ..) كمبدء وضابطة في قصّ الرؤيا وعدم قصّها ، ولماذا تقص الرؤيا على حاسدين يتحرضون لكل مكيدة : (فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً) وقد ينسى الحنان الأخوي حين يرون فائقا متوفقا من بينهم عليهم حيث (الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ)! إنما تقص الرؤيا على من يؤوّلها ، أو يتبهج لها كوالد حنون ، دون من يتحرّج بها فيحرّج صاحب الرؤيا كأخوة حاسدين.

فلقد عرف يعقوب من هذه الرؤيا ان يوسف هو المختار بين ابنائه من نسل ابراهيم لتحل عليه كل بركة ، وتتمثل فيه كل حركة في هذه السلسلة المباركة وكما قال (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ...).

لذلك ـ وحفظا عليه ـ يوصيه إلّا يقص رؤياه على إخوته ، وبطبيعة الحال لم يكن ـ بعد ـ ليقصها حيث يرى في ذلك هدما لصرح رؤياه ، وخلافا على أبيه ، وكما لا تلمح القصة على طولها أنه قصها عليهم.

ولو أنه قصها عليهم ، وقد علم انهم يكيدون له كيدا ، فلما ذا يرسله معهم حين يطالبونه؟ أإرسالا الى غير محضن ليحققوا كيدهم الذي يعلم لو انهم عرفوا رؤياه؟! وفي ذلك القص وهذا الإرسال تخطئة لساحة يوسف ويعقوب ، ومس من كرامتهما ، فلا تصدق الرواية القائلة «فلم يكتم يوسف رؤياه وقصها على اخوته» (١) فانها من الإسرائيليات.

__________________

(١) تفسير البرهان ٢ : ٢٤٢ عن ابن بابويه بسنده عن الثمالي عن علي بن الحسين (عليه السلام) في حديث مفصل فيه قصة رد يعقوب سائلا مؤمنا صائما فعاقبه الله في يوسف وفيه فقلت لعلي بن الحسين (عليه السلام) جعلت فداك متى رأى يوسف الرؤيا فقال في تلك الليلة التي بات فيها يعقوب وآل يعقوب شباعا وبات فيها دميال طاويا جائعا فلما رأى ـ

٢٢

ولماذا هنا (فَيَكِيدُوا لَكَ) وهو متعد بنفسه كما «فيكيدوني»؟ اللام هنا لا تعدي ، وإنما تؤكد تخصيصا ان يختصوك بكيدهم بمحاولات قاصدة هادفة ، دون استطراد في جمع ، وذلك من عداوة الشيطان للإنسان ان ينزغ بينهم لحدّ الكيد القتل لأخ حبيب صغير وكما فعل ، والأخوّة من الظروف الجذرية للتحاسد يتعامل معها الشيطان ما وجد إليها سبيلا.

(وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٦).

«وكذلك» البعيد المدى ، العظيم في الرؤيا ، نسخة طبق الأصل ، وواقعا وفق الصورة (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ... وَيُعَلِّمُكَ ... وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ..) أترى الاجتباء هنا هو الرسالة ، أم إنها إتمام النعمة؟ فالاجتباء لها كتقدمه وبينهما تعليم الأحاديث؟ حيث الرسالة هي إتمام النعمة إذ ليست فوقها نعمة!

لكنما الرسالة المحمدية وهي القمة العليا من النعمة تتم بفتح مكة : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ ... وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ..) فكيف لا تتم هذه النعمة فيما

__________________

ـ يوسف الرؤيا وأصبح يقصها على أبيه يعقوب فاغتم يعقوب لما سمع من يوسف وبقي مغتما فأوحى الله عز وجل اليه ان استعد للبلاء فقال يعقوب ليوسف لا تقصص رؤياك على إخوتك فاني أخاف ان يكيدوا لك كيدا فلم يكتم يوسف رؤياه وقصها على اخوته ...

أقول وفي هذا الحديث موارد من النظر ، فكيف يحرم يعقوب النبي سائلا وقت الإفطار وعنده كبش مطبوخ ويبقى عنده فضل منه والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول «ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع» ثم كيف يؤخذ الابن بذنب الأب لو كان ذنبا وطبيعة الحال تقضي ان الاخوة لما يرون يوسف أحب الى أبيهم منهم يحسدونه ويكيدون ولان الملك عقيم وهم يخافون ان يصبح خليفة أبيه بعده؟! ..

٢٣

دونها من رسالات كما في يوسف وآل يعقوب وفي ابراهيم وإسحاق؟!

ف (يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ) هو الرسالة قبل إتمام النعمة ، فإنها نعمة من الله خاصة ، ولها درجات تتكامل فيها في جنبات ، كما وأصل الرسالة والنبوة درجات.

وإذا يسجد له يعقوب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع الساجدين ، وذلك سند اجتبائه في رؤياه ، أفلا يكون ـ إذا ـ رسولا كأبيه أو هو أفضل لمكان السجدة ، وذلك هو أصل اجتبائه ، ثم يتبّناه تعليم الأحاديث وإتمام النعمة.

وقد جاء الاجتباء في جباية الرسالة كما في آدم : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) (٢٠ : ١٢٢) وابراهيم : (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١٦ : ١٢١) بل وحتى اجتباء بعد الرسالة كما في يونس : (إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ. لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ. فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٦٨ : ٥٠) وذلك الاجتباء بعد أن (أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (٣٧ : ١٤٧) ثم (ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ..) .. ثم سجن في بطن الحوت ثم نجي (فَاجْتَباهُ رَبُّهُ ..)! (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ ..) (١) (٣ : ١٧٩).

فهو يجتبي رسله ويجتبي من رسله ، ثم لا اجتباء فيمن دون الرسل رسالة او في درجاتها ، إلّا اجتباء لأمة على أمة ليست إلّا دون الرسالة كما

__________________

(١) وهم إسحاق ـ ويعقوب ـ داود ـ سليمان ـ أيوب ـ يوسف ـ موسى ـ هارون ـ زكريا ـ يحيى ـ عيسى ـ إسماعيل ـ اليسع ـ يونس ـ لوط

٢٤

في المجاهدين المسلمين حق جهاده : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ..) (٢٢ : ٧٨) وكما في إتمام النعمة هنا (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ) حيث النعمة درجات فإتمامها أيضا درجات ، وقد فضل آل يعقوب على سائر الآل لاجتباء الأنبياء منهم لا أنهم كلهم أنبياء.

وحتى فيما يذكر الاجتباء في جماعة الأنبياء ، ليس ليدخل فيهم غيرهم ، وكما تذكر جماعة من الأنبياء الابراهيميين بأسمائهم وجماعة أخرى جملة : (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٦ : ٨٧).

هذا هو الاجتباء قرآنيا ، وهو يجاوبه لغويا فإنه جمع على طريق الاصطفاء ، ولا اصطفاء إلّا في الأنبياء ، يقال : جبيت الماء في الحوض جمعته ، والحوض الجامع له جابية ، وجمعها جواب (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ).

وكأن الاجتباء في الأنبياء يعني جمع الشمل ، تحفظا عن تفرق الأفكار في متفرق السبل المفرقة عن سبيله ، وتجميعا لها وتوحيدا وتوطيدا على صراط مستقيم ، بعد ما جمعت لهم خاصة النعم الربانية في نعيم مقيم.

ثم (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) موهبة له ثانية بعد اجتباءه بالنبوة ، والتأويل هو الإرجاع ، فليس إلّا فيما له مرجع في مبدء أو منتهى أم بينهما ، يرجع إليه الحديث المتشابه ، حيث لا ينبئ ظاهره عن باطنه ، بداية ونهاية وبينهما ، وهذا هو غاية التشابه ألا يظهر الحديث مرجعه في مثلثه.

ثم الحديث هو كل حادث بمظاهره وآياته كما الله حديث (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) ام بذاته وتطوراته كما في كل حادث ،

٢٥

ويوسف موعود ان يعلم (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) لا كل الأحاديث ، وقطعا ليس منها حديث ذات الله إذ ليس لها تاويل ، ولا كل مخصوص علمه بالله أمّا ذا من المستحيل كالعلم بكنه الأشياء لحد يساوق القدرة على إبداعها كما؟؟؟؟؟

فتأويل الأشياء إلى حقائقها هكذا في مثلث الزمان وفوق الزمان والمكان مما يختص بالله علما وقدرة ، وتأويلها إلى شيء من باطن أمرها ماضيا أم حالا واستقبالا ، هو من العلم الذي يعلّمه الله من يشاء (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) (٢ : ٢٥٥).

فمما علّم من تأويله هو تاويل الرؤيا كما أوّل لصاحبي السجن وللملك ، ومنه تأويل الطعام منشأ ونتاجا وبأحرى في حاله : (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما).

والرؤيا حديث في حديث ، حيث تحدث النفس فيها عن حدث بصورته قريبة أم بعيدة ، وسائر الحديث واحد ، وكلّ لتأويله محيص ، ويوسف إنما علّم من تأويل الأحاديث ، وعلّه بعض التأويل من بعض الأحاديث تبعيضا من «من» وفي بعدية ، وقد ذكر منها تأويل الرؤيا وتأويل الطعام ، وطبعا منه تأويل الأعمال والأحكام ، حيث الرسول يعرف مآخذ الأحكام ومآلاتها ، فله تفسير التأويل توسيعا وتطبيقا لنصوص الأحكام.

ثم الصور التي يراها الإنسان في يقظته كما في منام هي من ضمن هذه الأحاديث ، قد علّم من تأويلها كصور الرؤيا ، أترى أن الصور التي هي كاذبة لا تحدّث عن واقع ، لها ايضا تأويل كما للصادقة حتى يعلمها يوسف كلها؟ اجل ولكن الصورة غير الصورة ، فالكاذبة تأويلها الحالة الخاصة التي عليها الإنسان ، المتخلفة عن الواقع ، ام والجو الكاذب المحيط بالإنسان أما ذا من غير الواقع ، تأويل حسب واقعه حقّا أو باطلا.

٢٦

ومن ثم (وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) علّة سلطته الزمنية إضافة.

الروحية حتى يتمكن من تمكين الدين وفي جو الفراعنة المتخلف عن الدين ، أماهيه من إتمام النعمة وكما أتمها الله على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بفتح مكة.

ويا له ترتيبا رتيبا في واقعه : اجتباء للرسالة ، ثم تعليما من تأويل الأحاديث كمنفد منقذ عن السجن ، ثم (يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بسلطة زمنية (كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ) أتمها من قبل ـ على أبويك من قبل ، فلست بدعا ممن أتم الله نعمته عليه (إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)(٦).

والنعمة هي الحالة الحسنة بخلاف النعمة ، فانها السيئة : (ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) (٧٣ : ١١) والمادة في الحالتين واحدة من علم او سلطة او مال وبنين امّا هيه من وسائل الحياة ، فإذا استخدمت في طريق السعادة ، فهي نعمة ، ام في طريق الشقاوة فهي نقمة ونعمة

و «نعمة» هنا هي الخاصة بالمرسلين من عصمة أمّاهيه ، فإتمامها هو بروزها تطبيقا لشرعة الله في واقع الحياة في دولة الحق على دويلات الباطل ، التي هي ويلات على الحق!.

وكأن تعليم الأحاديث هو من خلفيات الاجتباء فانه إخلاص واصطفاء ، وكلما كان الإنسان أخلص لله وأصفى كان علمه بتأويل الأحاديث اكثر وأوفى ، فليكن ابراهيم وإسحاق ويعقوب ممن علّمه من تاويل الأحاديث : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) (٣٨ : ٤٦) وقد أوّل يعقوب أوّل ما رأى يوسف من الرؤيا فكان كما أوّل دون أية ليت او لعل ، ثم وإتمام النعمة له صورة شتى تعم السلطة الزمنية كما في يوسف وداود وسليمان ومحمد (صلى الله عليه وآله

٢٧

وسلم) والقائم المهدي من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذه من الصور الظاهرة ، ثم صور أخرى تناسب كافة الأصفياء الأوفياء.

ومن إتمام النعمة في الرسالة دوامها فيمن يحملونها دونما انقطاع ، تخليدا لدولة الحق في السلطة الرسالية ، وكما تمت يوم الغدير بانتصاب الأمير ، وقد قال عنه العلي القدير : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (٥ : ٣) فإنه يوم تقرير المصير في استمرارية هذه الرسالة السامية لو حملتها حملتها الرساليون الرسوليون كالإمام علي (عليه السلام) والأحد عشر من ولده المعصومين (عليهم السلام) ثم فقهاء الأمة الأمثل منهم فالأمثل ، وبالأحرى الشورى القدسية بين الرعيل الأعلى أحكاميا وسياسيا لإدارة أمور الامة على ضوء الكتاب والسنة.

وهب هم الأصفياء ، أتم نعمته عليهم ، فمن هم «آل يعقوب» بجنب هؤلاء الأربعة الطاهرة : ابراهيم وإسحاق ويوسف ويعقوب؟

علّهم يعقوب ومن معه من نسله ، نبيا وسواه ، او سويا على صراط الحق وسواه ، فلا يعني إتمام نعمة الرسالة على آل يعقوب وهم إسرائيل وبنوه ، أنهم كلهم رسل تمت النعمة فيهم : (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) (٤٥ : ١٦) فالنعمة الأصيلة وهي الرسالة ، وإتمام هذه النعمة ، هما في أشخاص الرسل الإسرائيليين ، ومن ثم على المرسل إليهم الأول وهم آل إسرائيل مهما صدقوها أم كذبوها : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (٢ : ٤٠) ولكن اصل النعمة هي للذين أنعم الله عليهم : (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ) (٤ : ٦٩) مهما كان الأصل فيهم الأولون : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ..) (١٩ : ٥٨) إذا فآل يعقوب في إتمام النعمة هم الأنبياء الإسرائيليون من

٢٨

يوسف ، وموسى وعيسى ومن بينهما من داود وسليمان أمّن ذا؟ ثم وآله في شمول هذه النعمة هم المؤمنون منهم ، ومن ثمّ الكافرون حيث اتجهت إليهم وان لم يتجهوا.

هذا إجمال عن أحسن القصص ، وهنا يسدل عليه الستار إلى مشهد التفصيل :

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ

٢٩

الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ

٣٠

عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(٢١)

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ)(٧) :

«لقد» تاكيدان اثنان لما «كان» في سالف الزمان (فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ) منذ قصصهم إلى ما طلعت الشمس وغربت ، آيات دائبة مرّ التاريخ في مثلث الزمان لكل سائل عن قصصهم بآياته :

«آيات» وأمارات كثيرة في حظيرة الصدّيق مع إخوته الحاسدين عليه الحاقدين ..

نرى هنالك آيات قدرته الرحيمية على من أخلص له ، فكلما كيد كيد من إخوته ومن السيارة ومن العزيز وامرأته أمّن هو ، كاد الله له عليهم بعكس ما لديهم (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

وبجنبها آيات نقمته وإذلاله على من يريدون بمن أخلص الله سوء : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ).

وبينهما آيات عزته في عبده إذ لم تحوّله مضادات التحولات ، فهو في السجن كما هو على عرش الملك ، وهو في قصر العزيز كما هو في الجب ، له سيرة واحدة ، واتجاه واحد صامد رغم مختلف الصور والظروف المتهافتة المتفاوتة : (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) ثم وآيات تلو آيات تأتي في طيّات الآيات ، .. آيات للسائلين :

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(٨) قولتهم هذه لا سواها تلمح لمسرح من مزيد الحب من أبيهم ليوسف

٣١

وأخيه ، ولو كان الحسد الباعث لما انبعثوا هو من تلك الرؤيا ، لكانت أحق بالذكر بلاغة في ذلك المسرح ، ودون ذكر لاخي يوسف إذ لا تشمله رؤياه ، ولكنهم يتحدثون عن (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا ..) ولو كانوا يعلمون رؤياه لكانت أحرى بذكرهم إياه فقط ، وأدعى أن تلهج ألسنتهم بحقدهم.

فإنما ملامح الحب ـ فقط ـ ومسارحه او مصارحه هي الباعثة لقولتهم هذه وفعلتهم ، ولا سيما أن الحب أصبح يزيد ـ بطبيعة الحال ـ لمكان رؤياه ، فقد حان ـ إذا ـ حين كيدهم له كيدا (إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

ثم «وأخوه» هنا دون «أخونا» تلمح أنه وإياه كانا من أم أخرى ، ولأنه الأكبر ، والحب الأبوي له أكثر ، لذلك يتوحد كيدهم عليه دون أخيه ، إذ لا مكان له دونه كما كان (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ).

(لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ..) : جماعة يتعصب بعضنا لبعض فان أمنا واحدة ، ولأننا كثرة وهما قلة ، فنحن ـ إذا ـ مجموعة قوية تدفع وتنفع وأقوى منهما في بعدين اثنين ، ولو كان أبونا يعرف صالحنا وصالحه لكان يحبنا أكثر ، أم ـ لأقل تقدير ـ لم يفرق بيننا ، ففي ترجيحه المرجوح على الراجح والمفضول على الفاضل ضلال وزلة : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ضلال مؤكّد بحر في التأكيد ، يبين نفسه بما أبان من حبه لهما أكثر منا.

نحن العصبة القوية ندير شؤون حياة العائلة إيكالا وكلّا وهما صغيران ليس لهما دور فيها إلّا أكلا وكلّا ، فلما ذا ـ إذا ـ هما أحب إلى أبينا منا ، وهذا ضلال مبين عن صراط الحياة البيتية والاجتماعية ، مهما كان أبونا نبيا مهديا في الحياة الروحية.

أترى ان ذلك الحب الأبوي الزائد كان ـ فقط ـ لأنهما صغيران؟ وهو سنة

٣٢

دائبة في كل الآباء والأمهات بالنسبة لصغار الأولاد ، فلا يحسدهم الكبار على ذلك فانه تودد الترحم والتعطف لمكان ضعف الطفولة! وانهم استندوا في ضلال أبيهم المبين إلى كونهم عصبة ، فهو ضلال مبين ـ إذا ـ في نسبة أبيهم إلى ضلال مبين ، حيث الأخ القوي الكبير لا يحسد الضعيف الصغير ، ولا يتوقع لنفسه حب الطفولة كما للصغير ، إلّا إذا غرب عقله وطفلت نفسه وهذه مهانة بارزة .. وكلّ يذكر طفولته ورجاحة المودة الأبوية فيها ، فليسا هما بدعا من الإخوة الأطفال ينحو نحوهما الوالد الرحيم ويحنو لهما أكثر من العصبة ، فهو ـ إذا ـ صراط مستقيم في جو العائلة وليس من الضلال المبين!

إنما ذلك كان حبا زائدا فوق رحمة الطفولة ، حب يكشف عن لباقة زائدة فيهما ومستقبل زاهر ليس فيهم ، حب دائب يزيد على مرّ المزيد من عمرهما ، ولا سيما يوسف لمكان رؤياه تلك التي أوّلها باجتباء وعلم وتمام النعمة ، وقد نستلهمه من لام البداية التأكيد (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ) مما يلمح بدوام ذلك الحب دون زوال.

فقد كان حبا يتخطى رحمة الآباء على الأطفال ، ويحلّق على كل حب في كل مجال ، فإنه ـ فقط ـ حب رسالي في الله ، وبأمر الله ، دون الحب السائر الدائر قضية الأنساب والأسباب ، إلّا سببا إلهيا يحلّق على كافة الأسباب! فهو حب رسالي لا أبوي!

ذلك الحب الجذري اللائح لهما ، الدائب فيهما ، هو الذي يجعلهم يحسدونهما ، لحدّ المكيدة في قتل الأحب منهما.

أتراه كان بإمكانه إخفاء ذلك الحب اللائح في مقاله وحاله وأفعاله ، ولكي يحافظ على محبوبه ، كما هو الأصلح في الحفاظ على المحبوب؟.

٣٣

كلّا حيث الحب يلمح ويرشح مهما كانت الحائطة على إخفاءه ، ولا سيما في حضن العائلة ، فالحب المترسب يتسرب ، كما الكوز يرشح بما فيه.

أترى ـ بعد ـ الضلال المبين هو ضلال في الدين؟ والبينّ من طيات محاوراتهم طول قصصهم أنهم كانوا من المؤمنين ، معترفين أن أباهم من النبيين ، فكيف ـ إذا ـ بالإمكان ان ينسبوا أباهم الى ضلال مبين في الدين؟ انما هو الضلال عن صراط الحياة الظاهرية ، والمصلحية العائلية ، ان يكونا وهما صغيران ، لا يقويان على امر لصالح العائلة ، يكونا أحب الى أبينا منا بلا اي سبب ، حيث الرجاحة المعنوية لهما كانت عنهم خفية ، ام لائحة لا يرضون بها لأنهم وهم عصبة أحرى في زعمهم بتلك الرجالة ، وهذه وتلك (ضَلالٍ مُبِينٍ)! قد يزول بزوال الموضوع (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) ولو كان ـ في زعمهم ـ ضلالا في الدين ما زال بزوال يوسف وبنيامين!

ام تراهم ـ بعد ـ انهم كانوا من النبيين ، والحجج متصارعة في هل أنهم من المؤمنين أم من الكافرين ، لو لا تصريحات بطيات الآيات أو تلويحات أنهم كانوا من المؤمنين ، وليسوا هم من الأسباط حتى يشملهم وحيهم : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً. وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (٤ : ١٦٤).

فالأسباط هم من الرسل دون الأبناء إلّا يوسف ، حيث السبط فتحا انبساط في سهولة ، ويستعمل كسرا في ولد الولد لأنه انبساط من النسل ، ويستعمل في كافة الأحفاد بوسيط أم وسائط : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) (٧ : ١٦) ولم يكن ولد يعقوب لا أسباطا ولا أمما!

وهب إن قيلة النبوة المفرطة فيهم باطلة كقيلة الكفر المفرّطة والصواب هو

٣٤

العوان بينهما : الايمان : أو ليس المؤمن برسول إذا هتكه خرج عن الإيمان ، وارتد عن كتلة المؤمنين؟ ونسبة الضلال المبين الى النبيين مهما لم يكن ضلالا في الدين ، هي أسوء

هتك وأنحس مسّ من كرامتهم! بل هو بالمآل ضلالا في الدين ، حيث الدين يحلّق على كافة العقائد والأعمال ، فلم يكن يوسف وأخوه أحب إلى أبيهم منهم إلّا قضية الدين ، والضلال لهم على أية حال خلاف العصمة ، وقد كان يعقوب من المخلصين : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) (٣٨ : ٤٦) والضلالة غواية على أية حال ، والشيطان (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣٨ : ٨٣)!.

ولكن كل ذلك لا يثبت عليهم الكفر الصراح ، إلّا جهالة في الدين ، ونقصانا في اليقين ، ولئن ارتدوا بذلك ، فقد استغفروا الله بعد كما استغفر لهم يوسف ويعقوب ، والمرتد عن فطرة لا تقبل توبته ، فكيف استغفر لهم كما استغفروا هم أنفسهم ، فلم يكن بذلك الارتداد الكافر ، وإنما عصيان عظيم عظيم على جهالة بشأن النبوة السامية! بزهوة القوة العصبة ودافع الحسادة.

هؤلاء الإخوة العشرة العصبة لم يتحملوا ذلك الحب المتميز ليوسف وأخيه ، وحسبوه ضلالا مبينا في حقل الحب ، دون أي سبب أم سبب بزعمهم مزعوم ليعقوب ، وكما (قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ)(٩٥).

لقد نزغ الشيطان بين يوسف وإخوته حيث بزغ في حلومهم استغلالا لذلك الحقد الركين ، حيث على وغلى في مرجله وانتقل من سهله البادي الى معضله حتى تآمروا عليه فيما بينهم لمّا لم يجدوا سبيلا إلى قلب أبيهم تقبّلا منهم فتقلبا إليهم :

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ

٣٥

بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ)(٩).

وهذه مؤامرة ثانية في المؤتمر الذي عقدوه على ما حقدوه ، والرأي المشترك هو نفي يوسف عن محضن العائلة : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ)(١٠٢).

مهما اختلفوا في شاكلة أمرهم الإمر قتلا او طرحا له أرضا بعيدة لن يصلوا إليه ولن يصل إليهم :

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً) فان فعلتموه (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ) كأنه حين يغيب عن بصره يغيب عن قلبه وبصيرته ، فيصبح قلبه خاليا عن حبه فارغا إليكم ، ثم (وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) لتمام الحب من أبيكم ، متفرغين إلى صالحكم العائلي ومحضن الحنان الأبوي دون معارض فيه ولا مشاغب.

أترى بعد «صالحين» يعني فيما عناه «صالحين» بالتوبة عما أذنبوا؟ كأنه لا ، حيث (تَكُونُوا ..) جزاء ثان للأمر : (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ) المؤول إلى شرط : إن قتلتموه او طرحتموه (أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ) وليس صلاح التوبة من نتائج الجريمة ، ولا نراهم استغفروا «من بعده» وانما استغفروا توسلا إلى أبيهم : (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ. قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ..) (٨) وكما وعدهم يوسف من قبل : (قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) (٩٢) وليس ذلك «من بعده» إلا من بعد بعيد ، وبعد أن عرفوا أنهم ليسوا بعده ، بل هو قبلهم ومعهم وبعدهم عزيز آثره الله عليهم (لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا ..)(٩١).

لا فقط لم يكونوا ليستغفروا «من بعده» بل وأصروا واستكبروا استكبارا قبل تبيّن أمره ، حيث قالوا لأبيهم حين قال (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ

٣٦

تُفَنِّدُونِ ، قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ)(٩٥)! فأين (تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ)؟

ثم (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) (٤ : ١٧) وهؤلاء عملوا السوء دون جهالة ، حين يعني من «صالحين» صلاح التوبة ، ثم ولم يتوبوا من قريب ، ولكن الله تاب عليهم لما استغفر لهم يوسف وأبوه.

ولئن عنى «صالحين» فيما عنى صلوح التوبة ، كان معنى ضمنيا لا يصلح استقلاله ولا مساواته لمعناه ، وليست التوبة نتيجة الجريمة ، ولا أنها تقبل في هذه الجريمة العامدة الهاتكة بكل مكيدة حتى على الله ، أننا نعصيك ثم نستغفرك!

(قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (١٠).

هذا القائل هو أعقلهم وأرحمهم بالأخ الصغير ، وأحوطهم عليه ، حيث يرتإي بما ليس فيه فوت ولا موت ، وإنما نفي عن محضن العائلة ل (يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ..) وإذ ليس القتل والطرح الذي مآله القتل هو العلاج الحاصر ، فإلى الرأي العوان بين القتل والطرح.

إنه يبدي رأيه بكل حائطة ، لأنه ـ فقط ـ واحد من العشرة ، لذلك يبديه مشككا غير قاطع ، تحويلا عما اعتزموا لعلهم يرجعون ، كما تلمح له (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) وكما نراهم لم يجمعوا على رأيه إلّا بعد ما ذهبوا به : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ..) وقد يعنى التشكيك أصل التصميم في نفيه كأنه لا يرضاه ، فان كان ولا بد لا تقتلوه وألقوه ..

٣٧

فبالفعل ـ وقبل ان يجمعوا في امره ـ هم مجمعون على أن يذهبوا به ، وها هم أولاء يحتالون على أبيهم كيف يستلبونه منه.

وتعريف «الجب» دون «جب» دليل أنها كانت معروفة لديهم ، جب لها غيابت ، هي ممر السيارة ، مهما كانت جب القدس أمّاهيه.

والجبّ ، هي البئر التي لم تطو ، وهي الجيدة الموضع من الكلإ ، وهي الكثيرة الماء البعيدة القعر ، وهي التي وجدت دون ان يحفرها الناس.

وغيابة كل شيء قعره ومنهبطه ، أترى جب يوسف هي الكثيرة الماء البعيدة القعر فألقي في قعرها؟ وهذا أقرب إلى قتله من طرحه أرضا حيث يغرق في قعرها دون ريب! بل هي القريبة الماء الجيدة الموضع من الكلاء ، حيث يقصدها السيارة لنزح الماء ، وليست مطوية سوية بالأحجار فلا يمكن المكوث في خلالها ، إذا فغيابتها ليست قعرها إذ يرى فيه ويظهر دونما غيب ، فانما غيابتها مكان يمكن المكوث في خلالها ، فلا يرى الماكث فيه ، وانما يرى من يدلي إليها فيدنوا هو من الدلو ويتدلى ، دون أي خطر ولا ضرر إلّا نفيا عن المحضن.

هكذا نتلمح من «لا تقتلوا .. يلتقطه» حيث القطع بسلامته هو الملتقط القاطع للمارة ، فليس إلّا في هكذا جب وغيابة.

فهنالك «اقتلوا» وهناك (اطْرَحُوهُ أَرْضاً) وهنا (أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) ولكنما الإلقاء فيها إلغاء عنه. وعن التقاطه إلّا ميتا بغرقه ، أم مصدوما مكسورا ، ولكنه لا يسطع بوحدته أمام الباقين ان يحوّل قتله إلى إبقاءه مرتاحا ، فقد جمع بين الإلقاء وغيابت الجب والتقاط السيارة ، حتى يجمعوا حلومهم فيحيدوا عن إلقاءه إلى جعله كما يحيدون عن قتله وطرحه وكما فعلوا : (وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) فانها نظرة التقاط السيارة تناسب الجعل دون الإلقاء ، وهذه حصيلة طائل الشورى وفيها عاقل ، بعد

٣٨

ثالوث القتل والطرح والإلقاء ، أن يجعلوه في غيابت الجب ، والشر في طائل الشورى ـ ان كان فيها عاقل ـ يبوء الى أقله ، والخير في طائلها إلى أكثره ، فأصل الشورى تخيّرة لصائب الرأي ، وطائلها انتقالة الى أصوبه في الصواب ، وأقله محظورا في غير الصواب.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(١٢) :

«لا تأمنا» تصريحة أنه ما كان يأمنهم عليه ، ولا يرسله معهم إلى المراعي ، والجهات الخلوية المرتادة ، حبا له وخشية عليه ، و «مالك» استجاشة لنفي هذا الخاطر الملحوظ من حيطته الدائبة عليه ، ورقابته المتواصلة له.

فهم ـ إذا ـ يلتمسون منه في حوار قاطعة طائلة ـ وبكل حائطة ـ أن يرسله معهم ، وما أبعد ذلك الحنان المحتاط عما تقوله التورات من تبذّل يعقوب يوسفه إرسالا مع إخوته الحاسدين دون أن يطلبوا ، على علمهم ـ كما تصرح ـ بما رأى من رؤياه ، ويكأنه على حبه إياه يبغضه فيهدره (١) ثم البئر

__________________

(١) كما في الاصحاح ٣٧ من تكوين التورات «ومضى اخوته ليرعوا غنم أبيهم عند شكيم فقال إسرائيل ليوسف أليس إخوتك يرعون عند شكيم؟ تعال فأرسلك إليهم فقال له : ها انا ذا ـ فقال له : اذهب انظر سلامة إخوتك وسلامة الغنم ورد لي خبرا فأرسله من وطاء حبرون فأتى الى شكيم فوجده رجل وإذا هو ضال في الحقل فسأله الرجل قائلا : ماذا تطلب؟ فقال : انا طالب إخوتي اخبرني اين يرعون؟ فقال الرجل : قد ارتحلوا من هنا لاني سمعتهم يقولون : لنذهب الى دوثان فذهب يوسف وراء اخوته فوجدهم في دوثان ، فلما ابصروه من بعيد قبل ما اقترب إليهم احتالوا له ليميتوه فقال بعضهم لبعض هوذا صاحب الأحلام قادم فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى هذه الآبار ونقول وحش ردى اكله فنرى ماذا يكون أحلامه؟ فسمع رأوبين وأنقذه من أيديهم وقال : لا نقتله وقال لهم رأوبين : لا تسفكوا دما اطرحوه في هذه البئر التي في البرية ولا تمدوا اليه يدا لكي ـ

٣٩

المطروح فيها حسب التورات كانت فارغة من الماء ، والسيارة لا شأن لها بفارغة الماء! وقد نرى إهمالات وتشويشات ، في تحريفات وتهريفات في التورات ، نأتي في الهوامش بتصريحاتها مقارنة بالقرآن طوال القصة ومثل ما في سائر القرآن كما تقتضيه مجالاته.

هنا الاخوة يحتالون بكل ما لديهم من إمكانيات ليذهبوا به ، راسمين مربعهم الكائد ليستلبوه منه :

١ ـ «مالك لا تأمنا ..»؟ ليس فينا خلاف أمنه ، فما هو عندك ٢ ـ (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) بمثلث التأكيد وفي مثلث الزمان ، فكل خالج في خلدك تخيّل وظنّة دون علة ، إذا ف ٣ ـ (أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) وكما تقتضيه حالة الطفولة ، وإذا كان معنا (وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ) فلا خوف عليه من أي مخيف ٤ ـ (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ففي (يا أَبانا) استعطاف برحمة أبويه تجمعهم في جامع واحد ، وفي «مالك لا تأمنا» استئصال لجذور المحتملات غير الآمنة ، ثم في كلّ من نصحه الدائم وحفظه معهم تأيدات ثلاث ، تصد كل منفذ في تأبّي أبيهم عن إرساله ، اللهم إلّا «إنه ليحزنني وأخاف ..» : وهو رد بطريق غير مباشر :

(قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ)(١٣) انه على علمه بميدهم في يوسف وكيدهم ، لا يصارح إخوته بعدم أمنهم خوفا عن صراح العداء فاستلابه بقوة والقضاء عليه ، وهذه سياسة حفاظية متينة مكينة ألا يصارح العدو بعدائه كيلا يصارح او يزيد في عدائه

__________________

ـ ينقذه من أيديهم ليرده الى أبيه فكان لما جاء يوسف الى اخوته انهم خلعوا عن يوسف قميصه القميص الملون عليه وأخذوه وطرحوه في البئر اما البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء؟!

٤٠