الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٣

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٠

التشريع ، ومثلث : الألوهية ـ العبودية ـ الطاعة المطلقة ، هذه خاصة بالله.

فحتى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعبد ، ولا يطاع لنفسه ، إنما كرسول : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) وليس هكذا غير الرسول ، ولا سيما إذا خالف حكم الله الذي ليس للرسول فضلا عمن سواه!.

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) أمرا شرعيا في كتاباتهم إلى أمر فطري وعقلي في فطرهم وعقولهم ، فكل الآيات الربانية ، تكوينية وتشريعية ، آفاقية وأنفسية ، معسكرة لحق كلمة التوحيد دون إبقاء.

فلا يختص الإشراك بالله بالاعتقاد بالألوهية غير الله ، ولا تقديم الشعائر التعبدية لغير الله ، بل والإشراك به في كل اختصاصة له كالتشريع ، فهؤلاء الذين أعطوا حق التشريع لأحبارهم ورهبانهم ، فقد اعتبروهم شركاء الله في التشريع ، بل ورجحوهم فيه على الله حيث اتبعوهم من دون الله ، وذلك أنحس دركات الإشراك بالله.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) به في طاعة كما في الأحبار والرهبان ، أم في عبادة كما في المسيح (عليه السلام) ، أم في ألوهة كما الخالق مثلما يقوله الثنوية القائلة بمبدئين اثنين ، والأهم هنا في هذا البين هو الطاعة الطليقة الناتجة عن العبادة الطليقة والألوهية الوحيدة الطليقة.

ذلك «فإنما ذكر ذلك في كتابنا لكي نتعظ بهم» فلا نتبع علماءنا أيا كانوا دون تثّبت ، فحين نجد فقهاءنا قد لا يعتمدون القرآن أصلا في فتياهم ، أم يخالفون تقصيرا أو قصورا نصوصا أم ظواهر مستقرة من القرآن ، دونما حجة إلّا شهرات أو إجماعات أم روايات غير مأخوذة بعين الإعتبار ، فكيف نتبعهم في سائر فتياهم ، اللهم إلّا من هدى الله جعلنا الله منهم.

فحين يقول الله (لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) فكيف ـ إذا ـ نقفوا ما نعلم تخلفه عن القرآن ، وكما هكذا (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ..)! اتخذنا نحن المسلمين أيضا علماءنا أربابا من دون الله ،

٤١

نطيعهم كما يطاع الله ، رغم أخطاءهم القاصرة أو المقصرة أمام شرعة الله ، وهكذا :

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)(٣٢).

«بأفواههم» القائلة هذه القولات المائلة ، المضاهية قول الذين كفروا من قبل ، وإطفاء نور الله وهو توحيده الحق بصفاته الحقة ، وهو شرعته الصالحة غير الدخيلة ، فهو كلما أراده الله من عباده معرفة وعملا صالحا ، يريدون ليطفئوا كل ذلك بنقاب شرعة الله ، خلقا لجو التضاد بين الدين ونفسه ، (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) المسرود في كتابات وحيه ، بالقرآن ، ونوره المرسل برسول القرآن (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ).

إن الشيطنة الكتابية المدروسة ضد كتابات الوحي ورسله (١) ، هي كتقدمه لإطفاء نور القرآن ونبيه ، ولكن الله يريد (أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) بهذه الشرعة الأخيرة المهيمنة رسولا ورسالة على كافة الرسل برسالاتهم.

وشاهدا على خصوص ذلك القصد اللعين اللئيم بين عمومه آيات الصف : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٦ : ٩).

وهنا وجه آخر في «بأفواههم» هو الإشارة إلى ضآلة المحاولة لإطفاء

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢١٠ في كتاب الإحتجاج للطبرسي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل وفيه : وقد بين الله تعالى قصص المغير بن بقوله (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ ..) يعني أنهم أثبتوا في الكتاب ما لم يقله الله ليلبسوا على الخليقة فأعمى الله قلوبهم حتى تركوا فيه ما دل على ما أحدثوه فيه وحرفوا منه.

٤٢

نور الله ، حيث النور القوي فضلا عن نور الله الأقوى ليست لتطفأ بالأفواه ، وهذا من عجيب البيان الشامل للوجهين بتصغير شأنهم وتضعيف كيدهم ، لأن الفم يؤثر في الأنوار الضعيفة ، دون الأنوار القوية ولا سيما الإلهية! ، فمن يزعم أنه يطفئ نور الشمس بفيه ففيه ما فيه فضلا عن نور الله التي أضاءها فمن ذا الذي يطفيها بفيه!.

هنا «نور الله» تعني إلى نوره خالقا ربا ، نوره خلقا كما في آية النور : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ ..) فهو ذاته نور السماوات والأرض بهداية تكوينية وتشريعية وكافة الربوبيات ، وهو في شرعته نور السماوات والأرض.

وكما هو واحد في نورية ذاته وأفعاله وصفاته ، كذلك هو واحد في نوره الرسولي والرسالي ، فإن الرسل والرسالات سلسلة واحدة موصولة مع الزمن ، متبلورة متوحدة في النور المحمدية والمحمديين من عترته المعصومين (عليهم السلام) وكما قال في آية النور بيانا لظرف مثل النور : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ. رِجالٌ ...)(١).

فالوحدة في «نور الله» هنا و «نوره» هناك ، كوحدة «رسوله» هنالك ، هي مما توحد رسالة الله على كثرتها ، حيث تتوحد في هذه الرسالة السامية المهيمنة على الرسالات كلها.

فنور الله الرسولية المحمدية لا تطفأ بما حرفوه من بشارات الوحي الكتابي ، كما أن نور الله الرسالية المحمدية لم تطفأ بما حرفوه من أحكام الله وسائر جهات اشراع الله ، حيث الهيمنة المحمدية القرآنية والقرآنية المحمدية ، قد تمت بها نور الله (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) وحاولوا ما حاولوا في إطفاءها.

لقد جهد المضللون قبل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه وبعده (٢) أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، ويأبى الله إلّا أن يتم نوره ، لا

__________________

(١) المصدر في كتاب الغيبة للطوسي (ره) عن محمد بن سنان قال : ذكر على بن أبي حمزة ـ

٤٣

فحسب أن يبقيها كما كانت ، إنما أن يتم نوره وكما أتمها على مدار التاريخ الرسالي ، ولا سيما بهذه الرسالة السامية.

ومما يبرهن على أن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، أنه :

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(٣٣).

وهكذا في الصف (٩) وفي الفتح : (.. وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) وهنا إيجابية الشهادة الربانية تكمل سلبية كيد المشركين في حقل إظهار محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على الدين كله.

__________________

ـ عند الرضا (عليه السلام) فلعنة ثم قال : إن علي بن حمزة أراد أن لا يعبد الله في سمائه وأرضه ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون ، ولو كره اللعين المشرك ، قلت : المشرك؟ قال : نعم والله وإن رغم أنفه ، كذلك هو في كتاب الله «يريدون ..» وقد جرت فيه وفي أمثاله أنه أراد أن يطفئ نور الله ، وباسناده إلى الصادق (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه (عليه السلام): وقد ذكر شق فرعون بطون الحوامل في طلب موسى (عليه السلام) : وكذلك بنوا أمية وبنوا العباس لما وقفوا على أن زوال ملكة الأمر والجبابرة منهم على يد القائم (عليه السلام) ناصبونا العداوة ووضعوا سيوفهم في قتل أهل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإيادة نسلة طمعا منهم في الوصول إلى قتل القائم (عليه السلام) فأبى الله أن يكشف أمره لواحد من الظلمة إلى أن يتم نوره ولو كره المشركون ، وفي كتاب كمال الدين وتمام النقمة مثله سواء ، وفيه عن تفسير العياشي عن أحمد بن محمد قال : وقف عليّ أبو الحسن الثاني (عليه السلام) في بني زريق فقال لي وهو رافع صوته : يا أحمد! قلت : لبيك ، قال : انه لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جهد الناس على إطفاء نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره بأمير المؤمنين (عليه السلام) ، وفيه عن قرب الإسناد للحميري معاوية بن حكيم عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : وعدنا أبو الحسن الرضا (عليه السلام) ليلة إلى مسجد دار معاوية فجاء فسلم فقال : إن الناس قد جهدوا على اصطفاء نور الله حين قبض الله تعالى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبى الله إلا أن يتم نوره وقد جهد علي بن أبي حمزة على إطفاء نور الله حين قبض أبو الحسن (عليه السلام) فأبى الله إلا أن يتم نوره ، وقد هداكم الله لأمر جهله الناس فأحمدوا الله على ما من عليكم به.

٤٤

ذلك ، ومنذ زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى الآن لمّا يتحقق ذلك الوعد الحق أن يظهر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على الدين : الطاعة ـ كله ، فقد ظهر دينه نسخا لسائر الدين منذ ابتعث ، ولكنه لمّا يظهر في واقع الحياة ظهورا قاهرا يخفق تحت ظله كل ظاهر من الدين ، ولو كان القصد ـ فقط ـ إلى جانب النسخ ، وأن شرعته تحلق شرعيا على كافة المكلفين؟ فهذا أمر حصل في كل شرعة أصلية لأولي العزم من الرسل ، دون اختصاص بهذه الأخيرة ، كما وهو أصل لهذه الأديان ، لا غاية لها ، وهنا «ليظهره» غاية ، كما وليس إظهارا بالحجة حيث يشترك معه سائر الأديان الحقة ، إذا فلتعن «ليظهره» واقع إظهاره دون أن يبقى في عالم الحكم شرعيا ، وفي عالم المثل والخيال والآمال غير الواقعة ، بل هو الإظهار واقعيا على ضوء الإظهار شرعيا ، وليس ذلك إلا في زمن المهدي القائم (عليه السلام) من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث تسيطر دولته على العالم كله ، وهناك يظهر الحق في (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)(١).

وقد لا يعني ذلك الإظهار ستار كل دين سواه إلا عن ظهورها الغالب ، فمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بقرآنه المبين سوف يظهر غالبا مسيطرا على الدين كله حين لا يبقى لها أي صوت أو صيت إلّا صوت الإسلام وصيته حيث يحلقان على العالم كله ، ثم يبقى الكل تحت ذمته.

ذلك ، والمهدي (عليه السلام) هو المعني من «ريح طيبة» على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث «يبعث الله ريحا طيبة فيتوفى من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من خير فيبقى من لا خير فيرجعون إلى دين آباءهم» (٢).

__________________

(١) لاطلاع أوسع راجع آية الصف والفتح تجدهما فيهما تفصيلا أوسع.

(٢) الدر المنثور ٣ : ٢٣١ ـ أخرج أحمد ومسلم والحاكم وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزّى فقالت عائشة يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إني كنت أظن حين أنزل الله

٤٥

وهنا «دين الحق» ـ مع أن دين الله كله حق مهما كان غيره باطلا ـ يعني «الحق» الثابت وغير المحرف قبال الزائل والمحرف ، مهما كان حقا

__________________

ـ (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) أن ذلك سيكون تاما ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : إنه سيكون من ذلك ما شاء الله ثم يبعث الله ..

وفيه أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في سننه عن جابر في الآية قال : «لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهودي ولا نصراني صاحب ملة إلا الإسلام حتى تأمن الشاة الذئب والبقرة الأسد والإنسان الحية ، وحتى لا تقرض فأرة جرابا وحتى توضع الجزية وتكسر الصليب ويقتل الخنزير وذلك إذا نزل عيسى بن مريم (عليهما السلام)» أقول : وذلك حسب متواتر الحديث عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأئمة أهل بيته (عليهم السلام) ، لا يكون إلا زمن المهدي القائم (عليه السلام) ومنها : نور الثقلين ٢ : ٢١١ في كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده إلى أبي بصير قال قال أبو عبد الله (عليه السلام) في قوله عزّ وجلّ : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ ..) فقال : والله ما نزل تأويلها بعد ولا ينزل تأويلها حتى يخرج القائم (عليه السلام) فإذا خرج القائم (عليه السلام) لم يبق كافر بالله العظيم ولا مشرك بالإمام إلا كره خروجه حتى لو كان كافر أو مشرك في بطن صخرة لقالت : يا مؤمن في بطني كافر فاكسرني واقتله.

وفيه عنه باسناده إلى سليط قال قال الحسين بن علي (عليهما السلام): منا اثنا عشر مهديا أولهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وآخرهم التاسع من ولدي وهو القائم بالحق ، يحيي الله به الأرض بعد موتها ويظهر به الدين الحق على الدين كله ولو كره المشركون.

وفيه عنه بإسناده إلى محمد بن مسلم الثقفي قال سمعت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) يقول : القائم منا منصور بالرعب مؤيد بالنصر ، تطوى له الأرض وتظهر له الكنوز ، يبلغ سلطانه المشرق والمغرب ويظهر الله عزّ وجلّ دينه على الدين كله ولو كره المشركون ، فلا يبقى في الأرض خراب إلا عمّر وينزل روح الله عيسى بن مريم (عليهما السلام) فيصلي خلفه ...

وفيه عن الإحتجاج للطبرسي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حديث طويل وفيه : وغاب صاحب هذا الأمر بإيضاح العذر له في ذلك ، لاشتمال الفتنة على القلوب حتى يكون أقرب الناس إليه أشدهم عداوة له وعند ذلك يؤيده الله بجنود لم تروها ويظهر دين نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على يديه على الدين كله ولو كره المشركون ، وفي تفسير الفخر الرازي ١٦ : ٤٠ روى عن أبي هريرة انه قال : هذا وعد من الله بأنه تعالى يجعل الإسلام عاليا على جميع الأديان وتمام هذا إنما يحصل عند خروج عيسى ، وقال السدي : ذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلّا دخل في الإسلام وأدى الخراج.

٤٦

قبال الباطل ، فالشرايع الحقة غير الإسلام ، هي مع الشرائع الباطلة ، كلها زائلة بنسخ وتحريف ـ بفارق الحق في الحقة أمام الباطل ـ وهذا (دِينِ الْحَقِّ) وفي تبديل «الدين الحق» ب (دِينِ الْحَقِّ) لمحة إلى ذلك الحق أنه ليس فقط وجاه الباطل ، بل وهو وجاه كل دين الهي منسوخ ومحرف.

فدين الحق ـ إذا ـ يحمل مثلث الحق الثابت غير المحرف وغير الباطل ، وسائر الأديان الحقة تحمل ـ فقط ـ الضلع الثالث ، وبصيغة أخرى (دِينِ الْحَقِّ) هو الحق المطلق غير الباطل ولا المنسوخ ولا المحرف ، و «الدين الحق» هو مطلق الحق قبال الباطل فقط ، ثم حق رابع هو أنه يحمل كل حق يحق تبيينه لكافة المكلفين على مدار الزمن ، فهو مربع من الحق.

ذلك ، وفي «ليظهره» دون ـ فقط ـ «ليظهر دينه» تأييد للأحاديث التي تتحدث عن رجعته (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الرجعة حيث يملك فيها العالم كله ، مهما عنى ضمير الغائب إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) دينه ، مما يشي بأن غيره (صلى الله عليه وآله وسلم) يساندونه في ذلك ، والنقطة الأولى هو المهدي (عليه السلام).

أترى الملل كلها ـ بعد ـ تسليم فلا يبقى كافر على وجه الأرض؟ إنه «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام ، إما بعز عزيز أو بذل ذليل ، إما يعزهم فيجعلهم الله من أهله فيقروا به ، وإما يذلهم فيدينون له» (١) طاعة إياه وعيشة تحت ذمته وسلطته ، وقد دلت آيتا «أغرينا ـ و ـ ألقينا» (٢) على بقاء جمع من اليهود والنصارى بكور دون دور.

فهذه بشارة سارة تتكرر في القرآن انه سيظهر دين الحق على الدين

__________________

(١) المصدر عن مجمع البيان قال المقداد بن الأسود سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : لا يبقى.

(٢) وهما وأغرينا ـ أو ـ والقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ... حيث تعنيان اليهود والنصارى ، تعني كل واحدة منهما.

٤٧

كله دون إبقاء ، فتكون ـ إذا ـ الدينونة الحقة على ضوء (دِينِ الْحَقِّ) لله وحده ، ونحن ـ إذا ـ في حق المسير إلى حق المصير ، علينا أن نتحمل ما نحمّل من أعباء هذه الرسالة السامية ، ابتداء من نقطة البدء التي بدأت منها خطوات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وانتهاء إلى نقطة الانتهاء حيث يحمل حفيده المهدي (عليه السلام) هذه الراية المظفرة ، تحقيقا لهذه الغاية القصوى والبغية الحاسمة الجاسمة ، اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه واجعلنا من أنصاره وأعوانه ومن المجاهدين في سبيل الله بين يديه ـ آمين.

ولقد تلاحقت البشارات الكتابية بهذه الميزة المنقطعة النظير لدين الحق هذا ، بما لا حول عنه إلى غيره من أديان حقة ربانية ، سردناها في كتابنا «رسول الإسلام في الكتب السماوية».

وهنا «رسوله» كما في (٨٢) أخرى تختص الرسالة الربانية بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما وأن آية الشورى تختص به الوحي أمام سائر أصحاب الوحي الرساليين : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) ثم وآية آل عمران تصرح برسالته إلى الرسل : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

ذلك ، ولأن (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ليس إلا بمهديه القائم عجل الله تعالى فرجه.

ذلك وتعريفا ب «الدين» ككل عن لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «الدين يسر» (١) و «الدين النصيحة» (١) و «إن الله يبعث

__________________

(١) مفتاح كنوز السنة نقلا عن بخ ـ ك ٢ ب ٢٩ ، نس ـ ك ٤٦ ب ٢٨ ، حم ـ ثالث ص ٤٧٩ قا رابع ص ١٥٨ و ٣٣٨ خامس ص ٣٢ قا سادس ص ٨٥ و ١١٤ و ١١٥ و ١٣٠ ـ

٤٨

لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» (٢) و «إن الدين ليأزر إلى الحجاز» (٣) وأظنه في بداية ظهور المهدي (عليه السلام) حيث يقوم من المسجد الحرام.

فقد يعني (نُورَ اللهِ) هنا ـ بعد القرآن ورسوله ـ الأنوار الإثني عشر من عترته المعصومين ، وكما يروى عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «خلقت أنا وعلي من نور الله عز وجل» (٤) وهو نور الهداية العليا ، وهو أول ما خلق الله وكما قال : «أول ما خلق الله نوري» مهما ترتبت درجات حيث «خلقت من نور الله عز وجل ، وخلق أهل بيتي من نوري وخلق محبوهم من نورهم» (٥) «فهذه خمسة أسماء مكتوبة من نور أنا المحمود وهذا محمد وأنا الأعلى وهذا علي ..» (٦).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)(٣٥).

هؤلاء الكثرة الكثيرة من الأحبار والرهبان ـ وهم عيون الأمم الكتابية ـ إنهم بديلا عن زهدهم في الدنيا وفتحهم سبيل الله (لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ

__________________

ـ و ١٦٢ و ١٨١ و ١٨٩ و ١٩١ و ٢٠٩ و ٢٢٣ و ٢٢٩ و ٢٣٢ و ٢٦٢ و ٢٨١ ط ـ ح ١٢٩٦ و ٢٠٨٦.

(١) المصدر نقلا عن بد ـ ك ٤٠ ب ٥٩ ، نس ـ ك ٣٩ ب ٢٢ ، تر ـ ك ٢٥ ب ١٧ مى ـ ك ٢٠ ب ٤١ حم ـ أول ص ٣٥١ ، ثان ص ٢٩٧ ، رابع ص ١٠٢.

(٢) المصدر نقلا عن بد ـ ك ٣٦ ب ١.

(٣) المصدر نقلا عن تر ـ ك ٣٨ ب ١.

(٤) ملحقات إحقاق الحق ٥ : ٢٥٣ و ١٦ : ١١٠ ـ ١١٤ و ٢١ : ٤٣٣ و ٤ : ٩١ و ١٥ : ١٩٩ ، ١٤٢ ، ٦٩٢ و ٦ : ٤٤٦.

(٥) المصدر ٩ : ٤٨١.

(٦) المصدر ٩ : ٢٥٣ و ٢٦٠.

٤٩

بِالْباطِلِ) بسبب الباطل ، ومصحوبا بالباطل ، وفي سبيل الباطل ، حيث لا مقابل له حقا ولا غاية حقة ، بل يقابله (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) فقد يأكلون أموال الناس دون مقابل ، وأخرى بمقابل الصد عن سبيل الله ، ولا فحسب «يأكلون» هكذا «ويصدون» بل وهم (يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) ثالوث منحوس أمام الناس وأمام الله (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ ، يَوْمَ يُحْمى ...)

وترى أن هذه الثلاثة مرفوضة محظورة ـ فقط ـ لهؤلاء الأحبار والرهبان ، وأما علماء الإسلام فلا عليهم إذا عملوا أعمالهم؟ إنهم ـ إذا ـ أنحس وأركس حيث حمّلوا ما لم يحمّله الأولون ، فقد حملوا هذه الشرعة الأخيرة المهيمنة على الشرائع كلها بأصحابها.

إذا فهذه الثلاثة هي أنحس النحس من الحرمات الكبيرة التي تفقر الناس ماليا وتقفرهم نفسيا وحاليا.

أم ترى أن الكنز من أموال الناس هو فقط محرم أم ومطلق الكنز؟ (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ..) هو بنفسه موضوع للحرمة طليق ، مهما كان أنحسه أن يكون من أموال الناس وعند العلماء فثالوث من الحرمة.

فالكنز ـ لغويا ـ هو ركام المال بجعل بعضه على بعض دونما تصريف في تجارة أو زراعة أمّاهيه من تحولات ، فهو كل مدخر من المال لا يستفاد منه إدارة لشؤون الحياة ، وإنما ركازا وركاما بغية الحاجة المستقبلة المتخيلة أمّا ذا من الحاجات الخيالية أم وواقعية بعيدة غير حاضرة وهناك من يحتاجون إلى مال يصرفونه في قوتهم أم يديرونه لإدارة الحياة فردية وجماعية ، وأمامهم ركاز وركام من الأموال الطائلة مهما أديت زكاتها ، فالمال الحلال قد يكفي لضرورة المعيشة اليومية دونما تبذير ولا إسراف فلا شيء عليه.

أم يزيد عنها ولكنه يسمد لتجارة أماهيه كرأس مال لإدارة الضرورة المعيشية ، وكذلك الأمر.

٥٠

أم هو زائد عن الحاجة المعيشية يوميا أو ورأس مال لها ، ففيه الزكاة قدر الزائد.

أم يزيد عن كل حاجة حاضرة مصرفيا ورأس المال للحصول على المصرف ، ولكنه يستعمل للحصول على الزيادة غير المحتاج إليها ، فكذلك الأمر.

أم هو ركاز لا يحتاج إليه في أية حاجة ، فيسمد مغبّة الحاجة المستقبلة المتخيلة ، وله حاجته يوميا حسب الظاهر والعادة ، أم ولا يحتاجه طول عمره أيضا ، وهو فيها كنز ، حيث الكنز هو ركام المال وركازه دونما إدارة له في عمل فردي أو جماعي ، فلينفق كله في سبيل الله ، إنفاقا لأصله ، أم عوائده إقراضا للمحاويج لكي يكتسبوا به دون أن يأخذ منهم شيئا بمضاربة أم شركة أما شابه.

وليس الذهب والفضة هنا كما في سواه مما تذكران إلا عنوانا ونموذجا غاليا للثروة دائما ، والنقد الرائج زمن نزول الوحي ، فهما تعبيران عن الثروات المحتاج إليها في إدارة شؤون الحياة ، مهما كانت أوراقا نقدية كما اليوم ، أم أراضى ومعامل وسيارات وسفن وطائرات (١) فانها حين تجمد دونما فائدة هي كنوز يجب إنفاقها في سبيل الله ، حيث هي خارجة عن حاجيات أصحابها ، فلتنفق أعيانها أو منافعها بإشغالها في سبيل الله.

وأقل الكنز ما أدي زكاته المفروضة وهو من حلّ ، وأكثره ما لم تؤد زكاته وليس من حلّ وبينهما عوان ، والكنز صادق في هذه الحالات كلها ، وهو محظور على أية حال ، لأنه هو موضوع الحرمة بصورة طليقة ، فما صدق أنه كنز شمله حكمه مهما اختلفت دركاته.

__________________

(١) كما عن الإمام الباقر (عليه السلام) انه سئل عن الدنانير والدراهم وما على الناس فقال : هي خواتيم الله في أرضه جعلها الله مصلحة لخلقه وبها يستقيم شؤونهم ومطالبهم فمن أكثر له منها فقام بحق الله فيها وأدى زكوتها فذاك الذي طلبه وخلص له ومن أكثر له منها فبخل بها ولم يود حق الله فيها واتخذ منها الأبنية فذاك الذي حق عليه وعيد الله عزّ وجلّ في كتابه : (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ ..).

٥١

وقد نظر عثمان بن عفان إلى كعب الأحبار فقال له يا أبا إسحاق ما تقول في رجل أدى زكوة ماله المفروضة هل يجب عليه فيما بعد ذلك شيء؟ فقال : لا ـ ولو اتخذ لبنة من ذهب ولبنة من فضة ما وجب عليه شيء ، فرفع أبو ذر عصاه فضرب بها رأس كعب ثم قال له : يا ابن اليهودية الكافرة ما أنت والنظر في أحكام المسلمين! قول الله أصدق من قولك حيث قال : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ..)(١) والأحاديث التي تقول المال الذي أدى زكاته فليس بكنز (٢) لا تعني النصابات المقررة المعنية من ربع العشر

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٢١٣ في تفسير علي بن إبراهيم حديث طويل وفيه نظر عثمان بن عفان ...

أقول : وهذه المحاولة الارستقراطية العثمانية تتبين أكثر حين حاول أن يسقط الواو من آية الكنز حصرا لها بأهل الكتاب حتى لا تشمله هو وأضرابه من الأثرياء.

(٢) الدر المنثور ٣ : ٣٣٢ ـ أخرج ابن عدي والخطيب عن جابر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أي مال أديت زكاته فليس بكنز» وأخرجه ابن أبي شيبة عن جابر موقوفا ، وفيه أخرج ابن مردويه والبيهقي عن أم سلمة أنها قالت يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن لي أوضاحا من ذهب أو فضة أفكنز هو؟ قال : كل شيء تؤدي زكاته فليس بكنز.

وفي نور الثقلين ٣ : ٢١٣ في أمالي الشيخ باسناده لما نزلت هذه الآية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كل مال تؤدى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وكل مال لا تؤدى زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض.

وفيه أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال : أربعة آلاف فما دونها نفقة وما فوقها كنز. وفيه عن الكافي بسند متصل عن معاذ بن كثير قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : موسع على شيعتنا أن ينفقوا مما في أيديهم بالمعروف فإذا قام قائمنا حرم على كل ذي كنز كنزه حتى يأتيه به فيستعين به على عدوه وهو قول الله عزّ وجلّ في كتابه «والذين ...» أقول : هذا حكم مصلحي في تجزءة حكم الآية حفاظا على حاجيات الدولة الإسلامية الكبرى إذا قامت ، وهدما لدويلات الجور بترك مساعدتها من زائد الإنفاق من الكنوز ، ولكن فيه أن سبيل الله لا تختص بما تقرره الدولة. وفيه عن أبي جعفر (عليهما السلام) في الآية فإن الله حرم كنز الذهب والفضة وأمر بإنفاقه في سبيل الله وقوله : يوم يحمي عليها ... قال (عليه السلام) كان أبو ذر الغفاري يغدو كل يوم وهو بالشام فينادي بأعلى صوته : بشر أهل الكنوز بكيّ في الجباه وكي بالجنوب وكي بالظهور أبدا حتى يتردد الحر في أجوافهم.

٥٢

__________________

ـ وفيه عن الخصال عن الحارث قال قال أمير المؤمنين (عليه السلام) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم وهما مهلكاكم.

وفي الدر المنثور ٣ : ٢٣٣ ـ أخرج البخاري ومسلم وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا جعلت له يوم القيامة صفائح ثم احمي عليها في نار جهنم ثم يكوي بها جبينه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنته حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله أما إلى الجنة وأما إلى النار.

وفيه أخرج أبو يعلى وابن مردويه عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يوضع الدينار على الدينار ولا الدرهم على الدرهم ولكن يوسع الله جلده فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ..».

وفيه أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال : الدينار كنز والدرهم كنز والقيراط كنز.

وفيه أخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وابن مردويه عن ثوبان قال كان نصل سيف أبي هريرة من فضة فقال له أبو ذر أما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ما من رجل ترك صفراء ولا بيضاء إلّا كوي بها؟

وفيه أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أمامة قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول : ما من أحد يموت فيترك صفراء أو بيضاء إلا كوي بها يوم القيامة مغفورا له بعد أو معذبا.

وفيه أخرج أحمد في الزهد عن أبي قال : ذو الدرهمين أشد حبسا من ذي الدرهم.

وفيه أخرج البخاري ومسلم عن الأحنف بن قيس قال : جلست إلى ملأ من قريش فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة حتى قام عليهم فسلم ثم قال : بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه فيتدلدل ، ثم ولى وجلس إلى سارية وتبعته وجلت إليه وأنا لا أدري من هو فقلت لا أرى القوم إلا وهو كرهو ما قالت ، قال : إنهم لا يعقلون شيئا قال لي خليلي ، قلت : من خليلك؟ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أتبصر أحدا؟ قلت : نعم قال ما أحب أن يكون لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير وإن هؤلاء لا يعقلون إنما يجمعون للدنيا والله لا أسألهم دنيا ولا استفتيهم عن دين حتى ألقى الله عزّ وجلّ.

أقول : لقد آل أمر أبي ذر في تشدده على الأثرياء لحد شاع وضاع بين المسلمين فاعتذر له ما أخرجه أحمد والطبراني عن شداد بن أوس قال : كان أبو ذر يسمع من رسول الله (صلى

٥٣

إلى العشر وإلى الخمس ، بل هي مطلق الزكاة الشاملة للعفو ، وهو الزائد عن مؤنة سنته ، أم ولا أقل من أداء كل واجب في المال نفقة وكفارة ودية أماهيه من واجبات مالية ليست لتنحصر في الزكاة المعروفة ، اللهم إلّا ألا تعني الزكاة كلها ، فهي إذا تشمل الزائد عن المؤنة ، سواء أكان من نصاب الزكوة أمّن سواها من واجبات مقدرة وسواها.

فادخار المال محظور في شرعة الله على أية حال ، وهناك سبيل الله بحاجة إلى مال ، سواء في الحاجات الشخصية أو الجماعية للدولة الإسلامية ، ف (لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) (٤ : ٥) مما تمنع عن المال غير القائم بإصلاح الحياة ، فلا يصلح الكنز وهناك عطلة لحياة فردية أو جماعية لآخرين.

فما صدق أنه كنز مدخر ركام ، ما قل منه أو كثر ، فهو مصداق التنديد في آية الكنز ، وما لم يصدق أنه كنز كالأموال التي تدار بإدرار العوائد خاصة وعامة ، فهو خارج عن الآية ، مهما دخلت في محظور آخر كالذي لا تؤدي زكاته ، أم في تصرفه وتصريفه وتداوله إجحاف بحقوق الآخرين ، أم تبذير أو إسراف وما أشبه من محظور ، فقد يجوز أن تبقي من المال الحلال بقية ليوم فقرك أم للوارث إذا لم يكن كنزا كما في حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم» (١) ولكنه محدد بالعفو ، ما زاد ـ لأكثر تقدير ـ عن مثلث

__________________

ـ الله عليه وآله وسلم) الأمر فيه الشدة ثم يخرج إلى باديته ثم يرخص فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك فيحفظ من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك الأمر الرخصة فلا يسمعها أبو ذر فيأخذ أبو ذر بالأمر الأول الذي سمع قبل ذلك.

وفيه أخرج الحاكم وصححه وضعفه الذهبي من أبي سعيد الخدري عن بلال قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا بلال الق الله فقيرا ولا تلقه غنيا ، قلت : وكيف لي بذلك؟ قال : إذا رزقت فلا تخبأ وإذا سئلت فلا تمنع ، قلت : وكيف لي بذلك؟ قال : هو ذاك وإلّا فالنار.

(١) المصدر عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ..) كبر ذلك على المسلمين وقالوا ما يستطيع أحد منا لولده ما لا يبقى بعده فقال عمر أن أفرّج عنكم فانطلق ـ

٥٤

حاجيات الحياة ، أولاها حاضرك ، ثم مستقبلك ومن ثم وارثك ، ولكنما الآخران هما نافلتان ـ شرط كونهما متعودين للعقلاء المتشرعين ـ لا دور لهما إلّا إذا لم تكن حاجة ضرورية لسبيل الله ، فإنها تتقدم عليهما مهما تأخرت عما يحصل من حاجيات ، حيث الحاجة الحاضرة الأكيدة في الحق الإسلامي تتقدم على المستقبلة ولا سيما المظنونة.

ولقد كان يحاول اختصاص التنديد في آية الكنز بأهل الكتاب ذودا عن المسلمين ، ومن ذلك محاولة الخليفة عثمان إسقاط الواو عن (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ..) فهدّد في ذلك فتركها (١).

أجل وان آية الكنز هي من أهم ما تضيّق كل المخارج على الكانزين

__________________

ـ عمر واتبعه ثوبان فأتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : يا نبي الله أنه قد كبر على أصحابك هذه الآية ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم وإنما ... ثم قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته» وفيه عن ثوبان لما نزلت هذه الآية كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض أسفاره فقال بعض أصحابه لو علمنا أي المال خير فنتخذه فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) : أفضله لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة مؤمنة تعينه على إيمانه ـ وفي لفظ ـ تعينه على آخرته.

(١). وهذه المحاولة ظاهرة مما سئله عثمان كعب الأحبار فصاح عليه أبو ذر الغفاري كما مضى ، وفي الدر المنثور أخرج ابن الضريس عن علياء بن أحمر أن عثمان بن عفان قال لما أراد أن يكتب المصاحف أرادوا أن يلقوا الواو التي في براءة «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ..» قال لهم أبي لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقوها. أقول وحفاظا على ذلك يقول السدي فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم في الآية : هؤلاء أهل القبلة ، وفيه أخرج ابن سعد وابن أبي شيبة والبخاري وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن زيد بن وهب قال : مررت على أبي ذر بالربذة فقلت : ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال : كنا بالشام فقرأت «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ ..» فقال معاوية : ما هذا فينا هذه في أهل الكتاب ، قلت أنا : أنها فينا وفيهم.

وفيه أخرج مسلم وابن مردويه عن الأحنف بن قيس قال : جاء أبو ذر فقال : بشر الكانزين بكيّ من قبل ظهورهم يخرج من جنوبهم وكي من جباههم يخرج من أقفائهم فقلت ما ذا؟ قال : ما قلت إلّا ما سمعت من نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم.

٥٥

لأموالهم ما صدق كنز ، مهما أدى زكاته الأدنى من ربع العشر إلى العشر وإلى الخمس ، فإن واجب «العفو» قائم ـ بعد ـ على ساقه يطالب كل كانز وسواه بما زاد عن مؤنته لمؤنة الفقراء وسائر المصاريف الثمانية ، التي لا تزال بحاجة إلى مزيد الإنفاقات ، لا سيما وأن البخلاء كثير وأهل الخير قليل.

وألفاظ الآية هي مما تثبت حرمة الكنز على أية حال ، سواء المؤدى زكاته أم سواه ، مهما كان الأول أخف محظورا.

ف «يكنزون ..» تعطي موضوعية ثابتة لعنوان الكنز على أية حال ، ثم (وَلا يُنْفِقُونَها) دون «لا ينفقون منها» برهان ثان على اجتثاث الكنز أيا كان ، فلو كان القصد إلى واجب الزكاة بالنصابات المقررة لكان النص «ولا ينفقون منها».

ومن ثم (فِي سَبِيلِ اللهِ) وهي بحاجة على طول الخط إلى إنفاقات ولحد «العفو» برهان ثالث على محاربة أصل الكنز ، فالتكاليف المالية التي تحتاجها (سَبِيلِ اللهِ) في كافة وجهاتها ، إنها ليست لتقف لحد ولا سيما الدعوة الإسلامية العالمية التي تتكلف عشرات أضعاف سائر التكاليف الفردية والجماعية للكتلة المؤمنة.

فكيف ـ إذا ـ يسمح بكنز الأموال وهناك فراغات دعائية بين مستضعفي المعمورة ، المبتلين بالدعايات المضللة المضادة للإسلام.

أم هل تكفي الزكوات المرسومة من التسعة ، أم والواسعة التي تحلّق على كافة الإنتاجات ، هل تكفي هي لواسع الحاجيات المترامية الأطراف للدعايات الإسلامية العالمية.

كلا! فما دامت حاجة في سبيل الله على درجاتها فالواجب إنفاق الأموال الزائدة عن الحاجيات الضرورية فيها وإن لم تكن من الكنوز ، فضلا عنها.

ومن ثم ف (يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها) دون بعضها غير المزكاة ـ دليل رابع على هذه الشمولية ، ثم (فَتُكْوى بِها) ككلّ و (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ

٥٦

فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) خامس وسادس من عساكر البراهين الساطعة في آية الكنز على واجب استئصاله في سبيل الله ما لزم الأمر ، ومما تشبه آية الكنز هي آية الطوق : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٣ : ١٨٠) ومن أصدق المصاديق ل (ما بَخِلُوا بِهِ) هو الكنز.

ذلك ، ولأن وضع المال في تكوين الله وشرعته ليس إلّا قياما صالحا للحيوية الإنسانية العادلة الفاضلة : ف (أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) حيث «جعلها الله مصلحة لخلقه وبها يستقيم شئونهم ومطالبهم» (١) فكل مال لا يستفاد منه فهو كنز ، سواء الركام الذي لا يدار في عمل ، أم يدار ولكن فائدته تصبح ركاما على ركام إذ لا يحتاجه صاحبه أم هو فوق حاجته المشروعة ، فواجب إنفاق الكنز يشملهما ، مهما عم إنفاق منافعه إلى إنفاق أصله ما يصدق أنه مصروف في سبيل الله.

فالمال على أية حال لا بد أن يكون دولة بين الناس ككل قدر المساعي والحاجات ، ف (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) ضابطة سلبية تفرض إيجابية الدولة المطلقة للمال ، فالمال المركوم في أصله أم في عوائده محظور في شرعة الله يجب إنفاقه في سبيل الله أصلا أم فائدة. فتضخّم الثروات غير مسموح في شرعة الله وهناك بطون غرثى لا عهد لها بالشبع ولا طمع لها في القرص.

وحصيلة البحث في آية الكنز هي أن كنز الأموال والثروات محرم مطلقا ، ولا خراجها عن كنزها طريقان اثنان ، إنفاقها بأعيانها في سبيل الله ، أم إدارتها لصالح المحاويج فإنفاق منافعها في سبيل الله ، ولكن نص الآية هو الطريقة الأولى تحللا عن أصل الكنز بفصله عن ملكته.

صحيح أنهم إن كنزوا ولم ينفقوا كانوا أعصى لله مما إذا لم يكنزوا

__________________

(١). في الأمالي عن أبي جعفر (عليهما السلام) يقوله بشأن الأموال.

٥٧

ولم ينفقوا ، أم أداروها وأنفقوا من عوائدها ، ولكن «يكنزون ولا ينفقون» تفرض إنفاق الكنز بأصله.

فأما الذي لم يكنز ، وإنما أدار المال الزائد عن حاجته فأنفق من عوائده فقد لا تصدق عليه هذه الآية.

أم يقال إن إنفاق الزائد عن الحاجة في سبيل الله هو واجب الإنفاق ، فالإبقاء على هذا الزائد وان لم يكن كنزا محظور وإن لم تشمله آية الكنز ، فإنه مشمول لآية العفو (يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ).

إذا فالمحظور الأول هو ترك إنفاق العفو ، ثم الشديد هو ترك إنفاق الكنز.

وفي كنز المال عدة أخطار ، كعدم التنقل بفائدته ، وعدم الظهور بعائدته ، على أنه الزائد غير المحتاج إليه ، فذلك الثالوث يجعل من المال المكنوز وبالا على أية حال.

والذهب والفضة هنا لا تعنيان إلا الثروة المالية التي هي المدار في حاجيات الحياة ، فكنزها وهي تمجيدها محظور أوّل ، وعدم إنفاقها في سبيل الله وهي الزائدة عن حاجيات الحياة محظور ثان ، وكونه حكرة لأصول الأموال محظور ثالث ، فثالوث المحاظير تجعل الكنز للأموال من أشد المحاظير كما تنطق بها آية الكنز نفسها.

إذا فكل مال لا يحتاجه صاحبه لحياته المتعودة يوميا ورأس مال أم ليوم فقره ولورثته ، لا بد وأن يحتاجه في سبيل الله ، وهذا أقل تقدير في الكنز.

ثم عليه أن ينفق ما يتركه لورثته إذا كانت حاجة حاضرة متأكدة إسلامية ، فإنها تتقدم على المستقبلة المظنونة.

ثم عليه أن ينفق ما تركه ليوم فقره وبؤسه بنفس السند ، وهذا هو المعني من إنفاق العفو عند الحاجة لسبيل الله ، وهي دوما بحاجة إلى بذل الأموال كما تحتاج إلى بذل النفوس وطاقاتها ، مهما اختلفت درجات الحاجات فاختلفت درجات الانفاقات لزوما ورجحانا.

٥٨

ولقد كانت آية الكنز عبئا على جماعة من الأثرياء وأتباعهم لحد عزموا على حذف الواو منها لكي يختص حظره بالأحبار والرهبان ، ومن ثم اختلقوا أحاديث في اختصاصه بمن لم يؤد زكاته ، ولكن الآية بنصها أو ظاهرها كما النص إجابة عن تأويلاتهم وكل ويلاتهم على الكنز ، إجابة صارمة لا قبل لها إلا ترك الآية وراءهم ظهريا.

فالكنز على أية حال محظور ، والتبذير والإسراف وصرف المال في محرم أو في غير المصلحة محظور ، وترك الإنفاق عفوا منه محظور ، ولا يحق لأصحاب الأموال أن يجمعوا أموالا وبجنبهم فقراء أم فقر في سبيل الله.

(يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) يحمى على أصل الذهب والفضة كرصيدين لكل الأموال ، أم يحمى على أصول الأموال أيا كانت حيث الأجسام في الجحيم غيرها هنا وكما الأبدان.

(فَتُكْوى بِها ..) وإنما خصصت هذه الثلاثة بالكي؟ لأنها كانت مسجودات لأصحابها خارجة على كونها ذرائع للعيشة ، وسنادات لجنوبهم وظهورهم ، ففي كنز المال دونما إدارة لشؤون الحياة إخراج له عن الوسيلة إلى الأصل ، وكأنه يعبد فكي للجباة ، ثم يعتمد عليه كما يعتمد الظهر على عماد فكي للظهور ، ثم اعتماد عليه كهامش الحياة استرواحا إليه فكي للجنوب ، ومن هذه الثلاثة يدخل النار في الأجواف ، فيقال : (هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) إشارة إلى الكنز أيا كان ، كنزتم لأنفسكم لمستقبلكم الموهوم يوم الدنيا ، أم ولحياتكم الأخرى (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) ذوقا لملكوتها التي حولتموها إليها.

ذلك لأن المال في وصفه تكوينا وتشريعا ليس إلا ذريعة لإدارة شؤون الحياة بصورة عادلة وفاضلة ، إذا فتمجيدها عن الحركة الحيوية اعتبار لها كأنها أصل من أصول الحياة فيرجع عذابا على صاحبه الكانز إياه.

ثم يتلوه الذي يصرفه في غير صالح للحياة ، أم يبذره أو يسرف به ، ثم الزاوية الثالثة هي الصالحة ، تحصيلا له صالحا ، وصرفا صالحا دونما إفراط ولا تفريط.

٥٩

وفي رجعة أخرى إلى الآية نرى أن النفقة المتعودة في غير ما تبذير أو إسراف خارجة عن الكنز ، وقد تشمل الميراث ، ولو لا أنه مسموح لما كان دور لآيات الميراث ، فمثلث النفقة الحاضرة والمستقبلة وما بعد الموت لمن عليه نفقتهم ، إنها خارجة عن الكنز ، اللهم إلا إذا دار الأمر بين الأهم والمهم ، كما إذا كانت الحاجة الحاضرة أهم من المستقبلة ومن الميراث.

فالضابطة الصالحة هي استثناء مثلث النفقة عن الكنز إلا فيما يستثنى.

وعلى أية حال فبطالة المال وعطالته هي كعطالة الحال وبطالتها غير مسموحة في شرعة الله ، فلا تقوم الحياة إلا بحركة صالحة بين العمل والمال ، فليس كل واحد منهما يكفي لإدارة شؤون الحياة ، ولأن الأصل في كل المعاملات والمعتمد هو الذهب والفضة ، لذلك فكنزهما يعني كنز الثروات دونما إدرار لمصالح الحياة.

وهنا يستثنى النفقات الحاضرة ومؤنة السنة ، ومؤنة العمر ، ومؤنة الورثة بالقدر المعتدل لولا الأهم الذي يقدم على متعود هذه النفقات.

فالنفقات الواجبة والراجحة دونما تبذير وإسراف هي خارجة عن الكنز ، اللهم إلّا إذا اقتضت الضرورة ترك الراجحة الشخصية الحاضرة إلى الواجبة الجماعية الحاضرة وهكذا تترتب النفقات الأربع مع بعضها البعض ، متراوحة بين واجبة وراجحة ، والأصل الثابت هو تقديم الأهم على المهم على طول الخط ، فما كان مهما وهناك أهم فهو كنز يجب إنفاقه في سبيل الله من مستحبة امام واجبة ، أم مؤنة السنة أمام المؤنة الحاضرة الضرورية ، وإلى هذا القياس.

فحين يحتاج مسلم الى قوته لا يمسح لك التوسع في نفقتك ، وحين يحتاج مسلم إلى بلغة عيشته الحاضرة لا يسمح لك ادخار مؤنة المستقبل في مثلثها مترتبة.

و (كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) تشمل كل حظوة شخصية للكانز مهما كانت إيراثا وهناك أهم منه مصرفا ، إيثارا للحظوة الشخصية الخيالية أم والواقعية

٦٠