الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١١

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٨٤

حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٥٣)

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ)(٤٦).

آيات أربع تبين موقف الأعراف ورجاله ، فلنتعرف إلى رجال الإعراف وموقفهم المتميز على ضوء آيات الأعراف ، تقريرا لمسيرهم ، ولمصير مختلف الروايات في مثلثة التخالفات.

هنا نتلمح صراحا من مقاطع في هذه الآيات أن رجال الأعراف هم أعرف العرفاء بالله وأعبد العابدين لله ، حيث يمثلّون أمر الله في فاصل

١٤١

الأعراف بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، تقريرا لمصير كلّ بمسيره ، إذاعة من قبل الله في ذلك الموقف المجيد.

ف ١ (عَلَى الْأَعْرافِ) تعريف أول بأصحاب الأعراف ، فإنها أعراف متعالية بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، لا يحق أن يكون عليها إلّا الحاكمون عليهما المتكلمون بفصل القضاء فيهما من قبل الله ، فكيف يكونون هم الأدنون المرجون لأمر الله.

٢ ثم «رجال» لا تعني رجولة الجنس ـ فقط ـ بل هي مجمع كافة الرجولات في كافة حقول الفضائل والفواضل ، ولو كانوا هم الأدنون المرجون لأمر الله ، فالأكثرية المطلقة منهم نساء بطبيعة الحال الأنوثة ، فكيف يعبر عن هذه المجموعة التي أكثرها نساء ب «رجال» دون «ناس» أما أشبه؟!.

٣ ثم (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) تحلق معرفتهم بكل أهل الحشر ، جماعيا كأصحاب الجنة وأصحاب النار ، وشخصيا هو معرفة كل فرد فرد من الفريقين بدرجاتهم أم دركاتهم ، وليست هذه المعرفة القمة الفائقة إلا لأعرف العارفين بالله وأقرب المقربين إلى الله.

ففي حين أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه ما كان ليعرف المنافقين بسيماهم : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (٤٧ : ٣٠) كما و (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) (٩ : ٤٣)! وهذه قضية الابتلاء في حياة التكليف! إذا فكيف يمتاز رجال الأعراف ـ إن كانوا هم الأدنين ـ بهذه المعرفة التي تزيد على معرفة الرسول يوم الدنيا؟ إلّا أن يكون هو منهم كأفضلهم والباقون هم على هامشه.

أجل ، وهذه المعرفة المتميزة عن نشأة التكليف أولا ، وعمن هم في المحشر من أصحاب الجنة وأصحاب النار ، تبين بوضوح أن رجال الأعراف هم أعرف العارفين بالله ، حتى اختصهم الله في ذلك الموقف الحاسم القاصم أن يكونوا مثله وآيته وإذاعته بين أهل الحشر كلهم.

١٤٢

والقول إن (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢) تحدد كل الأبصار في ذلك اليوم ، مردود بأنه حديد في إبصار أعمال كلّ حيث (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥٠ : ٢٢) ، كما القول إن (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) (٥٥ : ٤١) تعمم تلك المعرفة لأهل الحشر؟ فان (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) تقرر فاعل المعرفة هذه «بسيماهم» أنه الأخذ الرباني بالنواصي والأقدام.

فليس هناك مجال لهذه المعرفة الشاملة كل أهل الجمع إلّا لأقرب المقربين إلى الله.

٤ ثم (وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) برهان قاطع لا مرد له على أنهم هم الأعلون في المحشر المعشر ، حيث يحملون ـ هم ـ سلام الله إلى أهل الله ، لمكان (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) ولا يحمل سلام الرب الرحيم إلى عباده الصالحين إلا أصلح الصالحين الذين يمثلون أمره ويحملون القمة العليا من رسالته الربانية ، ولو أنهم من المرجوين لأمر الله إذ خلطوا عملا صالحا وآخر شيئا ، كانت حالهم تشغلهم عمن سواهم!.

وأما (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) فليست لتعني رجال الأعراف ، حيث كونهم على الأعراف يعرفنا أنهم لمّا يدخلوها ، فلا مبرر ـ إذا ـ لذلك التكرار ، مع أن أقرب المرجعين المحتملين لضمير الجمع هم (أَصْحابَ الْجَنَّةِ) كما (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) الآتية صارحة صارخة انهم (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ).

كما وأن (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) لا تدل على أنهم من الأذنين ، فانها دعاء لأصلح الصالحين إلى من دونهم من سائر الصالحين.

وقد تعني «مع» هنا معية المكان ، ألا توقفنا ربّنا في هذا الموقف صرفا لأبصارنا تلقاء أصحاب النار إلا قدر واجب الحوار وتقرير المصير ، ومعية الشفاعة منا لمن لا يستحقونها ، ونحن غير مأذونين فيها ، وأخيرا معيتهم في دخول النار تخذلا وتذللا لأنفسهم أمام الله كأنهم لا يستحقون الجنة فإنها قضية فضل الله ورحمته وليست قضية عدله.

١٤٣

٥ ثم (نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً ..) في ذلك التأنيب العجيب ، ليست في ذلك الموقف الرهيب إلا من ممثلين لأمر الله ، المرسلين من قبل الله ، في ذلك الحوار الحاسم وفي تقرير المصير.

٦ وأخيرا (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) ولا نجد أمرا لأصحاب الجنة بدخول الجنة في القرآن كله إلا من قبل الله إذ (يا عِبادِ ... ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) (٤٣ : ٧٠) حيث يعني طليق الدخول في الجنة برزخا وفي الآخرة.

ثم ليس إلا من ملائكة الرحمة خطابا للصالحين إذ يتوفونهم : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٦ : ٣٢) وهو خاص بجنة البرزخ ، ومن ثم ليس إلّا (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٣٩ : ٧٣) وقد تعني «خزنتها» ملائكة خصوصا ، أم هم رجال الأعراف ، أم وهما معا ، فمن ثم خطاب وسيط بين المرحلتين هو ثاني الخطابين في المحتد ، حيث يعني جنة الآخرة كما هنا :

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) فمهما كان (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) الأخروية مشتركة بعد الله بين فريقي الخزنة ، ف (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) ميزة لرجال الأعراف بين كل أهل الجنة.

إذا فرجال الأعراف هم أعلى موقفا ومحتدا من ملائكة الله ، ومن كل أهل الحشر دونما استثناء.

هذه تعريفات بهم في مواقفهم على الأعراف ، ثم لا نجد ولا لمحة أنهم بحاجة إلى شفاعة أماهيه من مكفّرات ، إنما هم : (عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ ...) بهذه المواصفات الست ، المنقطعة النظير عن كل بشير ونذير ، اللهم إلا لأعرف العارفين بالله ، واعبد العابدين لله ، وأقرب المقربين إلى الله ، فهم الممثلون أمر الله في حوارهم هناك وفي تقرير المصير ، والسّلام على أصحاب الجنة وأمرهم بدخولها ، فهل هم ـ بعد ـ الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم؟ كلّا ثم كلّا.

ذلك ، ولكن جوابا عن سؤال : فأين ـ إذا ـ موقف (مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ

١٤٤

إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) (٥ : ١) و (آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ..) (٩ : ١٢)؟.

نقول : لأنهم ـ إذا ـ ليسوا ـ بعد ـ لا من أصحاب النار ولا من أصحاب الجنة ، فليكونوا في موقع من الأعراف دان ، إذا فأصحاب الأعراف اثنان هما رجال الأعراف وأصحابهم ، فالأولون يذكرون في هذه الآيات أصلاء لأنهم يحملون أمر الله بحوار وسائر الأمر بين فريقي الجنة والنار ، والآخرون هم على هامش أصحاب الجنة ينتظرون حيث هم مرجون لأمر الله فهم ـ إذا ـ راجون ، والشافعون لهم بعد كل المكفرات هم رجال الأعراف.

فالأحاديث المفسرة لأصحاب الأعراف بأنهم الرفيق الأعلى (١) تعني

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٢ في تفسير القمي قال الصادق (عليه السّلام) كل أمة يحاسبها إمام زمانها ويعرف الأئمة أوليائهم وأعداءهم بسيماهم وهو قوله (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) فيعطوا أولياءهم كتابهم بيمينهم فيمروا إلى الجنة بلا حساب ويعطوا أعداءهم كتابهم بشمالهم فيمروا إلى النار بلا حساب ، وفيه عن معاني الأخبار خطبة لعلي (عليه السّلام) وفيها يقول (عليه السّلام): ونحن أصحاب الأعراف أنا وعمي وأخي وابن عمي والله فالق الحب والنوى لا يلج النار لنا محب ولا يدخل النار لنا مبغض لقول الله عزّ وجلّ (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ ..) وفيه عن الكافي عن صفوان قال سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول : جاء ابن الكوا إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقال : يا أمير المؤمنين (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) فقال : نحن على الأعراف ، نعرف أنصارنا بسيماهم ونحن الأعراف الذين لا يعرف الله عزّ وجلّ إلا بسبيل معرفتنا ونحن الأعراف يعرفنا الله عزّ وجلّ يوم القيامة على الصراط فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه ، وفيه عن كشف الغمة عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) حديث طويل فيه : فالأوصياء قوّام عليكم بين الجنة والنار ، لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه لأنهم عرفاء العباد عرفهم الله إياهم عند أخذ المواثيق عليهم بالطاعة لهم فوصفهم في كتابه فقال عزّ وجلّ : «وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ ..» وهم الشهداء على الناس والنبيون شهدائهم بأخذهم لهم مواثيق العباد بالطاعة ، وفي تفسير العياشي عن علي (عليه السّلام) قال : أنا يعسوب ـ

١٤٥

الأولين ، والمفسرة لهم بأنهم الفريق الأدنى (١) تعني الآخرين ، والمفسرة

__________________

ـ المؤمنين وأنا أوّل السابقين وخليفة رسول رب العالمين وانا قسيم الجنة والنار وأنا صاحب الأعراف ، وفيه عن هشام عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال : سألته عن قول الله عزّ وجلّ (وَعَلَى الْأَعْرافِ ..) ما يعني بقوله؟ قال : ألستم تعرفون عليكم عرفا على قبائلكم لتعرفوا من فيها من صالح أو صالح؟ قلت : بلى ، قال : فنحن أولئك الرجال الذين يعرفون كلا بسيماهم وفيه عن زادان عن سلمان قال : سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لعلي (عليه السّلام) أكثر من عشر مرات : يا علي إنك والأوصياء من بعدك أعراف بين الجنة والنار ، ولا يدخل الجنة إلا من عرفكم وعرفتموه ولا يدخل النار إلا من أنكركم وأنكرتموه ، وفيه مثله عن سعد بن طريف عن أبي جعفر (عليه السّلام) وعن الثمالي عنه (عليه السّلام) وفي مصباح الشريعة قال الصادق (عليه السّلام): ولأهل التواضع سيماء يعرفه أهل السماء من الملائكة وأهل الأرض من العارفين قال الله تعالى : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ).

وفي احقاق الحق (٣ : ٥٤٣) حول الآية ممن نقل نزولها في علي (عليه السّلام) الهيثمي في الصواعق المحرقة (١٦٧) والقندوزي في ينابيع المودة (١٠٢) وفي (١٤ : ٣٩٦ ـ ٣٩٨) ومنهم الثعلبي في الكشف والبيان (٣٥٣) وابن طلحة في مطالب السؤول في مناقب آل الرسول (١٧) والذهبي في ميزان الاعتدال (٢ : ٣) والحسكاني في شواهد التنزيل (١ : ١٩٨) والبدخشي في مفتاح النجا (٣٨) والشافعي في المناقب (١٥٦) والحضرمي في وسيلة المآل (١٢٢) والأمر تسري في أرجح المطالب (٨٤) والبدخشي في مفتاح النجا (مخطوط) عن علي كرم الله وجهه في الآية قال : نحن أصحاب الأعراف من عرفناه بسيماه أدخلناه الجنة.

(١) في الدر المنثور ٣ : ٨٧ ـ أخرج أبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) توضع الميزان يوم القيامة فتوزن الحسنات والسيئات فمن رجحت حسناته على سيئاته مثقال صؤابة دخل الجنة ومن رجحت سيئاته على حسناته مثقال صؤابة دخل النار قيل يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال : أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون ، أقول : أقل ما فيه أن حصر أصحاب الأعراف فيهم لا يناسب مواضع من هذه الآيات ، ثم وزن السيئات ينافي (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) اللهم إلا أن يختص بمن ليست له حسنات ، وكذلك الحديث «السيئات خفة الميزان والحسنات ثقل الميزان» وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي زرعة عمرو بن جرير قال سئل رسول الله (صلى الله عليه ـ

١٤٦

__________________

ـ وآله وسلم) عن أصحاب الأعراف فقال : «هم آخر من يفصل بينهم من العباد فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد قال أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي فارعوا من الجنة حيث شئتم» وفيه أخرج البيهقي في البعث عن حذيفة أراه قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يجمع الناس يوم القيامة فيؤمر بأهل الجنة إلى الجنة ويؤمر بأهل النار إلى النار ثم يقال لأصحاب الأعراف ما تنتظرون؟ قالوا : ننتظر أمرك ، فيقال لهم : «إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوا الجنة بمغفرتي ورحمتي» وفيه عن عبد الرحمن المزني قال سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أصحاب الأعراف فقال : «هم قوم قتلوا في سبيل الله في معصية آباءهم فمنعهم من النار قتلهم في سبيل الله ومنعهم من الجنة معصية آبائهم» أقول : معصية الآباء في القتل في سبيل الله هي من المكفّرات وكما قال الله : (.. وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ ..) (٣ : ١٩٥) ، وهذا إذا لم يكن القتال واجبا معينا فإن فيه لا عصيان ، وفي غير المعين يجبر العصيان بالشهادة. وفيه أخرج الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري قال : سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أصحاب الأعراف فقال : هم رجال قتلوا في سبيل الله وهم عصاة لآبائهم فمنعتهم الشهادة أن يدخلوا النار ومنعتهم المعصية أن يدخلوا الجنة وهم على سور بين الجنة والنار حتى تذبل لحومهم وشحومهم حتى يفرغ الله من حساب الخلائق فإذا فرغ من حساب خلقه فلم يبق غيرهم تغمدهم منه برحمة فأدخلهم الجنة برحمته ، ورواه مثله معنويا أبو هريرة وعبد الله بن مالك الهلالي عن أبيه وابن عباس وحمد بن المنكدر عن رجل من مزينة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفيه أخرج البيهقي في البعث عن أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب فسألناه عن ثوابهم فقال : «على الأعراف وليسوا في الجنة وليسوا مع أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فسألناه وما الأعراف؟ قال : حائط الجنة تجري فيه الأنهار وتنبت فيه الأشجار والثمار» أقول : هذا خلاف الضرورة القرآنية في عدم التفرقة بين الجنة والناس وسائر المكلفين في الجزاء الوفاق ، وعلى أية حال فهذه الأحاديث لا توافق القرآن في مواضيع عدة.

ومن طريق أصحابنا في نور الثقلين ٢ : ٣٤ عن أصول الكافي بسند متصل عن حمزة بن الطيار قال لي أبو عبد الله (عليه السّلام): الناس على ستة أقسام ، قال قلت : تأذن لي أن أكتبها؟ قال : نعم قلت : ما أكتب ، قال : اكتب : أصحاب الأعراف ، قال قلت : وما أصحاب الأعراف؟ قال : «قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فإن أدخلهم النار فبذنوبهم ـ

١٤٧

لهم بأنهم الفريقان (١) تعنيهما تفسيرا للأولين وتأويلا للآخرين ، فقد تصدق هذه الثلاث إلا ما فيها من شطرات لا تلائم القرآن.

ذلك ، وإلى تفصيل لكل مقاطع الآيات الأربع بشأن رجال الأعراف

__________________

ـ وان أدخلهم الجنة فبرحمته». أقول : قضية ذلك الإستواء تكفير الذنوب وان بدخول النار ردحا من الزمن ثم دخول الجنة بحسناتهم ، اللهم إلا أن تعني مكوث الأعراف غفر سيئاتهم دون عذاب. وفيه عن القمي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال : أقبل علي فقال لي : ما تقول في أصحاب الأعراف؟ فقلت : ما هم إلا مؤمنين أو كافرين ، إن دخلوا الجنة فهم مؤمنون وان دخلوا النار فهم كافرون ، فقال : والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين ، ولو كانوا مؤمنين لدخلوا الجنة كما دخلها المؤمنون ولو كانوا كافرين لدخلوا النار كما دخلها الكافرون ولكنهم قد استوت حسناتهم وسيئاتهم فقصرت بهم الآمال وانهم لكما قال الله عزّ وجلّ ، فقلت : أمن أهل الجنة هم أم من أهل النار؟ فقال : أتركهم حيث تركهم الله ، قلت : أفنرجئهم؟ قال : نعم أرجئهم كما أرجأهم الله ، إن شاء أدخلهم الجنة برحمته وان شاء ساقهم إلى النار بذنوبهم ولم يظلمهم ، فقلت : هل يدخل الجنة كافر؟ قال : لا ، قلت : فهل يدخل النار إلا كافر؟ قال : فقال : لا إلا أن يشاء الله ، يا زرارة إنني أقول ما شاء الله ، وأنت لا تقول ما شاء الله ، أما إنك ان كبرت رجعت وتحللت عنك عقدك.

(١) في المجمع قال أبو عبد الله (عليه السّلام): الأعراف كثبان بين الجنة والنار يوقف عليها كل نبي وكل خليفة مع المذنبين من أهل زمانه كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده وقد سبق المحسنون إلى الجنة فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه : انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سبقوا فيسلم عليهم المذنبون وذلك قوله : ونادى أصحاب الأعراف .. ثم أخبر سبحانه انهم لم يدخلوها وهم يطمعون ، يعني هؤلاء المذنبين لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون أن يدخلهم الله بشفاعة النبي والإمام وينظر هؤلاء المذنبون إلى أهل النار فيقولون ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ـ ثم ينادي أصحاب الأعراف وهم الأنبياء والخلفاء رجالا من أهل النار مقرعين لهم (ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ) ـ يعني أهؤلاء المستضعفين كنتم تستضعفونهم وتحتقرونهم بفقرهم وتستطيلون بدنياكم عليهم ثم يقولون لهؤلاء المستضعفين عن أمر من الله بذلك لهم : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) وروى القمي في تفسيره عنه (عليه السّلام) ما يقرب منه عنه (عليه السّلام).

١٤٨

وأصحاب الجنة والنار :

«وبينهما» بين الجنة والنار ، أو بين أصحاب الجنة والنار وهو الأظهر قضية ذكرهم من ذي قبل أم هما معنيان معا.

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ) عله سور له باب : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ. يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ ...) (٥٧ : ١٤).

ف «الأعراف» هي أعراف الحجاب بينهما ، والحجاب هو السور المضروب بينهما ، وهو بطبيعة الحال باطنه ـ وهو جانب أصحاب الجنة ـ فيه الرحمة ، وظاهره ـ وهو جانب أصحاب النار ـ من قبله العذاب.

وهنا بجانبي السور الحجاب حوار بين أهل الجنة والنار ، وحوار لرجال الأعراف مع الفريقين بتقرير المصير بعد بيان المسير.

«ونادوا» رجال الأعراف (أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) سلاما قبل دخول الجنة إذ (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) : أن يدخلوها.

وترى كيف (هُمْ يَطْمَعُونَ) دون «يوقنون» وهم (أَصْحابَ الْجَنَّةِ) حسب النص؟

إنهم (أَصْحابَ الْجَنَّةِ) حيث هم مسيرهم الجنة بعد عفو الله وغفره وبمنه وحنانه ، ف (أَصْحابَ الْجَنَّةِ) بشارة لهم من رب العزة ولمّا يدخلوها ، أم ولمّا يعلموا أنهم من أصحابها ، فلأنهم درجات حسب درجات إيمانهم وعمل الصالحات ، فالحالة الهالة العامة لهم هي (وَهُمْ يَطْمَعُونَ) رجاء تكفير سيئاتهم دون عذاب ، وحتى إذا بشروا بالجنة وهم يعلمون ، فهم ـ بعد ـ بين الخوف والرجاء ، خوف من قصورات لهم

١٤٩

وتقصيرات ، وأنهم مهما كانوا صالحين دون تقصير فلا يستحقون الجنة بأعمالهم ، اللهم إلا برجاء الرحمة الربانية ، إذا (وَهُمْ يَطْمَعُونَ).

ذلك وقد تأتي «يطمعون» في مورد العلم تذللا وتطامنا أمام رب العزة وكما قال إبراهيم :

(وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٢٦ : ٨٢) وكذلك الذين اتبعوه من النصارى المؤمنين بهذه الرسالة السامية : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) (٥ : ٨٤).

وكذلك السحرة المؤمنون أفضل إيمان من أعضل كفر وأرذله : (إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٦ : ٥١) وفي هذه الآية المرحومة : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) (٣٢ : ١٦).

فالطمع الصالح لدخول الجنة هو للصالحين مهما كانوا من المعصومين كإبراهيم ، فضلا عن كل أصحاب الجنة حيث هم (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ) قبل صدور الأمر الذي يحمله رجال الأعراف ب (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).

(وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٤٧).

هنا «صرفت» دون «صرفوا» تلمح بانصرافهم تلقاء أصحاب النار دون صرف منهم باختيار ، فانما هو صرف رباني وأمر من ساحة العزة أن

١٥٠

يصرفوا أبصارهم تلقاء أصحاب النار لواجب تقرير المصير بواجب الحوار.

وهنا حيث يفاجئون برؤية هؤلاء الظالمين ابتدروا بدعاء : (قالُوا رَبَّنا) الذي ربانا بهذه التربية القمة العالية المرموقة : (لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) لا في الجنة ولا في النار ، فالظالمون الذين لا يستحقون الجنة ، لا تجعلهم فيها معنا ، ولا تجعلنا معهم أولاء في النار ، ولا تجعلنا مع المحكومين بالنار في شفاعة لهم ، ولا تجعلنا معهم قبل دخول الجنة والنار ، أكثر من قدر الحوار وتقرير المصير.

فالمعية بين رجال الأعراف وأصحاب النار في أية مرحلة ـ إلا الحاسمة القاسمة بينهم ـ هي معية بعيدة عن الرحمة ، مهما لم تكن فيها زحمة العذاب ، فلو دخلنا النار بعذاب لهم ولنا دون عذاب ، فحق لك يا رب إذ لا نستحق نحن الثواب مهما لا نستحق العقاب ، فإلى المفاصلة التامة الطامة بيننا وبين الظالمين الذين لا يستحقون الجنة ، وحتى إذا دخلوا الجنة باستحقاق بعد ذوق عذاب مستحق ، متخلصين عن أعباء الظلامات ، فقضية مختلف الدرجات ألا تجعلهم معنا في مقامنا في الجنة ، مهما (نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ)!.

ولكن فلنكن في مقامنا كما نستحق ، وهم كما يستحقون في أماكن ومكانات ، في الأصل وبمعرفة أصحاب الجنة.

فقد تطلبوا في (رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) سد هذه الأبواب السبع من المعيات المعنيات من (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

ذلك ، وقد يلمح ضمير الجمع ـ الجائز الرجوع هنا إلى أصحاب

١٥١

الجنة لأنهم الأقربون مرجعا ، والرجوع إلى أصحاب الأعراف لأنهم الأقربون موقعا ، فإنهم محور الكلام هنا ـ يلمح بعناية أصحاب الجنة مع أصحاب النار ، فلئن كان القصد إلى خصوص أصحاب الأعراف لذكروا كما يذكرون في التالي : ونادى أصحاب الأعراف ، وذلك في تفسير الظاهر ، ثم في التأويل يعنى معهم الأدنون في الأعراف ، فهذا الدعاء هو طبيعة الحال في الفرق الثلاث ، مهما كان للآخرين رجاء باحتمال النجاة ، وللأوسطين أرجى ، ولأصحاب الأعراف فوق الرجاء ، ولكلّ في هذا الدعاء موقع يناسبه ، في نفسه وباختلاف دركات المعيات المعنية من (مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ألا تجعلنا معهم ، سواء فيما يجوز عدلا أما لا يجوز.

فجعلهم كلهم مع القوم الظالمين في عذاب النار أم في مقامات الجنة بعد ما ذاقوا عذاب النار فاستحقوا دخول الجنة كبعضهم ، ذلك خلاف العدل ، فالدعاء بالنسبة لمعيتهم يصبح ك (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) فانه صرف الالتجاء في الدعاء ، وكما يلحّق هنا (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (٢١ : ١١٢).

وأما جعلهم معهم في المحشر أكثر من تكملة الحساب والحوار ، أم بقاء الترائي بعد الدخول في الجنة والنار ، أم دخولهم مع أصحاب النار في النار دون أن يشاركوهم في عذابهم ، أم دخول هؤلاء معهم في الجنة دون أن يشاركوهم في ثوابهم أماذا من خلاف الفضل ، فليس من خلاف العدل.

والدعاء على أية حال لا يعني جواز عدم تحقق المدعو به لولا الدعاء كالحق في (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) بل هو تعلق بالله وتذلل أمام الله ، وان حكمه حق على أية حال وإن كان في ظاهر الأمر غير حق حيث لا يلائمنا.

وذلك أدب الدعاء في كافة الأحوال ، وحتى إذا كان الداعي في حال وقوع المدعو به فضلا عما قبله.

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى

١٥٢

عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)(٤٩).

هذه الرسالة الغالية أن يكونوا مذيعين لفصل الحكم من رب العالمين ، إنها منقبة لا تسامى بسواها ولا تساوى ، ثم (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) هي رسالتهم الأخيرة حيث أمروا بأمر الله أن يخاطبوا أصحاب الجنة بدخولها.

إذا فمناداة أصحاب الجنة والنار هي قبل الدخول فيهما ، وهي مواقف العالين من رجال الأعراف حسم الموقف ، ثم هم يدخلون الجنة ومعهم قسم من الأدنيين الذين هم معهم (عَلَى الْأَعْرافِ).

ذلك ومما يؤيد أصالة القصد الى أعالي رجال الأعراف دون الأداني ، أن الآخرين غير محصورين في الرجال ، بل ونساءهم أكثر من رجالهم ، وأما الأولون فهم بطبيعة الحال رجال كالمعصومين المحمديين (عليهم السّلام) ، وأما فاطمة الصديقة فقد تكون منهم كما في (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ ..) أم هي غير مشاركة معهم لمكان أنوثتها ، وعلى أية حال فخصوص القصد من رجال الأعراف الأدنين مرفوض.

كما ولا تعني «رجال» الملائكة إذ لا نساء فيهم ، وهم يقابلون نساء من جنسهم ، مهما عنت رجالا من الجن على هامش رجال من الإنس كرسل منهم عالين ، حاكمين على قبيلهم ، أم لهم بين فريقي أصحاب الجنة وأصحاب النار من الجن.

ثم مكانهم المتميز «الأعراف» ومعرفتهم المتميزة أصحاب الجنة وأصحاب النار لحد يعرفون المستكبرين من أهل النار بينهم ، لا فقط معرفة إجمالية بسيماهم المعروف لدى الكل حيث هنا (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) (٨٠ : ٤١) ، وهناك (يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ) أي كل واحد من آحاد الفريقين ، لا ـ فقط ـ كلا من الفريقين ، تثبت لهم معرفة قمة متميزة بسيما

١٥٣

كل واحد منهم ، حيطة معرفية بما عرفهم الله ليحكموا هناك بما يحكم الله.

هذا التميز وذلك هما مما يميّزهم عن كل أصحاب الجنة ، فهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمحمديون من عترته (عليهم السّلام) ، المتميّزون على كافة السابقين والمقربين وأصحاب اليمين.

فرجال الأعراف حيث يكلمون كلا الفريقين بما يكلمون هم الشهداء المخصوصون بالكرامة في مسرح (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً) (٧٨ : ٣٨) فهم مأذونون بإذن خاص بكل إخلاص حتى يكلموا أهل الحشر أجمع بما يشاء الله ويرضى ، أفهم بعد من الأدنين وليس للعوان بينهم وبين العالمين ذلك النصب المتميز يوم الدين.

كل ذلك ، إضافة إلى أنا لا نتلمح أية فزعة وهول لهم في أعرافهم ، في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم ، والهول شامل ذلك اليوم كل أهل الحشر (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٣٧ : ١٢٨) ـ (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ. لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (٢١ : ١٠٣)!.

إذا فقد لا تشمل رجال الأعراف في ظاهر التفسير إلّا أقرب المقربين وأسبق السابقين ، دون الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم فلا هم ـ بالفعل ـ من أهل الجنة ولا أهل النار ، ـ اللهم إلا تأويلا أنهم على هوامشهم ـ ثم ولا صراحة هنا ولا لمحة أن رجال الأعراف يتطلبون إلى الله السماح ، فإنما هو الحكمية بين الفريقين والحكم بدخول أهل الجنة الجنة ودخول أهل النار النار.

إذا فعساكر البراهين القرآنية في آيات الأعراف وسواها تقرر موقفا حاسما لرجالها لا يناسب كل المعصومين فضلا عن الأدنين من المؤمنين ، فلا يصغى إلى أحاديث الأدنين تفسيرا ، إلا تأويلا.

١٥٤

(وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ) معرفة متميزة عن كل أصحاب الجنة فضلا عن أصحاب النار ، و «رجالا» هنا هم رجال متميزون بسيماهم من أصحاب النار ف «قالوا» لهم (ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ) أموالا وأولادا وسائر الجموع المحتشدة حصولا على العزة والقوة ، «و» لا (ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ) بجمعكم على الله وعلى عباد الله ورسله.

«أهؤلاء» الأكارم من أصحاب الجنة (الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ) كأنكم أنتم أصحاب الرحمة دونهم ، أم هم وإياكم سواء في العذاب؟! كلّا ، بل : «ادخلوا» أنتم الصلحاء (الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ).

أجل هؤلاء رجال الأعراف ، فمكانهم في المحشر «الأعراف» أعراف الحجاب والسور المضروب بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ، ومكانتهم أنهم رسل من الله في ذلك الموقف الحاسم. رسل شهود في معرفة كلّ بسيماهم ، يشاهدون كل نفس خيرة وشريرة في مقامها الخاص من أعلى عليين إلى أسفل سافلين ، ورسل قضات في تعيين المقامات هناك ، ثم هم خارجون عن القبيلين إذ لا محاسبة لهم لدخول الجنة ، وهم المؤمّرون أن يأمروا أصحاب الجنة لدخول الجنة كما أن مؤذنهم يؤمر بذلك الأذان ، رسالة ربانية عالية ٧ مما تدل على أنهم هم الأعلون في تلك العرصات.

ذلك «وإنما الأئمة قوام الله على خلقه وعرفاء على عباده ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه ولا يدخل النار إلا من أنكرهم وأنكروه» (١).

__________________

(١) نهج البلاغة الخطبة ١٤٢ / ٢٥٦ عن أمير المؤمنين (عليه السّلام).

١٥٥

(وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ)(٥١).

حوار بين أهل الجنة والنار في دار القرار ، يوم التناد ، يخيل فيها إلى أهل النار أن لأهل الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء أو مما رزقهم الله كما كانت هناك إفاضة في دار الفرار ، فإذا هم مفاجئون ب (إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) تحريما بحريم الاضطرار دون اختيار ، إذ مضى يوم التكليف الإختيار ، ولات حين فرار ، وهم (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً) : اتخذوا طاعتهم الحقة وهي الدين الحق «لهوا» يلتهون به حيث يلهيهم عما يعنى لهم «ولعبا» به يلعبون حيث كانوا به يستهزءون ، فاتخذوا دينهم : الطاعة ، مخلدا إلى أرض الشهوات ، فلا يطيعون ـ إذا ـ إلا لهوا ولعبا (وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) بما انغروا بها حيث أبصروا إليها فأعمتهم ولم يبصروا بها لتبصّرهم (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ) نعاملهم معاملة الناسي إياهم على علمنا بهم ، تحريما عليهم ما يقدم للضيفان من النعم (كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا) عامدين لاهين لاعبين ، وك (ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ) فنحن نجحدهم كما جحدوا ، وننساهم كما نسوا جزاء وفاقا.

ذلك كيف لا يشغلهم ما هم فيه من النار عن الماء وسائر رزق الله؟ حيث الماء يخفف عن حر النار وسائر رزق الله يسد عن الجوع ، والعطش والجوع هما مما لا ينسيان في أية ملابسات (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٣٦ في كتاب الإحتجاج عن عبد الرحمان بن عبد الله الزهري قال : حج هشام بن عبد الملك فدخل المسجد الحرام متكيا على يد سالم مولاه وحمد بن علي بن الحسين صلوات الله عليهم جالس في المسجد فقال له سالم : يا أمير المؤمنين هذا محمد بن علي بن الحسين ، فقال هشام : المفتون به أهل العراق؟ قال : نعم ، قال : اذهب إليه فقل له : يقول لك أمير المؤمنين ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة؟ فقال أبو جعفر (عليه السّلام) : يحشر الناس على مثل قرصة النقي فيها أنهار منفجرة يأكلون ويشربون حتى يفرغ الناس من الحساب ، قال : فرأى هشام انه ـ

١٥٦

وفي تقدم «الماء» على (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) ذكرا تقدم له على سائر رزق الله واقعا حيويا فللماء دور دائر في الحياة ليس لسائر رزق الله ، وقد قال الله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (٢١ : ٣٠) وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أفضل الصدقة سقي الماء» (١).

ذلك ، ولأن الغرور هو إظهار النصح واستبطان الغش وهما من فعل المختار ، فتراه كيف ينسب إلى الحياة الدنيا وليست هي مختارة؟ والجواب أن الحياة الدنيا هي حياة الإنسان فيها دون نفسها ، فالغرور ـ إذا ـ هو من فعل الإنسان حيث ينظر إلى الدنيا فينغر بها ، ولا ينظر بها فيبصّر ، فالحياة الدنيا هي بطبيعها حياة الغرور : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) (٥٧ : ٢٠).

ثم النسيان من الله هو تناسي العارف وكما هم تناسوا عارفين ، فلقد تناسوا لقاء يومهم هذا عارفين ، فالله يتناساهم عن رحمته عارفا فلا يفيض عليهم منها إلّا عذابا مهينا.

__________________

ـ قد ظفر به فقال : الله أكبر اذهب إليه فقل له : ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذ؟ فقال أبو جعفر (عليه السّلام) : هم في النار أشغل ولم يشتغلوا عن أن قالوا : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله ، فسكت هشام لا يرجع كلاما.

وفيه في تفسير العياشي عن أحدهما (عليهما السلام) قال : «إن أهل النار يموتون عطاشا ويدخلون قبورهم عطاشا ويدخلون جهنم عطاشا فترفع لهم قراباتهم من الجنة فيقولون : أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ».

(١) الدر المنثور ٣ : ٨٩٠ عن ابن عباس انه سئل أي الصدقة أفضل؟ فقال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : .. ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله.

١٥٧

و «دينهم» كما لمّحنا تعم الدين الحق فطريا وعقليا وشرعيا حيث اتخذوه لهوا يعرضون عنه ، ولعبا يلعبون به ويستهزءون ، والدين الباطل وهو الشهوة المطاعة ، توغلا في اللهو واللعب : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) (٦ : ٧٠).

وهكذا (حِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) (٣٤ : ٥٤) فمهما كانت المشتهيات مشتركة بين قبيلي الإيمان والكفر يوم الدنيا فهي خاصة بالمؤمنين يوم الدين : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ ، الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) (٧ : ٣٢).

وحقا أقول : «ما الدنيا غرتك ، ولكن بها اغتررت ، ولقد كاشفتك العضات ، وآذنتك على سواء ، ولهي بما تعدك من نزول البلاء بجسمك ، والنقص في قوتك ، أصدق وأوفى من أن تكذبك أو تغرك ، ولرب ناصح لها عندك متهم ، وصادق من خبرها مكذب ، ولئن تعرفتها في الديار الخاوية ، والربوع الخالية ، لتجدنها من حسن تذكيرك ، وبلاغ موعظتك بمحلة الشفيق عليك ، والشحيح بك ، ولنعم دار من لم يرض بها دارا ، ومحل من لم يوطنها محلا ، وإن السعداء بالدنيا غدا هم الهاربون منها اليوم» (الخطبة ٢١٤).

ف يا أيها الإنسان ما جرّأك على ذنبك ، وما غرّك بربك ، وما آنسك بهلكة نفسك ، أما من داءك بلول ، أم ليس من نومك يقظة ، أما ترحم من نفسك ما ترحم به غيرك ، فلربّما ترى الضاحي من حر الشمس فتظله ، أو ترى المبتلى بألم يمضّ جسده فتبكي رحمة له ، فما صبّرك على داءك ، وجلّدك بمصابك ، وعزّاك عن البكاء على نفسك وهي أعز الأنفس عليك ، وكيف لا يوقظك خوف بيات نقمة وقد تورطت بمعاصيه

١٥٨

مدارج سطواته ، فتداو من داء الفترة في قلبك بعزيمة ، ومن كبرى الغفلة في ناظرك بيقظة ، وكن لله مطيعا ، وبذكره آنسا ، وتمثل في حال توليّك عنه إقباله عليك يدعوك إلى عفوه ، ويتغمدك بفضله ، وأنت متولّ عنه إلى غيره ـ

فتعالى من قوي ما أكرمه ، وتواضعت من ضعيف ما أجرأك على معصيته ، وأنت في كنف ستره مقيم ، وفي سعة فضله متقلب ، فلم يمنعك فضله ، ولم يهتك عنك ستره ، بل لم تخل من لطفه مطرف عين في نعمة يحدثها لك ، أو سيئة يسترها عليك ، أو بلية يصرفها عنك ، فما ظنك به لو أطعته ، وأيم الله لو أن هذه الصفة كانت في متفقين في القوة ، متوازنين في القدرة ، لكنت أول حاكم على نفسك بذميم الأخلاق ومساوئ الأعمال ـ

إذا فكونوا عن الدنيا نزّاها ، وإلى الآخرة ولّاها ، ولا تضعوا من رفعته التقوى ، ولا ترفعوا من رفعته الدنيا ، ولا تشيموا بارقها ، ولا تسمعوا ناطقها ، ولا تجيبوا ناعقها ، ولا تستضيئوا بإشراقها ، ولا تفتنوا بإعلاقها ، فان برقها خالب ، ونطقها كاذب ، وأموالها محروبة ، وأعلاقها مسلوبة ، ألا وهي المتصدية العنون ، والجامحة الحرون ، والمائنة الخؤن ، والجحود الكنود ، والعنود الصدود ، والحيود المنود ، حالها انتقال ، ووطأتها زلزال ، وعزها ذل ، وجدها هزل ، وعلوها سفل ، دار حرب وسلب ، ونهب وعطب ، أهلها على ساق وسياق ، ولحاق وفراق ، قد تحرت مذاهبها ، وأعجزت مهاربها ، وخابت مطالبها ، فأسلمتهم المعاقل ، ولفظتهم المنازل ، وأعيتهم المحاول ، فمن ناج معقور ، ولحم مجزور ، وشلو مذبوح ، ودم مسفوح ، وغاضّ على يديه ، وصافق بكفيه ، ومرتفق بخديه ، وزار على رأيه ، وراجع عن عزمه ، وقد أدبرت الحيلة ، وأقبلت الغيلة ، ولات حين مناص ، هيهات هيهات قد فات ما فات ، وذهب ما ذهب ، ومضيت الدنيا لحال بالها (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) (الخطبة ٢٣٣).

(وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ

١٥٩

يُؤْمِنُونَ)(٥٢).

لقد تمت الحجة عليهم يوم الدنيا إذ «جئناهم» بجمعية صفات الهدى «بكتاب» : قرآن «فصلناه» تفصيلا لكل شيء «على علم» منّا رباني يحلق على كل شيء ، حالكون الكتاب (هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وهم أولئك الذين حالتهم حالة الإيمان بالحق المرام وان كانوا لمّا يؤمنوا حيث لم تصلهم دلائل الإيمان ، فهم مؤمنون فطريا وعقليا ، وهم ناظرون دلائل كامل الإيمان شرعيا ، (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ).

ذلك ، وهنا «لقد جئناهم» إضافة إلى ما فيها من مثلث التأكيدات بحر في التأكيد وجمعية الصفات ، نجد في مفعولية «هم» ل «جئنا» تقديرا للجار ، كأنه سبحانه جاء إليهم «بكتاب» والباء قد تعني كلا المعية والسببية : جئنا إليهم بسبب الكتاب ، ومصاحبين الكتاب ، ومثلها : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (٢٥ : ٣٣) ـ و (لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (٤٣ : ٧٨).

فلقد كان في نزول القرآن مجيئا لرب العالمين إلى كافة المكلفين حيث يدل بنفسه على الله بتوحيده وصفاته وأفعاله ، وكأنه جاءهم بنفسه.

فلو أنه أراهم نفسه لم يزدهم معرفة على ما عرفهم إياه بكتابه ، ولذلك أصبح شاهدا لنفسه ربا ، ولرسوله رسالة ، ولكل ما أراده منهم دلالة باهرة جاهرة : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..) (٢٩ : ٥٢) (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (٤ : ١٦٦). (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ) (١٣ : ٤٣) (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١٧ : ٩٦).

ذلك ، فقد يزيل القرآن كل حجاب بيننا وبين ربنا معرفيا إلا

١٦٠