الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٧

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٧٦

أخرى ، أم قرارا في أرض المستكبرين ، بعيدين عنهم مستخفين حتى لا يصل إليهم كيدهم وميدهم.

ثم (وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) إمّا سبيلا للفرار طريقا مسلوكة معروفة ، أم طريقة نفسية تحجز عنهم كل دعاية كافرة بقوة الإيمان ثقافية وعقيدية.

والجامع بين الأمرين عدم الاستطاعة للخروج عن نير الاستضعاف العقيدي والعملي على أية حال و (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٢ : ٢٨٦) وهم ليس في وسعهم الهجرة بأية صورة لأنهم قاصرون.

والاستضعاف يعم العملي إلي العقيدي ، ولكنما الثاني أخف وطأة وعذابا ، و (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ) قد يختص بالأولين ، أم هو أعم من الخلود أبديا وسواه.

(فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً) (٩٩).

ترى وما هو دور «عسى» الرجاء ، وهم أولاء قاصرون لا يكلّفون حيث لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا؟ ثم الولدان غير المكلفين ـ في الأصل ـ وهم مستضعفون كيف يعفى عنهم وبعساه دون تحتّمه حين لا تكليف عليهم ولا عقاب حيث لم يجر عليهم قلم التكليف؟.

«عسى» هنا تجوز العفو وسواه ، مستأهلة هؤلاء الثلاث ، وهم بصيغة أخرى : (آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٩ : ١٠٦).

ذلك لأن هؤلاء المستثنين ليسوا على سواء ، فمنهم من عاش طليق القصور ذاتيا والاستضعاف طارئا بنفس القصور ، فهم المعفو عنهم دونما استثناء.

٢٨١

ومنهم من هم على تقصير في أمرهم أدخلهم في مآزق القصور ، كمن ظلوا في دار الاستكبار وكانت الهجرة لهم ميسورة ، ثم زال عنهم الإختيار فضلوا بما استضعفوا.

ومنهم من خيّل إليه انه لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا ، حيث اثاقل إلى أرض الوطن. فضاقت عليه الأرض بما رحبت فرجح ـ إذا ـ القرار على الفرار.

ومنهم الناشئة غير الناضجة في الإيمان ، فلا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، وقد يعني سلب الاستطاعة والاهتداء ـ فيما يعني ـ عدم استطاعة الكفر ولا اهتداء سبيل الإيمان (١) لأنه من البله غير المكلفين أصحاب العقول الناضجة.

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٥٣٧ في كتاب معاني الأخبار عن زرارة عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال : سألته عن قول الله عز وجل (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ) فقال : هو الذي لا يستطيع الكفر فيكفر ولا يهتدي سبيل الإيمان فيؤمن والصبيان ومن كان من الرجال والنساء على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم.

وفيه بإسناده الى سالم بن مكرم الجمال عن أبي عبد الله (عليه السّلام) عن الآية فقال «لا يستطيعون حيلة الى النصب فينصبون ولا يهتدون سبيلا الى الحق فيدخلون فيه وهؤلاء يدخلون الجنة بأعمال حسنة وباجتناب المحارم التي نهى الله عز وجل عنها ولا ينالون منازل الأبرار».

وفيه عن حمران قال سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن قول الله عز وجل (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ) قال هم أهل الولاية ، قلت وأي ولاية؟ فقال : أما إنها ليست بولاية في الدين لكنها الولاية في المناكحة والموارثة والمخالطة وهم ليسوا بالمؤمنين ولا بالكفار وهم المرجون لأمر الله.

وفي تفسير الفخر الرازي ١١ : ١٣ روى أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعث بهذه الآية الى مسلمي مكة فقال جندب بن ضمرة لبنيه : احملوني فإني لست من المستضعفين ولا أني لا أهتدى الطريق والله لا أبيت الليلة بمكة فحملوه على سرير متوجها الى المدينة وكان شيخا كبيرا فمات في الطريق.

وفي الدر المنثور ٢ : ٢٠٧ عن أبي ضمرة بن العيص الزرقي كان مصاب البصر وكان بمكة فلما نزلت ـ

٢٨٢

فهم أولاء ليسوا سواء في العفو عنهم ، وكلمة «عسى» الرجاء تجمعهم ، وحتى الذين قد يعذبون منهم فهم دون السابقين الموعودين بالنار حسب اختلاف مراحل التقصير ، فإن من التقصير ما هو قصير يستأهل العفو ، ومنه غير قصير قد لا يستأهله.

وعلّ «الولدان» هنا هم ـ فقط ـ هؤلاء الناشئة التي بلغت الحلم ولّما تبلغ مبلغ الرشد والرجولة حتى تكافح الاستضعاف ، وقد تكفي (لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) سبيلا إلى عدم رشدهم كما الرجال والنساء المردفون بهما في خط القصور.

فمثنّى الضعف الذاتي والطارئ بالاستضعاف جعلهم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، وليس الضعف الاوّل من ناحية الصغر وكما في الرجال والنساء ، بل هو ضعف مع بلوغ الحلم وما فوقه من رجولة وأنوثة ، فلا بد لهؤلاء الثلاث من بلوغ مستضعف من ناحيتين : الضعف الذاتي بقصوره رغم بلوغ التكليف ، والضعف الطارئ من قبل المستكبرين.

ولو استطاع هؤلاء حيلة ولا يهتدون سبيلا ، أو اهتدوا سبيلا ولا يستطيعون حيلة ، فهم إذا خارجون عن الاستثناء الجامع بينهما.

ويمضي ذلك الحكم قدما محلّقا على المكلفين طول الزمان وعرض المكان ، متخطيا تلك البيئة المعنية من واجب الهجرة إلى سائر البيئات ، فيلحق كل مسلّم تناله أية فتنة في دينه عقيديا أو عمليا ، فرديا أو جماعيا حيث تفرض عليه الهجرة المستطاعة من أسوء إلى سيئ ومن سيئ إلى حسن وإلى أحسن ، في

__________________

ـ «إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ ..» فقال : إنني لغني وإني لذو حيلة فتجهّز يريد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأدركه الموت بالتنعيم فنزلت هذه الآية (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ).

٢٨٣

نفسه وسواه من المسلمين ، والمؤمن دوما في مثلث من المهاجرة : من هواجس نفسه وتخلّفات من حوله ، ومن جوّ العصيان إلى سواه ، والمهاجرة عن الوطن في سبيل الله ليس إلا كأبرز مصاديقها ، حيث الوطن ولا سيما بالنسبة للمتثاقلين إليه يجذب الإنسان إلى نفسه كما تجذبه نفسه إلى نفسه.

فانما الوطن المتوطّن للمسلّم ما يوطّن فيه إيمانه بكل أبعاده ، ويمكّنه من تحقيق قضايا الإيمان ، فرارا عن رزايا اللّاإيمان ، اللهم إلا المسلم العالم الذي بإمكانه الدعوة الصالحة في بلاد التخلّف والفساد ، دعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة وجدالا بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.

وهنا ترغيب رغيب للمهاجرة في سبيل الله يجعل المؤمن مهاجرا على أية حال ، دون

اختصاص بالهجرة عن أرض الوطن ، إنما هي مهاجرة البيئات المناحرة للإيمان ، المصطدمة إياه :

(وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٠).

ولأن المهاجرة فيها مخاوف وأخطار قد تمنع المؤمن عن الإقدام عليها لحد قد يعذر نفسه عنها كأنه لا يجد لها حيلة ولا يستطيع سبيلا ، لذلك نجد الله هنا يسكب فيها الطمأنينة بحقائق أخرى من ضمانات الله تعالى في الآخرة والأولى.

ذلك! شرط أن تعني المهاجرة سبيل الله ، فليست هي هجرة للثراء والبواء والخروج عن العناء ، فانما هي (سَبِيلِ اللهِ) بكل ترح وفرح.

نرى هنا المهاجرة تضمن خير الدنيا والآخرة ، فهنا (يَجِدْ فِي الْأَرْضِ

٢٨٤

مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) والله لقد وجدت أنا الكاتب في هجرتي إلى الله من شر الطاغوت الشاه عليه لعنة الله وجدت في مهاجري الثلاثة : النجف ولبنان ومكة المكرمة مراغما كثيرا وسعة ، ومنها موسوعة الفرقان التي هي من حصائل هذه الهجرة المباركة والله هو المستعان.

والمراغم الكثير ما يرغم من الموانع لأصل الهجرة أم في المهاجر فإن (أَرْضُ اللهِ واسِعَةً) فكلما اعترض سبيله رادع أرغمه الله وإن بنقلته إلى أرض أخرى ، وليس ـ فقط ـ مراغما كثيرا إرغاما للموانع ، بل «وسعة» وفسحة في مجالات الحياة ، حيث يجد في الأرض منطلقا وفسحة ، فلا تضيق به أرض المهاجرة ولا يعدم الحيلة والوسيلة للحياة الإيمانية وللرزق أماهيه.

فإنما هو ضعف النفس البشري يخيل إليها أن وسائل الحياة مرتبطة ـ فقط ـ بأرض الوطن وبظروف وملابسات خاصة إن فارقتها لم تجد للحياة ـ إذا ـ سبيلا.

فرغم أن أرض الوطن أصبحت مراغمة لإيمانه تصبح المهاجر في سبيل الله مراغمة معاكسة لما يخيّل إلى المهاجرين أن الوطن يوطّن المواطن والهجرة تهجره عن التوطن والاطمئنان ، فسبيل الله في الهجرة هي التي تضمن بإذن الله تلك المعاكسة الحبيبة الشيّقة ، ولكي لا يخاف المهاجرون في سبيل الله عن أرض الوطن أية صعوبة مراغمة لعيشتهم.

ذلك مراغمة هنا ، ثم بالنسبة للأخرى ـ وحتى للذي مات في الطريق :

(وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) وهنا نسمع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : «من خرج من بيته مجاهدا في سبيل الله وأين المجاهدون في سبيل الله ، فخر عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله ، أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله ، أو

٢٨٥

مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله» (١).

وليس الموت أو القتل في سبيل الله ـ في احتمالها فيها ـ بالذي يهين عزم المؤمن ، فكلّ منهما هيّن في نفس المؤمن حيث الأجل إنما هو بيد الله ، فإذا هاجر بأمر الله ثم مات في طريقه أو في المهجر فقد تجاوب أمران إلهيان في موته أو قتله ف (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ).

ذلك! ولأن سبيل الله طليقة تشمل كل سبله المسبّلة للمؤمنين ، فقد تشمل سبيل الحج (٢) وسبيل الدعوة إلى الله ، وسبيل تحصيل العلم وسائر السبل الربانية مهما كانت درجات.

وقد فصلنا على ضوء آيات الحج أن المحرم الداخل في الحرم ـ بقدر متيقن ـ إن مات قبل المناسك كفى عن حجه او عمرته ، وعلّه ايضا لكل من المحرم والداخل في الحرم ، ثم لمن مات قبل الإحرام والحرم أجره مهما لم يسقط عنه حجه او عمرته ، فإن وقوع الأجر أعم من سقوط التكليف ، كما الناوي للحج ولمّا يستطع له أجره ولكنه إذا استطاع وجب عليه.

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٠٩ ـ أخرج ابن سعد واحمد والحاكم وصححه عن عبد الله بن عتيك سمعت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول : ... ، وفيه عن ابن زيد قال : هاجر رجل من بني كنانة يريد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فمات في الطريق فسخر به قوم واستهزءوا به وقالوا : لا هو بلغ الذي يريد ولا هو أقام في أهله يقومون عليه يدفن فنزل القرآن (وَمَنْ يَخْرُجْ ..)

وفيه عن عروة عن أبيه أن الزبير بن العوام قال : هاجر خالد بن حزام إلى ارض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات فنزلت فيه (وَمَنْ يَخْرُجْ ..).

(٢) المصدر أخرج أبو يعلى والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): من خرج حاجا فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ومن خرج معتمرا فمات كتب له اجر المعتمر إلى يوم القيامة ومن خرج غازيا في سبيل الله كتب له اجر الغازي إلى يوم القيامة.

٢٨٦

وتلك هي الصفقة الأولى في متجر المهجر ، ومن ثم الثانية : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) يغفر ذنوب المهاجر ويرحمه ما لا يغفر أو يرحم غير المهاجر ، فالمهاجر ـ إذا ـ هو أربح تاجر وأنجحه!.

(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (١٠١) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٠٢) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ

٢٨٧

فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١٠٣)

هذه الآيات الثلاث تتحدث عن صفة الخوف تنزيلا وعن صلاة السفر تأويلا ، فمهما كان الأصل في الصلاة إقامتها بكمّها وكيفها كاملة شاملة إلّا أن الأعذار المطيقة تسمح بالقصر منها كما هنا وفي آية البقرة : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ. فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (٢٣٩).

وقضية الخوف حالة الصلاة من عدو غادر محتال مغتال ، أنها تختلف بشأن القصر من كيف الصلاة وكمها ، ففي فرادي الصلاة هي القصر من الركوع والسجود (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) إيمانا لها أو انحناء قدر المستطاع ـ كما (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا).

وقد تعني «أن تقصروا» هنا كلا القصرين في الموردين ، وقد صرح بالثاني وهو القصر جماعة في ثانية الآيتين : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ).

فهناك قصر من الصلاة في كيفها دون كمها ، وهنا قصر منها في كمها دون كيفها قضية اختلاف الظرفين الضروريين ، وقد يقصر من كمها وكيفها كما في صلاة الغرقى والمهدوم عليهم ، والضرورات تقدر بقدرها.

ف (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) قد تشمل مثلث القصر إلى مثناه ومثناه إلى

٢٨٨

موحّده حسب مختلف الظروف والملابسات المقتضية للقصر من الصلاة ، حفاظا على الأهم فالأهم كما هو المفروض كلما دار الأمر بين المهم والأهم.

وذلك القصر أيا كان لا يعني ـ قط ـ قصرا في معنى الصلاة وروحيتها ، إذ لا خوف فيها ، بل والخوف يزيدها صلة بالله واتجاها إلى الله ، والقصر من الصلاة كما أو كيفا عزيمة وليس رخصة.

والخوف من العدو ليس في نفسه بالذي يقصر من عديد الركعات ، إنما هو من الركوع والسجود اللذين هما مجال الاغتيال ، ولكنه في فرادي الصلاة ، وأما الجماعة باقتسامها قسمين أو أقسام فالقصر منها مقصور في الركعات دون الركوعات والسجودات ، فإن الذين هم وراء المصلين يحافظون عليهم.

وهنا الضرب في الأرض يعم سفر القصر وسواه من سفر وسواه ، حيث الضرب هو الخروج عن المأمن بيتا وسواه إلى جو سافر ، لمسافر وسواه ، وحتى إذا اختص الضرب بالسفر فلا يختص بسفر القصر ثم يلغى الإختصاص بأصل السفر لمكان (إِنْ خِفْتُمْ) فإنه هو الأصل ، كما ويلغى الخوف من الكفار المهاجمين ، فذكر السفر وخوف العدو الكافر ليس إلّا لأنهما الظرف الأكثرى المتعوّد لهكذا خوف يقصر من الصلاة ، ثم الضرب أعم من السفر والحضر كما في آيات ثلاث (١) ولو عني السفر ـ فقط ـ لجيء بلفظه الخاص كما في آيات ثمان (٢) فموضوعية السفر ولا سيما سفر القصر هنا ملغاة من عدة جهات.

__________________

(١) وهي «لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ» (٢ : ٢٧٢) و «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا» (٤ : ٩٤) و «إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ» (٥ : ١٠٦) وفي رابعة قورن الضرب في الأرض بالغزو «إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى» (٣ : ١٥٦) وهو ضرب في غير الحرب يعم ضرب السفر وسواه.

(٢) كما في ٢ : ١٨٤ و ١٨٥ و ٤ : ٤٣ و ٥ : ٦ و ٩ : ٤٢ و ١٨ : ٦٢ و ٣٤ : ١٩.

٢٨٩

ذلك ، ولكن الضرب في الأرض هو ضرب خاص من الانتقال دون مطلقه ، حيث الإنسان أيا كان هو دائم التنقل ، فليكن تنقلا خاصا لسفر أو حرب دون مطلقه.

وترى إن محظور الخوف لا يجعل الصلاة غير المقصور منها محظورة؟! فكيف ـ إذا ـ «لا جناح» دون «اقصروا» فرضا محتوما؟!.

«لا جناح» هي بنفسها أعم من العزيمة والرخصة ولننظر لعناية كلّ منهما بخصوصها إلى قرنية تخصها ، فإن لم نجدها لعزيمة ف «لا جناح» هي بطبيعة الحال رخصة.

فحين نسمع «لا جناح» بالنسبة للسعي وهو فرض ركني بدليل أنه من شعائر الله (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (٢٢ : ٣٢) فعدم تعظيمها تركا لها هو من طغوى القلوب ، إذا ف (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) (٢ : ١٥٨) لا تعني «لا جناح» فيها الرخصة ، بل العزيمة العظيمة ، وليست «لا جناح» هنا إلّا سلب الجناح المزعوم عن ذلك السعي حيث كانت بعض الأصنام في عمرة القضاء بين الصفا والمروة فتحرّج بعض من لم يسع عن السعي لمكان الأصنام ، فنزلت الآية بشأن سلب الجناح المزعوم.

وهكذا الأمر في (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا) هنا ، حيث القصر من الصلاة وسواها من الفرائض حكم بات ضروري في مجال الحفاظ على النفس ، وقد أمرهم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يقصروا من الصلاة فتحرجوا فنزلت «لا جناح» وتفسير آية التقصير في الرواية ـ أنه لا يعذر الذي ما قصر في السفر ـ يعني تفسير التأويل دون تفسير التنزيل ، فإن نصّ التنزيل

٢٩٠

بيّن في واجب القصر من الصلاة عند الخوف ولا يشمل صلاة غير الخائف (١).

__________________

(١) وهنا الروايات المجيبة عن «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ» هنا ب «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ» في السعي لا تعني إلا الاعتراض بالمثل نقضا لتحتم عدم الوجوب ، دون بيان تحليلي لعناية الفرض كما بيناه ، وإلا فلا تدل «فَلا جُناحَ عَلَيْهِ» بقرينة دالة على الفرض فيما لا قرينة عليه.

ومنها صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم انهما قالا قلنا لأبي جعفر (عليهما السّلام) ما تقول في الصلاة في السفر كيف هي وكم هي؟ فقال : إن الله عز وجل يقول (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر ، قالا قلنا : إنما قال الله عز وجل: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) ولم يقل : افعلوا فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال : او ليس قد قال الله عز وجل : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض لأن الله عز وجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ وكذلك التقصير شيء صنعه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وذكره الله في كتابه ، قالا : قلنا فمتى صلى في السفر أربعا أيعيد أم لا؟ قال : ان كان قد قرأت عليه ية التقصير وفسرت له فصلى أربعا أعاد وان لم يكن قرأت عليه ولم يعلمها فلا إعادة عليه ، والصلاة كلها في السفر الفريضة ركعتان كل صلاة إلا المغرب فإنها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في السفر والحضر ثلاث ركعات وقد سافر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الى ذي خشب وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان أربعة وعشرون ميلا فقصر وافطر فصارت سنة وقد سمى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قوما صاموا حين أفطر «العصاة» قال : فهم العصاة الى يوم القيامة وانا لنعرف أبناءهم وأبناء أبناءهم الى يومنا هذا» (الفقيه ١ : ٢٧٨).

أقول : وقد تظافرت الروايات بشأن عزيمة القصر ومنها ما رواه الأعمش عن الصادق (عليه السّلام) في حديث «ومن لم يقصر في السفر لم تجز صلاته لأنه قد زاد في فرض الله عز وجل.

وعن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): خياركم الذين إذا سافروا قصروا وأفطروا ، وصحيحة محمد بن احمد الاشعري رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السّلام) قال : من صلى في سفره اربع ركعات متعمدا فانا إلى الله عز وجل منه برىء.

٢٩١

ولقد كان حقا لهم أن يتحرجوا في ظاهر الحال ، حيث الضارب في الأرض ، الخائف من بأس العدو هو بأمس الحاجة إلى الصّلة الوثيقة بربه ، والصلاة هي أقرب الصلات إلى الله ، وقد أمرنا أن نستعين بالصبر والصلاة ، وخير مجالاتها هي حالة الخوف من أعداء الله للضارب في سبيل الله ، فكيف يقصر الضارب الخائف من الصلاة وقضية الموقف تطويلها؟.

ذلك! غير أن الصلاة الكاملة بركعاتها وركوعاتها وسجوداتها قد تعوق الضارب في الأرض عن الإفلات من كمين قريب ، أو تلفت إليه أنظار العدو فيعرفه ، أو قد تمكن منه وهو راكع أو ساجد فيفاجئه باغتياله ، فلذلك لا جناح عليه أن يقصر من الصلاة حفاظا على نفسه ، وله أن يزيد في روحية الصلاة بباطنها ، بدلا عما يقصر من ظاهرها ، فلم يفت ـ إذا ـ من صلاته شيء إلّا ظاهر من كمّ او كيف حفاظا على حياته.

وهنا الآية الاولى منصبة على صلاة الخائف ، إذا ضرب في الأرض وخاف العدو الكافر ، والضرب في الأرض مهما عنى الخروج للحرب ولكنها لا تختص بسفر القصر ، فلا موضوعية ـ إذا ـ للضرب في الأرض اللهم إلّا بيانا لأكثرية مصاديق عروض الخوف.

وكذلك (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) حيث المدار هو الخوف على النفس ، و (الَّذِينَ كَفَرُوا) ليست إلّا المصداق المترقّب من الخوف ، فلا موضوعية أصيلة في حكم صلاة الخائف أن يختص الخوف بما عن الكافر المهاجم.

إذا فالمحور الأصيل هو الخوف والخوف فقط ، في سفر القصر وسواه من سفر أو حضر ، وخوف من الكفار في أرض المعركة أو خوف اللصوص أو مفترس الحيوان أمّاذا.

٢٩٢

فحين يخاف العدو ولا يسع الوقت رجاء زوال الخوف أو تأكّده ، ويخاف اغتياله حالة الركوع والسجود أو القعود (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً) كما في آية البقرة ، إشارة للركوع والسجود ، أو انحناء قدر المستطاع.

وإذا اختص الخوف بواحدة من هذه الثلاث ركوعا وسجودا وقعودا أم ووقوفا فأربع ، فليترك ما يخاف فيه الغيلة دون سواه حيث الضرورات تقدّر بقدرها.

إذا فلا قصر من ركعات الصلاة لمجرد الخوف ، اللهم إلّا قصرا منها في سفر القصر ، ثم قصرا من كيفيتها قضية الخوف وهنا مجتمع القصرين ، ثم يفترقان في سفر لا خوف فيه فالقصر الأوّل ، أم خوف في غير سفر فالقصر الثاني.

ذلك! ولكن القصر من الصلاة حالة الخوف ولا سيما في أرض المعركة ، إنه طليق وهو أحرى من صلاة السفر ، فالمنفرد يقصر منها كما الجامع ، من ركعاتها ، ثم قد يقصر من ركوعاتها وسجوداتها إذا اقتضى الخوف ، وأخف قصر هو القصر من جماعة الركعة الثانية ، ثم القصر من الركعات ثم القصر من الركوعات والسجودات ، وقد يجمع بين الثلاثة أو اثنتين منها أم هو في واحدة ، حسب مختلف الظروف المتحكمة على الخائف.

فالمسافر سفر القصر وهو في أرض المعركة خائفا من الركوع والسجود وهو في جماعة يقصر من ثلاث ، والمسافر غير الخائف من واحدة كما والخائف غير المسافر ، اللهم إلا بزيادة الركعة الثانية في جماعة حيث ينفرد عنها.

وقد ترشدنا آية القصر إلى السماح في أي قصر من الصلاة هو قضية الخوف بقدره ، فضلا عن الاقتصار بالاضطرار حيث لا يجد إلى الإتمام سبيلا

٢٩٣

كالغريق والمهدوم عليه ، حيث الخائف قادر مسموح له حفاظا على الأهم وهذا غير قادر.

ثم وكذلك الحرج إذ (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢٢ : ٧٨) ومن ثم العسر حيث (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).

فكما لا يختص القصر من الصلاة بحالة الخوف حيث يعدو إلى غير المستطاع ـ بأحرى ـ وإلى المحرج والمعسر بدليل ، كذلك فلتكن صلاة المسافر على حدود السفر المقررة في السنة القدسية.

وحين لا تشملها آية القصر في ظاهر التنزيل فلتشملها باطن التأويل حيث السنة الرسالية تتبنى في قسم من جريها في مجاريها سنّة التأويل.

وحين نجد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقصر من الرباعيات ركعتين في مسيرة يوم بأغلب السير والغالب على المسير دونما خوف ، وإنما هو تعب في الأكثرية من السفر ، فليس لنا العجاب من سنة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تأويلا ، لعدم موافقتها الكتاب تنزيلا ، فإنها «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» (١) وردّ الصدقة مردود على قدر شأن المتصدق ، فرد

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٢٠٩ ـ أخرج جماعة عن يعلى بن امية قال سألت عمر بن الخطاب (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ ...) وقد امن الناس؟ فقال لي عمر : عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن ذلك فقال : صدقة ...

فيه عن امية بن عبد الله بن خالد بن أسد أنه سئل ابن عمر أرأيت قصر الصلاة في السفر انا لا نجدها في كتاب الله إنما نجد ذكر صلاة الخوف فقال ابن عمر يا ابن أخي ان الله أرسل محمدا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا نعلم شيئا فانما نفعل كما رأينا رسول الله يفعل وقصر الصلاة في السفر سنة سنها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) «وفيه عن حارثة بن وهب الخزاعي قال : صليت مع ـ

٢٩٤

الصدقة الربانية أردء رد وأشنعه.

ذلك ، وإذا كانت الآية نازلة مرتين ، والخوف في الثانية (١) أصبح كل من السفر والخوف موضوعا لحكم القصر ، وأحد الوجهين تنزيلا وتأويلا يكفينا في سنة القصر لأنها من فعل الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) (٢) و (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ف (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (٤ : ١٠٥) اراءة خاصة بوحي السنة بعد عامتها بوحي الكتاب ومن الخاصة تأويل الأحكام ، والقصر في السفر هو مما أراه الله ، فهو ـ دون ريب ـ حكم الله ، تنزيلا في وجه وتأويلا في وجه والثاني أوجه حسب التأليف.

فلا يصغى الى قول القائل إن القصر من الصلاة مخصوص بالخوف! (٣)

__________________

ـ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الظهر والعصر بمنى أكثر ما كان الناس وآمنه ركعتين» وعن ابن عباس قال : صلينا مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين مكة والمدينة ونحن آمنون لا نخاف ركعتين.

(١) المصدر أخرج ابن جرير عن علي (عليه السّلام) قال سأل قوم من التجار رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا يا رسول الله انا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ...) ثم انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فصلى الظهر فقال المشركون لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم ان لهم مثلها أخرى في أثرها فأنزل الله بين الصلاتين (إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ ..) فنزلت صلاة الخوف وفيه أخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم قال قال رجل يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إني رجل تاجر اختلف إلى البحرين فأمره أن يصلي ركعتين.

(٢) لقد تواتر من طريق الفريقين عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأئمة أهل بيته (عليهم السّلام) وجوب القصر في السفر مهما اختلفت حدوده ، وإذا اشتبهنا في حده فلا قصر إلا في القدر المتيقن ، ولكنه معلوم كما يأتي نبأه بعد حين.

(٣) الدر المنثور ٢ : ٢١٠ ـ أخرج ابن جرير من طريق عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ـ

٢٩٥

كما ويعارضه ما نقل عنه مرات عدة.

وعالم التأويل يعلم تأويل القصر عند الخوف أنه تعب ما بدنيا أو روحيا ، وآية القصر إنما تكفلت الثاني وهو الخوف ، وسنة القصر تتكفل الأوّل وهو تعب يحصل للأكثر في مسيرة يوم بأغلب السير والغالب على المسير ، وهو عسر نوعي ، وكما رفع العسر في فرض الصوم : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) فالمرض المعسر شخصيا يعذر عن الصوم عزيمة ، كما السفر المعسر نوعيا ، إذا ليست ثمانية فراسخ اليوم ـ وبهذه الوسائل الحدثية ـ عسرا ، فإنما «مسيرة يوم بأغلب السير والغالب على المسير».

ولأن الحدين غير متوازيين على طول الخط حيث المسيرة تتقدم دوما بتقدم وسائل السير فلتكن هيه أو الثمانية أصلا والثانية إمارة وفرعا.

فالأصل هو الأصيل المبنى في كل زمن ، والفرع هو الحصيل من قدر السير

__________________

ـ بكر الصديق قال سمعت أبي يقول سمعت عائشة تقول في السفر : أتموا صلاتكم ، فقالوا ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يصلي في السفر ركعتين فقالت : «ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في حرب وكان يخاف هل تخافون أنتم» وفيه أخرج ابن جرير عن ابن جريح قال قلت لعطاء أي اصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يتم الصلاة في السفر؟ قال : عائشة وسعد بن أبي وقاص.

وفيه أخرج مالك وعبد بن حميد والبخاري ومسلم عن عائشة قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر.

وفيه أخرج ابن جرير عن امية بن عبد الله أنه قال لعبد الله بن عمر انا نجد في كتاب الله قصر الصلاة في الخوف ولا نجد قصر صلاة المسافر فقال عبد الله : انا وجدنا نبينا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعمل عملا عملنا به.

وفيه أخرج البيهقي عن ابن عباس أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال يا أهل مكة لا تقصروا الصلاة في أدنى من اربعة برد من مكة الى عسفان.

٢٩٦

بأكثرية وسائله في كل زمن ، وقد كانت الثمانية هي الحصيلة المعتدلة لمسيرة يوم لوقت مّا ، فلا تستجر إلى زمن السيارات التي تجتاز الثمانية في أقل من نصف ساعة ، وكما أن وسائل السير لا حقا ليست أصلا للسابق كذلك التي للسابق ليست أصلا للاحق فلكل زمن بوسائله الأكثرية قدره من المسافة لأصل المسيرة.

ولأن الأصل في الرباعية أن تبقى كما هيه إلّا بدليل قاطع لا مردّ له ، فلا أصل للفتوى بوجوب القصر في ثمانية فراسخ بصورة طليقة في كل عصر ، إنما هي إذا كانت مسيرة يوم كما قررت هي المحور الأصيل لحد القصر ، والفراسخ أمارات وقتية في الزمن الذي كانت هي مسيرة يوم.

فلا تجد في رواية ـ ولا لمحة ـ أن الأصل هي الفراسخ ، وبالعكس نجد مسيرة يوم هي الأصيلة حيث تمحورها روايات عدة في واجب القصر.

وحتى إذا شككنا في الأصل بين الحدين فقضية الأصل هي الحد الأعلى حيث الأصل هو الأربع ما لم نقطع بقصرها ، ثم الروايات الحاكمة مصرحة بأصالة مسيرة يوم وأن الثمانية إمارة وقتية وليست دائمة.

فهنا الروايات المقررة أن حد القصر ثمانية فراسخ (١) مع المقررة أنه مسيرة يوم (٢) تتعارضان فيما إذا زادت مسيرة يوم على الثمانية كما في زمننا ، ثم

__________________

(١) كما في حسنة عبد الله بن يحيى الكاهلي قال سمعت أبا عبد الله (عليه السّلام) يقول في التقصير في الصلاة قال : بريد في بريد اربعة وعشرون ميلا ، وفي الحسن أو الموثق عن عيص بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال في التقصير حده اربعة وعشرون ميلا.

(٢) كما في صحيحة علي بن يقطين قال سألت أبا الحسن الاول عن الرجل يخرج في سفره وهو مسيرة يوم؟ قال : يجب عليه التقصير إذا كان مسيرة يوم وإن كان يدور في عمله.

٢٩٧

المخيّرة بينهما تزيدنا حيرة (١).

ومن ثم المؤصّلة للمسيرة (٢) تقرر مصيرة الثمانية أنها إمارة وقتية غير

__________________

(١) منها صحيحة أبي أيوب عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال سألته عن التقصير فقال : في بريدين أو بياض يوم. ومثلها صحيحة أبي بصير عنه (عليه السّلام) ، وعن سماعة في الموثق قال سألته عن المسافر في كم يقصر الصلاة؟ قال : في مسيرة يوم وذلك بريدان وهما ثمانية فراسخ.

(٢) ومنها معتبرة فضل بن شاذان عن الرضا (عليه السّلام) قال : وانما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال فوجب التقصير في مسيرة يوم ، قال : «ولو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة الف سنة وذلك لأن كل يوم يكون بعد هذا اليوم فانما هو نظير هذا اليوم فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره» أقول : لو لم تكن المسيرة هي الأصيلة لما كان لتلك الحجة أصل ، فإنها لا تصلح في الثمانية ، انما هي صالحة في حدّ المسيرة لا سواها.

ورواه في العلل والعيون بالزيادة التالية : «وقد يختلف السير فسير البقر انما هو أربعة فراسخ وسير الفرس عشرون فرسخا وإنما جعل مسيرة يوم ثمانية فراسخ لأن ثمانية فراسخ هو سير الجمال والقوافل وهو الغالب على المسير وهو أعظم المسير الذي يسيره الجمالون والمكاريون» (الوسائل ٥ : ٤٩٣).

وموثقة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليهما السّلام) قال سألته عن التقصير قال : في بريد قلت بريد؟ قال : «انه ذهب بريدا ورجع بريدا فقد شغل يومه» أقول : فشغل اليوم المحور الأصيل للقصر لا سواه وحسنة يحيى الكابلي انه سمع الصادق (عليه السّلام) يقول : كان أبي يقول : ان التقصير لم يوضع على البغلة السفواء والدابة الناجية وإنما وضع على سير القطار» (الوسائل ٥ : ٤٩١) وفي خبر عبد الوهاب عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال قلت له : كم أدنى ما يقصر فيه الصلاة؟ قال : جرت السنة ببياض يوم ، فقلت : ان بياض يوم يختلف يسير الرجل فيه خمسة عشر فرسخا ويسير الآخر أربعة فراسخ في يوم؟ فقال : انه ليس إلى ذلك ينظر أما رأيت سير هذه الأثقال بين مكة والمدينة ثم أومأ بيده : «أربعة وعشرين ميلا يكون ثمانية فراسخ» (الوسائل ٥ : ٤٩٢ ح ١٥) أقول : جرت السنة ببياض يوم نص في أصالته دون الثمانية وعن أبي جعفر الباقر (عليه السّلام) في حديث «وقد سافر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى ذي خشب وهي مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان أربعة وعشرون ميلا فقصر وأفطر فصارت ـ

٢٩٨

أصيلة ، ومن ثم تتأيد روايات المسيرة بأنها هي الملائمة لأصل الخوف المقصّر من الصلاة حيث يساميه أو يساويه التعب الأكثري بدنيا كما الخوف تعب روحيا ، وليس تلحيق ثمانية فراسخ ـ التي ليست في يومنا هذا بأكثرية الوسائل إلا دقائق ـ ليس تلحيقه بالخوف من العدو إلّا كجر الجمل بشعرة ، فما هي المناسبة بين دقائق مريحة من السفر وبين الخوف من العدو حتى يصطفّا في صف واحد في الإعذار عن إتمام الصلاة والصيام ، لا سيما وأن آية الإعذار عن الصيام تعلله بالعسر :

(.. فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ..) (٢ : ١٨٥).

فكما المرض المعسر في الصيام هو العاذر لا سواه ، كذلك السفر المعسر ، مهما اختلفا في فردية الإعسار كما في المرض ، وجمعيته كما في السفر ، فقد قررت المشقة أصلا في القصر (١).

ومن ثم فكيف بالإمكان في حكم الحكيم المنان أن يعذرنا عن الإتمام والصيام في سفرة مريحة خلال دقائق نجتاز فيها ثمانية فراسخ ، ولم يعذر المسلمين قبلنا في أقل منها وهم يجتازونها طوال يوم ، ولم تكن الطرق جادة معبّدة في نفسها ولا الوسائل المستفاد منها؟!.

__________________

ـ سنة» أقول : أي فصارت مسيرة يوم سنة كما في الخبر السابق دون «بريدان» وإلا كان حق العبارة «فصارا» فقد جرت السنة ـ إذا ـ على المسيرة دون الثمانية.

(١) في صحيحة زرارة سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) أن أهل مكة يتمون الصلاة بعرفات؟ فقال : ويلهم أو ويحهم وأي سفر أشد منه لا تتم» وعن معاوية عمار مثلها إلا انه قال : لا تتموا ، وعن علي بن مهزيار عن فضالة عن معاوية مثلها ورواه الكليني عن صفوان بن يحيى مثله (الوسائل ٥ : ٤٩٩).

٢٩٩

إذا فعساكر البراهين كتابا وسنة وحكمة حكيمة ربانية تحكم بواجب الإتمام والصيام في أقل من مسيرة يوم بأغلب السير والغالب على المسير ، ولا أقل من ألف كيلومترا أم تزيد.

وقد يأتي زمن تصبح الطائرات هي الأغلبية من وسائل السير ، فلا قصر إذا ولا إفطار في أقل من مسيرة يوم بالطائرات.

وإذا أتى زمن حالت أكثرية وسائل السفر حول الكرة الأرضية في أقل من يوم فلا قصر ـ إذا ـ ولا إفطار ، حيث يدوران مدار المسيرة بأغلب السير والغالب على المسير ، دون الثمانية التي لا تحسب الآن بشيء فضلا عما بعد الآن.

وجملة القول في روايات القصر أنه ليس إلّا بسبب المشقة النوعية ، وهي في مسيرة يوم.

وهو الغالب على المسير وهو أعظم المسير ، المختلفة مسافة باختلاف وسائل السير ، ولا يختص حد المسيرة ـ للطول التاريخي الإسلامي ـ بالمسيرة السابقة بالراحلة التي كانت تجتازها في ثمانية فراسخ ، فإنما لكل يوم مسيرة يوم حسب الأغلبية من وسائل السير.

وكما الإسلام لا يمحور أهل زمن الوحي وسواه لسائر الزمن في أحكامه ، كذلك لا يمحور الزمن السابق بوسائله الخاصة لسائر الزمن.

فالمسيرة المقدرة سابقا بثمانية فراسخ بأغلبية الوسائل حينذاك ، ليست تستجر إلى زمن السيارات والطائرات ، إذ ليس المسلمون هنا فروعا للمسلمين هناك ، وإنما لكل زمن قضيته من قدر المسيرة حسب الأكثرية من وسائل السير.

ولا نجد ولا لمحة أن المسيرة مقدرة بالوسائل السابقة للطول التاريخي

٣٠٠