الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٩٨

وقتل الأنبياء وسواهم هو في مثلث مهما اختلفت زواياه :

١ سفك دمائهم بأيديهم عنادا وعتوا على رسالات الله.

٢ التسبب لتقلهم ان يذيعوا عنهم أمورا يسبب قتلهم (١).

٣ الرضا بما فعل القتلة حيث الراضي بفعل قوم هو منهم.

(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٨٣ في اصول الكافي يونس عن ابن سنان عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) وتلا هذه الآية قال : والله ما قتلوهم بأيديهم ولا ضربوهم بأسيافهم ولكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا فصار قتلا واعتداء ومعصية.

٣٤١

أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ

٣٤٢

الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢٩)

(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ١١٣ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ

٣٤٣

الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ١١٤ وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) ١١٥.

إن اللّاسواء بين اهل الكتاب هو قضية عدل الله كما اللاسواء حاكم بين المسلمين وسائر الموحدين على شتات مذاهبهم ، ف «ليسوا» اهل الكتاب الماضي ذكرهم بسوء «سواء» ام (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) آخرين منهم ف (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) إذا هي ذات تعلقين اثنين.

فبمجرد أن فلانا يهودي أو نصراني لا يقضى عليه بذلة ومسكنة أماهيه من أحكام الكفرة العصاة المعتدين ، حيث العبرة الأصيلة في ميزان الله هي الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات ، كما وأن مجرد اسم الإسلام والإيمان ليس لزامه الأمان من ذلك الحكم العدل الحكيم.

وهذه الآيات الثلاث تحمل عشرة كاملة من ميزات بين موجبات ومنتوجات لزمرة ـ مهما كانت قليلة ـ من أهل الكتاب ، تعدّهم أخيرا من المتقين.

وهذه ضابطة ثابتة في منطق القرآن أن الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات ليست لتهدر على أية حال ، مهما كان حاملها كتابيا أو مسلما ، ف (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٢ : ٦٢) (١).

وترى هنا (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) تعني الكتابيين الذين آمنوا بشرعة الإسلام؟ وصالح التعبير عنهم «المؤمنين» او (الَّذِينَ آمَنُوا) لسابق كونهم كتابيين ثم

__________________

(١) راجع الفرقان ١ : ٤٣٤ ـ ٤٤٤ تجد قولا فصلا حول موضوع الآية فلا نعيد.

٣٤٤

آمنوا! ، إنهم هم المؤمنون من أهل الكتاب سواء الذين آمنوا منهم بالفعل فندد بهم زملاؤهم الكتابيون (١) أم لمّا يؤمنوا وهم يتحرون عنه ، أم القاصرون عن معرفة الإسلام مهما كانوا تالين الكتاب ، وقد شملهم (لَيْسُوا سَواءً) مهما كان الأول هامشيا لأن حساب السواء لم يكن من الأحبار المنددين بمن أسلم منهم.

هذا ، والى تلك العشرة الكاملة العشيرة لأهل التقى من اهل الكتاب :

١ (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) في تحقيق الحق وإبطال الباطل ، دون فشل ولا كسل ، حيث الفاشلون الكسالى من أية امة كتابية او مسلمة لا تحسب بحساب المتقين.

إذا ف «قائمة» تعم كل قيامة وقوامة بالعدل والقسط وما يحق القيام به وفيه وله وعليه وإليه في شرعة الله وكما يذكر من مهامها :

٢ (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ) فالليل الرياحة حين تتلى فيه آيات الله ، تكون المتلوة فيه أخلص وأنبى : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً).

و (آياتِ اللهِ) دون المسماة بتوراة او إنجيل ، تلمح ان القصد منها آيات الوحي غير الخليطة بسواها ، فهي القرآن وما قبله من آيات وحي التوراة والإنجيل.

وترى إذا كان التوراة والإنجيل محرفين كما يصرح به القرآن فكيف بإمكان

__________________

(١) الدر المنثور ٢ : ٦٤ ـ اخرج جماعة عن ابن عباس قال : لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعيد واسد بن عبيد ومن اسلم من يهود معهم آمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام قالت أحبار يهود واهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد وتبعه إلا شرارنا ولو كانوا خيارنا ما تركوا دين آباءهم وذهبوا الى غيره فأنزل الله في ذلك (لَيْسُوا سَواءً ...)

أقول : ليسوا سواء قد لا يناسب خصوص هذا الشأن لنزول الآية إذ لم يحب الأحبار لهم حساب السواء بل كان حسابهم اللاسواء.

٣٤٥

مؤمني أهل الكتاب ولا سيما القاصرين منهم ان يتلوا آيات الوحي منهما؟.

قد يعني من (آياتِ اللهِ) ما يعرفونها من أصل الوحي مهما اخطأوا قاصرين ، دون الآيات التي يعرفونها دخيلة في وحي الكتاب.

فتلاوتهم للتوراة والإنجيل تعني تلاوة آيات الله ما لم تتبين لهم منها أنها دخيلات متسربات.

او يقال «يتلون» حسب المستطاع حيث يحاولون ـ فقط ـ تلاوة آيات الله دون المختلفات الزور والغرور.

ولأن هؤلاء هم الذين يعلمون الكتاب اجتهادا او تقليدا فهم أولاء الذين يميزون الأصيل من الآيات عن الدخيل ، فهم بامكانهم تلاوة آيات الله ، ثم آيات الله تعم مع سائر كتب السماء القرآن العظيم ، والمحاول إيمانيا أن يتلوا آيات الله مهما غلط فيها او عنها الى الدخيلة فيها قاصرا صادق عليه انه يتلوا آيات الله.

٣ (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) لله دون سواه من مسيح وسواه عند من حسبوه ابن الله او الله ، وأما الساجدون لمن سوى الله مسيحا وسواه فهم الضالون مهما كانوا قاصرين ، حيث الفطرة الإنسانية السليمة تشجب السجود لغير الله مع السجود لله.

وهنا (هُمْ يَسْجُدُونَ) تعم السجود لآيات الله وهو غاية الخضوع الطليق لها في كل مراحلها ، الى السجود في الصلاة لله ، والى غاية الخضوع لله ، فلا تخص سجودا خاصا حيث الكل هو شريطة صالح الإيمان دون تبعيض.

٤ (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ايمانا صالحا غير دخيل ، حيث التثليث وما أشبه من انحرافات عن الإيمان بالله ليس ايمانا بالله ، وكذلك اليوم الآخر كما هو مسرود في آيات الله.

٣٤٦

٥ ـ ٦ (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهما البعد الثاني من الإيمان لفاعل المعروف وتارك المنكر ، ولأن الأمر والنهي بحاجة اساسية الى معرفة المعروف والمنكر وعمل المعروف وترك المنكر ، فهم أولاء العدول منهم كما وهم علماء لمكان (يَتْلُونَ آياتِ اللهِ) دون اختصاص بعلمائهم فان شرط المعرفة بالمعروف والمنكر والائتمار والانتهاء يحصل بتقليد كما يحصل باجتهاد ، مهما كان على المقلد الاجتهاد السليم في تقليده.

٧ (وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) في كل ميادين سباقات الخيرات ، دون ركود ولا جمود ، فحياتهم كلها حركات في مسارعة الخيرات.

٨ (وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) وهم الرابع من مربع الصراط المستقيم : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (٤ : ٦٩).

٩ (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) كفرانا لكونهم كتابيين ام لسابق حالهم قبل ان يكونوا مسلمين.

١٠ (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) يثيبهم كما يتقون مسلمين ام كتابيين.

وهذا العشرة لا تجتمع إلا في نبلاء اهل الكتاب وقليل فيهم قاصرون ، وكثير هؤلاء الذين آمنوا أم هم يتحرون عن صالح الإيمان فهم مسلمون.

فلا كفران لمساعي المتقين أيا كانوا ، دون ان تنقص منها سابقة سوء هم عنها الآن خارجون ، وطالما الكتابي الذي يؤمن أم هو في سبيل الإيمان مكفّر عند من يجهل المقاييس ولكنه غير مكفور عند الله بل هو مشكور ، بل إن المؤمن مكفر وذلك أن معروفه يصعد الى الله عز وجل ولا ينتشر في الناس والكافر مشهور وذلك ان معروفه للناس ينتشر في الناس ولا يصعد إلى الله (١).

__________________

(١) نور الثقلين ١ : ٢٢٢ في كتاب علل الشرائع عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ...

٣٤٧

وقد يروى عن أول العابدين : «يد الله فوق رؤوس المكفرين ترفرف بالرحمة» (١) ، و «كان رسول الله مكفرا لا يشكر معروفه ولقد كان معروفه على القرشي والعربي والعجمي ومن كان أعظم معروفا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذا الخلق وكذلك نحن أهل البيت مكفرون لا يشكر معروفنا وخيار المؤمنين مكفرون لا يشكر معروفهم» (٢).

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ١١٦.

هنا «كفروا» اللامحة إلى حادث الكفر بعد إيمان تعم الكفر بعد الإيمان واقعيا ، أم إيمان هو قضية الفطرة السليمة والعقلية غير الدخيلة ، والكفران هما بدركاتهما مشمولان ل (الَّذِينَ كَفَرُوا) ونتيجته (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) في الدنيا والآخرة «وأولئك» البعاد هم (أَصْحابُ النَّارِ) على مدار الحياة في الأولى والأخرى (هُمْ فِيها خالِدُونَ) قدر كفرهم دون خلود لا نهائي مزعوم!.

(مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) ١١٧.

رغم انه لا بد في الإنفاق أن يثمر نتاجا قدره ، ولكنهم (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) إنفاقا فيها وفي سبيلها ـ مهما كان في زعمهم في سبيل الله

__________________

(١) المصدر عن العلل باسناده الى السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : ...

(٢) المصدر عن العلل بسند متصل عن علي بن أبي طالب قال : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكفرا ...

٣٤٨

وهم خالفوها الى سواها حيث يبغونها عوجا والإفكل إنفاق هو في هذه الحياة ، سواء أكانت لها أم للأخرى ، ولقد كانت اليهود تنفق أموالا طائلة لإيذاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإلاتاحة به ، كأنهم ينفقونها في سبيل الله ، وهو في الحياة الدنيا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً) (٨ : ٣٦).

ذلك مثله (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) والصرّ هو الشدة والسرعة التي تصحبها لهيب النار أم برودة ثلجيّة لا تبقي للحرث باقية ، وكلاهما من شؤون النار حريقا او زمهريرا (١) فكلما كان صرّ إنفاقهم وشدته عدة وعدة اكثر ، كان هلاكهم في عدتهم وعدتهم أوفر ، فإنفاق الكافر أيا كان لا يخلو عن ثالوثه المنحوس للكفر المحبط لأعماله :

إنفاقا في سبيل الله ، او الذي يزعمه انه في سبيل الله ، او يعلمه انه في الصد عن سبيل الله مهما اختلفت دركاتها.

وذلك المثل يلمح ـ ضمن ما يمثل انفاق الكفار ـ ان الصر إنما يصيب حرث قوم ظلموا أنفسهم ، مهما شمل حرث من سواهم محنة دون من أصابهم مهنة.

(وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) مثلا وممثلا بهم (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) وذلك الهلاك لما ينفقون ليس إلا من خلفيات ظلمهم أنفسهم.

__________________

(١) وشاهدا على صر البرد :

لا يبردون إذا ما الأرض جللها

صر الشتاء من الأمحال كالادم

ومن ذلك (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ).

٣٤٩

ثم (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) تشمل ثالوث الظلم ـ نفسا وسواها وبالحق ـ حيث المرجع فيها أنفسهم ، مهما انضرّ به غيرهم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بإهلاك حرثهم عن بكرته (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث كفروا فأحبط الله اعمالهم فانه عليهم أضر وأنكى.

(وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) (٤٠ : ٣١) لا ظلما بهم بما أمرهم ونهاهم وجازاهم ، ولا ظلما منهم بأنفسهم وسواهم ، فلا ظلم في ساحة الربوبية على أية حال ، فإنما الظالم هم العباد بسوء اختيارهم.

ذلك! فهم أولاء الانكاد البعاد الذين تنكبوا المنهج الجامع لمفردات الخيرات ، الحافلة للمبرات الكافلة للمكرمات ، فاختاروا لأنفسهم الشرود والضلال والانفلات من عصمة حبل الله جميعا ، فعملهم ـ إذا ـ وكل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا ، هباء ، إذ لا قيمة لخير إلّا ان يتبنى منهج صالح الإيمان.

ذلك ، وإلى تحذير من هؤلاء الملاعين ، المبايعين للدين بهذا الأركس الأدنى من زخرفات الحياة الدنيا ، كيلا ينفر المؤمنون بما يعرفون فينضروا بما يضرون إسرارا وإعلانا :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ١١٨.

البطانة خلاف الظهارة ، وتستعار لمن تختصه بالاطلاع على خفيات أمورك المستسرة ، فقد تكون بطانة خير فمحبورة مشكورة ، ام بطانة شرة فمحظورة محذورة (١).

__________________

(١) في غريب القرآن للراغب وروي عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) انه قال : ما بعث الله من بني ـ

٣٥٠

و (بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) تعم من سوى المؤمنين ، ملحدين او مشركين او مسلمين : منافقين او الذين أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم ، ولكن (لا يَأْلُونَكُمْ ... وَدُّوا ... قَدْ بَدَتِ ...) تستثني الآخرين ، كما وقد تستثني غير المعاندين من الكفار ، ولكن غير المؤمن أيا كان لا يصلح أن يكون بطانة للمؤمن ، مهما اختصت هذه العلل لسلبية البطانة بالأعداء الألداء منهم.

و «بطانة» هنا قد تكون ذات تعلقين اثنين (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) هي «من دونكم» و «لا تتخذوا من دونكم بطانة» فدون المؤمنين لا يصلح لكونهم بطانة للمؤمنين ولا سيما في جمعية المصالح الإسلامية التي هي بحاجة إلى شورى العابد من أمة الإسلام كما فصلناها على ضوء آية الشورى.

وهنا مربع الحكم الحكيمة تعلّل «لا تتخذوا» لنكون على بصيرة في أمرنا معهم :

١ (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) والخبال لغويا هو الفساد الذي يلحق الحيوان فيورثه اضطرابا ، كما بالنسبة للمنافقين في أخرى : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كارِهُونَ) (٩ : ٤٨).

و «خبالا» في آيتنا ، نكرة في سوق النفي ، تشمل كل خبال ثقافي ـ عقيدي ـ خلقي ـ اقتصادي ـ سياسي ، أمّا ذا من فساد واضطراب.

__________________

ـ ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحثه عليه.

أقول : ولكن بطانة الشر ما كانت تقدر على إضلاله وما كان نبي ولا خليفة نبي يتخذ لنفسه بطانة شر مهما لصقوا به.

٣٥١

و «يألونكم» : يقصرونكم من الألو : التقصير ، فهم أولاء لا يقصرونكم خبالا وفسادا في أيّ من حقوله ، فذلك مدى جهدهم في خبالكم ما استطاعوا إليه سبيلا ، فإن لم يقدروا على خبالكم بذات أيديهم فهم ـ لأقل تقدير ـ يودونه :

٢ (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) : ودوا عنتكم ـ في مصدرية «ما» ـ والذي عنتموه ـ في موصوليته ـ والعنت هو الأمر الذي يخاف منه التلف ، فهم ـ إذا ـ لا يألونكم خبال العنت وسواه حيث يودون أن يكون كل أمركم إمرا وصعوبة وهلاكا حيث يبغضونكم على أية حال :

٣ (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) أتوماتيكيا رغم ما يحافظون على قيلاتهم أمامكم ، فما يضمر أحد أمرا إلّا وقد يظهر في صفحات وجهه وفلتات لسانه.

٤ (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) مما تبدو من أفواههم ، وهذه هي آيات عداءهم العارم ـ (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).

ويا لها من صورة بينة السمات ، ظاهرة الوصمات لاعداءنا الالداء ، تنطق لائحة بدخائل هذه النفوس البئيسة التعيسة ، تسجل المشاعر الباطنة والانفعالات الظاهرة والحركات المتأرجفة ذاهبة وآئبة ، وكل ذلك لنموذج بشري شرير في الطول التاريخي والعرض الجغرافي ، نستعرضها في حالنا ومستقبلنا كما عرضوا علينا في ماضينا.

هؤلاء الانكاد الذين يتظاهرون للمسلمين بالمودة في ساعة القوة ، فتكذبهم كل خالجة منهم وخارجة ، وينخدع بهم المسلمون لظاهر رحمتهم غفلة او تغافلا من باطن زحمتهم فيمنحونهم الثقة والوداد ، وهم لا يألونهم خبالا ونثرا لأية شائكة في طريقهم ما سنح لهم وفسح من شر وضر.

٣٥٢

تلك الصورة كانت منطبقة تماما على قسم من اهل الكتاب الحضور زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث جاوروه في المدينة بكل غيظ كظيم مضمر على المسلمين ، والنوايا الخبايا السيئة التي كانت تجيش في صدورهم ، والبعض من المسلمين كانوا ـ ولا يزالون ـ ينخدعون بمظاهرهم الحلوة ، فيلقون إليهم بالمودة ، ويأمنونهم على اسرار لهم كبطانة امينة ، فجاء ذلك التنوير التحذير ، دون اختصاص بزمن دون زمن ، بل هو حقيقة ثابتة تواجه ذلك الواقع المرير الشرير من هؤلاء المنافقين ، اهل كتاب او مسلمين.

ذلك! فهل من عقل الإيمان أن تودوهم وتحبوهم دونما عائدة إلا ضرا؟.

(ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ١١٩.

«ها» تنبيه لهامة الموقف الخطير «أنتم» المسلمين «أولاء» «تحبونهم» أولاء الكافرين ، وذلك خلاف العقلية الإيمانية ، فأنتم «أنتم» المؤمنون الصالحون و «أولاء» أولئكم الكائدون الحاقدون ، فكيف «تحبونهم» و «الحال أنهم» لا يحبونكم ، أفحبا من ناحية إمام بغض من أخرى ، ودون أن يؤثر ذلك الحب تخفيضا من ذلك البغض البغيض ، بل تعزيزا لبغضهم ، وتمكينا لهم من خبال وإدغال؟.

ثم (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) هذا القرآن وما بين يديه من كتاب ، وهم لا يؤمنون بالكتاب كله ، ولا حقّا بالكتاب بعضه ، إذ لا يتبعون كتاباتهم فضلا عن كتابكم.

وقد تلمح (بِالْكِتابِ كُلِّهِ) دون «الكتب كلها» بوحدة الكتاب لوحدة الأمم الكتابية بوحدة الرسالات.

٣٥٣

ثم (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) إذ يرونكم جميعا وهم شتى ، ولكم قوة وسداد وهم في ضعف وبداد ، ولا جواب لهم في بغضهم البغيض إلّا :

(قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) ومنها صدوركم المليئة من بغض المؤمنين ، وهنا (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) أمرا ، يعاكس (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) نهيا ، وهما في مجرى واحد في حالة الإختيار ، فمهما لم يكن الموت تحت الإختيار ولكن الإسلام والكفر هما تحت الإختيار ، فقد تعني (مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) استمروا بغيظكم المميت عن حيويتكم ، او حتى الموت ، امرا تحذيريا هو ابلغ من النهي ك (اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ).

وقد تعني باء الغيظ كلا المعية والسببية ، فذلك الغيظ يميت صاحبه حين لا يجد مفلتا منه ولا من سببه ، وهو معه أينما حل وارتحل حتى الموت ، واستمرارية الغيظ تزيد فيه وتزيد حتى يميت.

وفي ذلك لمحة أن استمرارية الغيظ بمزيد هي من أسباب الموت ، لأنها حالة نفسية رديئة لا تستطيع النفس أن تتحملها ، فيوما مّا هي تتغلب عليها فتميت صاحبها.

وإذا كان الغيظ في سبيل الطاغوت فالموت موتان لصق بعض وردف بعض ، موتا حال حياته روحيا ، وموتا يقضي على حياته جسميا فيتم الموت ويطم كل كيانه : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) ، واما (بِذاتِ الصُّدُورِ) دون «الصدور» مجردة ، فلأن «ذات» : الصاحبة هي مؤنث «ذو» : الصاحب ، وصاحبة الصدور هي التي تصحبها من الضيق والإنشراح بكفر أو إيمان أم أي كان من حالات محبورة او محظورة.

٣٥٤

وترى لماذا هنا وفي كثير سواه (بِذاتِ الصُّدُورِ) دون «ذات القلوب» وهي اصل الروح وعمقه؟.

علّه لأن القلوب ايضا هي من ذات الصدور بكل حالاتها ومجالاتها : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٢٢ : ٤٦).

فكل حالة حسنة او رديئة ، منشرحة او ضيّقة في الصدور هي المؤثرة بالمآل في القلوب ، فالقلوب هي من ذات الصدور وليست الصدور هي من ذات القلوب.

ثم ابتلاء ما في الصدور تقدمة لتمحيص ما في القلوب : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) (٣ : ١٥٤).

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) ١٢٠.

«ان تمسسكم» حالة «حسنة» مادية او معنوية ، فردية أو جماعية أمّاهيه من حياة حسنة «تسؤهم» هذه الحسنة إذ (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ).

(وَإِنْ تُصِبْكُمْ) حالة «سيئة» من ضيق معيشي او انهزام حربي ام نكسة عقيدية أماهيه (يَفْرَحُوا بِها) ولا علاج في تلكم المواجهة المعاندة إلّا الصبر والتقوى.

(وَإِنْ تَصْبِرُوا) في كل حسنة وسيئة ، وما يسوءون ويفرحون ، دون انفلات عن ثابت الإيمان «وتتقوا» عن المحاظير التي هي نتيجة طبيعية لاختلاف الحالات والواجهات ، إذا (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) اللهم إلا أذى بسيطة متحمّلة (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) فهو الذي يدافع عنكم بدافع إيمانكم : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) (وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) وهو الذي

٣٥٥

يحيطكم علما بمكائدهم ومصائدهم فتحذروهم مهما كانوا أقوياء فإنهم كائدون أغوياء ، وان الله لا يهدي كيد الخائنين ، وهو الذي يجازيهم بكيدهم فإنه بما يعملون محيط علما وقدرة.

وهنالك محور الرجاء لمس المصيبة وإصابتها هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم الذين معه : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ. قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (٩ : ٥١).

فيا عجباه من غفوتنا وغفلتنا حين تصفعنا التجارب المرّة من هؤلاء المنافقين مرة تلو مرة ولكننا لا نفيق ، ونرى المؤامرات تترى علينا بمختلف الأزياء بل اننا فيها نحيق ، فاتحين لهم قلوبنا ، وآخذيهم رفقاء الطريق ، فمن هنا نذل ونضعف ونستخذى ونلقى كل عنت وخبال حيث يدس في صفوفنا.

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٢٢).

من السيئات التي أصابت المسلمين هي الهزيمة العظيمة في أحد ، ففرحت بها أعداءهم من أهل الكتاب والمشركين ، وهكذا ترتبط آية الغدوّ بسابقتها : (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها).

وهنا تذكرة عابرة خاطفة بغزوة أحد وسبب الهزيمة ، ثم انتقالة إلى غزوة بدر السابقة عليها تدليلا على استمرارية الرحمة الغالية الربانية لهذه الأمة ما قاموا بشروطها ، وأن هزيمة الحرب هي من قضايا الهزيمة عن واجب التطبيق للإمرة الرسالية في حقل الحرب ام وسواها.

٣٥٦

ومن ثم تستمر التذكرة بحرب أحد وما خلّفت من بلورة الإيمان لقلة قليلة ، ومن زلزلة الاطمئنان وتأرجف الايمان لكثرة كثيرة ، كدرس للأمة الإسلامية مع الأبد ، نبراسا ينير الدرب على المجاهدين في خطوط النار للأخذ بالثأر والقضاء على العار ، ومتراسا يتترسون به في تقدمات الحرب وتقدّماتها.

وهنا انتقالة لطيفة عطيفة من معركة الجدال والتنوير والتوجيه والتحذير ، إلى معركة النضال في الميدان ، الى معركة أحد ومن قبلها بدر.

وهنا تنضم عراك في الضمير بطي العراك الدموية الفادحة ، ومعركة الضمير هي أوسع المعارك في مختلف النضال والجدال.

لقد كان النصر أولا في بدر ثم الهزيمة ثانيا في أحد ، وكما الانتصار كان عظيما حيث غلبت فيه فئة قليلة على فئة كثيرة بإذن الله ، كذلك كانت الهزيمة ايضا عظيمة ، ولكنّما الهزيمة خلفت ـ رغم أوجاعها وأجواءها المحرجة ـ انتصارا معرفيا ويقظة بعد غفوة للكتلة المؤمنة ، ولكي لا يغتروا بانتصارهم الاوّل ، فيتركوا شروطاته المقررة في شرعة الله.

فلقد محصّت في هذه الهزيمة نفوس وميّزت صفوف وصنوف ، وانطلق المسلمون متحررين عن كثير من أغباش التصورات الخاطئة التي هي عشيرة الفتح الخارق للعادة بطبيعة الحال.

فميعان قيم وتأرجح مشاعر من نزوة الفتح المبين من ناحية ، وتسرب منافقين وقليلي الايمان من أخرى ، ما كانت تجبر إلا بهزيمة مّا هي في نفس الوقت من خلفيات تخلف عسكري عن امر القائد الرسالي.

ولم تكن حصيلة الهزيمة بأقل عائدة من حصيلة الفتح أم هي اكثر ، فتلك هي حصيلة ضخمة ما أحوج الأمة الإسلامية إلى دراستها طوال تاريخها ، ولكي تأخذ حذرها وأهبتها في كل مواجهة نضالية من ذلك الرصيد العظيم.

٣٥٧

«و» اذكر من ضمن الذكريات الحربية الفاشلة لفشل من المسلمين (إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) خرجت غداة من أهلك في المدينة إلى خارجها : «أحد» ـ حال انك «تبوئ» إيواء لبواء الحرب الدفاعية (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) لأنك قائد الحرب على ضوء القيادة الرسالية المحلقة على كافة المصالح الروحية والزمنية.

فليس لأحد ان يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والرسول فيهم إلّا هو ، فعليك يا رسول الهدى تنظيم التكتيكية الحربية أمّاهيه من تكتيكات نظامية وانتظامية ، وهامة الأمور الجماعية للمسلمين ، فإنك الحاكم بين الناس بما أراك الله في كل ما يتطلب الحكم من خلافات روحية أو زمنية : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) (٤ : ١٠٥).

وليس مجال الحكم بين الناس ـ في الأكثرية الساحقة ـ إلّا فيما هم فيه يختلفون من مصالح معيشية ـ جماعية ـ اقتصادية ـ حربية ، اماهيه.

فلا تعني الرسالة الإلهية ـ فقط ـ مصالح المحراب والعبادة ، بل ومصالح الحرب والإبادة لمن يتربصون باهل الحق كل دوائر السوء.

وكما أن تكاليف المحراب مقررة بوحي الله ، كذلك تلتيكات الحرب هي بوحي من الله ، فإنهما معا مدلولان ل (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ).

فهذه خرافة قاحلة أن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شاور أصحابه بشأن غزوة أحد أيخرج إليه خارج المدينة فيغزوهم أم يظل داخلها فيدافع عن الأهلين ، فأشاروا عليه بالخروج وكان من رأيه المقام داخل المدينة! (١).

__________________

الدر المنثور (١ : ٦٨) اخرج جماعة عن ابن شهاب ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم ، كل حدث بعض ـ

٣٥٨

__________________

ـ الحديث عن يوم أحد قالوا : لما أصيب قريش او من ناله منهم يوم بدر من كفار قريش ورجع كلهم الى مكة ورجع ابو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن امية في رجال من قريش ممن أصيب آباءهم وأبناءهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا يا معشر قريش ان محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثارا بمن أصاب ففعلوا فأجمعت قريش لحرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخرجت بجدتها وجديدها وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة ولئلا يفروا وخرج ابو سفيان وهو قائد الناس فأقبلوا حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة فلما سمع بهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والمسلمون بالمشركين قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إني رأيت بقرا تنحر وأريت في ذباب سيفي ثلما وأريت أني دخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فان رأيتم ان تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فان أقاموا أقاموا بشر مقام وان هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها ونزلت قريش منزلها أحد يوم الأربعاء فأقاموا ذلك اليوم الخميس ويوم الجمعة وراح رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين صلى الجمعة فأصبح بالشعب من احد فالتقوا يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث وكان رأى عبد الله بن أبي مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يرى رأيه في ذلك أن لا يخرج إليهم وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يكره الخروج من المدينة فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم احد وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر وحضوره : يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنّا جبنا عنهم وضعفنا فقال عبد الله بن أبي يا رسول الله أقم بالمدينة فلا تخرج إليهم فو الله ما خرجنا منها الى عدو لنا قط إلا أصاب منا ولا دخلها علينا الا أصبنا منهم فدعهم يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فان أقاموا أقاموا بشر وان دخلوا قاتلهم النساء والصبيان والرجال بالحجارة من فوقهم وان رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا فلم يزل الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلبس لامته وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا استكرهنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يكن لنا ذلك فان شئت فاقعد فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته ان يضعها حتى يقاتل فخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ـ

٣٥٩

وكيف يرتإي ان يغزى في عقر داره فيذل ، ويرشده من أصحابه إلى الخروج فلا يذل؟ ام كيف يتبع خلاف رأية وهو الحاكم بما أراه الله! ، وقد

__________________

ـ الف رجل من أصحابه حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة وأحد تحول عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس ومضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى سلك في حرة بين حارثة فذب فرس بذنبه فأصاب ذباب سيفه فاستله فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكان يحب الفأل ولا يعتاف لصاحب السيف شم سيفك فإني أرى السيوف ستستل اليوم ومضى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى نزل بالشعب من أحد من عدوة الوادي لي الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى احد وتعبى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) القتال وهو في سبعمائة رجل وأمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على الرماة عبد الله بن جبير والرماة خمسون رجلا فقال : «انضح عنا الجبل بالنبل لا يأتونا من خلفنا ان كان علينا أو لنا فأنت مكانك لنؤتين من قبلك وظاهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين درعين».

وفيه اخرج ابن جرير عن السدي ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لأصحابه يوم أحد أشيروا علي ما أصنع فقالوا يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اخرج إلى هذه الأكلب فقالت الأنصار يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما غلبنا عدو لنا أتانا في ديارنا فكيف وأنت فينا فدعا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عبد الله بن أبي ابن سلول ـ ولم يدعه قط قبلها ـ فاستشاره فقال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخرج بنا إلى هذه الأكلب وكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيقاتلوا في الأزقة فأتى النعمان ابن مالك الأنصاري فقال يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : لا تحمرني الجنة فقال بم قال بأني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وإني لا أفر من الزحف قال : صدقت فقتل يومئذ ثم أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعا بدرعه فلبسها فلما رأوه وقد لبس السلاح ندموا وقالوا بئسما صنعنا نشير على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والوحي يأتيه فقاموا واعتذروا اليه وقالوا : اصنع ، رأيت ، فقال : رأيت القتال وقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل وخرج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الى أحد في ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن يصبروا فرجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فأعيوه وقالوا له : ما نعلم قتالا ولئن أطعتنا لترجعن معنا وقال : إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا .. وهم بنو سلمة وبنو حارثة هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي فعصمهم الله ـ

٣٦٠