التفسير المنير - ج ٢٣

الدكتور وهبة الزحيلي

إلي ، فلما عادت جعل يمسح بيده سيقانها وأعناقها ونواصيها ، تشريفا لها وتكريما وتدليلا وسرورا بها ، وتفحصا لأحوالها وإصلاح ما قد يطلع عليه من عيوبها ، لأنها عدة الجهاد ، ووسيلة الحرب ، لرد العدوان ، ودفع غارات المعتدين. وقال أكثر المفسرين : معناه أنه مسح السيف بسوقها وأعناقها ، أي قطعها ، لأنها شغلته عن صلاة العصر. وهذا بعيد على نبي شاكر نعم ربه ، يعاقب ما ليس أهلا للعقاب.

الواقعة الثانية :

إلقاؤه جسدا على كرسيه : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ ، وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) أي تالله لقد اختبرنا سليمان عليه‌السلام باختبار آخر ، وهو الفتنة في جسده ، كما اختار الرازي ، حيث ابتلاه الله بمرض شديد في جسمه ، حتى نحل جسمه ، وأصبح هزيلا ، ثم أناب ، أي رجع إلى حال الصحة (١).

وبعض المفسرين كما ذكرت عن البيضاوي وكذا أبو حيان (٢) يفسر هذه الفتنة بما عزم عليه من الطواف على سبعين من نسائه ، تأتي كل واحدة بفارس مجاهد في سبيل الله ، دون أن يقول : إن شاء الله ، فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل ، هو الذي ألقي على جسده ، فالجسد الملقى هو المولود شق رجل.

وقيل : إن الملقى شيطان ، وهذا قول باطل من الزنادقة. قال ابن كثير : وهذا وغيره من الإسرائيليات ، وهي من المنكرات ، من أشدها ذكر النساء (٣).

__________________

(١) تفسير الرازي : ٢٦ / ٢٠٩

(٢) البحر المحيط : ٧ / ٣٩٧

(٣) تفسير ابن كثير : ٤ / ٣٥ وما بعدها.

٢٠١

(قالَ : رَبِّ اغْفِرْ لِي) قال سليمان : ربّ اغفر لي ما صدر عني من الذنب الذي ابتليتني لأجله ، وهذا من سمو الإحساس بالخطيئة ، فقد تكون شيئا لا يخلو عن ترك الأفضل والأولى ، وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة ، لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين ، ولأن الأنبياء أبدا في مقام هضم النفس ، وإظهار الذلة والخضوع ، كما قال صلي الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاري عن أبي هريرة : «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة».

(وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) وامنحني ملكا عظيما لا يتأتى لأحد غيره مثله ، إنك يا ربّ أنت الكثير الهبات والعطايا ، فأجب دعائي.

قال الزمخشري : كان سليمان عليه‌السلام ناشئا في بيت الملك والنبوة ، ووارثا لهما ، فأراد أن يطلب من ربّه معجزة ، فطلب بحسب إلفه ملكا زائدا على الممالك ، زيادة خارقة للعادة ، بالغة حدّ الإعجاز ، ليكون ذلك دليلا على نبوته ، قاهرا للمبعوث إليهم ، وأن يكون معجزة حتى يخرق العادات ، فذلك معنى قوله : (لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي).

وقيل : كان ملكا عظيما ، فخاف أن يعطى مثله أحد ، فلا يحافظ على حدود الله فيه(١).

فأجاب الله تعالى دعاءه وأعطاه نعما خمسة ، فقال :

١ ـ (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) أي فذلّلنا له الرّيح ، وجعلناها منقادة لأمره ، تجري ليّنة طائعة في قوّة وسرعة ، دون عواصف مضطربة ولا أعاصير ، تحمله إلى أي جهة قصد وأراد. ووصف الرّيح هنا بكونها رخاء لا يتعارض مع آية أخرى : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ) [الأنبياء ٢١ / ٨١] لأن المراد بالعاصفة هنا القوية الشديدة ، لا الهائجة

__________________

(١) الكشاف : ٣ / ١٥

٢٠٢

المضطربة ، فهي في قوة الرياح العاصفة ، لكنها كانت طيّبة غير خطرة ، أو أنها كانت بحسب الحاجة ، ليّنة مرة ، وعاصفة أخرى.

٢ ـ (وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) أي وذلّلنا له أيضا الشياطين تعمل بأمره ، إما في بناء المباني الشاهقة ، وإما في الغوص في البحار لاستخراج الدرر واللآلئ والمرجان ، وإما في أعمال أخرى.

٣ ـ (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) أي وسخرنا له شياطين آخرين هم مردة الشياطين ، سخّروا له حتى قرنهم في القيود والسلاسل ، قمعا لشرّهم ، وعقابا لهم.

٤ ـ (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) هذه نعمة رابعة هي حرية التصرف فيما أعطاه الله إياه من الملك العظيم ، والثراء والغنى ، والسيطرة على الريح والشياطين وتسخيرهم ، فقد أذن له ربّه بأن يمنح من يشاء ، ويمنع من يشاء ، ولا حساب عليه في ذلك الإعطاء أو الإمساك ، فلا يقال له : كم أعطيت ، ولم منعت؟

٥ ـ (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي وإن له في الآخرة لقربة وكرامة عند الله ، وحسن مرجع ، وهو الجنة ، وفيض ثواب ، فهو ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة.

فقه الحياة أو الأحكام :

يستنبط من الآيات ما يأتي :

١ ـ من مزيد فضل الله على عبده داود عليه‌السلام أن وهبه ولدا ورث عنه الملك والنبوة.

٢ ـ ومن نعم الله على عبده سليمان عليه‌السلام أنه أنعم عليه بالخيل

٢٠٣

الصّافنات الجياد ، التي تعدّ عدّة الحرب ، وآلة القتال المهمة في مواجهة الأعداء ، وكان عددها ألف فرس يجاهد عليها في سبيل الله تعالى.

٣ ـ لقد أحبها سليمان عليه‌السلام ، لأنها حققت له تنفيذ أوامر ربّه في ربطها للجهاد ، فكان يعرضها أمامه في عرض عسكري مهيب ، يرهب العدو ، وكانت تمتاز بسرعة الجري أو العدو ، حتى إنها غابت عنه بسبب شدة الغبار وبعد المسافة.

٤ ـ لم يقتصر سليمان عليه‌السلام على عرضها أمامه للمرة الأولى ، وإنما طلب إعادتها إليه ، فشرع في مسح سيقانها ونواصيها بيده ، تكريما لها ، وتفحّصا لأحوالها حتى يعالج ما قد يكون بها من عيوب.

٥ ـ امتحن الله تعالى سليمان عليه‌السلام بالمرض ، كما يمتحن عباده المؤمنين ، قيل : كان ذلك بعد عشرين سنة من ملكه ، ثم ملك بعد الاختبار عشرين سنة أخرى ، كما ذكر الزمخشري.

واشتدّ به المرض حتى أصبح لشدّة ضعفه ـ كما تقول العرب : لحما على وضم ، وجسما بلا روح ، ثم عاد إلى صحته وحالته الأولى.

وطلب المغفرة من ربّه على ما قد يكون من ذنب في تقديره كان سببا لمرضه ، وهذا من قبيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، فقد يكون ترك الأفضل والأولى عند أصحاب السمو والدرجة العالية ، وعلى رأسهم الأنبياء ، بمثابة ذنب عندهم ، وهو عند غيرهم ليس بذنب.

٦ ـ أجاب الله دعاء سليمان عليه‌السلام ، فأمده بنعم عظمي ، هي : تسخير الرّيح له ، تحمله إلى أي مكان أراد ، وتسخير الشياطين للخدمة في مجالات الحياة المختلفة من بناء وغوص في البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان ، والتسلّط على مردة الشياطين ، حتى يقيّدهم بالأغلال والسلاسل ، كفّا لشرّهم ومنع أذاهم.

٢٠٤

ومنحه حرية التّصرّف في الملك والمال ، فيعطي من يشاء ، ويمنع من يشاء ، دون حساب ولا رقيب ، ودون مراجعة أو نقص.

وكذلك جعله مقرّبا عند الله ، مكرّما عند ربّه في الجنة ، مغمورا بالثواب الجزيل ، فائزا برضا ربّه.

والخلاصة : لقد منح الله سليمان خيري الدنيا والآخرة ، وجمع له بين الملك والنبوة كأبيه داود عليهما‌السلام ، وسخّر الله له ملكا عظيما وسلطة شاملة على الإنس والجن والشياطين. وهذا لم يتأت لأحد قبله ولا بعده.

قصة أيوب عليه‌السلام

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤))

الإعراب :

(أَيُّوبَ إِذْ نادى أَيُّوبَ) : عطف بيان ، و (إِذْ) : بدل اشتمال منه.

(رَحْمَةً مِنَّا) منصوب إما لأنه مصدر ، أو لأنه مفعول لأجله.

البلاغة :

(أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ) في هذا الإسناد مراعاة الأدب مع الله تعالى ، فإنه أسند المرض والضرر الذي أصابه إلى الشيطان أدبا ، وإن كان الخير والشر بيد الله تعالى لحكمة يعلمها.

٢٠٥

المفردات اللغوية :

(أَيُّوبَ) هو أيوب بن أموص بن أروم بن عيص بن إسحاق عليه‌السلام ، وامرأته ليا بنت يعقوب ، الراجح أنه قبل إبراهيم بأكثر من مائة سنة ، وكان موطنه أرض عوص : جزء من جبل سعير ، أو بلاد أدوم. (أَنِّي) بأني. (بِنُصْبٍ) بضرّ ، والنّصب (بالضّم) والنّصب (بفتحتين) كالرّشد والرّشد : المشقة والتعب. (وَعَذابٍ) ألم مضرّ ، كما في آية (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) [الأنبياء ٢١ / ٨٣]. ونسب ذلك إلى الشيطان ـ وإن كانت الأشياء كلها من الله ـ تأدّبا مع الله تعالى.

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) اضرب بها الأرض ، فضرب فنبعت عين ماء. (مُغْتَسَلٌ) ماء تغتسل به وتشرب منه. (بارِدٌ وَشَرابٌ) تغتسل وتشرب منه ، فاغتسل وشرب ، فذهب عنه كل داء كان بباطنه وظاهره.

(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ) بأن جمعناهم عليه بعد تفرّقهم ، أو أحييناهم بعد موتهم. (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) أي ورزقه مثلهم. (رَحْمَةً مِنَّا) أي لرحمتنا عليه. (وَذِكْرى) عظة وتذكيرا لهم لينتظروا الفرج بالصبر واللجوء إلى الله فيما يحيق بهم. (لِأُولِي الْأَلْبابِ) لأصحاب العقول.

(ضِغْثاً) حزمة صغيرة من الحشيش والريحان ونحوهما ، أو قضبان. (فَاضْرِبْ بِهِ) زوجتك. (وَلا تَحْنَثْ) بترك ضربها ، والحنث في اليمين : إذا لم يفعل ما حلف عليه. روي أن زوجته ليا بنت يعقوب عليه‌السلام ذهبت لحاجة ، وأبطأت ، فحلف إن برئ ليضربنّها مائة ضربة ، فحلّل الله يمينه بذلك ، وهي رخصة باقية في الحدود للضرورة كمرض ونحوه. (نِعْمَ الْعَبْدُ) أيوب. (إِنَّهُ أَوَّابٌ) رجّاع إلى الله تعالى بالتوبة والإنابة.

المناسبة :

هذه هي القصة الثالثة من قصص الأنبياء في هذه السورة ، والمقصود بها كغيرها الاعتبار ، فقد كان داود وسليمان عليهما‌السلام ممن أفاض الله عليهما أصناف النعم ، فكانت قصتهما لتعليم الشكر على النعمة ، وأيوب كان ممن خصّه الله تعالى بأنواع البلاء ، فكانت قصته لتعليم الناس الصبر على الشدائد ، كأن الله تعالى قال : يا محمد اصبر على سفاهة قومك ، فإنه ما كان في الدنيا أكثر نعمة ومالا وجاها من داود وسليمان عليهما‌السلام ، وما كان أكثر بلاء ومحنة من أيوب

٢٠٦

عليه‌السلام ، فتأمل في أحوال هؤلاء لتعرف أن أحوال الدنيا لا تنتظم لأحد ، وأن العاقل لا بدّ له من الصبر على المكاره.

التفسير والبيان :

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ ، إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) أي واذكر أيها الرسول لقومك صبر أيوب على مرضه مدة طويلة هي نحو من ثماني عشرة سنة ، حين نادى ربّه بأني قد مسني الضّر ومسّني الشيطان بمشقة وألم مضر ، وإنما نسب ذلك الضر إلى الشيطان أدبا مع الله تعالى كما تقدم. والذي يجب اعتقاده أن هذا المرض لم يكن منفّرا الناس منه ، وإنما هو مجرد مرض جلدي يشفى بالمياه المعدنية أو الكبريتية ، لأن شرط الأنبياء : السلامة عن الأمراض المنفّرة طبعا.

روى ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا عن أنس بن مالك رضي‌الله‌عنه قال : إن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم قال : «إن نبي الله أيوب عليه‌السلام لبث به بلاؤه ثماني عشرة ، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين (١) ، كانا من أخصّ إخوانه ، كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه : تعلم ، والله لقد أذنب أيوب ذنبا ، ما أذنبه أحد من العالمين ، قال له صاحبه : وما ذاك؟ قال : منذ ثماني عشرة سنة ، لم يرحمه‌الله تعالى ، فيكشف ما به ، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له.

فقال أيوب عليه‌السلام : لا أدري ما تقول ، غير أن الله عزوجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان ، فيذكران الله تعالى ، فأرجع إلى بيتي ، فأكفّر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق.

__________________

(١) يمكن تأويل هذا الرفض بالبعد المعتاد عن كل مريض ، شفقة ورحمة ، لا نفورا من المرض.

٢٠٧

قال : وكان يخرج إلى حاجته ، فإذا قضاها ، أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ ، فلما كان ذات يوم ، أبطأ عليها ، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه‌السلام أن (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) فاستبطأته ، فالتفتت تنظر ، فأقبل عليها ، قد أذهب الله ما به من البلاء ، وهو على أحسن ما كان ، فلما رأته ، قالت : أي ، بارك الله فيك ، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى ، فو الله القدير على ذلك ، ما رأيت رجلا أشبه به منك ، إذ كان صحيحا ، قال : فإني أنا هو ، وكان له أندران : أندر للقمح ، وأندر للشعير ، فبعث الله تعالى سحابتين ، فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض ، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير حتى فاض».

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ ، هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) أي قلنا له : اضرب برجلك الأرض ، فركض (ضرب) فنبعت عين جارية ، فاغتسل فيها ، وشرب منها ، فخرج صحيحا معافى ، بريئا من المرض.

وهذا دليل على أن مرضه كان من الأمراض الجلدية غير المعدية ولا المنفّرة ، وإنما كانت مؤذية متعبة تحت الجلد ، كالإكزيما والحكة ونحوهما ، مما يمكن شفاؤه بالمياه المعدنية أو الكبريتية المفيدة في تلك الأمراض.

وكما تمّ الشفاء من المرض أعاد الله له أهله وولده وماله ، فقد كان ذا مال جزيل وأولاد كثيرين وسعة من الدنيا ، فقال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ ، رَحْمَةً مِنَّا ، وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) أي منحناه أهله وضاعفناهم ، إما أن الله تعالى أحياهم بعد أن أماتهم ، والله قادر على كل شيء ، وإما أنه تعالى جمعهم له بعد تفرقهم ، وأكثر نسلهم ، وزادهم ، فكانوا مثلي ما كانوا قبل ابتلائه ، رحمة من الله به ، وتذكرة لأصحاب العقول السليمة ، والإيمان أن عاقبة الصبر الفرج ، وأن رحمة الله قريب من المحسنين ، وأن مع العسر يسرا.

٢٠٨

ثم ذكر الله تعالى له رخصة في التّحلل من يمينه ، فقال :

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ ، وَلا تَحْنَثْ) أي وخذ بيدك حزمة كبيرة من القضبان ، فاضرب بها زوجتك التي حلفت أن تجلدها مائة جلدة إن برئت من مرضك ، ولا تحنث في يمينك ، أي لا تترك العمل بمقتضى اليمين ، بسبب إبطائها في الرجوع ، وهي ليا بنت يعقوب ، أو رحمة بنت افرائيم بن يوسف.

ثم أثنى الله سبحانه على أيوب عليه‌السلام قائلا :

(إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً ، نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي لقد وجدناه صابرا على البلاء الذي ابتليناه به في جسده ، وذهاب ماله وأهله وولده ، نعم العبد أيوب ، إنه رجّاع إلى الله بالتوبة والاستغفار ، زيادة في حسناته ورفع درجته ، لا بسبب ذنب جناه ، فجازيناه بتفريج كربته ، مع أنه ليس في الشكوى إلى الله إخلال بالصبر ، ولكن إيمان الأنبياء المطلق التام الذي يعرّفهم أن الله عليم بهم ، قد لا يطلبون من الله شيئا لإذهاب همهم وغمهم.

روي عن أيوب عليه‌السلام أنه كان يقول كلما أصابته مصيبة : «اللهم أنت أخذت ، وأنت أعطيت» ، وكان يقول في مناجاته : «إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ، ولم يتبع قلبي بصري ، ولم يلهني ما ملكت يميني ، ولم آكل إلا ومعي يتيم ، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ، ومعي جائع أو عريان».

فقه الحياة أو الأحكام :

أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية :

١ ـ لا مانع من دعاء الله تعالى والشكوى إليه عند المصاب ، وإن كان أيوب عليه‌السلام صبر مدة طويلة على المرض ، ثم دعا ربّه لتفريج نوعين من المكروه : الألم الشديد في الجسم ، والغمّ الشديد بسبب زوال الخيرات وحصول المكروهات ، لذا ذكر الله تعالى لفظين وهما النّصب والعذاب.

٢٠٩

٢ ـ على المؤمن أن يتدرّع بالصّبر عند الشدائد ، فقد أمر الله النّبي صلي الله عليه وآله وسلم بالاقتداء بأيوب عليه‌السلام في الصبر على المكاره ، وكذلك بغيره من الأنبياء مثل داود وسليمان عليهما‌السلام.

٣ ـ لم يكن مرض أيوب عليه‌السلام منفّرا ، لأن شرط النّبوة : السلامة عن الأمراض المنفّرة طبعا ، وإنما كان مرضه تحت الجلد ، كأمراض الحكمة ، مما ليس بمعد ، وإن كان مؤلما ومزعجا. وهو مرض حسي ، تناول البدن بدليل قوله (مَسَّنِيَ الضُّرُّ) [الأنبياء ٢١ / ٨٣] ، و (مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) ، و (فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) [الأنبياء ٢١ / ٨٤] ، و (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) و (هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ).

٤ ـ في هذه الآية دلالة على أن للزوج أن يضرب امرأته تأديبا ، بدليل حلف أيوب على ضرب امرأته. والذي أباحه القرآن هو ضرب النساء حال النشوز ، لقوله تعالى : (وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ) إلى أن قال : (وَاضْرِبُوهُنَ) [النساء ٤ / ٣٤]. كذلك دلّ قوله تعالى : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) [النساء ٤ / ٣٤] ، على أن للزوج ضرب امرأته تأديبا لغير نشوز.

٥ ـ إن الضرب بالضغث رخصة من الله تعالى لأيوب عليه‌السلام تحلّة اليمين ، جزاء على تلك الخدمة الطويلة التي قدمتها له زوجته أثناء مرضه.

واختلف العلماء بعدئذ ، هل هذا الحكم عام أو خاص بأيوب وحده؟ للعلماء في ذلك رأيان :

الرأي الأول :

قالت الحنفية ـ الذين يقولون : شرع من قبلنا شرع لنا ـ : إن الحكم عام ، فمن حلف ليضرب مائة ضربة ، فأخذ حزمة من حطب عدد عيدانها مائة ، فضرب بها ، برّ في يمينه ، ولا كفّارة عليه ، لأن الله قد رخّص لأيوب عليه‌السلام هذا ،

٢١٠

وجعله غير حانث به ، وما دام غير حانث فهو بارّ. وهذا في المريض العليل غير الصحيح السليم (١).

وكذلك قالت الشافعية والحنابلة : يجوز إقامة الحدّ في المرض الذي لا يرجى برؤه ، بأن يضرب بمئة شمراخ دفعة واحدة ، لما روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عن سهل بن حنيف : «أنّ النّبي صلي الله عليه وآله وسلم أمر في رجل أضنى أن يأخذوا له مائة شمراخ ، فيضربوه بها ضربة واحدة». قال الشافعي : إذا حلف ليضربنّ فلانا مائة جلدة ، أو ضربا ، ولم يقل : ضربا شديدا ، ولم ينو ذلك بقلبه : يكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية ، ولا يحنث.

والشافعي الذي لا يقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا اعتمد في ذلك على ما ثبت في السّنّة النّبوية. وأما الإمام أحمد فيقول بأن شرع من قبلنا شرع لنا.

الرأي الثاني :

قالت المالكية الذين يرون أن شرع من قبلنا شرع لنا : إن هذه رخصة خاصة بأيوب عليه‌السلام ، بدليل توجيه الخطاب وبما ذكر للترخيص من العلة. قال ابن العربي : وإنما انفرد مالك في هذه المسألة عن القاعدة لتأويل بديع : هو أن جريان الأيمان عند مالك في سبيل النّيّة والقصد أولى ، لقول رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم عن عمر رضي‌الله‌عنه : «إنما الأعمال بالنّيّات» والنّيّة أصل الشريعة وعماد الأعمال ومعيار التكليف. وقصة أيوب هذه لم يصح كيفية يمين أيوب فيها ، حتى نلتزم شريعته فيها (٢). وهذا قول الليث أيضا.

ونهج ابن القيم في (أعلام الموقعين) الذي حارب فيه الحيل منهج المالكية ، وقرر أن هذه الفتيا خاصة الحكم ، فإنها لو كانت عامة الحكم في حقّ كل أحد ، لم

__________________

(١) أحكام القرآن للجصاص الرازي : ٤ / ٣٨٢ وما بعدها.

(٢) أحكام القرآن : ٤ / ١٦٤٠

٢١١

يخف على نبي كريم موجب يمينه ، ولم يكن في قصها علينا كبير عبرة ، فإنما يقصّ علينا ما خرج عن نظائره لنعتبر به ، ونستدل به على حكمة الله فيما قصّه علينا. ويدلّ عليه اختصاص قوله تعالى : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) وهذه الجملة خرجت مخرج التعليل ، كما في نظائرها ، فعلم أن الله سبحانه إنما أفتاه بذلك جزاء له على صبره ، وتخفيفا عن امرأته ، ورحمة بها. وأيضا فإنه تعالى إنما أفتاه بهذا لئلا يحنث كما قال : (وَلا تَحْنَثْ).

٦ ـ فضيلة الصبر عظيمة ، لذا وصف الله نبيه أيوب بأنه صبر على ما أصابه من أذى في بدنه وأهله وماله ، وبأنه أوّاب ، أي كثير التأويب والرجوع إلى الله في كل أموره.

قصة إبراهيم وذريته عليهم‌السلام ـ

إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل ـ

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤))

الإعراب :

(إِبْراهِيمَ) بدل من (عِبادَنا) أو (عبدنا) أو عطف بيان.

٢١٢

(بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) على قراءة التنوين هذه تكون (ذِكْرَى) بدلا من (بِخالِصَةٍ) وتقديره : إنا أخلصناهم بذكرى الدار ، ويجوز نصبه ب (بِخالِصَةٍ) لأنه مصدر كالعافية والعاقبة. وقرئ بترك التنوين بجعل (ذِكْرَى) مجرورا بالإضافة وهي إضافة بيان.

(جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ جَنَّاتِ) : بدل منصوب من (لَحُسْنَ مَآبٍ). و (مُفَتَّحَةً) صفة لجنات ، وفيه ضمير عائد إلى (جَنَّاتِ) وتقديره : جنات عدن مفتحة هي ، أو حال وعامله ما في المتقين من معنى الفعل. و (الْأَبْوابُ) إما مرفوع ب (مُفَتَّحَةً) وإما مرفوع بدلا من ضمير (مُفَتَّحَةً). تقول : فتحت الجنان : إذا فتحت أبوابها ، قال تعالى : (وَفُتِحَتِ السَّماءُ ، فَكانَتْ أَبْواباً) [النبأ ٧٨ / ١٩].

(مُتَّكِئِينَ) حال من الهاء والميم في (لَهُمُ).

(إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ، ما لَهُ مِنْ نَفادٍ ما لَهُ) : حال من : (لَرِزْقُنا) ، أو خبر ثان ل (إِنَ).

البلاغة :

(أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) استعارة تصريحية ، استعار (الْأَيْدِي) للقوة في العبادة ، و (الْأَبْصارِ) للتبصر في الدين.

(هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ ، جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) بينها وبين ما يأتي في المقطع الآتي مقابلة وهي : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ).

(هذا ما تُوعَدُونَ) التفات من الغيبة إلى الخطاب للعناية بهم.

المفردات اللغوية :

(عِبادَنا) وقرئ : عبدنا.

(أُولِي الْأَيْدِي) أصحاب القوة في العبادة. (وَالْأَبْصارِ) أصحاب البصائر في الدين والفقه فيه ومعرفة أسراره. (أَخْلَصْناهُمْ) جعلناهم خالصين لنا. (بِخالِصَةٍ) بخصلة خالصة لا شوب فيها هي (ذِكْرَى الدَّارِ) أي تذكر الدار الآخرة والعمل لها.

(الْمُصْطَفَيْنَ) المختارين من أبناء جنسهم ، جمع مصطفى. (الْأَخْيارِ) المفضلين عليهم في الخير ، جمع خيّر : وهو المطبوع على فعل الخير. (إِسْماعِيلَ) هو ابن إبراهيم الخليل. (وَالْيَسَعَ) اللام زائدة ، وهو نبي ، ابن اخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل ، ثم صار نبيا. (وَذَا الْكِفْلِ) ابن عم يسع ، أو بشر بن أيوب ، واختلف في نبوته ولقبه ، والأصح أنه نبي ،

٢١٣

قيل : فرّ إليه مائة نبي من القتل فآواهم وكفلهم ، وقيل : تكفّل بعمل رجل صالح كان يصلي كل يوم مائة صلاة. (كُلٌ) كلهم. (مِنَ الْأَخْيارِ) جمع خيّر ، كما تقدّم.

(هذا ذِكْرٌ) هذا ذكر وشرف وتنويه لهم بالثناء الجميل ، أو هذا المذكور من الآيات نوع من الذكر وهو القرآن. (لَحُسْنَ مَآبٍ) مرجع في الآخرة. (جَنَّاتِ عَدْنٍ) جنات استقرار وثبات ، يقال : عدن بالمكان : أقام به. (مُتَّكِئِينَ فِيها) أي على الأرائك ، كما في آية أخرى. (قاصِراتُ الطَّرْفِ) لا ينظرن إلى غير أزواجهن. (أَتْرابٌ) جمع ترب ، أي لدات متساوون في السّنّ ، بنات ثلاث وثلاثين سنة ، حتى لا تحصل الغيرة بينهنّ ، ولأن التّحاب بين الأقران أثبت.

(هذا) المذكور. (ما تُوعَدُونَ) به. (لِيَوْمِ الْحِسابِ) لأجل الحساب ، فإن الحساب علة الوصول إلى الجزاء. (نَفادٍ) انقطاع ، أي دائم له صفة الدوام.

المناسبة :

هذه مجموعة قصص من الأنبياء في هذه السورة ، ذكر الله فيها قصص إبراهيم وذريته الأنبياء ، يراد بها العظة والعبرة ، والتعليم لنا ، والتّخلق بأخلاقهم ، والعمل بأعمالهم التي من أجلها استحقوا ما أعدّ الله لهم ولأمثالهم في هذه الآيات من الثواب الجزيل والنعيم المقيم. وهي معطوفة على بداية القصص في هذه السورة ، كأنه تعالى قال : «فاصبر على ما يقولون ، واذكر عبدنا داود» [الآية ١٧] إلى أن قال : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ) أي واذكر يا محمد صبر إبراهيم حين ألقي في النار ، وصبر إسحاق في دعوة بني إسرائيل إلى الرشاد ، وصبر يعقوب حين فقد ولده وذهب بصره ، وصبر إسماعيل للذبح ، وصبر اليسع وذي الكفل على أذى بني إسرائيل.

التفسير والبيان :

يخبر الله تعالى عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين ، فيقول :

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ) أي واذكر العمل الصالح وصبر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي القوة في العبادة

٢١٤

والبصيرة النافذة ، فإنهم دأبوا على الطاعة ، وقويناهم على العمل المرضي ، وأحسنوا وقدموا خيرا ، وآتيناهم البصيرة في العلم والفقه في الدين ، والعمل النافع فيه.

وعلة ذلك :

(إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ) أي خصصناهم بخصلة خالصة هي العمل للآخرة ، والتزام أوامرنا ونواهينا ، لتذكرهم الدار الآخرة والإيمان بها ، وذلك شأن الأنبياء.

(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) أي وإنهم لمن المختارين من أبناء جنسهم ، المطبوعين على فعل الخير ، فلا يميلون للأذى ، ولا تنطوي قلوبهم على الضغينة والحقد والحسد والبغض لأحد ، ولا يرتكبون شرّا ومعصية ، فهم أخيار مختارون.

(وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ ، وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) أي واذكر أيضا صبر إسماعيل واليسع وذي الكفل وأعمالهم الصالحة ، فكل منهم من الأخيار المختارين للنبوة.

وبعد أن أمر الله تعالى رسوله بالصبر على سفاهة قومه وذكر جملة من الأنبياء ، ذكر ما يؤول إليه حال المؤمنين وحال الكافرين من الجزاء ، ومقرّ كل واحد من الفريقين ، فقال تعالى :

(هذا ذِكْرٌ ، وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) هذه الآيات القرآنية التي تعدد محاسنهم تذكّر لهم وتنويه ، وذكر جميل في الدنيا ، وشرف يذكرون به أبدا ، وإن لهم وللمتقين أمثالهم لحسن مرجع يرجعون فيه في الآخرة إلى مغفرة الله ورضوانه ونعيم جنّته. وهذا شروع فيما أعدّ لهم ولأمثالهم من النعيم والسعادة في الدار الآخرة.

٢١٥

ثم فسّر الله تعالى المقصود بالمرجع والمآب الحسن قائلا :

(جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) أي إن ذلك المآب هو في جنات إقامة دائمة ، مفتحة لهم أبوابها ، فإذا جاءوها فتحت لهم أبوابها إكراما لهم ، تفتحها لهم الملائكة ليدخلوها مكرمين. وفي هذا إيماء بتخصيصها لهم وبسعتها وروعتها وبهائها الذي تسرّ به النفوس.

(مُتَّكِئِينَ فِيها ، يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ) أي تراهم متكئين في الجنات على الأرائك والأسرّة ، يطلبون ما لذّ وطاب مما شاؤوا من أنواع الفاكهة الكثيرة المتنوعة ، وأنواع الشراب الكثير العذب الطيب ، وغيرهما ، فمهما طلبوا وجدوا ، وأحضر كما أرادوا (بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) [الواقعة ٥٦ / ١٨].

والسبب في تخصيص الفاكهة والشراب بالذكر : ترغيب العرب فيها ، لأن ديارهم حارة قليلة الفواكه والأشربة ، وفيه إيماء بأن طعامهم لمجرد التّفكّه والتّلذّذ لا للتّغذي ، لعدم حاجتهم إليه بسبب خلق أجسامهم للدوام ، فلا تحتاج لبدائل المتلفات والتّحللات.

وبعد وصف المسكن والمأكول والمشروب ، ذكر تعالى الأزواج ، فقال :

(وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) أي ولهم زوجات قاصرات طرفهنّ على أزواجهنّ ، لا ينظرن إلى غيرهم ، وهم لدات متساويات في السّن ، متساويات في الحسن والجمال ، يحب بعضهنّ بعضا ، فلا تباغض ولا غيرة عندهنّ.

ثم ذكر الله تعالى ما وعد به المتقين من الثواب قائلا :

(هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) أي هذا المذكور من صفات الجنة هو الذي وعد به تعالى عباده المتقين ، وهو الجزاء الأوفى الذي وعدوا به ، وأجلّ ليوم الحساب في الآخرة بعد البعث والنشور من القبور.

٢١٦

وصفة هذا النعيم الدوام ، فقال تعالى :

(إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) أي إن هذا الذي أنعمنا به عليكم لرزق دائم لا انقطاع له ، ولا فناء أبدا ، كقوله عزوجل : (ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) [النحل ١٦ / ٩٦] ، وقوله جلّ وعلا : (عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود ١١ / ١٠٨] ، وقوله تعالى : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [الانشقاق ٨٤ / ٢٥] ، أي غير منقطع ، وقوله سبحانه : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها ، تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا ، وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ) [الرعد ١٣ / ٣٥].

فقه الحياة أو الأحكام :

جعل الله تعالى هؤلاء الصّفوة المختارة من الأنبياء مع من تقدّمهم قدوة طيبة وأسوة حسنة للنبي صلي الله عليه وآله وسلم وللمؤمنين من بعده ، في الصّبر والعمل الصالح ، والعلم النافع ، والقوة في العبادة ، والفقه في الدين.

وسبب اصطفائهم إيمانهم بالدار الآخرة وتذكرهم لها ، وعملهم المحقق لرضوان الله ومغفرته ودخول جنانه فيها ، فهم يذكرون الآخرة ، ويرغبون فيها ، ويزهدون في الدنيا.

وذكرهم في القرآن المتلو إلى يوم القيامة إشادة بهم ، وذكر جميل في الدنيا ، وشرف يذكرون به فيها أبدا.

ولهم ولكلّ المتقين مع هذا الذكر الجميل في الدنيا حسن المرجع في القيامة ، إذ لهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار ، مفتحة الأبواب ، تفتحها الملائكة تكريما لهم.

يتمتعون بنعيم الجنان في مسكن مريح يتكئون فيه على الأرائك ، ولهم ما يطلبون من أنواع الفاكهة الكثيرة والشراب الكثير.

٢١٧

ولهم أيضا أزواج قاصرات الطّرف لا ينظرن إلى غيرهم ، وهنّ لدات أتراب على سنّ واحدة ، متساوين في الحسن والجمال والشباب ، بنات ثلاث وثلاثين سنة.

ثم ذكر الله تعالى أن هذا الموصوف بهذه الصفات هو الجزاء والثواب الذي وعد به المتقين ، ثم أخبر تعالى عن دوام هذا الثواب. وهذا دليل على أن نعيم الجنة لا ينقطع.

عقاب الطاغين الأشقياء

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤))

الإعراب :

(هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ .. هذا) : خبر مبتدأ محذوف ، تقديره : الأمر هذا.

(هذا فَلْيَذُوقُوهُ .. هذا) يجوز فيه النصب والرفع ، أما النصب فبتقدير فعل يفسره (فَلْيَذُوقُوهُ) أي فليذوقوه هذا فليذوقوه ، والفاء زائدة في مذهب أبي الحسن الأخفش ، مثل: هذا زيد فاضرب. وأما الرفع : فهو على أنه مبتدأ ، وخبره : (حَمِيمٌ) ، و (فَلْيَذُوقُوهُ) اعتراض ، والفاء للتنبيه ، أو هو المخصوص بالذم ، أي بئس المهاد هذا المذكور ، أو مبتدأ وخبره (فَلْيَذُوقُوهُ) ويرفع (حَمِيمٌ) على تقدير (هو حميم) ، أو خبر مبتدأ ، تقديره : الأمر هذا ، ويرفع (حَمِيمٌ) على تقدير : هو حميم.

٢١٨

(وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ) : (آخَرُ) مبتدأ ، و (مِنْ شَكْلِهِ) صفة له ، ولهذا حسن أن يكون مبتدأ ، مع كونه نكرة ، و (أَزْواجٌ) خبر المبتدأ. ويجوز جعل (أَزْواجٌ) مبتدأ ثانيا ، و (مِنْ شَكْلِهِ) خبر ل (أَزْواجٌ) والجملة منهما خبر المبتدأ الأول الذي هو (آخَرُ).

(ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) : (ما) في موضع رفع بالابتداء ، و (لَنا) خبره ، و (لا نَرى) حال من ضمير (لَنا). و (كُنَّا نَعُدُّهُمْ) صفة ل (رِجالاً). و (مِنَ الْأَشْرارِ) في موضع نصب ، لتعلقه ب (نَعُدُّهُمْ). وتجوز إمالة (مِنَ الْأَشْرارِ) لوجود الراء المكسورة.

(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) : (تَخاصُمُ) إما بدل من (لَحَقٌ) أو خبر مبتدأ محذوف تقديره (هو تخاصم) أو خبر بعد خبر ل (إِنَ) أو بدل من (ذلِكَ) على الموضع.

البلاغة :

(الْأَشْرارِ الْأَبْصارُ أَهْلِ النَّارِ) فيها مراعاة الفواصل من المحسنات البديعية.

(فَبِئْسَ الْمِهادُ) شبه ما تحتهم من النار بالمهاد الذي يفترشه النائم.

المفردات اللغوية :

(لِلطَّاغِينَ) الكفار الذين كذبوا بالله ورسله ، وتجاوزوا حدود الله. (مَآبٍ) مرجع ومصير. (يَصْلَوْنَها) يدخلونها. (الْمِهادُ) الفراش. (هذا) العذاب ، المفهوم مما بعده.

(حَمِيمٌ) ماء شديد الحرارة. (وَغَسَّاقٌ) شديد البرودة ، وهو ما يسيل من صديد أهل النار. (وَآخَرُ) أي وعذاب آخر ، وقرئ : «وأخر» بالجمع ، أي وأنواع عذاب آخر. (مِنْ شَكْلِهِ) مثل المذوق في الشدة والكراهية ، أو مثل المذكور من الحميم والغساق. (أَزْواجٌ) أصناف أو أجناس عذابهم.

(هذا فَوْجٌ) أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار ، والفوج : الجمع الكثير من أتباع الضلال. (مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ) داخل معكم النار بشدة. (لا مَرْحَباً بِهِمْ) أي لا سعة عليهم ولا ترحيب بهم ، وهذا ما يقوله الرؤساء لأتباعهم. (صالُوا النَّارِ) داخلون النار بأعمالهم مثلنا. (قالُوا : بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ) قال الأتباع للرؤساء : بل أنتم أحق بما قلتم. (أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا) أي الكفر. (فَبِئْسَ الْقَرارُ) المقر وهو جهنم ، فلنا ولكم النار.

(قالُوا) أي الأتباع أيضا. (عَذاباً ضِعْفاً) مضاعفا أي ذا ضعف ، بأن يزيد على العذاب مثله ، فيصير ضعفين ، كقوله تعالى : (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) [الأحزاب ٣٣ / ٦٨]. (وَقالُوا) أي الرؤساء الطاغون ، وهم في النار. (مِنَ الْأَشْرارِ) الأراذل

٢١٩

الذين لا خير فيهم ، يريدون بهم فقراء المسلمين الذين يحتقرونهم ويسترذلونهم ويسخرون بهم. (أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) استفهام إنكاري ، إنكار على أنفسهم وتأنيب لها في تسخيرهم في الدنيا ، أي الأجل أنا قد اتخذناهم مسخرين في أعمالنا ، ولم يكونوا كذلك ، لم يدخلوا النار؟ وقرئ بضم السين ، أي كنا نسخر بهم. (أَمْ زاغَتْ) مالت. (عَنْهُمُ الْأَبْصارُ) أي أم هم معنا ، ولكن لم ترهم أعيننا ، وهم فقراء المسلمين كعمار وبلال وصهيب وسلمان.

(إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌ) ذلك الذي حكينا عنهم واجب وقوعه ، لا بد أن يتكلموا به ، ثم بيّن ما هو ، فقال : (تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) أي تنازعهم ومخاصمة بعضهم بعضا.

المناسبة :

بعد أن وصف الله تعالى ثواب المتقين ومآل السعداء ، وصف بعده عقاب الطاغين وحال الأشقياء المحرومين ، ليتم التقابل والمقارنة بين الفريقين ، ويقترن الوعد بالوعيد ، فيقبل على الطاعة ، ويجتنب المعصية ، ويتحقق الهدف المنشود وهو الإصلاح والتهذيب.

التفسير والبيان :

(هذا ، وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) أي هذا المذكور هو جزاء المؤمنين ، أو الأمر هذا كما ذكر ، وإن للكافرين الخارجين عن طاعة الله عزوجل ، المكذبين لرسله ، لسوء منقلب ومرجع. ثم فسره بقوله عزوجل :

(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ) أي إنهم يدخلون جهنم ويلفحهم حرها من كل جانب ، فبئس ما مهدوا لأنفسهم ، وهو الفراش ، أي بئس ما تحتهم من نار جهنم ، مشبها النار بالمهاد ، كقوله تعالى : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) [الأعراف ٧ / ٤١].

(هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ) أي هذا حميم فليذوقوه ، أو العذاب هذا فليذوقوه ، وهو أمرتهكم وسخرية بذوق العذاب ، وهو ماء حار شديد الحرارة

٢٢٠