التفسير المنير - ج ١٣

الدكتور وهبة الزحيلي

المناسبة :

بعد أن بيّن الله تعالى بالأدلة المتقدمة أنه لا معبود إلا الله سبحانه ، وأنه لا يجوز عبادة غيره تعالى أصلا ، وطلب من رسوله أن يعجب من حال قومه الذين عبدوا الأصنام ، أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم ، وأنه دعا أن يجعل مكة بلد أمان واستقرار ، وأن يجنّبه وبنيه عبادة الأصنام ، وأنه أسكن بعض ذريته عند البيت الحرام ليعبدوه وحده بالصلاة التي هي أشرف العبادات ، وأنه شكر الله تعالى على منحه بعد الكبر واليأس من الولد ولدين هما إسماعيل وإسحاق ، وأنه طلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين يوم يوجد الحساب.

والخلاصة : إن إبراهيم عليه‌السلام هو القدوة والنموذج لعبادة الله عزوجل ، فليقتد به من ينتمون إليه.

التفسير والبيان :

هذا تذكير من الله تعالى واحتجاج على مشركي العرب بأن مكة البلد الحرام إنما وضعت منذ القدم على عبادة الله وحده لا شريك له ، وأن إبراهيم عليه‌السلام تبرأ ممن عبد غير الله ، وأنه دعا لمكة بالأمن والاستقرار في ظلّ التوحيد ، فقال : (رَبِّ اجْعَلْ ..) أي واذكر يا محمد لقومك حين دعا إبراهيم بقوله : ربي اجعل مكة بلدا آمنا أي ذا أمن واستقرار ، لا يسفك فيه دم ، ولا يظلم فيه أحد ، وقد أجاب الله دعاءه ، فجعله آمنا للإنسان والطير والنبات ، فلا يقتل فيه أحد ، ولا يصاد صيده ، ولا يختلى خلاه ، ولا يعضد شجره ، كما قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) [العنكبوت ٢٩ / ٦٧] وقال تعالى : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران ٣ / ٩٧].

(وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ ..) أي وباعدني يا رب وبني من عبادة الأصنام ، واجعل عبادتنا خالصة لك على منهج التوحيد. وهذا دليل على أنه ينبغي لكل

٢٦١

داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته. وقد استجاب الله دعاه في بعض ذريته دون بعض. وكان هذا الدعاء حين ترك هاجر وابنه إسماعيل ، وهو رضيع ، في مكة ، قبل بناء البيت الحرام.

ثم ذكر أنه افتتن بعبادة الأصنام كثير من الناس فقال : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ ..) أي يا رب إن الأصنام كانت سببا في ضلال كثير من الناس عن طريق الهدى والحق ، حتى عبدوهن. وقد أضيف الإضلال إلى الأصنام ؛ لأنها كانت سببا في الضلال عند عبادتها ، وذلك بطريق المجاز ، فإن الأصنام جمادات لا تفعل.

(فَمَنْ تَبِعَنِي ..) أي فمن صدقني في ديني واعتقادي ، وسار على منهجي في الإيمان بك وبتوحيدك الخالص ، فإنه مني ، أي على سنتي وطريقتي ، مثل «من غشنا فليس منا» أي ليس على سنتنا ، ومن عصاني فلم يقبل ما دعوته إليه من التوحيد لك وعدم الشرك بك ، فإنك قادر على أن تغفر له وترحمه بالتوبة.

وهذا صريح في طلب المغفرة والرحمة لأولئك العصاة غير الكفار ؛ لأنه عليه‌السلام تبرأ في مقدمة هذه الآية عن الكفار بقوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) ، ولأنه أيضا بقوله : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) يدل بمفهومه على أن من لم يتبعه على دينه ، فإنه ليس منه ، ولا يهتم بإصلاح شؤونه ، ولأن الأمة مجمعة على أن الشفاعة في إسقاط عقاب الكفر غير جائزة ، فكان قوله : (وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) شفاعة في العصاة غير الكفار.

عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلا قول إبراهيم عليه‌السلام : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ..) الآية ، وقول عيسى عليه‌السلام : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) الآية ، ثم رفع يديه ، ثم قال : «اللهم أمتي ، اللهم أمتي ، اللهم أمتي» وبكى ، فقال الله تعالى : اذهب يا جبريل إلى محمد ، وربك

٢٦٢

أعلم ، وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه‌السلام ، فسأله ، فأخبره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال ، فقال الله تعالى : اذهب إلى محمد ، فقال له : إنا سنرضيك في أمتك ، ولا نسوؤك.

ثم دعا إبراهيم بدعاء ثان بعد بناء البيت الحرام لقوله : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ). وبعد الدعاء الأول الذي كان قبل بناء البيت ، فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ ..) أي يا ربنا إني أسكنت بعض ذريتي وهم إسماعيل ومن ولد منه ، بواد لا زرع فيه وهو وادي مكة ، عند بيتك المحرم أي الذي حرمت التعرض له والتهاون به ، وجعلته محرما ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده ، فاجعل قلوب بعض الناس تسرع إليه شوقا ومحبة ، وتحن وتميل إلى رؤيته. قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وغيرهم : لو قال : أفئدة الناس ، لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم ، ولكن قال : (مِنَ النَّاسِ) فاختص به المسلمون.

وارزق ذريتي من أنواع الثمار الموجودة في سائر الأقطار ، ليكون ذلك عونا لهم على طاعتك ، وكما أنه واد غير ذي زرع ، فاجعل لهم ثمارا يأكلونها.

وقد استجاب الله دعاءه ، كما قال : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً ، يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ ، رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) [القصص ٢٨ / ٥٧] وتحقق فضل الله ورحمته وكرمه ، فبالرغم من أنه ليس في البلد الحرام : «مكة» شجرة مثمرة ، فإنه تجبى إليها ثمرات ما حولها من البلاد ، من أنواع ثمار الفصول الأربعة ، استجابة لدعاء الخليل عليه‌السلام.

(لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) أي وارزقهم من أنواع الثمار ليشكروك على جزيل نعمتك ، أو رجاء أن يشكروك بإقامة الصلاة وكثرة العبادة. وفيه إيماء إلى أن تحصيل منافع الدنيا إنما هو للاستعانة بها على أداء العبادات وإقامة الطاعات.

٢٦٣

(رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ..) أي أنت تعلم قصدي في دعائي ، وهو التوصل إلى رضاك والإخلاص لك ، وأنت أعلم بأحوالنا ومصالحنا ، وتعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها ، لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء ، فلا حاجة لنا إلى الطلب ، وإنما ندعوك إظهارا لعبوديتك ، وافتقارا إلى رحمتك ، واستعجالا لنيل ما عندك.

(وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ ..) أي ولا يغيب عن الله شيء في الأرض أو في السماء ، فكله مخلوق له ، وهو عالم به. وهذا من كلام الله عزوجل ، تصديقا لإبراهيم عليه‌السلام ، كقوله: (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل ٢٧ / ٣٤] أو من كلام إبراهيم ، يعني وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب والشهادة من شيء في كل مكان. و (مِنْ) للاستغراق ، كأنه قيل : وما يخفى عليه شيء ما.

ثم حمد إبراهيم عليه‌السلام ربه عزوجل على ما رزقه من الولد بعد الكبر ، فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي ..) أي الحمد والشكر كله لله الذي أعطاني ومنحني الولد بعد الكبر والإياس من الولد ، أعطاني ولدين هما إسماعيل وأمه هاجر وإسحاق وأمه سارّة. وقدم إسماعيل ؛ لأنه كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. وقيل : لما ولد إسماعيل كان سن إبراهيم تسعا وتسعين سنة ، ولما ولد إسحاق كان سنه مائة واثنتي عشرة سنة.

وقوله : (عَلَى الْكِبَرِ) لأن المنة بهبة الولد في هذه السن أعظم ؛ إذ الظفر بالحاجة وقت اليأس من أعظم النعم ، ولان الولادة في تلك السن المتقدمة كانت آية لإبراهيم.

(إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) أي إن الله ربي سامع دعائي وقولي ، ومجيب من دعاه ، وعالم بالمقصود ، سواء صرحت به أو لم أصرح. وقال هذا لما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض ، لا على وجه الإيضاح والتصريح.

٢٦٤

ومناسبة قوله : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي ..) لقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي ..) هو لمراعاة الأدب الجم مع الله تعالى ، فهو عليه‌السلام كان يريد أن يطلب من الله إعانة زوجه هاجر وابنه إسماعيل بعد موته ، ولكنه لم يصرح بهذا المطلوب ، بل ذكر أنك يا رب تعلم ما في قلوبنا وضمائرنا ، ثم نوّه بحال ذريته بعد موته ، فكان هذا دعاء لزوجه وابنه بالخير والمعونة بعد موته ، على سبيل الرمز والتعريض.

وذلك ـ كما قال الرازي ـ يدل على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة أفضل من الدعاء ، قال عليه الصلاة والسلام حاكيا عن ربه أنه قال فيما رواه البخاري والبزار والبيهقي عن ابن عمر : «من شغله ذكري عن مسألتي ، أعطيته أفضل ما أعطيت السائلين».

ثم دعا بما يكون دليلا على شكر الله فقال : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ..) أي رب اجعلني مؤديا صلاتي على أتم وجه ، محافظا عليها ، مقيما لحدودها.

واجعل بعض ذريتي كذلك مقيمي الصّلاة ؛ لأن (مِنْ) للتبعيض. وخص الصلاة بالذكر لأنها عنوان الإيمان ، ووسيلة تطهير النفوس من الفحشاء والمنكر.

(رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) أي اقبل يا رب دعائي ، أو عبادتي في رأي ابن عباس بدليل قوله تعالى : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) [مريم ١٩ / ٤٨]. وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه الجماعة وغيرهم عن النعمان بن بشير : «الدعاء هو العبادة» ثم قرأ : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي ، سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ).

(رَبَّنَا اغْفِرْ لِي ..) أي ربنا استرني وتجاوز عن ذنوبي وذنوب والدي وذنوب المؤمنين كلهم يوم يثبت ويوجد الحساب فتحاسب عبادك على أعمالهم

٢٦٥

الخيرة والشريرة. قال الحسن : إن أمه كانت مؤمنة ، وأما استغفاره لأبيه فكان عن موعدة وعدها إياه ، فلما تبين أنه عدو لله ، تبرأ منه ، كما قال عزوجل : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ، إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة ٩ / ١١٤].

ودعاء إبراهيم لنفسه لا يلزم منه صدور ذنب منه ، وإنما المقصود منه الالتجاء إلى الله تعالى ، والاعتماد على فضله وكرمه ورحمته.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ تعليمنا طلب نعمة الأمان من الله ، فابتداء إبراهيم عليه‌السلام بطلب نعمة الأمن في هذا الدعاء يدل على أنه أعظم أنواع النعم والخيرات ، وأنه لا يتم شيء من مصالح الدين والدنيا إلا به.

٢ ـ مشروعية الدعاء للنفس والذرية والبلاد ، بل ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته.

٣ ـ كان دعاء إبراهيم مركّزا حول إخلاص التوحيد لله عزوجل ، وتجنب عبادة الأصنام والأوثان ، التي كانت سببا في إضلال كثير من الناس ، فدعاؤه جمع بين طلب أن يرزق التوحيد ، وبين طلب صونه عن الشرك ، وتضمن أيضا طلب توفيقه لصالح الأعمال ، وتخصيصه بالرحمة والمغفرة يوم القيامة.

٤ ـ الالتفاف حول النبي أو المصلح واجب ؛ لقول إبراهيم : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي).

٥ ـ طلب المغفرة للعصاة غير الكفار ؛ لأن الشرك أو الكفر لا يجوز

٢٦٦

بالإجماع طلب إسقاطه ومغفرته ؛ لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء ٤ / ٤٨].

٦ ـ إسكان إبراهيم زوجه وابنه إسماعيل عند البيت الحرام كان لإقامة الصلاة.

وقد روى البخاري عن ابن عباس ما مفاده أن إبراهيم ترك هاجر وابنها إسماعيل وهي ترضعه ، عند البيت ، عند دوحة فوق زمزم ، في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء ، ووضع عندهما جرابا ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفّى إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل ؛ فقالت : يا إبراهيم! أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء ، فقالت له ذلك مرارا ، وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت له : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم ، قالت : إذن لا يضيّعنا ؛ ثم رجعت ، فانطلق إبراهيم ، حتى إذا كان عند الثّنية حيث لا يرونه ، استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهذه الدعوات ، ورفع يديه فقال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) حتى بلغ (يَشْكُرُونَ).

وبعد أن نفد ما في السقاء ، عطشت وعطش ابنها ، فجعلت تسعى سعي المجهود بين الصفا والمروة ، سبع مرات ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فذلك سعي الناس بينهما» ثم سمعت وهي على المروة صوتا ، فإذا هي بالملك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه أو بجناحه ، حتى ظهر الماء. روى الدار قطني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ماء زمزم لما شرب له ، إن شربته تشتفي به شفاك الله ، وإن شربته لشبعك أشبعك الله به ، وإن شربته لقطع ظمئك قطعه ، وهي هزمة (١) جبريل ، وسقيا الله إسماعيل».

__________________

(١) هزمة جبريل : أي ضربها برجله فنبع الماء.

٢٦٧

٧ ـ لا يجوز لأحد أن يفعل فعل إبراهيم في طرح ولده وعياله بأرض مضيعة ، اتكالا على العزيز الرحيم ، واقتداء بفعل إبراهيم الخليل ، فإن إبراهيم فعل ذلك بأمر الله تعالى ، لقوله في الحديث : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم. وكان ذلك كله بوحي من الله تعالى.

٨ ـ تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها ؛ لأن معنى (رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) أي أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه.

٩ ـ كان من بركة دعاء إبراهيم عليه‌السلام واستجابة الله له أن التعلق بالبيت الحرام وحبه والشوق إليه والحنين إلى زيارته متمكن في قلب كل مؤمن. وقال ابن عباس في الآية : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً) : سأل أن يجعل الله الناس يهوون السّكنى بمكة ، فيصير بيتا محرما ، وكل ذلك كان ، والحمد لله ، وأول من سكنه جرهم.

وأن مكة أصبحت ملتقى الأثمار والفواكه الآتية من كل الأنحاء والأمصار ، وأنبت الله لهم بالطائف سائر الأشجار.

١٠ ـ احتج أهل السنة بآية (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) على أن أفعال العبد مخلوقة الله تعالى ، وهذا يشمل ترك المنهيات المنصوص عليه في هذه الآية : (وَاجْنُبْنِي) وفعل المأمورات المنصوص عليه في آية : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وذلك تصريح بأن إبراهيم عليه‌السلام كان مصرا على أن الكل من خلق الله تعالى.

١١ ـ دلّ القرآن على أنه تعالى أعطى إبراهيم عليه‌السلام ولدين هما إسماعيل وإسحاق على الكبر والشيخوخة ، ولم يتعرض القرآن لسن إبراهيم في ذلك الوقت ، وإنما يؤخذ من روايات التاريخ.

٢٦٨

ما يدل على وجود القيامة وأوصافها

أو تأخير عذاب القيامة وأحوال المعذبين وتبدل السموات والأرض

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٥٢))

الإعراب :

(مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) حال من ضمير (يُؤَخِّرُهُمْ) وتقديره : إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار في هاتين الحالتين.

٢٦٩

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ .. يَوْمَ) : مفعول (أَنْذِرِ) الثاني ولا يجوز أن يكون ظرفا لأنذر ؛ لأنه يؤدي إلى أن يكون الإنذار يوم القيامة ، ولا إنذار يوم القيامة.

(وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) فعل ماض فاعله مقدر ، أي تبين لكم فعلنا بهم ، ولا يجوز أن يكون (كَيْفَ) فاعل (تَبَيَّنَ) لأن الاستفهام لا يعمل فيما قبله ، ولأن (كَيْفَ) لا يقع مخبرا عنه ، والفاعل يخبر عنه ، وإنما (كَيْفَ) هنا منصوبة بقوله : (فَعَلْنا).

(لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) اللام لام الجحود ، والفعل منصوب بتقدير «أن». و «إن» بمعنى «ما» وتقديره : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، على التصغير والتحقير لمكرهم. ومن قرأ بفتح اللام وضم آخر الفعل «لتزول» كانت اللام للتأكيد ، ودخلت للفرق بين «إن» المخففة من الثقيلة وبين «إن» بمعنى «ما» أي وإنه كان مكرهم لتزول منه الجبال. وكان هنا تامة بمعنى وقع ، والجبال : عبارة عن أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعظم شأنه.

(مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) أي مخلف رسله وعده.

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ ..) يوم منصوب على الظرف بالمصدر قبله ، وهو (انتِقامٍ). وما بعد (وَالسَّماواتُ) محذوف أي غير السموات ، لدلالة (غَيْرَ الْأَرْضِ) عليه.

(لِيَجْزِيَ اللهُ ..) اللام تتعلق بفعل (وَتَغْشى) أو بفعل (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ) أو بمحذوف دل عليه قوله : (ذُو انتِقامٍ).

(وَلِيُنْذَرُوا) فيه تقدير ، أي هذا بلاغ للناس وللإنذار ؛ لأن «أن» المقدّرة بعد اللام مع «ينذروا» في تأويل المصدر ، وهو الإنذار. أو تقديره : هذا بلاغ للناس وأنزل لينذروا به ، كقوله تعالى : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ) [الأعراف ٧ / ٢].

البلاغة :

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) فيه جناس الاشتقاق.

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) حذف منه : «والسموات تبدل غير السموات» لدلالة (غَيْرَ الْأَرْضِ).

(وَبَرَزُوا) عبر بالماضي محل المضارع «يبرزون» للدلالة على تحقق الوقوع ، مثل (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل ١٦ / ١] أي فكأنه حدث ووقع ، فأخبر عنه بصيغة الماضي.

المفردات اللغوية :

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ ..) خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد تثبيته على ما هو عليه من أنه مطلع

٢٧٠

على أحوالهم وأفعالهم ، لا يخفى عليه خافية ، والوعيد بأنه معاقبهم على قليله وكثيره لا محالة ، أو هو خطاب لكل من توهم غفلته جهلا بصفات الله واغترارا بإمهاله. (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) يؤخر عذابهم. أماكنها ، لهول ما ترى ، يقال : شخص بصر فلان ، أي فتحه فلم يغمضه. (مُهْطِعِينَ) مسرعين إلى الداعي ومقبلين ، وأصله الإقبال على الشيء. (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) أي رافعيها إلى السماء ناظرة أمامها. (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) لا يرجع إليهم بصرهم ، بل تبقى عيونهم شاخصة لا تطرف. (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) قلوبهم خالية من العقل والفهم لفزعهم ، وفرط الحيرة والدهشة.

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ) خوف يا محمد الكفار. (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ) هو يوم القيامة ، أو يوم الموت ، فإنه أول أيام عذابهم. (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالكفر أو الشرك والتكذيب. (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ) أخر العذاب عنا ، وردنا إلى الدنيا ، وأمهلنا إلى حد من الزمان قريب ، أو أخر آجالنا وأبقنا مقدار ما نؤمن بك ، ونجيب دعوتك بالتوحيد. (وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ) الذين أرسلتهم ، وهذا وما قبله جواب الأمر ، ونظيره : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقين ٦٣ / ١٠].

(أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ) يقال لهم توبيخا ، أي حلفتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت. (مِنْ قَبْلُ) في الدنيا. (مِنْ زَوالٍ مِنْ) : زائدة ، أي زوال عن الدنيا إلى الآخرة. (الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالكفر والمعاصي كعاد وثمود. (كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) من العقوبة وما تشاهدونه في منازلهم من آثار ما نزل بهم ، فلم تنزجروا. (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) بينا لكم الأمثال في القرآن فلم تعتبروا ، وأنكم مثلهم في الكفر والعذاب. (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أرادوا قتله أو تقييده أو إخراجه ، وبذلوا فيه غاية جهدهم لإبطال الحق وتقرير الباطل. (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أي علمه أو جزاؤه. (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) أي وما كان مكرهم ، وإن عظم ، معدّا لإزالة الجبال ، أي لا يعبأ به ولا يضر إلا أنفسهم ، فهم مكروا ليزيلوا ما هو كالجبال الراسية ثباتا وتمكنا ، والمراد بالجبال هنا : حقيقتها ، وقيل : شرائع الإسلام المشبهة بها في القرار والثبات. ومن قرأ بفتح لام (لِتَزُولَ) ورفع الفعل ، فتكون «إن» مخففة ، والمراد تعظيم مكرهم ، مثل قوله تعالى : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) [مريم ١٩ / ٩٠].

(مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) بالنصر. (عَزِيزٌ) غالب لا يعجزه شيء (ذُو انتِقامٍ) قادر من الانتقام لأوليائه من أعدائه وكل من عصاه. (يَوْمَ تُبَدَّلُ) اذكر ذلك وهو يوم القيامة ، فيحشر الناس على أرض بيضاء نقية ، كما في حديث الصحيحين. (وَبَرَزُوا) خرجوا من القبور. (وَتَرَى) تبصر يا محمد. (الْمُجْرِمِينَ) الكافرين. (مُقَرَّنِينَ) أي مشدودين مع بعض أو مع

٢٧١

شياطينهم. (فِي الْأَصْفادِ) في القيود أو الأغلال ، جمع صفد. (سَرابِيلُهُمْ) قمصهم ، جمع سربال وهو القميص. (مِنْ قَطِرانٍ) لأنه أبلغ لاشتعال النار ، والقطران : أسود منتن ، تشتعل فيه النار بسرعة ، يطلى به جلود أهل النار ، حتى يكون طلاؤه لهم كالقمص ، ليجتمع عليهم لذع القطران ، ووحشة لونه ، ونتن ريحه ، مع إسراع النار في جلودهم. والقطران : دهن يتحلب من شجر العرعر والتوت ، كالزفت ، تدهن به الإبل حال الجرب ، ويقال له : الهناء ، تهنأ به الإبل الجربي ، أي تطلي. (وَتَغْشى) تعلو وتحيط بها.

(لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ) متعلق بقوله : (وَبَرَزُوا) ، فتجازى كل نفس مجرمة أو مطيعة بما فعلت في الدنيا من خير أو شر. (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحاسب جميع الخلق ، في قدر نصف نهار من أيام الدنيا ، لحديث ورد بذلك. (هذا) القرآن. (بَلاغٌ لِلنَّاسِ) أي أنزل لتبليغهم ، وهو كفاية في العظة والتذكير. (وَلِيَعْلَمُوا) بما فيه من الحجج. (أَنَّما هُوَ) أن الله إله واحد. (وَلِيَذَّكَّرَ) وليتعظ. (أُولُوا الْأَلْبابِ) أصحاب العقول.

المناسبة :

بعد أن ذكر الله تعالى دلائل التوحيد ، وبعد أن حكى عن إبراهيم أنه طلب من الله أن يصونه من الشرك وأن يوفقه لصالح الأعمال ، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة يوم القيامة ، ذكر ما يدل على وجود يوم القيامة بقوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) وما يدل على صفة يوم القيامة بقوله : (تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ ..) إلخ.

التفسير والبيان :

ولا تحسبن يا محمد أن الله إذا أنظر الناس وأخر عنهم العذاب إلى يوم القيامة ، أنه غافل عنهم ، مهمل لهم ، لا يعاقبهم على صنعهم ، بل هو يحصي ذلك عليهم ، ويعده عليهم عدا. والمقصود من الآية إثبات وجود يوم القيامة بطريق التنبيه على أنه تعالى سينتقم للمظلوم من الظالم.

وهو وإن كان خطابا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صورة ، فالمراد به أمته ، بأسلوب «إياك أعني واسمعي يا جارة». وفيه تسلية للمؤمنين ، وتهديد للظالمين بأن الله يحصي

٢٧٢

عليهم أعمالهم ويعلم بها ، وسيجزيهم على ظلمهم في الوقت المناسب ، فعقابهم آت لا محالة ؛ لأن العلم بالظلم الصادر منهم موجب لعقابهم.

ثم بيّن الله تعالى أنه إنما يؤخر عقاب هؤلاء الظالمين ليوم موصوف بالصفات التالية :

١ ـ أنه تشخص فيه الأبصار ، أي أنه يمهلهم ويؤخرهم ليوم شديد الهول ، ومن شدة أهواله تظل الأبصار فيه مفتوحة لا تطرف ولا تغمض ، من شدة الفزع والحيرة والدهشة. ثم وصف كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر ، فقال :

٢ ـ (مُهْطِعِينَ) أي أنهم يأتون من قبورهم إلى المحشر مسرعين بالذل والمهانة ، كما قال تعالى : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) [القمر ٥٤ / ٨] وقال سبحانه : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ ، وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ ، فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) إلى قوله : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ..) [طه ٢٠ / ١٠٨ ـ ١١١] وقال عزوجل : (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً ..) [المعارج ٧٠ / ٤٣].

٣ ـ (مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ) أي رافعي رؤوسهم ، ينظرون في ذل وخشوع ، ولا يلتفتون إلى شيء.

٤ ـ (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم ، بل تظل أبصارهم شاخصة مفتوحة تديم النظر ، لا يطرفون ولا يغمضون ، لكثرة ما هم فيه من شدة الهول والفزع ، والمراد من هذه الصفة دوام الشخوص.

٥ ـ (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) أي وقلوبهم خاوية خالية لا شيء فيها من القوة ، مضطربة ، لكثرة الخوف. والمراد أن قلوب الكفار خالية من الخواطر ؛ لعظم الحيرة ، ومن كل رجاء وأمل ؛ لما تحققوه من العقاب ، وخالية من كل سرور ؛ لكثرة الحزن.

٢٧٣

ووقت حصول هذه الأوصاف عند المحاسبة ؛ لأنه تعالى ذكر هذه الصفات عقب وصف ذلك اليوم بأنه يوم يقوم الحساب.

ثم ذكر تعالى مقالة هؤلاء المعذبين حين رؤية الهول ، فقال : (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ ..).

أي وخوّف أيها النبي الناس جميعا من أهوال عذاب يوم القيامة ، حين يقول الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب هلعا وجزعا : (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) أي ردنا إلى الدنيا ، وأمهلنا إلى وقت آخر قريب العودة إليك ، نتدارك فيه ما فرطنا في الدنيا ، من إجابة دعوتك إلى التوحيد وإخلاص العبادة لك ، واتباع رسلك فيما أرسلتهم به ، مثل قوله تعالى : (لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون ٦٣ / ١٠] وكقوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ : رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ..) [المؤمنون ٢٣ / ٩٩ ـ ١٠٠].

فرد الله تعالى عليهم موبخا لهم بقوله : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ ..) أي أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحالة حينما كنتم في الدنيا : أنكم إذا متم لا زوال لكم عما أنتم فيه ، وأنه لا معاد ولا جزاء ، أي كنتم تنكرون البعث والحساب ، وتزعمون أنه لا انتقال لحياة أخرى ، كقوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ، لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل ١٦ / ٣٨] فذوقوا هذا العذاب بذلك الإنكار.

(وَسَكَنْتُمْ ..) أي والحال أنكم أقمتم في الظلم والفساد ، وصاحبتم الظالمين لأنفسهم ، وسرتم سيرتهم ، بالرغم من أنه تبين لكم ، ورأيتم ما فعلنا بهم من الإهلاك والعقاب لتكذيبهم وجحودهم وصدودهم عن دعوة الحق ، وعاينتم آثار عذابهم ، وظهر لكم أن عاقبتهم آلت إلى الوبال والخزي والنكال ، وضربنا لكم الأمثال ، وهو ما أورده الله في القرآن مما يعلم به أنه قادر على الإعادة ، كما قدر على الابتداء ،

٢٧٤

وقادر على التعذيب المؤجل ، كما يفعل الهلاك المعجل ، وذلك في كتاب الله كثير ، ولكنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا ، فلم يكن فيما أوقعنا بهم لكم مزدجر ، فكيف تطلبون العودة والتأخير للتوبة؟! وقد فات الأوان.

ثم بيّن الله تعالى تشابه أحوالهم مع أحوال السابقين ، فقال : (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) أي إن هؤلاء الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم لم تتغير حالهم عن حال من سبقهم ، فإنهم مكروا مكرهم جهد طاقتهم في إبطال الحق وتقرير الباطل ، (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ) أي وعند الله العلم بمكرهم ، أو جزاؤهم ، فكل شيء معلوم منهم ، ومكتوب ومسجل عليهم ، وسيجازيهم عليه الجزاء العادل ، ويحاسبهم الحساب الشديد.

ثم ذكر الله تعالى وقت انتقامه فقال : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ ..) أي إن الله تعالى ذو انتقام من أعدائه ، ووعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض ، فتصبح على غير الصفة المألوفة المعروفة ، وتبدل أيضا السموات غير السموات ، أما (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) [نوح ٧١ / ٢٢] فمحال أن تزول الجبال بمكرهم ، والمراد بالجبال آيات الله وشرائعه ؛ لأنها بمنزلة الجبال الراسية ثباتا وتمكنا ، فهذا الذي فعلوه بأنفسهم من شركهم بالله وكفرهم به ، ما ضر ذلك شيئا من الجبال ولا غيرها ، وإنما ضر أنفسهم ، وعاد وبال ذلك عليهم. والمقصود تصغير مكرهم وتحقيره وتهوينه ، فليس من شأنه إزالة الآيات وإبطال النبوات الثابتة ثبوت الجبال ، والجبال لا تزول ، ولكن العبارة مجاز عن تعظيم الشيء ووصفه كيف يكون.

وإذا كان الأمر كذلك فلا تحسبن أيها الرسول أن الله مخلف رسله وعده ، بل هو منجز لهم ما وعدهم به ، والمراد تثبيت أمته على الثقة بوعد ربه بنصرهم وتعذيب الظالمين ، كما قال : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ، إِنَّ اللهَ قَوِيٌ

٢٧٥

عَزِيزٌ) [المجادلة ٥٨ / ٢١] وقال : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) [غافر ٤٠ / ٥١] وآية (فَلا تَحْسَبَنَ) هنا هي تقرير وتأكيد لهاتين الآيتين ، أي من نصرتكم في الحياة الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد.

(إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) أي إن الله ذو عزة وقدرة لا يعجزه ولا يمتنع عليه شيء أراده ، وشاء عقوبته ، وهو ذو انتقام ممن كفر به وجحده ، أو أشرك معه إلها آخر. وهذه خاتمة مناسبة للآية ، تؤكد الحرص على إنجاز الوعد للرسل.

ثم ذكر تعالى وقت انتقامه فقال : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ ..) أي إن الله تعالى ذو انتقام من أعدائه ، ووعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض ، فتصبح على غير الصفة المألوفة المعروفة ، وتبدل أيضا السموات غير السموات ، أما الأرض الحالية فتصبح كالدخان المنتشر ، وأما السموات فتتبدد كواكبها وشمسها وقمرها.

جاء في الصحيحين عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقيّ ، ليس فيها معلم لأحد».

وروى أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجه عن عائشة قالت : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) : أين الناس يومئذ يا رسول الله؟ قال : على الصراط».

واختلف العلماء في تبديل الأرض والسموات ، فقيل : تبدّل أوصافها فتسيّر عن الأرض جبالها ، وتفجّر بحارها وتسوّى ، فلا يرى فيها عوج ولا أمت (١) ،

__________________

(١) الأمت : المكان المرتفع والتلال الصغار ، والانخفاض والارتفاع.

٢٧٦

قال ابن عباس : هي تلك الأرض ، وإنما تغير. وتبدل السماء بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها.

وقيل : يخلق بدلها أرضا وسموات أخر ، عن ابن مسعود وأنس : «يحشر الناس على أرض بيضاء ، لم يخطئ عليها أحد خطيئته» (١).

والعلماء يقررون أن الأرض والكواكب كانت كتلة ملتهبة في الفضاء ، ثم انفصلت عنها الشمس والكواكب السيارة ، ثم الأرض ، ثم الأقمار. وستنحل هذه المجموعة ، وتكون سموات غير هذه السموات ، وأرض غير هذه الأرض.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) أي وخرجت الخلائق جميعها من قبورهم انتظارا لحكم الله الوحد ، الذي قهر كل شيء وغلبه ، كما قال تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر ٤٠ / ١٦] وفي هذا تهويل وتخويف.

ولما وصف الله تعالى نفسه بكونه قهارا ، أبان عجز الناس وذلتهم أمامه ، وذكر من صفاتهم :

١ ـ كون المجرمين مقرنين في الأصفاد ، أي ترى يا محمد المجرمين وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم مقيدين بعضهم إلى بعض في الأغلال أو القيود ، فيجمع بين النظراء أو الأشكال ، كل صنف إلى صنف ، كما قال تعالى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ) [الصافات ٣٧ / ٢٢] وقال : (وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) [التكوير ٨١ / ٧] أي تقرن نفوس المؤمنين بالحور العين ، ونفوس الكافرين بالشياطين وقال : (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ) [الشعراء ٢٦ / ٩٤].

٢ ـ (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) أي قمصهم من القطران ، والمراد أن جلود أهل النار تطلي بالقطران ، حتى تصبح كالسرابيل ، ليحصل بسببها أربعة أنواع

__________________

(١) الكشاف : ٢ / ١٨٥

٢٧٧

من العذاب : لذع القطران وحرقته ، وإسراع النار في جلودهم ، واللون الوحش ، ونتن الريح. وأيضا التفاوت بين قطران القيامة وقطران الدنيا كالتفاوت بين النارين.

٣ ـ (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) أي تحيط النار بأجسامهم ، وإنما ذكرت الوجوه ؛ لأنها

أشرف الأعضاء وأعزها ، مثل قوله تعالى : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ، وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) [المؤمنون ٢٣ / ١٠٤] وقوله : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر ٣٩ / ٢٤] وقوله : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) [القمر ٥٤ / ٤٨].

ثم بين الله تعالى سبب الجزاء فقال : (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي أنه تعالى فعل كل ذلك ليجزي يوم القيامة كل شخص بما يليق بعمله وكسبه ، من خير أو شر ، فيعاقب المجرمين أو الكفار على كفرهم ومعصيتهم ، ويثيب المؤمنين على إيمانهم وطاعتهم ، كما قال تعالى : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) [النجم ٥٣ / ٣١].

ثم قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) أي إنه تعالى يحاسب جميع العباد بسرعة وهي في قدر نصف نهار من أيام الدنيا ، كما جاء في الحديث ، ولا يظلم الناس ولا يزيد في عقابهم الذي يستحقونه ، وهو سريع الإنجاز ؛ لأنه يعلم كل شيء ولا تخفى عليه خافية ، وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم ، كقوله تعالى : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) [لقمان ٣١ / ٢٨] ، وهو سريع الإحصاء.

ثم قال تعالى : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) أي هذا القرآن بلاغ للناس أي تبليغ وكفاية في الموعظة ، كما قال تعالى : (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام ٦ / ١٩] أي هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجن.

٢٧٨

(وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) أي ليكون منذرا لهم بالعقاب ومحذرا من العذاب ، وهو معطوف على محذوف أي لينتصحوا ولينذروا بهذا البلاغ.

(وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) أي وليستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو.

(وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي وليتذكر ويتعظ به ذوو العقول أي أن لهذا البلاغ ثلاث فوائد : وهي التخويف من عذاب الله ، والاستدلال به على وجود الخالق ووحدانيته ، والاتعاظ به وإصلاح شؤون الإنسان.

فقه الحياة أو الأحكام :

دلت الآيات على ما يأتي :

١ ـ وجود يوم القيامة بنحو مؤكد مقطوع به ، أما تأخير العذاب الشديد ليوم القيامة فلحكمة إلهية يعود نفعها إلى مصلحة العباد ، كيلا يعجل بعقابهم وتترك الفرصة لهم لإصلاح أحوالهم ، فليس تأخير العذاب للرضا بأفعالهم ، بل سنة الله إمهال العصاة مدة. وفي هذا تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عما ساءه من إعراض المشركين عن الإيمان بدعوته ، قال ميمون بن مهران : هذا وعيد للظالمين ، وتعزية للمظلوم.

٢ ـ يسيطر على يوم الحساب الحيرة والدهشة ، والخوف والفزع ، والاضطراب والقلق ، فترى المجرمين حيارى لا تغمض أعينهم من هول ما يرونه في ذلك اليوم ، ويسرعون في الخروج من القبور إلى مكان دعاء الداعي لهم بالتجمع في موقف الحساب ، ناظرين من غير أن يطرفوا ، ورافعي رؤوسهم ينظرون في ذل واستكانة ، لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر ، فهي شاخصة النظر ، وأفئدتهم خاوية خربة ليس فيها خير ولا عقل ، ولا وعي ولا فهم من شدة

٢٧٩

٣ ـ لا مناص من العذاب يوم القيامة ولا مفر منه ، ولا أمل ولا رجاء في العودة إلى الدنيا لإصلاح الاعتقاد والأقوال والأفعال.

٤ ـ ما أكثر المواعظ والعبر وأقل الاتعاظ والاعتبار!! فقد سكن الناس في مساكن الظالمين ، في بلاد ثمود ونحوها ، ولم يعتبروا بمساكنهم ، بعد ما تبين ما فعل الله بهم ، وبعد أن ضرب الله لهم الأمثال في القرآن للعظة والعبرة.

٥ ـ لا جدوى من مكر الكافرين الشديد بالشرك بالله وتكذيب الرسل والمعاندة ، فعند الله العلم التام بمكرهم ، وهو مجازيهم عليه. ومكرهم حقير مهين لا يؤدي إلى شيء ، من إزالة جبال الأرض ، وإزاحة الإسلام والقرآن الثابتين ثبوت الجبال الراسيات ، وقد حفظ الله رسولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم من ألوان مكرهم.

٦ ـ الله تعالى منجز وعده لرسله وأوليائه لا محالة ، ولن يخلف الله وعده بنصر أهل الحق وعقاب المبطلين ، والله تعالى قوي غالب منتقم من أعدائه ، ومن أسمائه : المنتقم الجبار.

٧ ـ تتبدل الأرض والسموات يوم القيامة ، وتبدل الأرض في رأي الأكثرين : عبارة عن تغير صفاتها ، وتسوية آكامها ، ونسف جبالها ، ومدّ أرضها. وتبدل السموات : انتثار كواكبها وتصدعها وانشقاقها وتكوير شمسها وخسوف قمرها.

٨ ـ للمجرمين في النار صفات كئيبة ، فهم مقيدون بالأغلال والقيود ، وتطلي جلودهم بالقطران ، وتضرب الناس وجوههم فتغشّيها وتحيط بها وبجميع أجسادهم.

٩ ـ إن حشر الناس يوم المعاد لإنصاف الخلائق وإقامة صرح العدل المطلق بينهم ، ومجازاة كل امرئ بما عمل ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

٢٨٠