التفسير المنير - ج ٧

الدكتور وهبة الزحيلي

(وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) قصدت بعبادتي وطلب حاجتي وجه الله وحده ، مع إخلاص العبودية. (فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أخرجهما إلى الوجود أو أبدعهما أو خلقهما لا على مثال سابق. (حَنِيفاً) مائلا عن الضلال والشرك إلى الدين القيم.

المناسبة :

ذكر الله تعالى هنا قصة إبراهيم مع أبيه آزر في إبطال الوثنية ، للاحتجاج على مشركي العرب ، لأن جميع الطوائف والملل تعترف بفضله ، فالمشركون يقرّون بأنهم من أولاده ويعترفون بفضله ، ويدّعون أنهم من ملته ، واليهود والنصارى كلهم معظمون له ، معترفون بجلالة قدره ، وإذا كان إبراهيم يجادل قومه ويناقشهم في عبادة الأوثان ، مرة بعد مرة ، فعلى العرب أحفاده أن يرجعوا عن غيهم ، ويدركوا خطأهم في عبادة الأوثان.

التفسير والبيان :

واذكر يا محمد إذ قال إبراهيم لأبيه آزر : أتتخذ أصناما آلهة ، تعبدها من دون الله؟! مع أن الله هو الذي خلقك وخلقها ، فهو المستحق للعبادة دونها.

قال ابن كثير : والصواب أن اسم أبيه آزر.

إني أراك وقومك الذين يعبدون هذه الأصنام ، أي السالكين مسلكك والسائرين على طريقتك ، في ضلال واضح ، أي تائهين ، لا يهتدون إلى الطريق القويم الذي يسلكونه ، بل هم في حيرة وجهل ، وأمركم في الجهالة والضلال بيّن واضح لكل ذي عقل سليم ، وأي ضلال أوضح من عبادتكم صنما من حجر أو شجر أو معدن ، تنحتونه بأيديكم ، ثم تعبدونه وتقدسونه ، كقوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ؟) [الصافات ٣٧ / ٩٥ ـ ٩٦] وأنتم أسمى من الصنم شأنا ، وأعلى مكانة ، فأنتم تعقلون ، والأصنام صماء لا تعقل ولا تدفع عن نفسها الضر ، ثم تتخذونهم آلهة معبودة؟!

٢٦١

والتعبير بالضلال المبين : معناه الانحراف عن طريق الاستقامة ، كما قال تعالى لنبيه محمد : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) [الضحى ٩٣ / ٧].

وكما أرينا إبراهيم ضلال أبيه وقومه في عبادتهم الأصنام والأوثان ، أريناه مرة بعد أخرى ملكوت السموات والأرض ، أي خلقهما بما فيهما من بديع النظام وغريب الخلق والصنع ، فاطلع على أسرار الكون وخفاياه من أرض وسماء ، ليستدل بذلك على وحدانيتنا وعظيم قدرتنا وسعة علمنا : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) [النمل ٢٧ / ٨٨].

نعرّف إبراهيم ذلك ونبصره ونوفقه ، ونرشده بما شرحنا صدره وسددنا نظره ، وهديناه لطريق الاستدلال ، وليكون ممن أيقن تمام الإيقان أن شيئا من الأصنام والشمس والقمر والكواكب لا يصح أن يكون إلها ، لقيام دليل الحدوث فيها ، وأن وراءها محدثا أحدثها ، وصانعا صنعها ، ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها ومسيرها وسائر أحوالها ، فتكون تلك الآيات دالة على الألوهية والربوبية ، وحجة على المشركين الضالين. واليقين : علم قطعي يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل.

ثم أوضح الله تعالى ما رآه إبراهيم من ملكوت السموات والأرض ، فقال : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) أي لما أظلم عليه الليل ، رأى كوكبا عظيما متميزا عن سائر الكواكب بإشراقه ولمعانه ، وهو كوكب المشتري أو الزهري ، قال : هذا ربي ، أي قال هذا في مقام المناظرة والحجاج لقومه ، تمهيدا للإنكار عليهم ولإقامة الحجة عليهم ، فأوهمهم أولا أنه موافق لهم على زعمهم ، ثم نقضه بالحس والعقل.

فلما غرب هذا الكوكب ، قال إبراهيم : ما هذا بإله ، ولا أحب ما يغيب ويختفي! لأن الإله له السيطرة على الكون ، وهو السميع البصير الرقيب ، الذي لا يغيب ولا يغفل ؛ إذ كيف يغيب الإله ويستتر؟ قال تعالى (لِمَ تَعْبُدُ

٢٦٢

ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ ، وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم ١٩ / ٤٢]. وهذا تعريض بجهل قومه في عبادة الكواكب ، قال قتادة : علم أن ربه دائم لا يزول.

ثم انتقل إبراهيم من إبطال ألوهية الكوكب إلى إبطال ألوهية القمر الأكثر إضاءة ، فلما رآه بازغا طالعا قد عم ضوءه الكون ، قال : هذا ربي ، فلما غاب كذلك ، كما غاب الكوكب في الليلة الماضية ، قال إبراهيم مسمعا قومه : ما هذا أيضا بإله ، ولئن لم يهدني ربي ويوفقني للإصابة الحق في توحيده ، لأكوننّ من القوم الضالين ، الذين اخطؤوا الطريق ، فلم يصيبوا الهدى ، وعبدوا غير الله. وفي هذا تعريض قريب من التصريح بضلال قومه وتنبيه لهم على أن من اتخذ القمر إلها ضال أيضا ، وإرشاد إلى توقف معرفة العقيدة على الوحي الإلهي ، ثم صرح في المرة الثالثة بالبراءة من شرك قومه.

فلما رأى الشمس بازغة طالعة ، وهي أعظم الكواكب المرئية لنا وأعمها نفعا وإضاءة ، قال إبراهيم : هذا (١) هو الآن ربي! هذا أكبر من الكواكب والقمر قدرا ، وأعظم ضوءا ونورا ، فهو أولى بالربوبية.

فلما غابت الشمس كما غاب غيرها ، صرح إبراهيم بعقيدته ، وتبرأ من شرك قومه ، قائلا : أنا بريء من عبادة الكواكب وموالاتهن ، إني توجهت في عبادتي لخالق الأرض والسماء (٢) ، وخالق هذه الكواكب ، مائلا عن الضلال إلى الحق والدين القيم ، دين التوحيد ، ولست من زمرة المشركين الذي يتخذون مع الله إلها آخر ، وإنما أعبد خالق هذه الأشياء ومدبرها الذي بيده ملكوت كل شيء ، ، وخالق كل شيء ، وربه ومليكه وإلهه ، كما قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي

__________________

(١) إنما قال : هذا عن الشمس وهي مؤنثة ؛ لأنه أراد هذا الطالع أو هذا الذي أراه.

(٢) وقال : وجهت وجهي للذي فطر ، ولم يقل : إلى الذي ؛ لأنه تعالى متعال عن الحيز والجهة ، والمقصود : توجيه القلب لطاعته.

٢٦٣

خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ، يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ ، أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ، تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) [الأعراف ٧ / ٥٤].

والظاهر مما تقدم أن قوم إبراهيم كانوا يتخذون الأصنام آلهة لا أربابا ، ويتخذون الكواكب أربابا آلهة ، والإله : هو المعبود ، والرب : هو السيد المالك المربّي المدبر المتصرف. والعبادة : هي التوجه بالدعاء والتعظيم لخالق الخلق. وليس للخلق إله ولا رب سوى الله.

وموقف إبراهيم كان موقف الممثل للمجادل البارع على سبيل الافتراض أنه غير مؤمن ، أما في الحقيقة والواقع فلم يكن إبراهيم ناظرا في مقام إثبات الألوهية والربوبية ؛ لأن الله قال في حقه : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ ، وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ. إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ : ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) [الأنبياء ٢١ / ٥١ ـ ٥٢] وقال تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً ، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. شاكِراً لِأَنْعُمِهِ ، اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ، وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل ١٦ / ١٢٠ ـ ١٢٣] وقال تعالى : (قُلْ : إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ، وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام ٦ / ١٦١]. وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كل مولود يولد على الفطرة» وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله : إني خلقت عبادي حنفاء» وقال الله في قرآنه المجيد : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها ، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) [الروم ٣٠ / ٣٠] وقال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ : أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا : بَلى) [الأعراف ٧ / ١٧٢].

٢٦٤

فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة ، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة ، قانتا لله حنيفا ، ولم يك من المشركين ، ناظرا في هذا المقام ، بل هو أولى بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا شك ولا ريب.

ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا : قوله تعالى فيما يأتي : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ ...)(١).

فقه الحياة أو الأحكام :

من أجل إثبات ألوهية الله وربوبيته ناظر إبراهيم وجادل ، وأفحم بالحجة والبرهان ، وله أربع مناظرات :

الأولى ـ مناظرته مع أبيه ، حيث قال له : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم ١٩ / ٤٢] وحكى القرآن خبر هذه المناظرة هنا ، فقال : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ...).

الثانية ـ مناظرته مع قومه ، وهو قوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ...).

الثالثة ـ مناظرته مع ملك زمانه ، فقال : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة ٢ / ٢٥٨].

الرابعة ـ مناظرته مع الكفار بالفعل ، وهو قوله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) [الأنبياء ٢١ / ٥٨].

وهذا يدل على قوة إبراهيم ومقدرته في الجدل والمناظرة ، وحضور البديهة لإفحام الخصم ، وإثبات مراده بالبرهان القاطع.

وكان إبراهيم عليه‌السلام بارعا في هذا المقام ، حيث أبطل عبادة الكواكب

__________________

(١) تفسير ابن كثير : ٢ / ١٥١ ـ ١٥٢

٢٦٥

والقمر والشمس ؛ لأنها تغيب وتختفي ، وشأن الإله ألا يغيب ولا يستتر ، ولا يتخلى عن إشرافه لملكوته ، وقد تنازل مع خصمه بهذا الأسلوب على سبيل الافتراض ، ثم نقض وجهة نظر الخصم وكان في كل ذلك ـ كما أوضحت ـ مناظرا لا ناظرا ، فعقيدته مستقرة في قلبه بالفطرة والإلهام والإرشاد الإلهي والعقل والحس.

وأما قوله : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي) فمعناه : لئن لم يثبتني على الهداية ، وقد كان مهتديا. وفي التنزيل : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة ١ / ٦] أي ثبتنا على الهداية.

وتدرج إبراهيم من اختبار نماذج ثلاثة لألوهية الكواكب إلى إثبات ألوهية الله الحق وربوبيته ، بقوله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ) أي قصدت بعبادتي وتوحيدي لله عزوجل وحده. وذكر الوجه ؛ لأنه أظهر ما يعرف به الإنسان صاحبه. وكان تدرجه من التعريض بجهل قومه وبطلان الوثنية ، إلى سلخ محبته عن الآفلين ، إلى الإنذار بالضلال والحيرة ، إلى التصريح بالبراءة من الشرك ومن المشركين ، إلى إعلان عقيدته بعد هدم أساس الشرك.

قال الرازي : وليس في العالم أحد يثبت لله تعالى شريكا يساويه في الوجوب والقدرة والعلم والحكمة ، لكن الثنوية يثبتون إلهين : أحدهما ـ حكيم يفعل الخير ، والثاني ـ سفيه يفعل الشر. وأما الاشتغال بعبادة غير الله فهناك كثرة : منهم عبدة الكواكب ، ومنهم قوم غلاة ينكرون الإله الصانع ، وهم الدهرية الخالصة والنصارى يعبدون غير الله ، إذ يعبدون المسيح ، ومنهم عبدة الأصنام (١).

ولا دين أقدم من دين عبادة الأصنام ؛ لأن أقدم الأنبياء الذين وصل إلينا

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٣ / ٣٥

٢٦٦

تاريخهم مفصلا هو نوح عليه‌السلام ، وقد جاء بالرد على عبدة الأصنام (١) ، كما قال تعالى حكاية عن قومه أنهم قالوا : (لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) [نوح ٧١ / ٢٣] وسبب قولهم أن الإنسان البدائي توهم في صموت الصنم سرا يصلح أن يوصل إلى الله تعالى ، أوتوهم في ظهور بعض مخلوقات الله من شجر أو شمس أو قمر وسيلة إلى الإله الحق تشفع عنده وتقرب إليه من توجه إليها.

وأدرك قوم إبراهيم أن الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع ، وإنما قلدوا آباءهم ، لذا اتخذوا الأصنام آلهة معبودة لا أربابا مدبرين ، لكنهم اتخذوا الكواكب أربابا لتأثيرها السبي في الأرض.

وقلد العرب آباءهم في عبادة الأصنام قائلين : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر ٣٩ / ٣].

ولا يسع المؤمن إلا التنديد بكل مظاهر الوثنية وأشكالها وطقوسها ، وحصر العبادة بفاطر السموات والأرض وحده دون غيره من الوسائل ، كما أعلن إبراهيم عليه‌السلام الذي قال في التماثيل : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ ، وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) [الأنبياء ٢١ / ٥٦].

وجميع مخلوقات الله تعالى دالة على وجود الصانع وقدرته ؛ لأنها محدثة ممكنة ، وكل محدث ممكن هو محتاج إلى الصانع.

ودل قوله تعالى : (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) على أحكام ذكرها الرازي :

١ ـ دلت هذه الآية على أن الله تعالى ليس بجسم ؛ إذ لو كان جسما لكان غائبا عنا أبدا ، فكان آفلا أبدا.

__________________

(١) المرجع والمكان السابق.

٢٦٧

٢ ـ ودلت الآية على أنه تعالى ليس محلّا للصفات المحدثة ، وإلا لكان متغيرا ، وحينئذ يحصل معنى الأفول ، وذلك محال.

٣ ـ ودلت أيضا على أن الدين يجب أن يكون مبنيا على الدليل ، لا على التقليد ، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة البتة.

٤ ـ ودلت كذلك على أن معارف الأنبياء بربهم قائمة على الاستدلال لا بالبداهة أو الضرورة ، وإلا لما احتاج إبراهيم إلى الاستدلال.

٥ ـ ودلت على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته ؛ إذ لو أمكن معرفتها بطريق آخر ، لما عدل إبراهيم عليه‌السلام إلى هذه الطريقة(١).

المحاجة بين إبراهيم وقومه

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٨٠) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨١) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٨٢) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣))

__________________

(١) تفسير الرازي : ١٣ / ٥٥ ـ ٥٦

٢٦٨

الإعراب :

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) : (إِلَّا) : استثناء منقطع (شَيْئاً) : منصوب على المصدر ، كقولك : إلا أن يشاء مشيئة. (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) : (عِلْماً) : منصوب على التمييز.

(الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ) : (الَّذِينَ) : مبتدأ ، و (أُولئِكَ) : بدل من (الَّذِينَ) أو مبتدأ ثان ، و (الْأَمْنُ) : مبتدأ ثالث أوثان. و (لَهُمُ) : خبر (الْأَمْنُ). والأمن وخبره : خبر (أُولئِكَ). وأولئك وخبره : خبر (الَّذِينَ).

(نَرْفَعُ دَرَجاتٍ) منصوب بنرفع على الظرف ، أو بتقدير حذف حرف الجر ، وتقديره : إلى درجات. ومن قرأ بغير تنوين ، كان (دَرَجاتٍ) مفعولا به ، والعامل فيه (نَرْفَعُ) وأضافها إلى (مَنْ).

المفردات اللغوية :

(وَحاجَّهُ قَوْمُهُ) جادلوه في دينه ، وهددوه بالأصنام أن تصيبه بسوء إن تركها. والمحاجة : المجادلة والمغالبة ، وتطلق الحجة على ما يدلي به الخصم لإثبات دعواه أو الرد على دعوى خصمه ، والحجة : إما دامغة لا تقبل النقض ، أو داحضة واهية لا تثبت شيئا ، فتسمى شبهة. (أَتُحاجُّونِّي) أي أتجادلونني. (فِي اللهِ) في وحدانية الله. (وَقَدْ هَدانِ) تعالى إليها.

(وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ) أي تشركونه به من الأصنام أن تصيبني بسوء لعدم قدرتها على شيء. (إِلَّا) لكن. (أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) من المكروه ، يصيبني فيكون. (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي وسع علمه كل شيء.

(أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) هذا فتؤمنوا. (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ) بالله ، وهي لا تضر ولا تنفع. (وَلا تَخافُونَ) أنتم من الله. (أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) في العبادة. (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) بعبادته. (سُلْطاناً) حجة وبرهانا ، وهو القادر على كل شيء. (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) من الأحق بالأمن والسلامة ، أنحن أم أنتم ، أي وهو نحن فاتبعوه. (وَلَمْ يَلْبِسُوا) يخلطوا. (إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) المراد به هنا الشرك في العقيدة أو العبادة ، كاتخاذ ولي من دون الله يدعى معه أو من دونه ، لأنه الظلم الأكبر. (الْأَمْنُ) من العذاب. (وَتِلْكَ حُجَّتُنا) التي احتج بها إبراهيم على وحدانية الله من أفول الكوكب ونحوه. (آتَيْناها إِبْراهِيمَ) أرشدناه لها ، حجة. (عَلى قَوْمِهِ) المشركين. (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) في العلم والحكمة. (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ) في صنعه. (عَلِيمٌ) بخلقه.

٢٦٩

سبب النزول : نزول الآية (٨٢):

(الَّذِينَ آمَنُوا) أخرج ابن أبي حاتم عن بكر بن سوادة قال : حمل رجل من العدو على المسلمين ، فقتل رجلا ، ثم حمل فقتل آخر ، ثم قال : أينفعني الإسلام بعد هذا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نعم ، فضرب فرسه فدخل فيهم ، ثم حمل على أصحابه ، فقتل رجلا ، ثم آخر ، ثم آخر ، ثم قتل ، قال : فيرون أن هذه الآية نزلت فيه : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) الآية.

المناسبة :

الآيات استمرار في مناظرات إبراهيم عليه‌السلام ، وهي هنا جدال بينه وبين قومه فيما ذهب إليه من التوحيد ، ولما أفحمهم في المناظرة ، تمسكوا بالتقليد ، واستهجنوا جعل الآلهة إلها واحدا ، وخوفوه بالآفات والبليات ، لما طعن في ألوهية هذه الأصنام.

التفسير والبيان :

جادله قومه في مبدأ التوحيد ، فهو حين أثبته لهم بالأدلة القاطعة في حدود مستواهم الفكري ، وأثبت لهم وجوب عبادة الله وحده ، حاجوه ببيان شبهاتهم في شركهم ، فقالوا : إن تعدد الآلهة لا ينافي الإيمان بالله ؛ لأنهم شفعاء عنده ، وتمسكوا بالتقليد للآباء وبنحو ذلك. فرد الله عليهم بقوله :

(قالَ : أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ)؟ أي أتجادلونني في أمر الله وأنه لا إله إلا الله ، وقد بصرني وهداني إلى الحق ، وأنا على بينة منه ، فكيف ألتفت إلى مزاعمكم وضلالكم في شرككم وتقليدكم فيه أسلافكم من غير حجة؟

٢٧٠

ومن أدلة بطلان مذهبكم أن هذه الآلهة التي تعبدونها لا تؤثر شيئا ، وأنا لا أخافها ولا أرهبها ولا أبالي بها ؛ لأنها لا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، ولا تنصر ولا تشفع ، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تمهلون ، بل عاجلوني بذلك.

لا أخاف ما تشركون به أبدا إلا إذا شاء الله شيئا في إصابة مكروه لي ، فإنه يقع حتما ؛ لأنه لا يضر ولا ينفع إلا الله عزوجل ، وهو القادر على كل شيء.

ثم علل تعالى ما سبق فقال : (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) أي أحاط علمه بجميع الأشياء ، فلا تخفى عليه خافية ، فلربما أنزل بي مكروها بسبب الدعوة إلى نبذها وتحطيمها.

أفلا تتذكرون هذا وما بينته لكم فتؤمنوا ، أي أفلا تعتبرون أن هذه الآلهة باطلة ، فتنزجروا عن عبادتها؟ وهذا شبيه بما احتج به هود عليه‌السلام على قومه عاد : (قالُوا : يا هُودُ ، ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ، قالَ : إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ، مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ، ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ، ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها ، إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود ١١ / ٥٣ ـ ٥٦].

وكيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله ، ولا تخافون إشراككم بالله خالقكم ، ما لم ينزل به حجة بيّنه بوحي ولا نظر عقل تثبت لكم جعله شريكا في الخلق والتدبير أو في الوساطة والشفاعة؟ وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية على أن الله واحد أحد فرد صمد ، فإشراككم وافتئاتكم هو الذي ينبغي أن يخاف.

وفي (كَيْفَ) معنى الإنكار ، أنكر عليهم تخويفهم إياه بالأصنام ، وهم

٢٧١

لا يخافون الله عزوجل ؛ أي كيف أخاف ميتا وأنتم لا تخافون الله القادر على كل شيء؟! قال ابن عباس وغيره عن قوله (سُلْطاناً) أي حجة ، أي لا دليل يثبته ، كقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ) [الشورى ٤٢ / ٢١] وقوله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [النجم ٥٣ / ٢٣].

وإذا كان هذا هو الحقيقة والواقع ، فأي الفريقين : فريق الموحدين وفريق المشركين أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة ، وأجدر بالأمن وعدم الخوف على نفسه في الدنيا من جراء عقيدته؟ أي الطائفتين أصوب؟ الذي عبد من بيده الضر والنفع ، أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع بلا دليل؟ والتصريح بالفريقين دون الاكتفاء بقول : (فأينا أحق بالأمن) للدلالة على أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك ، لا خاصة لهم ، وللبعد عن تخطئتهم صراحة حتى لا ينفروا من الإصغاء ، ويلجأوا إلى العناد.

إن كنتم تعلمون ، أي إن كنتم على علم وبصيرة بهذا الأمر ، فأخبروني بذاك ، وفي هذا دفع لهم إلى الاعتراف بالحق.

ثم أجاب الله تعالى عمن هو أحق بالأمن فقال : (الَّذِينَ آمَنُوا ...) أي الذين صدقوا بوجود الله ووحدانية ، وأخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له ، ولم يشركوا به شيئا ، ولم يخطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم ، هم الآمنون يوم القيامة ، المهتدون في الدنيا والآخرة.

روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت : (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) قال أصحابه : وأينا لهم يظلم نفسه ، فنزلت : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) هذه رواية البخاري. وأما رواية الإمام أحمد : «لما نزلت هذه الآية : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق ذلك

٢٧٢

على الناس ، فقالوا : يا رسول الله ، أينا لا يظلم نفسه؟ قال : إنه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان ٣١ / ١٣] إنما هو الشرك».

وتلك الحجة القوية التي احتج بها إبراهيم عليه‌السلام على قومه من قوله : (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) إلى قوله : (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) أرشدنا إليها إبراهيم ووفقناه لها ، ليقنع قومه. وهذا يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى.

إننا نرفع من شئنا من عبادنا درجات في الدنيا في العلم والحكمة ، وهي درجة الإيمان ، ودرجة العلم ، ودرجة الحكمة والتوفيق ، درجة النبوة ، ما لم يحظ بها غيرهم ، كما قال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) [البقرة ٢ / ٢٥٣] وفي الآخرة بالجنة والثواب. والمراد من الآية : أنه تعالى رفع درجات إبراهيم بسبب ما آتاه من الحجة.

إن ربك حكيم في قوله وفعله وصنعه ، عليم بشؤون خلقه ، وبمن يهديه ومن يضله ، وإن قامت عليهم الحجج والبراهين ، كما قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) [يونس ١٠ / ٩٦ ـ ٩٧]. والله يرفع درجات من يشاء بمقتضى الحكمة والعلم ، لا بموجب الشهوة والمجازفة ، فإن أفعال الله منزهة عن العبث والباطل.

ويلاحظ أن معرفة الله تعالى لا تحصل على الوجه الأكمل الصحيح إلا عن طريق الوحي ، وعلم الأنبياء بالوحي بدهي لا نظري ، فقد علّمهم كل ما يحتاجون إليه من الأدلة العقلية والنقلية.

٢٧٣

فقه الحياة أو الأحكام :

علّم الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام كل أنواع الحجج العقلية التي يفحم بها قومه ، ويبطل شبهاتهم ومزاعمهم بدليل قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ).

منها أنهم خوفوه بالأصنام ، فكان الرد عليهم بقوله : لا خوف منها أصلا ؛ لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر ، والأصنام جمادات لا تقدر على شيء من نفع أو ضر.

وأما ما قد يصاب به الإنسان من المصائب ، فإما أن يكون بسبب ذنب ، فيعاقب عليه ، وإما أن يكون ابتلاء واختبارا بمحن الدنيا ، فيعرف الصبر عليها ومدى تماسك الإيمان وقت الشدة ، وإما أن يكون تسليطا لبعض الظلمة على غيرهم ، حتى يكون ظلمهم سببا لإهلاكهم.

أما قيام الأنبياء بواجباتهم في الدعوة لإثبات التوحيد وإبطال الشرك فلا يكون سببا لاستحقاق العقاب وإنزال العذاب ، خلافا لما يتوهم المشركون عبدة الأوثان ؛ فإن الوثنية كلها نابعة من الوهم والخرفة.

والمحاجة والجدال محمود كل منهما إذا كانا بقصد تقرير الدين الحق ، وهما مذمومان إذا كانا لتقرير الدين الباطل.

وإذا كان الشرك بالله مصدر المخاوف والأوهام ، فلا غرابة في أن المشركين يعيشون دائما في قلق واضطراب وخوف من مغيبات القدر والمستقبل. أما المؤمنون الموحدون فلهم الأمن المطلق بشرط وجود الوصفين : وهما الإيمان ، وهو كمال القوة النظرية ، وعدم الإيمان بالظلم ، وهو كمال القوة العملية. والمراد من الظلم هنا : هو الشرك ؛ لأنه الظلم الأكبر ، ولقوله تعالى حكاية عن لقمان ،

٢٧٤

إذ قال لابنه وهو يعظه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ ، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) والمراد هنا : الذين آمنوا بالله ، ولم يثبتوا لله شريكا في العبادة.

أما الفاسق فيحتمل أن يعذبه الله ، ويحتمل أن يعفو عنه.

ودل قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى. ويؤكده قوله : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) أي أن الله تعالى هو الذي رفع درجات إبراهيم بسبب أنه آتاه الحجة.

إبراهيم أبو الأنبياء وخصائص رسالاتهم والاقتداء بهديهم

(وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٨) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (٨٩) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (٩٠))

٢٧٥

الإعراب :

(كُلًّا) منصوب بهدينا ، وكذلك (نُوحاً) : منصوب بهدينا ، وهو منصرف وإن كان قد اجتمع فيه العجمة والتعريف لخفة الوزن ؛ لأن خفة الوزن قام مقام أحد السببين ، فكأنه بقي سبب واحد ، والسبب الواحد لا يمنع الصرف ، فانصرف. وهاء (ذُرِّيَّتِهِ) تعود على نوح ، ولا يجوز أن تعود على إبراهيم ؛ لأن بعده لوطا ، ولم يكن من ذرية إبراهيم ، وإنما كان من ذرية نوح.

و (داوُدَ وَسُلَيْمانَ) : منصوبان بهدينا ، وهما غير منصرفين للعجمة والتعريف.

(وَالْيَسَعَ) ممنوع من الصرف للعجمة والتعريف.

(لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) الباء في (بِها) تتعلق (بِكافِرِينَ) ، والباء في (بِكافِرِينَ) زائدة لتأكيد النفي ، كأنه قال : ليسوا بها كافرين ، وهو خبر (ليس).

(فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) هاء (اقْتَدِهْ) : للسكت ، ودخلت بيانا للحركة ، وصيانة لها عن الحذف. ومن قرأ بكسر الهاء جعلها كناية عن المصدر ، أي : اقتد الاقتداء.

المفردات اللغوية :

(وَوَهَبْنا لَهُ) لإبراهيم (وَيَعْقُوبَ) ابن إسحاق (كُلًّا) منهما (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ) أي نوح (وَسُلَيْمانَ) ابن داود (وَيُوسُفَ) ابن يعقوب (وَإِلْياسَ) ابن أخي هرون أخي موسى (وَإِسْماعِيلَ) ابن إبراهيم (وَالْيَسَعَ) السلام زائدة (وَلُوطاً) ابن هارون أخي إبراهيم (وَكلًّا) منهم (فَضَّلْنا) بالنبوة.

(وَمِنْ آبائِهِمْ ..) عطف على (كلًّا) أو على (نُوحاً) ومن : للتبعيض ؛ لأن بعضهم لم يكن له ولد ، وبعضهم كان في ولده كافر (وَاجْتَبَيْناهُمْ) اخترناهم واصطفيناهم (ذلِكَ) الدين الذي هدوا إليه (لَحَبِطَ) لبطل عنهم عملهم (الْكِتابَ) أي الكتب (وَالْحُكْمَ) الحكمة وهي العلم النافع والفقه في الدين (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها) أي بهذه الثلاثة : الكتب والحكمة والنبوة (هؤُلاءِ) أي أهل مكة. (فَقَدْ وَكَّلْنا بِها) هيأنا لها (قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) هم المهاجرون والأنصار.

المناسبة :

بعد أن حكى الله تعالى عن إبراهيم عليه‌السلام أنه أظهر حجة الله تعالى في التوحيد ونصرها ودافع عنها ، عدّد وجوه نعمه وإحسانه عليه ؛ وأولها ـ قوله :

٢٧٦

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) وثانيها ـ قوله : (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) وثالثها ـ قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ ..) أي أنه جعله عزيزا في الدنيا ؛ لأنه تعالى جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله ومن ذريته ، وأبقى هذه الكرامة في نسله إلى يوم القيامة.

التفسير والبيان :

أكرم الله نبيه إبراهيم عليه‌السلام ، فوهب له إسحاق ، بعد أن كبر في السن ، وأيس هو وامرأته «سارة» من الولد ، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط ، فبشروهما بإسحاق ، فتعجبت المرأة من ذلك وقالت : (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ ، وَهذا بَعْلِي شَيْخاً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ. قالُوا : أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ؟ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ، إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) [هود ١١ / ٧٢ ـ ٧٣].

بشروهما أيضا بنبوته ، وبأن له نسلا وعقبا ، كما قال تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) [الصافات ٣٧ / ١١٢] وهذا أكمل في البشارة ، وأعظم في النعمة ، وقال : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود ١١ / ٧١].

وكان هذا مجازاة ومكافأة لإبراهيم عليه‌السلام حين اعتزل قومه وتركهم ، ونزح عنهم ، وهاجر من بلاده ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض ، فعوضه الله عزوجل عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه ، على دينه ، لتقرّبهم عينه ، كما قال تعالى : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) [مريم ١٩ / ٤٩] وقال هاهنا : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ، كُلًّا هَدَيْنا) أي جعلنا له إسحاق ويعقوب ولدين صالحين ومن الأنبياء ، وهدينا كلا منهما كلا هدينا إبراهيم بالنبوة والحكمة والفطنة إلى الحجة الدامغة.

٢٧٧

وإنما ذكر إسحاق دون إسماعيل ؛ لأنه هو الذي وهبه الله تعالى بآية منه بعد كبر سنه وعقم امرأته «سارة» جزاء إيمانه وإحسانه ، وكمال إسلامه وإخلاصه ، بعد ابتلائه بذبح ولده «إسماعيل» الذي لم يكن له ولد سواه ، على كبر سنّه ، ومثل ذلك الجزاء نجزي المحسنين. وهناك سبب آخر لذكر إسحاق دون إسماعيل : وهو أن المقصود بالذكر أنبياء بني إسرائيل ، وهم بأسرهم أولاد إسحاق ويعقوب ، وأما إسماعيل فليس من صلبه نبي إلا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإبراهيم من سلالة نوح ، وكما هداه الله ، هدى جده نوحا قبله ، فأتاه النبوة والحكمة ، وهذه نعمة من أعظم النعم ، فهو من سلالة نبي ، وأولاده أنبياء ، فجعل من ذريته داود ، وسليمان ، وأيوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، فهي ذرية طيبة : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) [آل عمران ٣ / ٣٤].

وإنما ذكر نوحا ؛ لأنه جد إبراهيم ، كما تقدم ، مما يرشد إلى فضل الله عليه في أصوله وفروعه ، فهو كريم الآباء ، شريف الأبناء ، ولأن الله جعل الكتاب والنبوة في نسلهما معا ، كما قال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) [الحديد ٥٧ / ٢٦].

وهدى الله كذلك من ذرية إبراهيم إلى النبوة والحكمة زكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس ، وكل منهم من الصالحين قولا وعملا. وعود الضمير إلى إبراهيم ؛ لأنه الذي سبق الكلام من أجله ، ويجوز عوده إلى نوح ؛ لأنه أقرب المذكورين.

وهدى أيضا من ذريته إسماعيل ابنه الصلبي وجد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واليسع ، ويونس ، ولوطا ، وكلا منهم فضلناه على العالمين.

لكن يأتي إشكال هنا وهو أن لوط عليه‌السلام ليس من ذرية إبراهيم ، وإنما هو ابن أخيه هاران بن آزر ، اللهم إلا أن يقال : إنه دخل في الذرية تغليبا ، كما

٢٧٨

في قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ، إِذْ قالَ لِبَنِيهِ : ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي؟ قالُوا : نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ : إِبْراهِيمَ ، وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ ، إِلهاً واحِداً ، وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة ٢ / ١٣٣] فإسماعيل عمه دخل في آبائه تغليبا ، وكما قال : (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ) [الحجر ١٥ / ٣٠ ، ص ٣٨ / ٧٣] فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود وذم على المخالفة ؛ لأنه كان متشبها بهم ، فعومل معاملتهم ، ودخل معهم تغليبا ، وإلا فهو كان من الجن ، وطبيعته من النار ، والملائكة من النور.

وفي ذكر عيسى عليه‌السلام في ذرية إبراهيم ، أو نوح على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل ؛ لأن عيسى عليه‌السلام إنما ينسب إلى إبراهيم عليه‌السلام من طريق أمه «مريم» فإنه لا أب له. ومثل ذلك دخول الحسن والحسين رضي‌الله‌عنهما في ذرية النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهما أولاد فاطمة رضي‌الله‌عنها ؛ لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال للحسن بن علي : «إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فسماه ابنا ، فدل على دخوله في الأبناء.

ويلاحظ أن الله تعالى ذكر أولا أربعة من الأنبياء وهم : نوح ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر من الأنبياء : داود ، وسليمان ، وأيوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس ، وإسماعيل ، واليسع ، ويونس ، ولوطا ، والمجموع ثمانية عشر. والترتيب بينهم غير معتبر ؛ لأن حرف الواو لا يوجب الترتيب.

وحكمة جعل الأنبياء في الآية ثلاثة أقسام هي ما يأتي :

١ ـ داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون : وهؤلاء جمعوا بين النبوة والرسالة وبين الملك والإمارة والحكم ، فداود وسليمان كانا ملكين ، وأيوب

٢٧٩

كان أميرا ، ويوسف كان وزيرا وحاكما متصرفا ، وموسى وهارون كانا حاكمين ، ولم يكونا ملكين. وقد ذكرهم القرآن على طريقة الترقي في هدى الدين ؛ فأفضلهم موسى وهارون ، ثم أيوب ويوسف ، ثم داود وسليمان.

وقوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي بالجمع بين نعم الدنيا والرياسة ، وبين هداية الدين وإرشاد الناس.

٢ ـ زكريا ويحيى وعيسى وإلياس : وهؤلاء امتازوا بالزهد في الدنيا ، فوصفهم الله بالصالحين.

٣ ـ إسماعيل واليسع ويونس ولوط : وهؤلاء لم يكونوا ملوكا كالقسم الأول ، ولا زهادا كالقسم الثاني ، وإنما لهم أفضلية على العالمين في زمانهم ، فالمنفرد منهم أفضل من قومه ، والموجود منهم اثنان فأكثر أفضل من أقوامهم ، وقد يكون أحدهم أفضل من الآخر ، فإبراهيم أفضل من لوط المعاصر له ، وموسى أفضل من أخيه ووزيره هارون ، وعيسى أفضل من ابن خالته يحيى عليهم‌السلام.

ثم ذكر الله تعالى فضله على هؤلاء الأنبياء ، فقال : (وَمِنْ آبائِهِمْ ...) أي وهدينا بعض آبائهم ، وذرياتهم ، وإخوانهم ، لا كلهم ؛ إذ لم يكن الكل مهديا إلى الخير ، كأبي إبراهيم ، وابن نوح ، قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ ، وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ ، فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) [الحديد ٥٧ / ٢٦].

ثم وصفهم الله بما خصهم به فقال : ولقد (اجْتَبَيْناهُمْ ...) أي ولقد اصطفيناهم واخترناهم وخصصناهم بمزايا كثيرة ، وهديناهم إلى الصراط المستقيم : وهو الدين الحق القويم.

٢٨٠