التفسير المنير - ج ٢

الدكتور وهبة الزحيلي

نسك (١) وهو ذبح شاة ، والتخيير بين هذه الخصال مستفاد من (أو) التي تقتضي التخيير. وتجب الفدية المذكورة عند مالك وأبي حنيفة ، سواء فعل المخالفة عامدا أو ناسيا ، ولا تجب عند الشافعي وأحمد إن خالف ناسيا.

وتقدير الطعام : إما بستة صيعان لكل مسكين صاع (٢) ، كما في رواية ، وإما بثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع ، في رواية أخرى ، فجمع الجمهور بينهما ، بحمل رواية الستة الآصع على التمر ، والثلاثة الآصع على طعام القمح ، لأنه المعهود في سائر الصدقات. ودليل التقدير : ما أخرجه البخاري من حديث كعب بن عجرة ، قال : «وقف عليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية ، ورأسي يتهافت قملا ، فقال : يؤذيك هوامّك؟ قلت : نعم ، قال : فاحلق رأسك» قال : فنزلت هذه الآية ، وذكرها ، فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صم ثلاثة أيام ، أو تصدق بفرق (٣) بين ستة ، أو انسك بما تيسر». قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن : لا يجزي أن يغدّي المساكين ويعشّيهم في كفارة الأذى حتى يعطي كل مسكين مدّين بمد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال أبو يوسف : يجزيه أن يغديهم ويعشيهم.

وأما موضع الفدية : فقال الحنفية : ما كان من دم فبمكة ، وما كان من طعام أو صيام فحيث شاء. وقال مالك : يفعل ذلك أين شاء ، والذبح هنا نسك وليس بهدي ، والنسك يكون حيث شاء ، والهدي لا يكون إلا بمكة. وقال الشافعي : الإطعام والدم لا يكونان إلا بمكة ، والصوم حيث شاء ، لأن الصيام لا منفعة فيه لأهل الحرم. وقال أحمد : فدية الحلق في الموضع الذي حلق فيه ،

__________________

(١) النسك : جمع نسيكة ، وهي الذبيحة ينسكها العبد لله تعالى ، ويجمع أيضا على نسائك ، والنسك : العبادة في الأصل.

(٢) الصاع البغدادي : (٢٧٥١ غم)

(٣) الفرق : مكيال ستة عشر رطلا أي بغداديا ، والرطل البغدادي (٤٠٨ غم) والرطل المصري (٤٥٠ غم)

٢٠١

وما عدا فدية الشعر من الدماء يكون بمكة. وأما الإطعام فهو بمكة ، وأما الصوم فحيث شاء.

٦ ـ فدية المتمتع : من أمن العدو والحصار وتمتع بسبب فراغه من المناسك والتحلل من الإحرام بالعمرة ، وبقي متمتعا إلى زمن الحج ، ليحرم من مكة به ، فعليه دم أي ذبح هدي (شاة) شكرا لله تعالى ، يذبحه يوم النحر بمنى ويأكل منه كالأضحية ، أو يذبحه في مكة في رأي الشافعي ، وهذا يحقق اليوم فائدة أكثر ، لإيصاله إلى الفقراء. والقارن بالحج والعمرة مثل المتمتع في وجوب الفدية ، لأن التمتع يشمل معنيين : استباحة التمتع بالنساء والتفرقة بترك محظورات الإحرام ، وجمع الحج مع العمرة في أشهر الحج بأعمال واحدة.

فمن لم يجد الهدي ، لعدم وجوده ، أو لم يجد المال الذي يشتري به ، فعليه صيام ثلاثة أيام بعد الإحرام بالحج قبل السادس من ذي الحجة قبل يوم التروية (١) ويوم عرفة ، وسبعة أيام إذا رجع إلى بلده ، أو شرع في الرجوع ، فله أن يصوم في الطريق.

هذه الأيام الثلاثة والسبعة الأيام عشرة كاملة ، لتأكيد المراد بالسبعة وهو العدد ، دون الكثرة في الآحاد ، ووصفت بالكمال للتنبيه إلى رعاية العدد فلا ينقص منها شيء ، وللإشارة إلى أن البدل قائم تماما مقام المبدل منه ، وهما في الفضيلة سواء.

ذلك التمتع بإنهاء أعمال العمرة ثم الإحرام بالحج ، وإيجاب الفدية ، تخفيف ورخصة للآفاقيين الذين حضروا من البلاد البعيدة ، دون أهل الحرم ، لأن الغريب يتحمل مشاق السفر أكثر من المقيم بمكة ، فالغرباء هم الذين يحتاجون إلى

__________________

(١) سمي يوم التروية : لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعد ، وهو اليوم الثامن الذي يسن الخروج فيه إلى منى.

٢٠٢

هذه الرخصة ، حتى لا يؤدوا كلا من الحج والعمرة على انفراد ، أما أهل الحرم فليسوا في حاجة إلى ذلك ، فلا تمتع ولا قران لحاضري المسجد الحرام.

واتقوا الله واخشوه بالمحافظة على امتثال أمره ، والانتهاء عن نواهيه ، واحذروا أن تعتدوا في ذلك ، واعلموا أن الله شديد العقاب لمن تجاوز حدود الله تعالى.

ومن المعلوم أن كيفيات أداء الحج والعمرة الجائزة إجماعا ثلاث :

الأولى ـ الإفراد : الإحرام بالحج وحده ، ثم بالعمرة بعد إنهائه.

الثانية ـ التمتع (١) : الإحرام بالعمرة في أشهر الحج من الميقات وكان من أهل الآفاق ، ثم الإحرام بالحج من مكة.

الثالثة ـ القرآن : أن يحرم الشخص بالحج وبالعمرة معا ، أو يحرم بأحدهما ثم يدخل الآخر عليه في عام واحد وفي أشهر الحج. وأيها هو الأفضل؟ للعلماء آراء ثلاثة :

قال الحنفية : القرآن أفضل ، ثم التمتع ، ثم الإفراد ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما أخرجه الطحاوي عن أم سلمة : «أهلّوا يا آل محمد بعمرة في حجة» ، وقال أنس فيما أخرجه البخاري ومسلم : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يلبي بالحج والعمرة يقول : لبيك عمرة وحجة».

وقال المالكية والشافعية : الإفراد بالحج أفضل ، ثم التمتع ، ثم القرآن : لأن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم حج مفردا على الأصح ، قالت عائشة فيما أخرجه البخاري ومسلم : «خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام حجة الوداع ، فمنا من أهلّ بعمرة ، ومنا من

__________________

(١) سمي المتمتع متمتعا ، لأنه تمتع بكل ما لا يجوز للمحرم فعله من وقت حلّه في العمرة إلى وقت إنشائه الحج ، أو لأنه تمتع بإسقاط أحد السفرين ، إذ من حق العمرة والحج أن يقصد كل منهما بسفر.

٢٠٣

أهل بحج وعمرة ، وأهلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحج» وروي حديث آخر : «القران رخصة» ولأن في الإفراد زيادة التلبية ، والسفر ، والحلق ، والثواب على قدر المشقة وهذا أصح الآراء.

وقال الحنابلة : التمتع أفضل ، فالإفراد ، فالقرآن ، لأن التمتع جاء ذكره في القرآن ، ولما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر : «تمتع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عام حجة الوداع بالعمرة إلى الحج ، وأهدى وساق الهدي معه من ذي الحليفة» وقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ، ولجعلتها عمرة» (١).

وعلى كل حال ، فإن الآية لا تدل لأحد المذاهب السابقة ، إذ ليس فيها إلا الأمر بالإتمام ، وهو لا يقتضي شيئا منها ، وإنما المعول على ما في السنة ، والترجيح بين الروايات. ويلاحظ أن من اعتمر في أشهر الحج ، ثم رجع إلى بلده ومنزله ، ثم حج من عامه ، فليس بمتمتع في رأي الجمهور. وقد جمع المحدثون بين روايات حجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوجوه : أقواها أنه أهل بالحج مفردا ، ثم أدخل عليه العمرة فصار قرانا ، فيحمل قول القائلين بالإفراد على ما أهل به ، وقول القائلين بالقرآن على ما انتهى إليه عمله من إدخال العمرة على الحج.

٧ ـ وقت الحج : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) فيه حذف ، تقديره :

وقت أعمال الحج أشهر معلومات ، أو الحج في أشهر معلومات ، وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، فلا تصح نية الحج في مذهب الشافعي إلا في هذا الوقت ، وتنتهي أعماله في أيام التشريق الثلاث. والأشهر المعلومات هي ما ذكر في رأي الجمهور غير المالكية.

وقوله (مَعْلُوماتٌ) : إقرار لما كان عليه العرب في الجاهلية من اعتبار

__________________

(١) رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله

٢٠٤

هذه الأشهر أشهرا للحج ، وذلك من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام.

وقال مالك : هي شوال وذو القعدة وذو الحجة كله. وفائدة الخلاف : تظهر فيمن أوقع شيئا من أعمال الحج بعد يوم النحر ، فمن قال : إن ذا الحجة كله من أشهر الحج ، قال : تم حجه ، ولا يلزمه دم بالتأخير.

ومن قال : إلى عشر ذي الحجة ، قال : يلزمه دم بالتأخير ، كما ذكر الشوكاني.

وذكر الجصاص الرازي توفيقا بين القولين ، فقال : وقال قائلون : وجائز أن لا يكون

ذلك اختلافا في الحقيقة ، وأن يكون مراد من قال : وذو الحجة : أنه بعضه ، لأن الحج لا محالة ، إنما هو في بعض الأشهر ، لا في جميعها ، لأنه لا خلاف أنه ليس يبقى بعد أيام (منى) شيء من مناسك الحج. وقالوا : ويحتمل أن يكون من تأوله على ذي الحجة كله : مراده أنها لما كانت هذه أشهر الحج ، كان الاختيار عنده فعل العمرة في غيرها ، كما روي عن عمر وغيره من الصحابة استحبابهم لفعل العمرة في غير أشهر الحج (١).

وأضاف الجصاص قائلا :

ولا تنازع بين أهل اللغة في تجويز إرادة الشهرين وبعض الثالث بقوله : (أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) كما قال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيام منى ثلاثة» وإنما هي يومان وبعض الثالث. ويقولون : حججت عام كذا ، وإنما الحج في بعضه ، ولقيت فلانا سنة كذا ، وإنما كان لقاؤه في بعضها ، وكلمته يوم الجمعة ، والمراد البعض ، وذلك من مفهوم الخطاب إذا تعذر استغراق الفعل للوقت ، كان المعقول منه البعض.

__________________

(١) أحكام القرآن : ١ / ٢٩٩

٢٠٥

ثم قال : ولقول من يقول : إنها شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة وجه آخر ، وهو ينتظم القولين جميعا ، وهو أن الآية سيقت لبيان أن هذه هي الأشهر التي يكون فيها الحج ، بدون تبديل ولا تغيير ، على نحو ما كان يفعله أهل الجاهلية من التغيير والتبديل ، فكانوا ينسئون الشهور ، فيجعلون صفرا المحرم ، ويستحلون المحرم ، على حسب ما يتفق لهم من الأمور التي يريدون فيها القتال ، وكانوا يغيرون في أشهر الحج ، فمعنى قوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) : أن عمال الحج تقع في هذه الأشهر ، على مقتضى بيان السنة ، دون ما كان يفعله أهل الجاهلية من تبديل الشهور ، وتأخير الحج وتقديمه.

وهل يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج؟

اختلف السلف وأئمة المذاهب في ذلك ، فقال الجمهور غير الشافعية (١) : يجوز الإحرام بالحج قبل أشهر الحج ، وينعقد حجا ، ولا ينقلب عمرة ، ولكنه مكروه ، لما أخرجه البخاري عن ابن عباس : «من السنة ألا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج» وتكون فائدة توقيت الحج بهذه الأشهر لبيان أن أفعال الحج لا تصح إلا فيها ، وأما صحة الإحرام في غيرها ، فلأنه شرط للحج ، فيجوز تقديمه على أدائه ، كتقديم الطهارة على أداء الصلاة.

وقال الشافعي : لا يجوز لأحد أن يهلّ بالحج قبل أشهر الحج ، وينعقد إحرامه بالعمرة ، وظاهر الآية يشهد له ، لأنها قد جعلت وقت الحج هذه الأشهر المعلومات ، والإحرام بالعبادة قبل وقتها لا يجوز ، كما لا تجوز نية الظهر قبل الظهر.

ونية الإحرام بالحج : تجب فرضا ، لقوله تعالى : (وَأَتِمُّوا الْحَجَ) ومن تمام العبادة : حضور النية ، وهي فرض عند الإحرام ، لقوله عليه الصلاة والسلام لما

__________________

(١) المبدع في شرح المقنع ، لابن مفلح المؤرخ الحنبلي : ٣ / ١١٣

٢٠٦

ركب راحلته : «لبيك بحجة وعمرة معا» ، فمن شهد مناسك الحج ، وهو لا ينوي حجا ولا عمرة ، وهو بالغ عاقل ، لم يسقط عنه الفرض.

وأما المواقيت : فروى الأئمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرن ، ولأهل اليمن يلملم (١) ، هن لهن ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة. ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ، حتى أهل مكة من مكة يهلّون منها. وأجمع أهل العلم على القول بظاهر هذا الحديث واستعماله ، لا يخالفون شيئا منه. وأما ميقات أهل العراق فهو ذات عرق (٢) ، جاء في كتاب أبي داود عن عائشة أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وقّت لأهل العراق ذات عرق.

وأجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه محرم ، ولكنه مكروه ، لأنه ضيّق على نفسه ما قد وسّع الله عليه.

٨ ـ من هم حاضرو المسجد الحرام؟ اختلف العلماء في حاضري المسجد الحرام بعد إجماعهم على أهل الحرم (مكة وحاضريها) فقال الحنفية : هم أهل المواقيت ومن دونها من كل ناحية ، وقال المالكية : هم أهل مكة وما اتصل بها خاصة ، وقال الشافعية والحنابلة : هم أهل الحرم ومن بينه وبين مكة دون مسافة القصر (٨٩ كم).

٩ ـ ما يحظر في الإحرام : (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) أي فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن ، وجب أن يبتعد عن الجماع ومقدماته وهو المعبر عنه بالرفث ، وعن أنواع المعاصي والمخالفات مثل

__________________

(١) ذو الحليفة : قرية خربة بينها وبين مكة مائتا ميل. والجحفة : قرية خربة بينها وبين مكة خمس مراحل ، ويقرب منها القرية المعروفة برابغ ، يصح الإحرام منها. وقرن : جبل مشرف على عرفات ، وهو على مرحلتين من مكة ، ويلملم : مكان على مرحلتين من مكة.

(٢) ذات عرق : قرية على مرحلتين من مكة.

٢٠٧

صيد البر والطيب والزينة ولبس المخيط ، وعن كل ما يؤدي إلى التنازع والتباغض والاختلاف ، كالجدال والمراء والخصام والتنابز بالألقاب ، لأن الشرع يريد من الحاج أن يتجرد عن كل مظاهر الدنيا ومغرياتها ومفاسدها ، ويتطهر من الذنوب والسيئات ، فيتحقق الغرض المنشود من الحج وهو تهذيب النفس وإشعارها بالعبودية لله الواحد الأحد ، جاء في الصحيحين عن أبي هريرة أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من حج ، ولم يرفث ، ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» وقد جمعت الآية والحديث أصول الأخلاق الفاضلة ، ونهت عن كل ما يعكر صفوها ، فالآية خبر لفظا ، نهي معنى ، ويراد من الرفث الوقاع ومقدماته وقول الفحش ، والفسوق : (وهو الخروج عن طاعة الله إلى المعصية) جميع أنواع المعاصي ، والجدال جميع أنواع الخصام.

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا لتصفو نفوسكم ، وتتخلى عن الرذائل ، وتتحلى بالفضائل ، لأن الله يعلم ما تفعلون ، فيجازيكم على كل خير تقدمونه لأنفسكم ، فالآية شرط وجوابه ، والمعنى : أن الله يجازيكم على أعمالكم ، لأن المجازاة إنما تقع من العالم بالشيء.

وتزودوا بالأعمال الصالحة التي تنفعكم ، واتخذوا التقوى زادا لمعادكم ، فإن خير الزاد اتقاء المنهيات ، وأخلصوا لي يا أهل العقول أعمالكم ، بأداء ما أوجبته عليكم من الفرائض ، واجتناب ما حرمته عليكم ، فإن فعلتم ذلك نجوتم من العقاب ، وأدركتم الفوز بالرضا والرحمة الإلهية.

وخص أولي الألباب بالخطاب ـ وإن كان الأمر يعم الكل ـ لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله ، وهم قابلو أوامره والناهضون بها.

١٠ ـ حكمة محرمات الإحرام : السر في محرمات الإحرام : هو أن يتمثل الحاج أنه بزيارته لبيت الله تعالى مقبل على الله تعالى قاصد له ، فيتجرد من عاداته

٢٠٨

ونعيمه ، وينسلخ من مفاخره ومميزاته على غيره ، بحيث يساوي الغني الفقير ، ويماثل الصعلوك الأمير ، فيكون الناس من جميع الطبقات في زي كزي الأموات ، وفي ذلك من تصفية النفس وتهذيبها وإشعارها من حقيقة العبودية لله والأخوة للناس ما لا يقدر قدره ، وإن كان لا يخفى أمره ، وفي الحديث الصحيح المتقدم : «من حج ولم يرفث ولم يفسق ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» لأن الإقبال على الله تعالى بتلك الهيئة ، والتقلب في تلك المناسك على الوجه المشروع يمحو من النفوس آثار الذنوب وظلمتها ويدخلها في حياة جديدة ، لها فيها ما كسبت وعليها ما اكتسبت (١).

تتمة أحكام الحج

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣))

__________________

(١) تفسير المنار : ٢ / ١٨٣

٢٠٩

الإعراب :

(عَرَفاتٍ) التنوين في عرفات بمنزلة النون من زيدون ، وليست للصرف ، لأنها لو كانت للصرف ، لكان ينبغي أن يحذف للتعريف والتأنيث ، لأنها اسم لبقعة مخصوصة.

(كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) الكاف في موضع نصب إما لكونه صفة لمصدر محذوف وتقديره : ذكرا كذكركم آباءكم ، أو لكونه في موضع نصب على الحال من ضمير «فاذكروا» أي فاذكروه مشبهين ذكركم آباءكم.

(أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) إما مجرور عطفا على «ذكركم» أو منصوب على تقدير فعل ، والتقدير : واذكروه ذكرا أشدّ من ذكركم آباءكم.

البلاغة :

(فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) تشبيه تمثيلي يسمى «مرسلا مجملا».

(فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) فيهما مقابلة.

المفردات اللغوية :

(جُناحٌ) أي حرج وإثم. (أَنْ تَبْتَغُوا) تطلبوا. (فَضْلاً) عطاء ورزقا منه بالربح في التجارة أيام الحج. (أَفَضْتُمْ) أصله : أفضتم أنفسكم ودفعتموها ، والمراد : الدفع منه بكثرة. (عَرَفاتٍ) موقف الحاج لأداء النسك ، وسمي بذلك لأن الناس يتعارفون فيه ، وعرفة : اسم لليوم الذي يقف فيه الحاج بعرفات ، وهو التاسع من ذي الحجة. (فَاذْكُرُوا اللهَ) بعد المبيت بمزدلفة بالتلبية والتهليل والدعاء. والذكر : الدعاء والتلبية والتكبير والتحميد. (الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) هو جبل في آخر المزدلفة يقال له : قزح ، وسمي بالمشعر ، لأنه معلم للعبادة ، والشعائر : العلامات ، ووصف بالحرام لحرمته ، فلا يفعل فيه ما نهي عنه. روى مسلم : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف به يذكر الله ويدعو حتى أسفر جدا (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) لمعالم دينه ومناسك حجه ، والكاف للتعليل ، (وَإِنْ) مخففة من الثقيلة.

(ثُمَّ أَفِيضُوا) يا قريش (مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) أي من عرفة ، بأن تقفوا بها معهم ، وكانوا يقفون بالمزدلفة ، ترفعا عن الوقوف معهم ، وثم للترتيب في الذكر. (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) من ذنوبكم. (فَإِذا قَضَيْتُمْ) أديتم. (مَناسِكَكُمْ) عبادات حجكم ، بأن رميتم جمرة العقبة وطفتم واستقررتم بمنى ، أي إذا فرغتم من مناسك الحج فأكثروا من ذكر الله بالتكبير والثناء ، كما كنتم تفعلون بذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم.

٢١٠

(خَلاقٍ) نصيب. (حَسَنَةً) توفيقا وصحة ونعمة (أو رزقا). (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) بعدم دخولها ، القصد منه : الحثّ على طلب خير الدارين.

(أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ) ثواب. (مِمَّا كَسَبُوا) من أجل ما عملوا من الحج والدعاء. (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحاسب الخلق كلهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا ، لحديث بذلك.

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) أي بالتكبير عند رمي الجمرات في أيام التشريق الثلاثة.

(فَمَنْ تَعَجَّلَ) أي استعجل بالنفر من منى (فِي يَوْمَيْنِ) في ثاني أيام التشريق (العيد) بعد رمي جماره (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) بالتعجيل. (وَمَنْ تَأَخَّرَ) بها حتى بات ليلة الثالث ورمى جماره ، أي هم مخيرون في ذلك. (لِمَنِ اتَّقى) الله في حجه ، لأنه الحاج في الحقيقة. (تُحْشَرُونَ) إليه في الآخرة ، فيجازيكم على أعمالكم.

سبب النزول :

نزول الآية (١٩٨):

روى البخاري عن ابن عباس قال : كانت عكاظ ومجنّة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية ، فتأثّموا أن يتّجروا في المواسم ، فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك ، فنزلت : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) في موسم الحج. وأخرج أحمد وابن أبي حاتم وابن جرير الطبري والحاكم وغيرهم من طرق عن أبي أمامة التيمي قال : «قلت لابن عمر : إنا نكري (أي الدواب للحجاج) ، فهل لنا من حج؟ فقال ابن عمر : جاء رجل إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسأله عن الذي سألتني عنه ، فلم يجبه ، حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ...) فدعاه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أنتم حجاج».

نزول الآية (١٩٩):

أخرج ابن جرير الطبري عن ابن عباس قال : كانت العرب تقف بعرفة ، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة ، فأنزل الله : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ).

٢١١

نزول الآية (٢٠٠):

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم ، يقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ، ويحمل الحمالات ، ويحمل الديات ، ليس لهم ذكر غير أفعال آبائهم ، فأنزل الله : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ ، فَاذْكُرُوا اللهَ) الآية. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : كانوا إذا قضوا مناسكهم ، وقفوا عند الجمرة ، وذكروا آباءهم في الجاهلية ، وفعال آبائهم ، فنزلت هذه الآية ، حتى إن الواحد منهم ليقول : اللهم إن أبي كان عظيم القبّة ، عظيم الجفنة (١) ، كثير المال ، فأعطني مثل ما أعطيته ، فلا يذكر غير أبيه ، فنزلت الآية ، ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم أيام الجاهلية.

نزول آخر الآية (٢٠٠) والآيتين (٢٠٠ ـ ٢٠١):

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف ، فيقولون : اللهم اجعله عام غيث ، وعام خصب ، وعام ولاء وحسن ، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئا ، فأنزل الله فيهم : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا ، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) ويجيء آخرون من المؤمنين ، فيقولون : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ...) إلى قوله : (سَرِيعُ الْحِسابِ).

المناسبة :

بعد أن حضّ الله تعالى على التقوى والتزوّد ليوم الحساب ومخافة الله ، وبعد أن منع الله تعالى الجدال في الحج ، وكانت المعاملات التجارية تفضي عادة إلى الجدال والمخاصمة ، جاءت آية : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ..) للاستدراك مما قد يفهم أن التجارة مظنة المنع ، أي ممنوعة في الحج ، وأيضا لما حظر الله لبس المخيط.

__________________

(١) الجفنة : أعظم ما يكون من القصاع.

٢١٢

والإنسان قد يكون شديد الحاجة ، وكانت التجارة مظنة الحظر ، فدفعا لذلك التوهم أباح الله تعالى الاتّجار في أثناء الحج ، لأن ذلك سعي من أجل الرزق ، والرزق أو الكسب فضل من الله غير محظور ، لأنه لا ينافي الإخلاص في هذه العبادة ، فلا مانع من انضمام قصد الاتّجار إلى الحج ، وإنما الممنوع هو قصد التجارة فحسب. وقد تحرج المسلمون من التجارة في بادئ الأمر ، خشية التأثير على العبادة ، كما بيّنا في سبب النزول ، فكانوا يقفلون حوانيتهم ، فأعلمهم الله أن الكسب فضل من الله لا إثم فيه مع إخلاص العبادة.

التفسير والبيان :

لا إثم عليكم في طلب الرزق الحلال أثناء الحج من طريق البيع والشراء والكراء إذا لم يكن هو المقصود الأساسي بالذات ، وإنما يجوز أن يكون تبعا للعبادة ، إذ هو مع حسن المقصد عبادة أيضا ، ولكن التفرغ لأداء المناسك أفضل وأكمل ، لقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [البينة ٩٨ / ٥].

ويشترط أيضا لإباحة التجارة في الحج : ألا يترتب عليها نقصان في الطاعة ، ولا تشغله عن أعمال الحج ، لذا أمر الله تعالى بذكره بعد الوقوف بعرفات الذي هو أهم أركان الحج للحديث النّبوي : «الحج عرفة» (١) ، وبعد الإفاضة من عرفات : أي الاندفاع في السير بكثرة ، فعلى الحاج إذا دفع إلى المزدلفة وبات فيها أن يذكر الله عند المشعر الحرام بالتلبية والتهليل والدعاء والحمد والثناء ، وإنما طلب منه الذكر خشية أن يتركه في هذا الموضع المبارك. والمشعر الحرام : هو الجبل الذي يقف عليه الإمام ، فقد روي : «عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لما صلّى الفجر بالمزدلفة ، ركب ناقته ، حتى أتى المشعر الحرام ، فدعا وكبّر ، وهلل ، ولم

__________________

(١) رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والحاكم والبيهقي عن عبد الرحمن بن يعمر.

٢١٣

يزل واقفا حتى أسفر جدا» أي دخل في الإسفار وهو بياض النهار ، وورد عن ابن عباس أنه نظر إلى الناس وقال : كان الناس في هذه الليلة لا ينامون.

ثمّ بيّن الله سبحانه طريقة الذّكر ، فقال : واذكروه كما علّمكم كيفيّة الذّكر ، بأن يكون بتضرع وإخلاص وإنابة قلبية وخشوع وحضور القلب مع الله ، وهذا هو الذّكر الحسن ، كما هداكم هداية حسنة ، وإن كنتم من قبل هذا الهدى من الضّالين عن الحق في العقيدة والعمل ، إذ كنتم تعبدون الأوثان والأصنام ، وتتخذونها وسطاء أو شفعاء عند الله ، لتقربكم إلى الله زلفى.

ثم أمرت الآية قريشا وبعض القبائل بالإفاضة من عرفات ، كما يفيض الناس منها ويقفون عليها ، بعد أن كانوا يقفون في المزدلفة ، ترفعا عن غيرهم. روى البخاري ومسلم : أن قريشا ومن دان دينهم من كنانة وجديلة وقيس وهم الحمس (١) كانوا يقفون في الجاهلية بمزدلفة ، ترفّعا عن الوقوف مع العرب في عرفات.

وتحقيقا لمبدأ المساواة ونبذ الامتيازات في الإسلام أمر الله نبيّه بأن يقف مع المسلمين جميعا في عرفات ، وأن يفيضوا منها إبطالا لما كانت عليه قريش.

ولما كانت أعمال الحج كثيرة ، وهي لا تخلو عن تقصير ، أمرهم بالاستغفار ، فالله تعالى واسع المغفرة والرحمة لمن يطلب ذلك منه مع التوبة الخالصة.

ثم أبطل الله تعالى عادة جاهلية أخرى وهي المفاخرة بأمجاد الآباء حيث إنهم كانوا يقفون بمنى بين المسجد والجبل ، بعد الفراغ من أعمال الحج ، كما بيّنا في سبب النزول ، ويؤكده ما روى ابن عباس : أن العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم ، يعدّ الواحد منهم أيام آبائه في السماحة ، والحماسة ، وصلة الرحم ،

__________________

(١) الحمس : مفرده أحمس : وهو الشديد الصلب في الدين والقتال.

٢١٤

ويتناشدون فيها الأشعار ، فلما أنعم الله عليهم بنعمة الإسلام ، أمرهم بأن يذكروه كذكرهم لآبائهم.

وروى القفال عن ابن عمر قال : طاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على راحلته القصواء ، يوم الفتح ، يستلم الركن بمحجنه ، ثم حمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : «أما بعد ، أيها الناس : إن الله قد أذهب عنكم حميّة الجاهلية وتفككها ، يا أيها الناس ، إنما الناس رجلان : برّ تقيّ كريم على الله ، أو فاجر شقيّ هيّن على الله ، ثم تلا : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى ، وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا ، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ..) الآية [الحجرات ٤٩ / ١٣].

وخطب النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا في حجة الوداع في ثاني أيام التشريق ، فأرشد العرب إلى ترك تلك المفاخرات ، وقال : «أيها الناس ، إنّ ربّكم واحد ، وإن أباكم واحد ، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأحمر على أسود ، ولا لأسود على أحمر ، إلا بالتقوى ، أبلّغت؟» قالوا : بلّغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وإبطال تلك العادة كان بالأمر بذكر الله ذكرا كثيرا مبالغا فيه ، كما كانوا يذكرون آباءهم ومفاخرهم ، بل أشدّ من ذكرهم آباءهم.

ثم ذكر ما يكون من الناس الذاكرين في الدعاء ، ليأخذوا بأحسن الأحوال ويتركوا غيره ، فقال : الناس في الحج قسمان :

قسم يقصر دعاءه على أمور الدنيا ، والاستزادة من خيراتها ، ويسكت عن الآخرة ، وكأنها لا تخطر له ببال ، ولا يهتم بشيء من أمورها ، فيطلب الجاه والغنى والنصر على الأعداء ونحو ذلك من حظوظ الدّنيا ، هذا القسم لا خلاق (لا حظّ) لهم في الآخرة ، مما أعدّه الله للمتقين من رضوانه وجناته.

٢١٥

وقسم يحرص على طلب خيري الدّنيا والآخرة ، فيقول : ربّنا هب لنا حياة طيبة سعيدة هانئة في الدنيا ، وحياة راضية رغيدة مطمئنة في الآخرة ، وطلب كلّ من سعادة الدّنيا والآخرة منوط بالعمل الطيب النافع ، فالدّنيا تتطلب الجهد والسعي في سبيل الرزق ، وحسن المعاملة والمعاشرة ، والتّخلّق بمحاسن الأخلاق ، والآخرة لا تنال إلا بالإيمان الصحيح والعمل الصالح ، وهذا القسم حريص على اجتناب المعاصي وأسباب العذاب في النار ، فيقول : ربّنا احفظنا من شهوات نفوسنا ، وباعد بيننا وبين الخطايا كما باعدت بين المشرق والمغرب ، ووفقنا للعمل بما يرضيك ، فإذا قام المؤمن بفرائض الله واجتنب المعاصي والمنكرات ، وطلب سعادة الدارين ، حقق الله له النجاح فيهما.

والحسنة في الدّنيا : هي الصّحة والأمن والكفاية والولد الصالح والزوجة الصالحة والنصرة على الأعداء. والحسنة في الآخرة : هي الفوز بالثواب والخلاص من العقاب.

ثم أشار الله إلى الفريقين : الذين طلبوا الدنيا ، والذين طلبوا الدنيا والآخرة معا ، فأبان أنّ كلّا منهما يعطى حظّا مما طلب ودعا ، وقيل : إن قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ ..) راجع للقسم الثاني فقط ، لأن الله ذكر حكم الفريق الأول بقوله : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ). وعلى كل حال يكون نوال الجزاء مبتدءا من الكسب ، لأن (فَمِنَ) لابتداء الغاية ، لا للتبعيض ، والكسب يطلق على ما يناله المرء بعمله ، والله سريع الحساب ، يوفي كلّ كاسب أجره عقب عمله ، وسرعة الحساب في الآخرة تكون باطّلاع كل عامل على عمله ، ويتمّ ذلك في لحظة ، فقد روي أن الله يحاسب الخلائق كلهم بمقدار لمحة البصر ، وروي بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا. وفي الجملة : آية (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة ، وما دام الحساب محقق الوقوع ، فهو قريب سريع.

٢١٦

وهناك شبيه لهذه الآية ، وهي قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ، كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ، وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً) [الإسراء ١٧ / ١٨ ـ ٢٠]. وقوله عزوجل : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا ، نُؤْتِهِ مِنْها ، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى ٤٢ / ٢٠].

ثم أمر الله تعالى بذكره في أيام منى بعد الأمر السابق بذكره عند المشعر الحرام ، وعند تمام أداء المناسك بعد منى ، فقال سبحانه : (وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) هي أيام منى أو أيام التشريق الثلاثة من حادي عشر ذي الحجة إلى ثالث عشر ، وهي الأيام التي يرمون فيها الجمار ، وينحرون فيها الهدي والأضاحي.

والذكر في هذه الأيام يكون بالتهليل والتكبير عقب الصلاة وعند رمي الجمار وذبح القرابين ، ويستوي في نوع هذا الذكر الحاج وغيره إلا أن غير الحاج يكبّر أيضا في يوم عرفة ، والحاج يلبي ، والمأثور من التّكبير : «الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر كبيرا». ورد عن عمررضي‌الله‌عنه أنه كان يكبّر في فسطاطه بمنى ، فيكبّر من حوله ، حتى يكبّر الناس في الطريق. وروي عن الفضل بن العباس قال : «كنت رديف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جمع ـ مزدلفة ـ إلى منى ، فلم يزل يلبّي حتى رمى جمرة العقبة».

ويلاحظ أنه ورد الأمر بالذكر في الحج في هذه السورة في أيام معدودات ، وفي سورة الحج في أيام معلومات : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ، وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) (الآية : ٢٨) ، فذهب الشافعي رضي‌الله‌عنه إلى أنّ

٢١٧

«المعلومات» هي العشرة الأوائل من ذي الحجة ، آخرها النّحر ، وأما «المعدودات» فهي ثلاثة بعد يوم النّحر ، وهي أيام التشريق. وقد أكّد القفال هذا بما رواه في تفسيره أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر مناديا فنادى : «الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع ـ مزدلفة ـ قبل طلوع الفجر ، فقد أدرك الحج ، وأيام منى ثلاثة أيام ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه» ، وروى أصحاب السّنن عن عبد الرحمن بن يعمر قال : إن ناسا من أهل نجد أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو واقف بعرفة ، فسألوه ، فأمر مناديا ينادي : «الحج عرفة ، من جاء ليلة جمع(١) ـ مزدلفة ـ قبل طلوع الفجر فقد أدرك ، أيام منى ثلاثة أيام ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه». ومذهب مالك أن أيام الرّمي معدودات وأيام النّحر معلومات ، فيوم النّحر معلوم غير معدود ، واليومان بعده معلومان معدودان ، واليوم الرابع معدود لا معلوم.

ومعنى آية (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ ..) : أنّ من تعجل في الإتيان بالمطلوب في الأيام الثلاثة ، بأن جعله في يومين ، فلا إثم عليه ، ومن تأخر ، بأن لم يأخذ برخصة التعجيل ، فلا إثم عليه ، فالأفضل البقاء في منى والمبيت بها ثلاثة أيام وليال ، لرمي الجمار (٢) الثلاث في كلّ يوم بعد الزوال إحدى وعشرين حصاة ، عند كل جمرة سبع حصيات ، تأسّيا بفعل إبراهيم عليه‌السلام ، وتمتاز جمرة العقبة بأنها ترمى وحدها يوم النحر أيضا. ويجوز الترخص والمبيت بمنى ليلتين الليلة الأولى والثانية من أيام التشريق ، ثم النّفر إلى مكة. ومن لم ينفر حتى غربت شمس اليوم الثاني ، فعليه أن يبيت حتى يرمي اليوم الثالث قبل الزوال أو بعده ، ثم ينفر ، ولا إثم عليه بترك الترخص.

هذا التخفيف والتخيير في التعجيل والتأخير ، ونفي الإثم عن المستعجل

__________________

(١) سميت جمعا : لأنه اجتمع بها حواء وآدم عليهما‌السلام.

(٢) الجمار : جمع جمرة : وهي مجتمع الحصى.

٢١٨

والمتأخر أو هذا الغفران ، إنما هو لمن اتّقى (١) الله وترك ما نهى عنه ، فلم يلبس حجه بالمظالم والمآثم ، لأنه هو الحاج الحقيقي ، لأن الغرض من كل عبادة هو التقوى ، كما قال الله تعالى : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة ٥ / ٢٧]. وتحقيق التقوى : بذكر الله بالقلب واللسان ومراقبته في جميع الأحوال. ثم أمر الله بالتقوى فقال : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) أي واتّقوا الله حين أداء مناسك الحج ، وفي جميع الأحوال ، ثم أكّد الأمر بالتقوى فقال : واعلموا أنكم ستجمعون وتبعثون للحساب والجزاء على أعمالكم يوم القيامة ، والحشر : من ابتداء الخروج من الأجداث إلى انتهاء الموقف ، والعاقبة للمتّقين ، والعاقبة للتقوى ، قال الله تعالى : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) [مريم ١٩ / ٦٣] ، وقال أيضا : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار ٨٢ / ١٩].

ومن علم أنه محاسب على أعماله ، التزم العمل الصالح ، واتقى ربّه ، وقد كرّر الأمر بذكر الله وبالتقوى ، للإرشاد بأن المهم في العبادة هو إصلاح النفس وفعل الخير ، والبعد عن الشر والمعاصي. وأما من ظن أو شك في المصير المحتوم فيعمل تارة ويترك أخرى.

ولما ذكر الله تعالى النفر الأول من عرفات ، والنفر الثاني بعد إنهاء المناسك وهو تفرق الناس من موسم الحج إلى سائر الأقاليم والآفاق بعد اجتماعهم في المشاعر والمواقف قال : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ، كما قال : (هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الملك ٦٧ / ٢٤].

فقه الحياة أو الأحكام :

دلّت آية (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ..) على جواز التجارة في الحج للحاج ، مع

__________________

(١) اللام من قوله لِمَنِ اتَّقى متعلقة بالغفران على تفسير ابن مسعود وعلي ، التقدير : المغفرة لمن اتقى. وروي عن ابن عمر : التقدير : الإباحة لمن اتقى. وقيل : السلامة لمن اتقى.

٢١٩

أداء العبادة ، وأن القصد إلى ذلك لا يكون شركا ، ولا يخرج به المكلف عن شرط الإخلاص المفترض عليه. لكن الحج دون تجارة أفضل ، لبعده عن شوائب الدّنيا وتعلّق القلب بغيره.

وفي آية : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ ..) دلالة على أن الوقوف بعرفة أمر واجب لا بدّ منه ، لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده ، ولأنه قد رتب عليه الأمر بالذكر عند المشعر الحرام.

وقد أجمع العلماء على أن من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزوال (الظهر) ثم أفاض منها قبل الزوال أنه لا يعتد بوقوفه ذلك. وأجمعوا على تمام حجّ من وقف بعرفة بعد الزوال ، وأفاض نهارا قبل الليل ، إلا الإمام مالك ، فإنه قال : لا بدّ أن يأخذ من الليل شيئا. ولا خلاف أيضا في أن من وقف بعرفة بالليل فحجّه تام. وحجة الجمهور : مطلق قوله تعالى : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) ولم يخصّ ليلا من نهار ، وحديث عروة بن مضرّس قال : أتيت النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في الموقف من جمع ـ مزدلفة ـ ، فقلت : يا رسول الله ، جئتك من جبلي طيء ، أكللت مطيّتي ، وأتعبت نفسي ، والله إن تركت من جبل (١) إلا وقفت عليه ، فهل لي من حجّ يا رسول الله؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صلّى معنا صلاة الغداة بجمع ، وقد أتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد قضى تفثه (٢) ، وتمّ حجّه» (٣).

__________________

(١) أي ما تركت جبلا إلا وقفت عليه.

(٢) المراد أنه أتى بما عليه من المناسك. والمشهور : أن التفث : ما يصنعه المحرم عند حلّه من تقصير شعر أو حلقه وحلق العانة ونتف الإبط وغيره من خصال الفطرة ، ويدخل ضمن ذلك نحر الإبل وغيرها وقضاء جميع المناسك ، لأنه لا يقضى التفث إلا بعد ذلك.

(٣) رواه أبو داود والنسائي والدار قطني واللفظ له ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

٢٢٠